123

غير ان كل امرئ يرى الكمال في شيء ما ، حسب حالة ومقامه ، فيتوجه قلبه اليه . فاهل الآخرة يرون الكمال في مقامات الآخرة ودرجاتها ، فقلوبهم متوجهة اليها . واهل الله يرون الكمال في جمال الحق ، والجمال في كماله سبحانه يقولون : «... وجهت وجهي للذي فطر السماوات والارض ...» (1) ويقولون : «لي مع الله حال» (2) وفيهم حب وصاله وعشق جماله . واهل الدنيا عندما رأوا ان الكمال في لذائذها ، وتبين لاعينهم جمالها ، اتجهوا فطريا نحوها . ولكن على الرغم من كل ذلك ، فانه لما كان التوجه الفطري والعشق الذاتي قد تعلقا بالكمال المطلق ، كان ما عدا ذلك من التعلقات عرضيا ومن باب الخطأ في التطبيق . ان الانسان مهما كثر ملكه وملكوته ، ومهما نال من الكمالات النفسية او الكنوز الدنيوية او الجاه والسلطان ، ازداد اشتياقه شدة ، ونار عشقه التهابا . فصاحب الشهوة ، كلما ازدادت امامه المشتهيات ، ازداد تعلق قلبه بمشتهيات اخرى ليست في متناول يده ، واشتدت نار شوقه اليها . كذلك النفس التي تطلب الرئاسة ، فهي عندما تبسط لواء قدرتها على قطر من الاقطار ، تتوجه بنظرة طامعة الى قطر آخر ، بل لو انها سيطرت على الكرة الارضية برمتها ، لرغبت في التحليق نحو الكرات الاخرى للاستيلاء عليها . الا ان هذه النفس المسكينة لا تدري بان الفطرة انما تتطلع الى شيء آخر . ان الاربعون حديثا :العشق الفطري الجبلي يتجه الى المحبوب المطلق ، ان جميع الحركات الجوهرية والطبيعية والارادية ، وجميع التوجهات القلبية والميول النفسية تتوجه نحو جمال الجميل الاعلى على الاطلاق ، ولكنهم لا يعلمون ، فينحرفون بهذا الحب والعشق والاشتياق التي هي براق المعراج واجنحة الوصول الى وجهة هي خلاف وجهتها ، فيحرروها ويقيدوها بلا فائدة .

لقد بعدنا عن القصد ، وهو انه لما كان الانسان متوجها قلبيا الى الكمال المطلق ، فانه مهما جمع من زخرف الحياة فان قلبه يزداد تعلقا بها . فاذا اعتقد ان الدنيا وزخارفها هي الكمال ازداد ولعه بها ، واشتدت حاجته اليها ، وتجلى امام بصره فقره اليها . بعكس اهل الآخرة الذين اشاحوا بوجوههم عن الدنيا ، فكلما ازداد توجههم نحو الآخرة ، قل التفاتهم واهتمامهم بهذه الدنيا ، وتلاشت حاجتهم اليها ، وظهر في قلوبهم الغنى ، وزهدوا في الدنيا وزخارفها . كما ان اهل الله مستغنون عن كلا العالمين (الدنيا والآخرة) ، متحررون من كلتا النشأتين وكل حاجتهم نحو الغنى المطلق ، متجليا الغنى بالذات في قلوبهم ، فهنيئا لهم .

اذا ، مضمون الحديث الشريف يمكن ان يكون اشارة لما مر شرحه من قوله : «من اصبح وامسى والدنيا اكبر همه جعل الله الفقر بين عينيه ، وشتت امره ، ولم ينل من الدنيا الا ما قسم له ، ومن اصبح وامسى والآخرة اكبر همه جعل الله الغنى في قلبه وجمع له امره» .

ومن المعلوم ، ان من يتجه قلبه الى الى الآخرة ، تغدو امور الدنيا وصعابها في نظره حقيرة سهلة ، ويجد هذه الدنيا متصرمة ، ومتغيرة ، ويراها معبرا ومتجرا ودارا للابتلاء والتربية ، ولا يهتم بما فيها من الم وسرور ، فتخف حاجاته ويقل افتقاره الى امور الدنيا والى الناس ، بل يصل الى حيث لا تبقى له حاجة ، فيجتمع له امره ، وتنتظم اعماله ، ويفوز بالغنى الذاتي والقلبي .

اذا ، كلما نظرت الى هذه الدنيا بعين المحبة والتعظيم ، وتعلق قلبك بها ، ازدادت حاجتك بحسب درجات حبك لها ، وبان الفقر في باطنك وعلى ظاهرك ، وتشتتت امورك واضطربت ، وتزلزل قلبك ، واستولى عليه الخوف والهم ، ولا تجري امورك كما تشتهي ، وتكثر تمنياتك ويزداد جشعك ، ويغلبك الغم والتحسر ، ويتمكن اليأس من قلبك والحيرة ، كما وردت الاشارة الى بعض ذلك في الحديث الشريف . فقد روي في «الكافي» باسناده عن حفص بن قرط ، عن ابي عبد الله الامام جعفر الصادق عليه السلام انه قال :

«من كثر اشتباكه بالدنيا كان اشد لحسرته عند فراقها» (1) .

وعن ابي يعفور قال ، سمعت ابا عبد الله (الصادق) عليه السلام يقول :

«من تعلق قلبه بالدنيا تعلق قلبه بثلاث خصال هم لا يفنى وامل لا يدرك ورجاء لا ينال» (2) .

Sayfa 127