Eleştirel Görüşler: Düşünce ve Kültür Problemleri
آراء نقدية في مشكلات الفكر والثقافة
Türler
وربما كانت أوضح مظاهر هذه الأزمة الأخلاقية هي تلك الحالات التي تكتمل فيها كل المقومات الكفيلة بنجاح مشروع معين، من تخطيط سليم ومعدات كاملة ووسائل مادية لا ينقصها شيء، ثم تكون النتيجة أن يلقى المشروع إخفاقا ذريعا، في هذه الحالة، حين نتساءل في حيرة ودهشة: أين الخطأ إذن؟ لا نجد أمامنا مفرا من أن نجيب: إنه في الإنسان، أو بعبارة أدق: في الأخلاق. وما أكثر هذه الحالات في حياتنا، وما أقوى أصوات النائحين الذين يندبون حظنا العاثر في ميدان الأخلاق، ويلحون على المجتمع كيما يقوم اعوجاج المنحرفين بالوعظ والإرشاد، ولكن الأمر المؤكد أن هذه الطريقة في معالجة الأزمة لا تجدي فتيلا ؛ لأن صاحب المصلحة يستحيل أن يتنازل عنها من أجل موعظة، وهكذا نظل ندور في حلقة مفرغة؛ فالأزمة موجودة يشعر بها الجميع، ولكن أسلوب العلاج التقليدي لا يؤدي إلا إلى زيادة الأزمة تفاقما، فكيف يتسنى لنا الخروج من هذا المأزق؟
أولى الخطوات في الطريق الصحيح هي - في رأيي - الإدراك الواعي لقصور نظرتنا إلى الأخلاق؛ فنحن - بوصفنا مجتمعا شرقيا ميالا إلى المحافظة - نميل إلى المبالغة في تأثير العامل الأخلاقي، ولكنا لا نكاد نفهم هذا العامل إلا من جانب واحد هو الجنس ، والحق أنك لو سألت ألوفا من عامة الناس - بل ومن المثقفين - عن مفهوم الشخص الأخلاقي والشخص اللاأخلاقي، لقدم إليك معظمهم أوصافا تدل على أن الأول في نظرهم هو العفيف جنسيا، والثاني هو المتحرر أو «المنحل» في مسائل الجنس.
هذا التوحيد بين الأخلاق وبين الجانب الجنسي من سلوك الناس له دلالاته الخطيرة؛ فهو أولا يدل على اهتمام مفرط بالجنس، ناشئ عن قسوة الحرمان وصرامة القيود التي يفرضها المجتمع الشرقي المحافظ على أفراده في هذا المجال، ومن المعروف أن الإنسان كثيرا ما يميل إلى تحريم أحب الأشياء إلى نفسه، أو على الأقل فرض قيود شديدة عليها، على أن هذه الصرامة في النظرة إلى الجنس تخفي وراءها نفاقا شديدا لا يملك المرء إلا أن يتشبع به منذ حداثته؛ إذ إن قدرا كبيرا من التحريمات التي نفرضها في مجال الجنس ترجع إلى الرغبة الخفية فيه، وكثير من المتزمتين لا يبدون هذه الصرامة إلا لأنهم محرومون، بحيث تكون قسوتهم وصرامتهم مجرد مظهر سلبي للرغبة العارمة في ارتكاب كل ما يحرمونه على الغير، ومن المؤكد أن شبابنا الذي ينشأ موزع النفس بين التحريم الشديد الذي يفرضه المجتمع، وبين الرغبة القوية التي تزيدها لديه الحواجز المفروضة على الاختلاط بكل أنواعه ودرجاته، لا بد أن ينتهي به الأمر إما إلى أن يساير ركب النفاق الاجتماعي فيدعي لنفسه ورعا لا يؤمن به في قرارة نفسه، وإما إلى الأساليب الهروبية كإدمان النكات الجنسية أو ما هو شر من ذلك.
أما الدلالة الأخرى لهذا الاهتمام المفرط بالجنس واتخاذه مقياسا أوحد لأخلاقية المرء، فهي افتقارنا إلى الوعي بالبعد الاجتماعي للأخلاق، وبما ينطوي عليه من إحساس بالمسئولية العامة، وتركيزنا الاهتمام على أبعادها الفردية فحسب؛ ذلك لأن الجنس بطبيعته فردي لا يؤثر إلا في فرد بعينه من حيث علاقته بفرد آخر أو بمجموعة ضيقة من الأفراد، ومن هنا كان هذا التركيز على الجنس مؤديا إلى تصور الأخلاق كما لو كانت مسألة تهم الفرد المنعزل وتتعلق به وحده، مع أن للأخلاق بعدا اجتماعيا هو دون شك أهم أبعادها جميعا، والنتيجة المباشرة لذلك هي أن التهاون في أداء المسئوليات العامة نحو المجتمع، والافتقار إلى الضمير المهني أو الوعي الاجتماعي، كلها أمور لا تعد في نظرنا مدعاة إلى اللوم كالانحراف عن العرف الشائع في مجال الجنس.
ولسنا نعني بذلك أن الجنس ينبغي ألا تكون له أهمية في التقييم الأخلاقي، وإنما الذي نعنيه أنه لا يعدو أن يكون واحدا من العناصر التي ينبغي أن تؤخذ في الاعتبار عند الحكم على أخلاقية الناس، وهو عنصر ليس له تأثير ملحوظ على السلوك العام للفرد، أعني سلوك الفرد في الأمور التي تمس المصلحة العامة، ومن هنا كان تركيز الاهتمام على التصرفات المتعلقة بالجنس مؤديا إلى تجاهل أمور أكثر حيوية إلى حد بعيد بالنسبة إلى مصالح المجتمع ككل. •••
فلنحاول إذن أن نقدم لمحات سريعة لبعض مظاهر تلك الأزمة الأخلاقية التي يؤكد الجميع وجودها، ولنبحث في الوسائل الكفيلة بأن تضعنا على أول الطريق الصحيح المؤدي إلى علاجها.
أول ما ينبغي أن نتنبه إليه - ونحن نبحث عن مظاهر أزمتنا الأخلاقية - هو أن السلوك الأخلاقي المتعلق بالمسائل التي تمس المصالح العامة هو في صميمه قدوة تتخذ مسارا يتدرج من المسئوليات العليا إلى المستويات الدنيا، وبعبارة أخرى فإن الخطوة الأولى في أي إصلاح أخلاقي يراد له أن يعم مستويات المجتمع كلها، ينبغي أن تبدأ من أعلى وتتدرج حتى تصل إلى أدنى المستويات وأوسعها نطاقا، هذا المسار من أعلى إلى أسفل قد يبدو مخالفا لمسار الإصلاح الثوري الاجتماعي والاقتصادي مثلا؛ إذ إن هذا النوع الأخير من الإصلاح يسير من أسفل إلى أعلى، بمعنى أن الطبقات الدنيا - صاحبة المصلحة الحقيقية في تغيير الأوضاع - هي التي تبدأ الثورة، وهي التي تفرض مبادئها على الطبقات العليا، ولكن الوضع في السلوك الأخلاقي يختلف؛ إذ إننا هنا بصدد بناء معنوي لا يمكن أن يبدأ تشييده من المستويات الدنيا، لسبب بسيط هو أن هذه المستويات تستمد أمثلتها العليا من المستويات التي تعلوها، ولأنها لو فقدت ثقتها في أخلاقية القيادات فسوف تشعر بأن أخلاقيتها هي ذاتها غير مجدية، وبأن أي مجهود تبذله في هذا الصدد ضائع لا محالة، ما دامت الأيدي المتحكمة في عملها غير مؤتمنة.
في ضوء هذه الحقيقة الأولى نستطيع أن ندرك أن قدرا غير قليل من عيوبنا الأخلاقية راجع إلى انتقال عدوى القدرة السيئة بالتدريج من مستويات عليا في المجتمع إلى المستوى الأدنى منها، ولسنا في حاجة إلى جهد كبير لكي نأتي بأمثلة لتصرفات لا تؤدي - إذا انتقلت عدواها من أعلى السلم الاجتماعي إلى أسفله - إلا إلى انهيار وانحلال أخلاقي؛ فبين الحين والحين تشيع أخبار استغلال نفوذ أو تصرف غير مشروع في الأموال العامة أو إثراء مفاجئ بغير حدود، وترتبط هذه التصرفات المعيبة بأشخاص يؤثر سلوكهم في نفسية الألوف من الناس، بحيث يضرب لهم أسوأ الأمثلة، ويكون لهم شر قدوة، وكثيرا ما يجد المجتمع نفسه حائرا إزاء انتشار هذه النقائص بين مستويات يفترض أنها أقل الجميع حاجة إلى هذه التصرفات، فيتساءل الناس: من أين نأتي بالعناصر الصالحة إذن؟ ماذا نفعل إذا كان اختيارنا قد تم على أفضل أساس ممكن، ثم انتهى الأمر إلى هذه النتيجة المؤسفة؟
ولكن، أحقا كان الاختيار على أفضل أساس ممكن؟ وهل قمنا بفحص كل الأسس التي يتم الاختيار بناء عليها لكي نتأكد من أننا أخذنا منها بالأفضل؟ وهل الأمر يدعو حقا إلى مثل هذا اليأس؟ إن أبسط قدر من الحرص على المصلحة العامة يقتضي منا أن نختبر الظروف التي يتم فيها تفويض المسئولية لأصحابها، وهل هي ظروف تشجع على السلوك القويم أم على الانحراف، وهنا نجد أنفسنا نواجه المشكلة الأصلية التي بدأنا بها هذا المقال مواجهة مباشرة؛ فسرعان ما نكتشف أن المسألة ليست مسألة إصلاح للأشخاص، بل للنظم وللشروط التي يتم في ظلها تكليف الأشخاص بمسئولياتهم، ولو كانت هذه النظم والشروط غير صالحة فسوف تؤدي حتما إلى إفساد كل من يتولى مسئولية واسعة النطاق، حتى لو كان في الأصل صالحا، والمهمة الكبرى التي تقع على عاتق الفكر الثوري هي أن يبحث عن النظم والشروط الموضوعية التي لا تترك مجالا للانحراف، بل عن تلك التي ترغم المنحرف ذاته عن أن يسلك - في تصرفاته العامة - سلوكا لا غبار عليه.
فلنفرض مثلا أن حالات من الثراء غير المشروع قد ظهرت بين عدد غير قليل ممن يتولون مسئوليات عامة، فماذا يمكن أن يكون العلاج المجدي في هذه الحالة؟ هل نوجه إليهم المواعظ والإرشادات ونسعى إلى إصلاح نفوسهم وتهذيبها؟ كل هذه حلول لا جدوى منها، وذلك على الأقل لأننا لن نصل أبدا إلى أغوار النفوس لكي نكون على ثقة من أنها قد انصلحت، ولكن العلاج الموضوعي لهذه الحالة يبدأ من دراسة أسباب الانحراف، عندئذ قد نجد - على سبيل المثال - أن الأموال العامة لا توجد عليها ضوابط كافية، وأن الارتفاع المفاجئ وغير المعقول في الإيراد الرسمي للشخص نتيجة لتوليه منصبا هاما يفقده توازنه ويثير فيه الرغبة في مزيد من الثراء، فإذا اتضح أن الأمر كذلك، كان الحل بسيطا، خفض ملموس في مرتبات هذه الفئة كلها، وجزاءات صارمة غاية الصرامة على أي تصرف غير مشروع في الأموال العامة، هنا تصبح الموضوعية الثورية - لا «الوعظ الفردي» - هي العلاج الحاسم، وبمثل هذا العلاج يجد الانتهازيون أنفسهم مضطرين إلى الانسحاب من تلقاء ذاتهم؛ لأن المسألة لم تعد تجلب غنما، ولا يبقى إلا من يريد أن يؤدي الخدمات العامة لصالح المجتمع ككل، لا لصالحه هو أو أقربائه أو المحيطين به.
Bilinmeyen sayfa