قال هذا واتكأ على الوسادة فلم تشأ الامرأتان متابعة الحديث لأنهما عرفتا من نظراته بأن النعاس المتولد من الراحة والاستدفاء بعد عناء المسير قد راود عينيه.
ولم تمر بضع دقائق حتى أغمض خليل أجفانه ونام كالطفل المستأمن على ذراعي أمه، فقامت راحيل بهدوء واتبعتها مريم وجلستا على فراشهما تنظران إليه كأن في وجهه الذابل جاذبا يستميل روحيهما ويحيط بقلبيهما، ثم همست الوالدة كأنها تتكلم مع نفسها وقالت: «في عينيه المطبقتين قوة غريبة تتكلم بالسكينة وتنبه أميال النفس.»
وقالت الابنة: «يداه يا أماه مثل يدي صورة يسوع الموجودة في الكنيسة.»
فهمست الوالدة: «على وجهه الكئيب ظاهرة رقة الامرأة وقوة الرجل.»
وحملت أجنحة الكرى روحي الامرأتين إلى عالم الأحلام وخمدت النار في الموقد وتحولت إلى رماد، ثم جف زيت السراج فشح نوره ببطء ثم انطفأ، وظلت العاصفة الغضوبة تضج خارجا والجو القاتم ينثر رقع الثلوج والأرياح العنيفة تقذفها يمينا وشمالا.
4
مضى أسبوعان على تلك الليلة والفضاء المتلبد بالغيوم يسكن حينا ثم يثور متهيجا غامرا الأودية بالضباب مكفنا الطلول بالثلوج، وقد هم خليل ثلاث مرات أن يتابع مسيره نحو الساحل فكانت راحيل تصده بلطف وانعطاف قائلة: «لا تسلم حياتك ثانية إلى العناصر العمياء بل ابق ههنا يا أخي فالخبز الذي يشبع اثنين يكفي ثلاثة، والنار في هذا الموقد تظل متقدة بعد ذهابك مثلما كانت قبله، نحن فقراء يا أخي ولكننا نحيا أمام وجه الشمس مثل جميع الناس لأن الله يعطينا خبزنا كفاف يومنا.»
أما مريم فكانت ترجوه بنظراتها اللطيفة وتستعطفه بتنهداتها الهادئة لكي يمتنع عن الذهاب لأنها منذ دخوله بين حي وميت ذلك البيت الحقير شعرت بوجود قوة علوية في نفسه تبعث الحياة والشعاع إلى قلبها وتنبه عواطف جديدة مستحبة في قدس من أقداس روحها؛ لأنها شعرت لأول مرة في حياتها بتلك الحاسة الغريبة التي تجعل قلب الصبية النقي مثل وردة بيضاء تشرب قطرات الندى وتسكب دقائق العطر.
لا يوجد في داخل الإنسان عاطفة أنقى وأعذب من تلك العاطفة الخفية التي تستفيق على حين غفلة في قلب الصبية وتملأ خلايا صدرها بالأنغام السحرية وتجعل أيامها شبيهة بأحلام الشعراء ولياليها مثل الأنبياء، ولا يوجد بين أسرار الطبيعة سر أقوى وأجمل من ذلك الميل الذي يحول سكينة نفس العذراء إلى حراك مستمر يميت بعزمه ذكرى الأيام الغابرة ويحيي بحلاوته الآمال بالأيام الآتية.
والصبية اللبنانية تمتاز عن صبايا الأمم بقوة عواطفها ورقة إحساسها؛ لأن التربية البسيطة التي تحرم عاقلتها من النمو وتوقف مداركها عن الارتقاء تحول نفسها إلى استفسار ميول نفسها، وتشغل قلبها باستطلاع خفايا قلبها، الصبية اللبنانية مثل ينبوع يخرج من قلب الأرض بين المنخفضات فلا يجد ممرا ليسير به نهرا نحو البحر فينقلب بحيرة هادئة تنعكس على وجهها أشعة القمر والنجوم.
Bilinmeyen sayfa