فقالت الصبية متفجعة: «لا، لا أصدق كلامك فأنت تحبني وقد قرأت معنى الحب في عينيك وشعرت بملامسه عندما لمست جسدك، أنت تحبني وتحبني وتحبني مثلما أحبك فأنا لا أترك هذا المكان إلا بجانبك ولن أدخل هذا المنزل وفي نفسي بقية من الإرادة، قد جئت لكي أتبعك إلى آخر الأرض فسر أمامي وارفع يدك وأهرق دمي.»
فقال الشاب وقد رفع صوته عن ذي قبل: «اتركيني أيتها الامرأة وإلا صرخت بأعلى صوتي وجمعت في هذه الحديقة أولئك الناس المدعوين إلى أفراح عرسك وأريتهم عارك وجعلتك مضغة مرة في أحناكهم ومثلا قبيحا على ألسنتهم وأوقفت نجيبة التي أحبها قلبي تسخر بك وتبتسم فارحة بانتصارها مستهزئة بانغلابك.»
قال هذا وأمسك بذراعها ليبعدها عنه فتغيرت ملامحها وأبرقت عيناها وتحولت بكليتها من الاستعطاف والرجاء والتوجع إلى الغضب والقساوة وصارت كلبوة فقدت أشبالها أو كبحر أثارت أعماقه الزوابع ثم صرخت: «من هي التي تتمتع بحبك بعدي وأي قلب يسكر بقبل شفتيك غير قلبي؟!»
لفظت هذه الكلمات وانتشلت من بين أثوابها خنجرا سنينا وأغمدته بصدره بسرعة البرق، فهوى وسقط على الأرض كغصن قصفته العاصفة فانحنت فوقه والخنجر في يدها يقطر دما، ففتح عينيه المغمورتين بظل الموت وارتعشت شفتاه وخرجت هذه الكلمات مع أنفاسه الضعيفة: «اقتربي الآن يا حبيبتي اقتربي يا ليلى ولا تتركيني، الحياة أضعف من الموت والموت أضعف من الحب، اسمعي اسمعي قهقهة الفارحين بعرسك، اسمعي رنين كؤوسهم يا حبيبتي، لقد أنقذتني يا ليلى من قساوة هذه القهقهة ومرارة تلك الكؤوس فدعيني أقبل اليد التي كسرت قيودى، قبلي شفتي، قبلي شفتي اللتين تكلفتا الكذب وأخفتا أسرار قلبي، أغمضي أجفاني الذابلة بأصابعك المغموسة بدمي، وعندما تطير روحي في الفضاء ضعي الخنجر في يميني وقولي لهم قد انتحر يأسا وحسدا، قد أحببتك يا ليلى ولم أحب سواك ولكنني رأيت تضحية قلبي وسعادتي وحياتي أفضل من الهرب بك في ليلة عرسك، قبليني يا حبيبة نفسي قبل أن يرى الناس جثتى، قلبيني قبليني يا ليلى.»
ووضع المصروع يده فوق قلبه المطعون ولوى عنقه وفاضت روحه!
فرفعت العروس رأسها والتفتت نحو المنزل وصرخت بصوت هائل: «تعالوا، تعالوا أيها الناس، فهنا العرس وهذا العريس، هلموا لنريكم مضجعنا الناعم، استيقظوا أيها النيام وانتبهوا أيها السكارى وأسرعوا لنريكم أسرار الحب والموت والحياة.»
تموج صراخ العروس في زوايا ذلك المنزل حاملا كلماتها إلى آذان المحتفلين المغبوطين، فارتعشت أرواحهم، وأصغوا هنيهة كأن الصحو قد باغت نشوتهم، ثم تراكضوا مسرعين من أبواب المنزل ومخارجه وساروا ملتفتين يمينا وشمالا حتى إذا ما رأوا جثة المصروع والعروس الجاثية بقربها تراجعوا مذعورين إلى الوراء ولا أحد منهم يجسر على استقصاء الخبر كأن منظر الدماء المنبعثة من صدر القتيل ولمعان الخنجر في يد العروس قد عقد ألسنتهم وأجمد الحياة في أجسادهم.
فالتفتت العروس إليهم وقد اتشحت ملامحها بهيبة محزنة وصرخت قائلة: «اقتربوا أيها الجبناء ولا تخافوا خيال الموت فهو عظيم لا يدنو من صغارتكم، اقتربوا ولا ترتجفوا جزعا من هذا الخنجر فهو آلة مقدسة لا تلامس أجسادكم القذرة وصدوركم المظلمة، انظروا هذا الفتى الجميل المتسربل بحلة العرس، هو حبيبي وقد قتلته لأنه حبيبي، هو عريسي وأنا عروسته وقد بحثنا فلم نجد مضجعا يليق بعناقنا في هذا العالم الذي جعلتموه ضيقا بتقاليدكم ومظلما بجهالتكم وفاسدا بلهاثكم ففضلنا الذهاب إلى ما وراء الغيوم. اقتربوا أيها الضعفاء الخائفون وانظروا لعلكم ترون وجه الله منعكسا على وجهينا وتسمعون صوته العذب منبثقا من قلبينا. أين هي تلك المرأة الخبيثة الحسودة التي وشت إلي بحبيبي وقالت بأنه شغف بها وسلاني وتعلق بحبها لينساني. قد توهمت تلك الشريرة بأنها ظفرت عندما رفع الكاهن يده فوق رأسي ورأس نسيبها. أين نجيبة المحتالة؟ أين تلك الأفعى الجهنمية؟ دعوها تقترب الآن وترى بأنها قد جمعتكم لتفرحوا بعرس حبيبي وليس بعرس الرجل الذي اختارته لي ... أنتم لا تفهمون كلامي، لأن اللجة لا تعي أغاني الكواكب. لكنكم سوف تخبرون أبناءكم عن المرأة التي قتلت حبيبها ليلة عرسها، سوف تذكروني وتلعنوني بشفاهكم الأثيمة، أما أحفادكم فسوف يباركونني لأن الغد سيكون للحق والروح. وأنت أيها الرجل الغبي الذي استخدم الحيلة والمال والخباثة ليصيرني له زوجة، أنت رمز هذه الأمة التعسة التي تبحث عن النور في الظلمة وتترقب خروج الماء من الصخرة وظهور الورد من القطرب، أنت رمز هذه البلاد المستسلمة لغباوتها استسلام الأعمى إلى قائده الأعمى، أنت ممثل الرجولة الكاذبة التي تقطع الأعناق والمعاصم توصلا إلى العقود والأساور، أنا أغتفر لك صغارتك لأن النفس الفارحة بذهابها من هذا العالم تغتفر جميع زلات هذا العالم.»
حينئذ رفعت العروس خنجرها نحو العلاء ونظير ظامئ يقرب حافة الكأس إلى شفتيه أغمدته بعزم في صدرها وهبطت بجانب حبيبها نظير زنبقة قطع عنقها حد المنجل، فتململت النساء وصرخن صراخ الخوف والألم وأغمي على بعضهن وتصاعد ضجيج الرجال من كل ناحية واقتربوا من المصروعين بوجل وهيبة.
فنظرت إليهم العروس المنازعة وقالت ونجيع الدماء ينهل بغزارة من صدرها البلوري: «لا تقتربوا أيها العاذلون ولا تفصلوا بين جسدينا، وإن حاولتم فالروح الحائمة فوق رؤوسكم تقبض على أعناقكم وتخنقكم بعنف وقساوة، دعوا هذه الأرض الجائعة تلوك جسدينا لقمة واحدة، دعوها تخفينا وتحمينا في صدرها مثلما تحمي البذور من ثلوج الشتاء حتى يجيء الربيع.»
Bilinmeyen sayfa