Eleştirel Görüşler: Düşünce ve Kültür Problemleri
آراء نقدية في مشكلات الفكر والثقافة
Türler
تصدير
الباب الأول: مشكلات ثقافية
أزمة العقل في القرن العشرين1
نحن وثقافة الغرب1
دفاع عن الثقافة العالمية1
التعصب ... من زاوية جدلية1
مشكلة الكم والكيف والثقافة1
حديث عن الشباب والثقافة1
عن الإنسان والقمر
الباب الثاني: نقد القيم الاجتماعية
Bilinmeyen sayfa
القيم الإنسانية بين الحركة والجمود1
الفكر الاشتراكي والتحدي المعاصر1
الاشتراكية، والقيم الروحية1
أخلاقنا العلمية ... إلى أين؟1
اشتراكية العالم الثالث: نظرة نقدية1
العالم الثالث، والعقل الهارب1
شخصيتنا القومية: محاولة في النقد الذاتي1
أخلاقنا الاجتماعية ... إلى أين؟1
بين التعليم وقيم المجتمع1
الباب الثالث: الفلسفة والمجتمع
Bilinmeyen sayfa
بين تاريخ الفلسفة وتاريخ العلم1
حول فكرة الاتصال في تاريخ الفلسفة1
اليمين واليسار في الفلسفة1
القومية والعالمية في الفكر الفلسفي1
الفلسفة والتخصص العلمي1
النظريات اليونانية في فلسفة الفن1
نظريات حديثة في فلسفة الفن1
بين الفكر والآلة (1)
بين الفكر والآلة (2)
بين الفكر والآلة (3)
Bilinmeyen sayfa
عقبات في طريق العلوم الإنسانية1
الباب الرابع: أفكار معاصرة
هيجل في ميزان النقد1
الجدل بين الوجودية والماركسية1
من الذي صنع الأخلاق؟1
كارل ياسبرز بين الفلسفة والسياسة1
الثورة والتمرد عند ألبير كامي1 «الحلم والواقع» لبرديايف1
أفق جديد للفلسفة1
تصدير
الباب الأول: مشكلات ثقافية
Bilinmeyen sayfa
أزمة العقل في القرن العشرين1
نحن وثقافة الغرب1
دفاع عن الثقافة العالمية1
التعصب ... من زاوية جدلية1
مشكلة الكم والكيف والثقافة1
حديث عن الشباب والثقافة1
عن الإنسان والقمر
الباب الثاني: نقد القيم الاجتماعية
القيم الإنسانية بين الحركة والجمود1
الفكر الاشتراكي والتحدي المعاصر1
Bilinmeyen sayfa
الاشتراكية، والقيم الروحية1
أخلاقنا العلمية ... إلى أين؟1
اشتراكية العالم الثالث: نظرة نقدية1
العالم الثالث، والعقل الهارب1
شخصيتنا القومية: محاولة في النقد الذاتي1
أخلاقنا الاجتماعية ... إلى أين؟1
بين التعليم وقيم المجتمع1
الباب الثالث: الفلسفة والمجتمع
بين تاريخ الفلسفة وتاريخ العلم1
حول فكرة الاتصال في تاريخ الفلسفة1
Bilinmeyen sayfa
اليمين واليسار في الفلسفة1
القومية والعالمية في الفكر الفلسفي1
الفلسفة والتخصص العلمي1
النظريات اليونانية في فلسفة الفن1
نظريات حديثة في فلسفة الفن1
بين الفكر والآلة (1)
بين الفكر والآلة (2)
بين الفكر والآلة (3)
عقبات في طريق العلوم الإنسانية1
الباب الرابع: أفكار معاصرة
Bilinmeyen sayfa
هيجل في ميزان النقد1
الجدل بين الوجودية والماركسية1
من الذي صنع الأخلاق؟1
كارل ياسبرز بين الفلسفة والسياسة1
الثورة والتمرد عند ألبير كامي1 «الحلم والواقع» لبرديايف1
أفق جديد للفلسفة1
آراء نقدية في مشكلات الفكر والثقافة
آراء نقدية في مشكلات الفكر والثقافة
تأليف
فؤاد زكريا
Bilinmeyen sayfa
تصدير
يجمع بين موضوعات هذا الكتاب كلها - على تعددها وتنوعها - نزوع واحد إلى تأمل الأمور بنظرة عقلية وبمنهج نقدي، وأحسب أن هاتين السمتين هما اللتان تميزان طريقتي في التفكير وأسلوبي في النظر إلى الأمور حتى الوقت الذي أكتب فيه هذه السطور؛ أما السمة الأولى، وهي النظرة العقلية - أو العقلانية بمعنى أدق - فلست أعني بها السير وراء ذلك العقل الجاف، المتعالي عن أمور الحياة ومشكلات الناس الواقعية، ذلك النوع من العقل الذي دأب الفلاسفة على تمجيده عصورا طويلة، والذي ازدهرت في ظله مذاهب فكرية شاملة كان معظمها يتطلع إلى عالم الإنسان بترفع وشموخ. ولست أعني ذلك العقل الذي يدعي الثبات ويتهم كل شيء عداه بالتغير والزوال والفناء. ولست أعني ذلك العقل الذي يزدري المشاعر والأحاسيس الإنسانية، ويتجاهل الانفعالات والعواطف على زعم أنها ترتبط بالتقلب والتحول وعدم الاستقرار، وإنما أعني العقل الذي يندمج في الحياة ويسخر نفسه لخدمتها، ويحقق ذاته على أكمل نحو بالتغلغل في مشكلاتها، وأعني العقل الذي يعترف بالتطور والنمو في كل ظواهر الكون والحياة والمجتمع، ويكرس جهده من أجل كشف مسارات هذا التطور والنمو، والاهتداء إلى دروبه ومسالكه المعقدة، جامعا بين الثبات والتغير في مركب يعلو على كل تناقض. وأعني أخيرا العقل الذي لا يحول بين الإنسان وبين الاستغراق في حب الفن والانفعال الخصب بالحياة؛ لأن أحاسيس الفن وانفعالات الحياة هي في نظر العقل السليم جزء لا يتجزأ من واقع البشر، وعنصر جوهري تكتمل به مقومات الإنسانية، ومن المحال أن يكتفي العقل بإنسان مبتور أو بإنسانية أحادية الجانب.
وأما السمة الثانية - وهي المنهج النقدي - فلا يخالجني شك في أنها ترتبط بالسمة الأولى أوثق الارتباط، بل تنبثق عنها انبثاقا عضويا؛ فالعقل - بالمعنى الذي حددته - لا بد أن يكون ناقدا، وفي تصوري أن العقل الذي يتأمل مشكلات الفكر وأوضاع المجتمع والناس بنظرة غير نقدية إنما يتنكر لطبيعته ويأبى أن يمارس وظيفته؛ ذلك لأن سمة العقل المميزة هي قدرته على تخطي ما هو شائع، وتجاوز الأمر الواقع من خلال مقارنته بصورة يرسمها الفكر المتطلع إلى أوسع الآفاق، ولو لم تكن لدى العقل تلك القدرة على التخطي والتجاوز لكان ملكة عاطلة، لا تمتاز بشيء عن تلك الحواس التي يقتصر إدراكها على ما يقع في نطاق محيطها المباشر، وأنا - على أية حال - ممن لا يستطيعون تصور التفكير إلا مصحوبا بالنقد، وممن يؤمنون بأن النقد هو أعلى مظاهر تحقيق الفكر لذاته. ومن هنا كانت الأفكار التي تضمنها هذا الكتاب نقدية في صميمها، وهي في نقدها هذا إنما تعبر عن وجهة نظري الخاصة إلى المشكلات التي عالجتها، وإن كنت آمل أن تتجاوز وجهة النظر هذه النطاق الفردي لصاحبها؛ إذ إنني أرجو أن أكون في الوقت ذاته قادرا على إقناع الآخرين، ما داموا بدورهم يحتكمون إلى العقل.
وبعد، فإن هذا الكتاب يضم مجموعة من الدراسات والمقالات نشرت منذ عام 1964م حتى الوقت الراهن في مجلات «الثقافة» و«الكاتب» و«الكتاب العربي» و«الطليعة» و«المجلة»، وقبلها جميعا في مجلة «الفكر المعاصر»، ولقد صنفت هذه الكتابات إلى موضوعات رئيسية أربعة، تندرج تحت كل موضوع منها مجموعة من المقالات رتبت بقدر الإمكان ترتيبا منطقيا لا ترتيبا زمنيا.
وأود أن أقول - دون مواربة - إن هذه الدراسات والمقالات أقرب إلى التعبير عن فكري في صورته الصريحة المباشرة من أي شيء آخر كتبته من قبل، وهي بهذا المعنى معيار صادق لما أومن به ولما أرفضه، وإني - إذ أقدمها إلى القراء في هذه الصورة المتكاملة - لا أتوقع ولا أتمنى أن يوافقني الجميع على ما أقول، ولكن ما أتمناه حقا هو أن يناقشني الموافقون والرافضون معا على نفس المستوى العقلي والنقدي الذي كتبتها به؛ ذلك لأن أسعد لحظات المفكر هي تلك التي يحس فيها بأن ما كتبه قد حفز الآخرين إلى التفكير معه، وأتعس لحظاته هي تلك التي يشعر فيها بأن آراءه لم تثر في الناس إلا استجابات انفعالية متسرعة لا ترتكز على أساس من التعمق والتحليل. فليكن تقديم هذا الكتاب دعوة إلى المشاركة في السعادة الفكرية.
دكتور فؤاد زكريا
القاهرة 5 سبتمبر 1974م
الباب الأول
مشكلات ثقافية
أزمة العقل في القرن العشرين1
Bilinmeyen sayfa
يعتقد الكثيرون أن السمة الغالبة على الفكر في القرن العشرين هي أنه يعاني أزمة، ويرون أن أبرز صفات العقل في هذا القرن هي تلك المحنة التي جعلته يشك في أكثر مبادئه رسوخا وأشد بديهياته وضوحا، على أن هذا الاعتقاد تواجهه اعتراضات شديدة يرى أصحابها أنه ليس من الممكن - أو ليس من الواجب - الكلام عن أزمة العقل في القرن العشرين.
أما أن الكلام عن هذه الأزمة غير ممكن؛ فذلك لأن العقل لم ينتصر في أي عهد، فيما يرى أصحاب هذه الاعتراضات، مثلما انتصر في هذا القرن؛ فالعلم قد أحرز في فترة وجيزة مكاسب تزيد عما أحرزه طوال تاريخه السابق، والفكر الفلسفي قد ازدهر وتنوع وازداد خصبا على الدوام، وربما كان الأهم من ذلك أن حياة الإنسان ذاتها قد أصبحت تنظم على أساس يستحيل تصوره بدون العقل، سواء كنا نعني حياة الإنسان الاجتماعية أو الاقتصادية أو الثقافية أو حتى حياته اليومية، فهل يحق لأحد - بعد ذلك - أن يتحدث عن أزمة للعقل؟
وأما أن الكلام عن هذه الأزمة غير واجب؛ فذلك لأن هذا الكلام موجه إلى مجتمع يحتاج إلى من يحثه في كل لحظة على الثقة بالعقل والاعتماد عليه في فكره وفي فعله، وحتى لو كانت أزمة العقل - من الوجهة الموضوعية - حقيقة واقعة في المجتمعات الغربية، فمن الواجب أن يكون ما نعرضه على مجتمعنا الشرقي حافزا له على السير في طريق العقل الذي هو أحوج ما يكون إليه، لا أن يكون مشجعا للعناصر الضيقة الأفق فيه على الدعوة إلى الابتعاد عنه والاستعاضة عنه ببدائل أخرى طالما اقترحت علينا، وطالما جربناها ولم نفز منها إلا بالتخلف.
ولسنا نزعم أن هذا الاعتراض لا يقوم على أساس، ولكن من الصحيح بالرغم من ذلك أن موقف الفكر العالمي من العقل قد طرأ عليه - منذ مطلع القرن العشرين - تغير أساسي يستحق أن يوصف بأنه أزمة، وذلك إذا ما قورن بموقف الثقة من العقل الذي كان سائدا في القرون السابقة، ومن جهة أخرى فإن الإشارة الصريحة إلى أزمة العقل في مجتمع كمجتمعنا ليست على الإطلاق دعوة إلى الهروب من العقل أو تشجيع الاتجاهات المعادية له ، وإنما هي جهد يبذل من أجل التنبيه إلى الدور الحيوي الذي يمكن أن تلعبه في حياتنا ملكة كدنا أن ننساها، وإلى الثمن الباهظ الذي كلفنا إياه هذا النسيان.
على أنني أود - منذ البداية - أن أبين بوضوح قاطع أن أزمة العقل في مجتمعنا تعني شيئا مختلفا كل الاختلاف عنها في المجتمعات الغربية، ولا جدال في أن المقارنة بين مظاهر هذه الأزمة في نوعي المجتمع هذين يمكن أن تلقي ضوءا ساطعا على المشكلة بأكملها، بل يمكن أن يكون فيها رد كاف على الاعتراض السابق بشقيه معا؛ إذ إن هذه المقارنة ستكشف - من جهة - عن الملامح الإيجابية إلى جانب الملامح السلبية فيما يسمى بأزمة العقل في الفكر العالمي، وستثبت - من جهة أخرى - أن الأزمة التي نعانيها من نوع مختلف كل الاختلاف، وأن ما يصدق على المجتمعات الغربية في هذا الصدد لا يصدق على مجتمعاتنا على الإطلاق، وعلى هذا النحو نتحاشى خطر تشكيك شعوبنا في الالتجاء والاحتكام إلى العقل الذي هو أحوج ما تكون إليه في المرحلة الراهنة من تاريخها. •••
إن من الضروري لمن يتصدى لموضوع له مثل هذا الخطر، أن يبدأ بحثه وهو على وعي تام بما يستخدمه من ألفاظ وعبارات، وأفضل سبيل لتحقيق هذا الوعي هو أن يحاول تحديد المصطلحات الرئيسية التي يستخدمها بقدر من الدقة يسمح له بالمضي في تناول الموضوع وهو آمن من التخبط أو التناقض غير الواعي، الذي يمكن أن يثيره الاستخدام الفضفاض للألفاظ.
ولعل أول لفظ ينبغي أن نعمل على إيضاحه هو لفظ «الأزمة»؛ فالأزمة - قبل كل شيء - انقطاع وانفصال عن حالة سوية أو مألوفة أو مستمرة، ومن شأن هذا الانقطاع أن يجلب اضطرابا أو ألما؛ لأن المألوف بطبيعته مريح، ولأن السوي بطبيعته صحي، وبهذا المعنى نتحدث عن المرض بوصفه أزمة، غير أننا إذا انتقلنا من المجال الجسمي إلى المجال المعنوي، وجدنا أن الأزمة هي التي تصبح أقرب إلى معنى الصحة؛ فالخروج عن المألوف - في هذا المجال - يظل يجلب الاضطراب والقلق، ولكنه لا يعد بأي معنى من المعاني تعبيرا عن المرض، بل إن أزمات العقل هي في معظم الأحيان دليل حيويته وفاعليته ونشاطه، ومن السهل تعليل هذا الاختلاف في معنى الأزمة بين المجالين؛ ذلك لأن الجسم بطبيعته يخضع لقوانين ثابتة، ومظهر الصحة فيه هو احتفاظه بقدرته على أداء وظائفه المحددة التي لا تتغير إلا في أضيق الحدود، أما العقل فإن صحته في تغيره وانتقاله على الدوام إلى مواقع جديدة، وأي تصور للعقل من خلال فكرة الثبات، أو فكرة الوظائف المحددة التي لا تتغير، هو إلى المرض أقرب، على أن من الواجب أن نتنبه إلى أن الأزمة في المجال العقلي تمثل خطوة أولى تتسم بطابع سلبي نحو تحقيق صحة العقل؛ فهي تعني الوعي بقصور القديم وضرورة تجاوزه، وهي بذلك تشكل الشرط الذي لا غناء عنه من أجل تحقيق هذا التجاوز، ولكن من الممكن أن تظل الأزمة في مرحلتها السلبية دون أن تهتدي إلى وسيلة تعين العقل على تجاوز ذاته، أو تؤدي إلى خطوة أخرى تبدو في مظهرها إيجابية، وإن كانت تمثل بالفعل ارتدادا لا تقدما، وفي هاتين الحالتين يمكن أن تكون أزمة العقل في عصر أو مجتمع معين مظهرا من مظاهر مرض هذا العصر أو المجتمع.
أما اللفظ الثاني الذي ينبغي أن نقوم بتحديد أدق لمعناه، فهو لفظ «العقل»، وهنا يتعين علينا أن ننبه إلى أن تعريفات هذا اللفظ بالذات يمكن أن تستغرق مجلدات بأكملها، بل إن من الفلاسفة من نظروا إلى تطور البشرية كلها - في جميع مظاهر حضارتها من فكر وفن وعلم ودين وتشريع - على أنه تطور للعقل، وعلى ذلك فإن مجرد الكلام عن تحديد لمعنى العقل في مقال كهذا، يبدو أمرا بعيدا كل البعد عن الروح العلمية ذاتها، ومع ذلك فسوف نحاول أن نقوم بتحديد، لا لمفهوم العقل ذاته، بل للمجال الذي يتناوله هذا المقال من مجالات العقل الكثيرة.
ولعل أفضل سبيل لفهم المقصود بالعقل - في الحدود التي تخدم أغراض بحثنا الحالي - هو أن نفهم العقل من خلال ما يقابله أو ما هو مضاد له؛ ذلك لأن كل أزمة يمر بها العقل كانت تؤدي إلى تغليب مفهوم آخر مضاد وتمجيده وإعلاء شأنه على حساب العقل، وعلى ذلك فإن قدرا كبيرا من الغموض الذي يحيط بطريقة فهمنا للعقل يمكن أن يتبدد لو عرفنا ما هي القوى أو الملكات المضادة التي يهيب بها الإنسان كلما مر العقل بمرحلة من مراحل الأزمة. (أ)
لعلنا جميعا نعرف - بصورة أو بأخرى - ذلك التقابل المشهور بين العقل والعاطفة أو الانفعال، ونعبر عن فهمنا لهذا التقابل حين نصف شخصا بأنه يحكم على الأمور بعقله وآخر بأنه يصدر أحكاما عاطفية، هذا التقابل يعبر في حقيقة الأمر عن تكامل؛ إذ إن العقل والعاطفة ليسا طرفين يستبعد كل منهما الآخر، بل هما قوتان تجتمعان معا في كل إنسان، وإن كان طغيان إحداهما على الأخرى في أفراد معينين هو الذي يبعث فينا الاعتقاد بأن كل قوة منهما مضادة للأخرى، والحالة السوية - بطبيعة الحال - هي تلك التي تلتزم فيها كل منهما مجالها الخاص، أو تتضافر مع الأخرى في إصدار حكم متكامل في الحالات التي يتعين فيها الرجوع إلى العقل وعدم تجاهل صوت العاطفة في الآن نفسه.
Bilinmeyen sayfa
على أن العصور الرومانتيكية قد أثارت ما يمكن أن يسمى بأزمة للعقل، حين تمادت في العاطفية والانفعالية إلى حد اعتبار العقل ملكة انقطعت صلاتها بالمنابع الفياضة للنفس الإنسانية، وعملت على محاربة كل فكر منهجي ومنطقي بقدر من العنف وصل إلى حد الخصومة المرضية، وظهرت لدى أصحاب الأمزجة الرومانتيكية مجموعة كاملة من المبادئ التي ترتد في النهاية إلى العاطفة أو الانفعال، وتشترك كلها في التنديد بالعقل أو تأكيد قصوره، منها مبدأ الإرادة عند شوبنهور، أو إرادة القوة عند نيتشه، أو الحياة عند دلتاي، أو الحدس عند برجسون، في كل هذه الحالات يؤكد الفكر أن لدى الإنسان قوة أخرى تعلو على منطق العقل، وتنفذ إلى لب الأشياء أو جوهرها الباطن، على عكس العقل الذي لا يصل إلا إلى العلاقات الخارجية بين الظواهر فحسب. (ب)
أما المقابل الرئيسي الثاني للعقل، فهو السلطة، وإذا كان التقابل بين العقل والعاطفة (بأشكالها المختلفة واشتقاقاتها المتعددة) ينصب على «المضمون»، فإن التقابل بين العقل والسلطة ينصب على «الطريقة أو المنهج»؛ ذلك لأن التفكير على أساس السلطة لا يتعين أن يؤدي - بالضرورة - إلى نتائج مخالفة لتلك التي ينتهي إليها التفكير العقلي، بل قد يكون المضمون الفكري واحدا في الحالتين، ولكن طريقة التفكير أو منهجه هي التي تختلف؛ ففي حالة اتباع السلطة يكون التفكير خاضعا لمصدر يعلو عليه، ويقبل أحكامه بلا مناقشة، على حين أن التفكير المرتكز على العقل يعتمد على الموارد الإنسانية وحدها، ويؤمن بأن كل ما يصدر نتيجة لجهود الإنسان الخاصة يسري عليه كل ما يسري على الإنسان ذاته من قابلية التغير والتطور والتعديل الصحيح، وبينما يؤدي اتباع منهج الخضوع للسلطة إلى التحجر والجمود، فإن الارتكان إلى العقل يعني المرونة والتفتح واتساع الأفق.
وللسلطة - كما نعلم جميعا - أشكال متعددة؛ فهناك سلطة الأسرة أو القبيلة أو المجتمع، وحين يرتكز الفكر على واحدة من هذه السلطات يكون معنى ذلك كبت حرية العقل الفردي في فهم الأمور على أساس تقديره لها وحكمه الخاص عليها. على أن أشهر مظاهر السلطة هو - بلا جدال - سلطة الوحي الديني، ولقد آثرت أن أتحدث عن الوحي الديني بوصفه السلطة الحقيقية المقابلة للعقل، بدلا من الحديث عن الإيمان، على الرغم من أن التقابل بين العقل والإيمان كان له تاريخه الطويل منذ العصور الوسطى حتى أيامنا هذه؛ ذلك لأن الإيمان - في ذاته - لا يمثل بالضرورة قوة مضادة للعقل، أو حتى مخالفة له، وإنما هو قبل كل شيء طاقة انفعالية يمكن توجيهها في أي اتجاه نشاء؛ فمن الممكن أن يوجه العالم المتحمس لكشفه الجديد طاقة الإيمان لديه في الدفاع عن هذا الكشف والدعوة إليه، على الرغم من أن الكشف كان مرتكزا على أسس عقلية بحتة، وبذلك يمكن القول إن الإيمان - في معناه العام - قوة محايدة إزاء العقل، أما القوة التي تمثل التضاد الحقيقي فهي الوحي الديني، بوصفه مصدرا للسلطة يرى الكثيرون أنه ينافس العقل ويتفوق عليه؛ لأن السلطة في هذه الحالة إلهية تعلو على ضعف العقل الإنساني وقصوره. (ج)
أما المقابل الرئيسي الأخير للعقل فهو الأسطورة، التي كانت في العصور البدائية هي البديل الوحيد للعقل، نظرا إلى ضعف الإمكانات الفكرية للإنسان، ولكنها وجدت في العصور الحديثة ذاتها أنصارا يضعونها في مقابل العقل بوصفها تعبيرا رمزيا عن القوى الحيوية التي يباعد العقل بين الإنسان الحديث وبينها بما يفرضه عليه من كبت وقهر، ويمكن القول إن بعض جوانب نظرية التحليل النفسي - وخاصة ما يتعلق منها بالدلالة الرمزية للأحلام، وبالتضاد بين الشعور واللاشعور - تهيب مرة أخرى بقوة الأسطورة اللاواعية في مقابل العقل الواعي، هذا فضلا عن أن عددا لا يستهان به من المذاهب الفنية الحديثة - في التصوير والمسرح والنحت والأدب - قد تأثرت بهذا الجانب من نظرية التحليل النفسي، وهاجمت العقل الشعوري المنظم سعيا إلى استكشاف الأغوار الخفية للنفس البشرية في عالم الأسطورة الرمزية اللاشعورية.
يكفينا إذن - بالنسبة إلى أغراض هذا المقال - أن نشير إلى أن العقل قوة بشرية توضع في مقابل الانفعال أو العاطفة، وهي قوة مضادة للسلطة بشتى مظاهرها، تسعى إلى التخلص من كل آثار التفكير الأسطوري، ويكفي أن نشير إلى أن العقل يعاني أزمة في كل حالة يسعى فيها الإنسان إلى الدفاع عن إحدى هذه القوى المضادة وتغليبها عليه.
على أن هذا التحديد لمعنى العقل لن يكتمل إلا إذا أشرنا إلى بعد آخر للعقل لم يظهر بوضوح من خلال العرض السابق؛ ذلك لأن العقل كان يبدو لنا - في كل ما سبق - قوة للمعرفة أو العلم فحسب، ولكن للعقل جانبا عمليا أو جانبا أخلاقيا واجتماعيا لا يصح تجاهله؛ فمنذ أيام اليونانيين كان العقل مرتبطا بالتناسب الصحيح وبالعدل ، وفي أوروبا الحديثة كانت العقلانية فلسفة تنادي بإقرار العدل في نفس الوقت الذي تنادي فيه بتحقيق سيادة الإنسان على الطبيعة وإعلان حكم العقل في العالم.
ولو رجعنا إلى الأصول اللغوية لما وجدنا عناء في الاهتداء إلى الجوانب العملية في معاني كلمة العقل، بالإضافة إلى جوانبها النظرية؛ فالحقيقة (وهي الهدف النظري الرئيسي لكل تفكير عقلي) ترتبط لغويا بالحق ، أي بالمبدأ الأخلاقي الذي يدافع عنه الإنسان، وفي اللغات الأجنبية يظهر هذا الارتباط نفسه؛ ففي الفرنسية مثلا نستخدم كلمة
raison (العقل) للتعبير عن الحق أو المبرر، كما في قولنا:
il a raison (أي إن له حقا أو لموقفه ما يبرره)، ولفظ الفهم مرتبط بالتفاهم (عقليا واجتماعيا) في العربية وفي الإنجليزية
understanding
Bilinmeyen sayfa
والفرنسية
entendement ، وإذا كان العقل قد ارتبط بالنور والعدل، فإن انعدام العقل قد ارتبط بالظلم، ويكفي أننا نتحدث دائما عن «ظلام الجهل»، وأن الارتباط قوي بين الظلام والظلم، أي بين المجالين النظري والعملي أو العلمي والأخلاقي، وإذا لم يكن هذا الاشتقاق اللغوي يقدم تبريرا كافيا لوجهة النظر هذه، فإن التاريخ ذاته خير شاهد على وثوق الارتباط بين الدفاع عن العقل والدفاع عن الخير والعدل؛ إذ كان كبار العقلانيين في أوروبا في القرن الثامن عشر هم أصحاب أقوى الأصوات دفاعا عن الحرية والديمقراطية والعدالة الاجتماعية، على حين أن فلسفات اللامعقول (شبنجلر وروزنبرج) كانت تقدم مبررا لعهود الاضطهاد والديكتاتورية، أو تستخدم رغما عنها (كما في حالة نيتشه) من أجل تبرير أمثال هذه العهود. •••
هذا التحديد الذي قمنا به للمفاهيم الرئيسية التي تدور حولها المشكلة موضوع بحثنا، ليس على الإطلاق مقدمة تمهيدية، بل هو ينتمي إلى صميم البحث ذاته؛ فبفضل هذا التحديد نستطيع أن نوفر على أنفسنا عناء الدخول في كثير من المناقشات التفصيلية المتعلقة بطبيعة أزمة العقل في المجتمعات الغربية، وندرك بوضوح دلالة الأزمة المناظرة التي تمر بها مجتمعاتنا، ونجيب بسهولة عن السؤال الحاسم: هل تعد أزمة العقل لدينا صدى لأزمة الفكر العالمي، أم أنها شيء قائم بذاته، وبالتالي لا يصح أن تطبق عليه المقولات المستخدمة في وصف الأزمة الفكرية العالمية؟
لقد شهد الفكر الغربي - منذ أواخر القرن التاسع عشر وحتى وقتنا هذا - ظواهر لا يمكن أن توصف إلا بأنها أزمة؛ ففي وقت واحد على وجه التقريب، أصبحت منابع الفكر الفلسفي هي آراء برجسون ونيتشه وكروتشه وشبنجلر ووليم جيمس، وكلها آراء تمجد قوى أخرى غير العقل الاستدلالي المنهجي المنظم، وتهيب بمبادئ الحدس أو الإرادة أو القدر الصارم أو النجاح العملي، حتى أصبح أنصار العقل التقليديون - لأول مرة منذ عهد بعيد - أقلية ضعيفة خافتة الصوت، تدافع عن مواقعها بخجل واستحياء إزاء هجوم جارف لا سبيل إلى مقاومته.
وفي هذا الوقت ذاته كان علم النفس عند فرويد يجعل من السلوك الواعي ما يشبه «البناء العلوي» (بالمعنى الماركسي لهذا التعبير)، ويكتشف تحته طبقات كثيفة من «الأبنية الدنيا» التي تتحكم فيه، والتي تتألف من ذكريات وتجارب لا شعورية مكبوتة، وتكون عالما مظلما معتما لا يدرك إلا من خلال رموزه، ولا ينفذ إليه العقل الواعي، وإن كان هو أساس تفسير الكثير مما يدور في مجال الوعي.
وفي المجال الأدبي والفني، اتخذت الرواية والدراما والموسيقى والفنون التشكيلية طابعا خلا من الترابط المنطقي والقالب المحدد المنظم، وحلت محله الانطباعات السريعة المباشرة المختلطة والقوالب غير المألوفة، وأصبح الفن بدوره يخاطب القوى اللاواعية في الإنسان، ويبدو كما لو كان يريد الغوص في أعماق معتمة تقربه من المنابع السحيقة للحيوية البشرية.
وحتى في المجال العلمي النظري ذاته - وهو المجال الذي فيه يجد العقل نفسه «في بيته» كما يقولون - مر العقل بأزمة حادة تنازل من أجلها عن مبادئ ظل يتخذها أساسا يرتكز عليه طوال قرون عدة، وطرأ تغير أساسي على نظرته إلى العالم الأكبر والأصغر؛ فالنظرة الآلية إلى العالم أصبحت تحتاج إلى مراجعة جذرية، ومبدأ السببية ذاته أصبح موضوعا لهجوم جارف، وأشد البديهيات وضوحا حلت محلها مواضعات، والمطلق - في شتى المجالات - قد أنزل عن عرشه لكي يحل محله النسبي، والمبادئ التي كان يظن أنها سارية على كل ما في الكون أصبحت - على أحسن الفروض - تكتفي بمجالات معينة لا تدعي لنفسها الصحة خارجها، كما هي الحال في هندسة إقليدس، بل في منطق أرسطو ذاته.
هذه الظواهر يستحيل أن تجتمع كلها في توقيت زمني واحد، وتشير جميعها إلى اتجاه واحد، ما لم تكن تعبيرا عن أزمة واحدة؛ فمن المستحيل أن نفهم كيف تتوافق التطورات في ميادين متباعدة لا تجمعها أية رابطة ملحوظة، إلا إذا نظرنا إليها على أنها مظاهر مختلفة لجوهر واحد، هو وجود أزمة حادة يمر بها العقل.
ولكن ينبغي أن ندرك أن هذا الاستنتاج ذاته لم يتم التوصل إليه إلا عن طريق العقل، أي إن العقل الاستدلالي هو الذي يستنتج وجود أزمة عامة للعقل من ملاحظته لظواهر معينة تتلاقى كلها في نقطة واحدة، وتجمعها دلالة واحدة، وتلك في واقع الأمر هي أبرز سمات ما يسمى بأزمة العقل في العالم الغربي؛ فالأزمة في هذه الحالة ليست على الإطلاق اتجاها إلى التنازل عن العقل، وإنما هي سعي إلى الخروج به عن آفاقه المألوفة، واستكشاف أبعاد جديدة له، وإدماج قوى أخرى - حتى تلك التي تبدو مضادة له - في داخله. ومن المستحيل أن نفهم هذه الأزمة إلا في ظل حضارة كان لها مع العقل تاريخ بلغ من الطول حدا جعلها تضيق بالحدود التقليدية التي ظل العقل يحصر نفسه فيها، وتعمل على تفجير الحواجز التي ظلت تحول دون انطلاق العقل إلى أرحب الآفاق. إن العقل هنا هو الذي يتمرد على نفسه، وهذا التمرد على الذات هو أعلى درجات تحقيق العقل لذاته. •••
ولو شئنا أن نلخص في عبارة واحدة طبيعة الأزمة العقلية التي تمر بها المجتمعات الغربية، ونحدد وجه الاختلاف الأساسي بينها وبين أزمة العقل في مجتمعاتنا الشرقية، لقلنا إن الأزمة عندهم هي أزمة ما بعد العقل، على حين أننا لا زلنا نمر بأزمة ما قبل العقل، إنهم قد تجاوزوا نطاق التفكير العقلي التقليدي بعد أن تشبعوا بالعلم والمنطق والفلسفة، وأصبحوا يتطلعون إلى عقل يتجاوز نطاق العقل الذي ألفوه، أما عندنا فلا زال العقل يعمل جاهدا من أجل استكشاف ذاته وتحقيق أبسط مطالبه الضرورية.
Bilinmeyen sayfa
ولنضرب لذلك مثلا واحدا: ففي نقد الفكر الغربي لفكرة السببية، يرتكز هذا الفكر على التعقد الذي لا يسمح لنا بإخضاع كل نتيجة لسبب واحد بعينه، على النحو الذي كان سائدا في ظل الفهم الميكانيكي التقليدي لفكرة السببية، إن العقل هنا - بعد أن ظل يطبق فكرة السببية طويلا وبنجاح - يكتشف من المجالات ما يدعوه إلى تجاوزها؛ فهو يبحث عما بعد السببية وما بعد الضرورة دون أن يتخلى عن مبدأ السببية أو مبدأ الضرورة، وفي مقابل ذلك حارب العقل في حضارتنا مبدأ السببية (في أحوال معينة) دفاعا عن الفهم الغائي واللاهوتي للظواهر، ومع ذلك ترتفع أصوات باحثينا فخورة بأن نقد الغزالي لفكرة السببية - مثلا - قد استبق نقد هيوم، وربما استبق الاتجاهات المعاصرة ذاتها، دون أن يتنبهوا إلى أن الغزالي كان ينقد السببية لكي يدعم الغائية، على حين أن هيوم والمعاصرين ينقدون السببية لكي يوسعوا من نطاق العقل العلمي ويضموا إلى مملكته مجالات أرحب. إن الفرق هنا واضح بين أزمة العقل الناجمة عن رغبة العقل في تجاوز ذاته، وبين أزمته الناجمة عن هروب العقل من ذاته وعجزه عن تحقيق مطالبه وارتمائه في أحضان القوى التي تحكم عليه بالقصور الأبدي.
وفي وسعنا أن نعبر عن هذا الفارق تعبيرا آخر، فنقول إن الباعث إلى ظهور أزمة العقل الغربي هو الرغبة في إعطاء العقل مزيدا من «الحرية»، وفي مجال كهذا يكون للحرية معنى مزدوج، وهو رفض القديم من جهة، وخلق الجديد من جهة أخرى، والحق أننا لو حاولنا أن نتتبع السمة المشتركة بين تلك الظواهر المتعددة التي تنتمي إلى مجالات شديدة التباين، والتي تبين لنا من قبل أنها هي التي تؤلف ما يسمى بأزمة العقل في الفكر الغربي، لما وجدنا سمة تعبر عن روح هذه الظواهر جميعا خيرا من سمة الحرية؛ فالعقل يسعى إلى أن تكون له حرية حتى إزاء مبادئه الأساسية وبديهياته المطلقة، وإزاء كل نوع من الإلزام والضرورة العقلية، وهو يحارب كل محاولة لرد الإنسان إلى مجرد جزء من الطبيعة، ويهدف إلى تأكيد طابع الحرية فيه بوصفه مقابلا للضرورة السارية على الطبيعة، وهو يود التحرر من كل ما هو مطلق أو تقليدي أو مألوف، حتى لو كان هذا المألوف هو الشكل الطبيعي للأشياء، وليس أدل على أن مطلب الحرية هو الذي خلق أزمة العقل، وهو الذي يحل هذه الأزمة، من أن طريقة الخروج من هذه الأزمة كانت في معظم الأحيان وضع أنساق أرحب من الأنساق القديمة يستطيع العقل أن يتحرك خلالها بمزيد من الحرية، بعد أن كاد يختنق داخل الأنساق القديمة الضيقة، وفي مقابل ذلك يمر العقل في الشرق بأزمة ليس لها من سبب سوى الرغبة في تبديد حرية العقل وتضييق الخناق عليه؛ فالعقل يعاني من اتجاهات تريد تعطيله أو إلغاءه، زاعمة أنها تفعل ذلك لحساب سلطة دينية تعرف كل شيء، أو لحساب سلطة سياسية قادرة على أن تدبر للناس أمورهم وعلى أن تفكر بدلا منهم، وحين يستمر تعطيل العقل زمنا طويلا، يعتاد الناس إلغاء عقولهم، ولا يجدون أية غرابة في أن تطلب إليهم اليوم أن يتخذوا موقفا مناقضا لما كان يطلب إليهم بالأمس، بل إن الاعتداء على قانون التناقض ذاته لا يعود أمرا مستغربا، وحين يقترن هذا الصدأ العقلي بعامل الخوف من التفكير الحر، فإن العقول تفقد القدرة على ممارسة فاعليتها حتى عندما تزول الأسباب التي تؤدي إلى الخوف. ومجمل القول أن الفارق بين الأزمتين هو الفارق بين عقل يسعى دوما إلى توسيع نطاق حريته، وبالتالي إحكام سيطرته على العالم، وعقل تكبله الأغلال ويشغله الكفاح من أجل تحقيق الحد الأدنى من مطالبه الضرورية.
إن مستوى المناقشات التي تدور في مجتمعاتنا الشرقية حول مشكلة العقل كفيل بأن يكشف لنا عن نوع الأزمة التي نعانيها، أزمة «ما قبل العقل»، أو أزمة العقل الذي يكافح لكي يخرج إلى النور؛ فما زالت مشكلة التوفيق بين العقل والإيمان تشغلنا وتستغرق من جهودنا الفكرية قدرا غير قليل، وما زلنا نجد علماء يحاولون أن يثبتوا أن أحدث الكشوف العلمية لها أساس في النصوص الدينية، ورجال دين يسعون إلى إثبات أنهم مستنيرون لأنهم يسمحون للعقل بالتحرك في الحدود التي يسمح بها الإيمان فقط.
ولقد كان من العوامل التي أثارت هذه المشكلة - في العهود الأولى للمجتمع الإسلامي - أن المسيطرين على مقاليد الأمور (روحيا أو سياسيا) نبذوا الفلسفة على أساس أنها غريبة أو دخيلة، ما دامت يونانية الأصل، وكان من المحتم أن يؤدي نبذ الفلسفة هذا إلى نبذ للعقل ذاته؛ إذ إن خصوم الفلسفة قد خلطوا بين «المصدر» و«المبدأ»، أعني بين المصدر الذي أتت منه الفلسفة - وهو بالفعل يوناني دخيل - وبين مبدأ التفلسف ذاته، أي إخضاع الأمور لحكم العقل والمنطق، ومن المؤسف أن اسم الفلسفة ظل ردحا طويلا من الزمان محوطا بالشبهات، على أساس أنها بدعة دخيلة، ولم يكن ذلك في واقع الأمر إلا استغلالا لمصدرها الأجنبي من أجل تجريح أسلوب التفكير العلمي في ذاته، وحين يوضع الإيمان في كفة والتفكير العقلي الإنساني (وخاصة إذا كان معتمدا على مصادر دخيلة) في كفة أخرى، فإن النتيجة لا بد أن تكون معروفة منذ اللحظة الأولى.
إن مهمتنا ليست على الإطلاق إصدار حكم حول هذه المشكلة، بل إن كل ما نود أن ننبه إليه هو النتائج الحتمية التي يؤدي إليها الاهتمام المفرط الطويل الأمد بمشكلة مثل مشكلة التقابل بين العقل والإيمان؛ ذلك لأن تفضيل الوحي أو الإيمان معناه تفضيل الخصوصية على العمومية؛ فالإيمان خصوصي بطبيعته، والعقيدة بطبيعتها تسري على فئة محددة من الناس، هي فئة المؤمنين، وتصطدم بعقائد أخرى تؤمن بها فئات أخرى إيمانا مماثلا في قوته وحماسته، ولا جدال في أن لدى كل عقيدة ميلا إلى أن تضفي على نفسها طابع العمومية والشمول والوحدانية، غير أنها لا بد أن تجد في مواجهتها عقائد أخرى تدعي لنفسها هذا الطابع ذاته، ومن هنا لا يكون ثمة مفر من أن يظل الإيمان خصوصيا، مهما كانت قوة سعيه إلى العمومية، أما العقل فهو القوة الوحيدة التي لا يملك البشر غيرها حكما مشتركا بينهم، إنه عام وشامل بحكم ماهيته ذاتها، ومن هنا كان تغليب الإيمان على العقل يعني ضمنا انطواء ثقافة معينة على نفسها وتجاهلها للثقافات الأخرى ولحقيقة الاتصال التاريخي والاجتماعي بين البشر، وبطبيعة الحال لم تكن لمشكلة الاتصال هذه أهمية كبيرة في العصور الوسطى، حين لم تكن إنجازات العقل من الضخامة بحيث تستدعي مشاركة الجميع في الجهد العقلي وفي الانتفاع من ثمار هذه الإنجازات، أما في عصرنا الحاضر، فإن الحد الفاصل بين الحياة الخصبة والحياة العقيمة يتوقف على الاختيار بين التقوقع وبين المشاركة في ركب الحضارة العالمية؛ فعناصر النضال المشترك بين فئات هائلة من البشر أصبحت أقوى من أن يمكن تجاهلها بتأكيد خصوصية العقيدة في مقابل عمومية العقل، والأهداف العليا التي يسعى إليها الإنسان المعاصر - كتحقيق العدالة الاجتماعية والسيطرة على الطبيعة وغزو آفاق جديدة في الكون - تحتاج إلى استخدام المعايير العقلية المشتركة، لا إلى انطواء الحضارة على ذاتها بتغليب معاييرها الإيمانية الخاصة.
وقد يجد بعض القراء أن فيما قلته عن استمرار مشكلة التقابل بين العقل والإيمان قدرا من المبالغة، ويستشهدون على ذلك بأن الاتجاه السائد الآن هو التوفيق بين العقل والإيمان، لا تأكيد التقابل بينهما، ولكن الاهتمام بالتوفيق بين أي طرفين يعكس تأكيدا ضمنيا لتقابلهما، ومن المؤكد أننا لم نكن لنبذل كل هذا الجهد في التوفيق لو لم نكن نؤمن بأن كلا من الطرفين يتجه إلى أن يكون مضادا للآخر.
ومن جهة أخرى فإن إلقاء نظرة سريعة عابرة إلى المشاكل التي تشغلنا يكفي لإقناع كل متشكك بأن مشكلة العقل والإيمان - التي تخلص منها الفكر الأوروبي منذ زمن بعيد - ما زالت تشكل جوهر أزمة العقل في مجتمعاتنا الشرقية؛ فالمجتمع يلمس بنفسه - وبصورة واقعية تغني عن كل تبرير - أضرار الإباحة غير المقيدة لتعدد الزوجات وللطلاق، ويدرك أن حقوق المرأة الأساسية - وكذلك حقوق الطفل - تحتاج إلى قدر كبير من الدعم والحماية، ويعرف الأخطار الفعلية - التي تشهد بها تجربته اليومية - لزيادة النسل، ولكنه لا يزال يتخذ من هذه المشكلات كلها موقفا سلبيا يرجع في حقيقته إلى تغليبه لوجهة نظر الإيمان على وجهة نظر العقل في هذه الأمور، ولا بد أن يؤدي مثل هذا الموقف إلى توتر حاد، ربما وصل إلى حد التمزق الصامت، حين يجد الفرد العادي أن تجربته الفعلية (وبالتالي أحكام العقل) تثبت له أن نظام تعدد الزوجات - في صورته الراهنة - يجلب أضرارا اجتماعية لا حصر لها، ويجد من جهة أخرى أن حكم الشرع (أي حكم النص الديني) صريح في هذا الصدد، كما يقول له الفقهاء.
وفي وسعنا أن نضرب أمثلة كثيرة أخرى تثبت أن مشكلة التقابل بين العقل والإيمان ما زالت تقوم في مجتمعاتنا بدور رئيسي في حياتنا الفكرية، وأنها ليست على الإطلاق مشكلة كانت تنتمي إلى فترة تاريخية معينة، وتم حسمها بعد ذلك بصفة نهائية، من هذه الأمثلة تلك المناقشات الطويلة التي دارت - في صدد وضع الدستور الدائم - حول مركز الشريعة الإسلامية كأساس لأحكام الدستور، وأيا كانت النتيجة التي سوف تسفر عنها هذه المناقشات، فإن ما يهمنا هو دلالتها على وجود توتر بين حكم الإيمان، وهو توتر يعبر عن أزمة حقيقية، ولكنها أزمة «ما قبل العقل»، وخلال هذه المناقشات ذاتها ارتفعت أصوات لا حصر لها تنادي بأن سبب هزيمتنا في 5 يونيو هو انحرافنا عن طريق الإيمان، ووجدت هذه الأصوات صدى واسعا بين فئات عريضة من الجماهير، مع أن قليلا من التفكير في أوضاع الطرف الآخر الذي انتصر في 5 يونيو يكفي لإقناعنا بأن هذا الطرف المنتصر هو الذي حكم عليه - بموجب هذا الإيمان ذاته - بالتشرد الأبدي.
وأخيرا فقد يعترض علينا بأن الفئات التي تمثل هذه الأمور في نظرها مشكلات جدية لا تمثل المجتمع كله، وأن هناك إلى جانب هؤلاء من يكرسون حياتهم للعمل العلمي المرتكز على مبادئ العقل وحده، ولكن الواقع أن وجود هذه الفئة ذاتها يزيد من حدة المشكلة ولا يلغيها؛ إذ إنه يمثل تجسيدا حيا للتوتر العام بين العقل والإيمان في المجتمع الواحد، هذا فضلا عن التوتر الخاص بينهما في نفوس كثير ممن كرسوا حياتهم كلها للبحث العلمي الصرف (ارجع إلى شخصية «الدكتور سعيد» في مقالات الأستاذ توفيق الحكيم عن الشخصية المصرية في جريدة الأهرام، أعداد 30 يوليو، و6 و13 أغسطس 1971م )، ونتيجة ذلك كله هي أننا نقيم نظما تعليمية كاملة، تقدم خلاصة العلم الحديث (في حدود الإمكانات المتاحة بالطبع) فوق أرضية من العقلية الغيبية الأسطورية تتنافس مع تعاليم العلم تنافسا صارخا حينا، وتنافسا صامتا رهيبا في معظم الأحيان، وفي هذا التنافس الذي لا يزال العقل فيه يحتل مركزا ضعيفا تكمن أخطر مظاهر أزمة العقل في مجتمعنا.
ولو حاولنا أن نبحث عن الجذور الاجتماعية لهذه الأزمة فلن يكون من الصعب الاهتداء إلى أصولها إذا ما قارناها بالأزمة المماثلة التي مرت بها المجتمعات الغربية في البدايات الأولى للعصر الحديث؛ فالصراع بين القيم العقلية والقيم المرتكزة على سلطة الوحي كان في تلك المجتمعات صراعا بين أسلوب جديد للحياة (اصطلح على تسميته بالأسلوب البورجوازي) وبين الأساليب الإقطاعية الحريصة على التشبث بآخر معاقلها، ولم يكن من قبيل المصادفات أن ينتصر العقل، ويبدأ مسيرته الظافرة في نفس الوقت الذي توطد فيه أسلوب الحياة الجديد، وأخذت فيه النظم الإقطاعية تتداعى واحدا بعد الآخر، ولم تكن انتصارات العقل الساحقة - ابتداء من منظار جاليليو حتى خطوات أرمسترونج وجولات «لونوخود» على سطح القمر - تحدث في فراغ، بل كانت ترتبط على الدوام بتغييرات اجتماعية أساسية تمهد لها الطريق، وتهيئ الجو الملائم لانتفاع البشر بها.
Bilinmeyen sayfa
وفي هذا الإطار ذاته يمكن القول إن الأزمة التي مر بها العقل الغربي، والتي بدأت في أوائل هذا القرن وما زالت مظاهرها مستمرة حتى اليوم؛ هي أزمة لنمط الحياة البورجوازي الجديد، وهي بطبيعة الحال لا تستهدف العودة إلى علاقات اجتماعية إقطاعية، بل تستهدف أولا التعبير عن ضيق الإنسان الغربي بالواقع البورجوازي السائد، وبحثه عن بديل لم تتحدد معالمه بعد، ولعل الدليل على أن هذا البديل لم تتحدد معالمه هو الأزمة الموازية التي يمر بها العقل في المجتمعات الاشتراكية الأوروبية والآسيوية؛ ففي هذه المجتمعات بدورها أخذ العقل يراجع خطواته ويعدلها وينقدها - وخاصة في الآونة الأخيرة - على نحو ينم عن قدر قليل من عدم الاستقرار، وازدادت المراجعات والتحريفات إلى حد زالت معه الحواجز بينها وبين «الأصل»، بل أصبح من الصعب الوصول إلى «أصل» تعد الاجتهادات الأخرى «تحريفات» بالقياس إليه، وأخذ كل اجتهاد في التفسير يؤكد لنفسه الحق في أن يعد أصلا من الأصول. وعلى الرغم من التباين الشديد بين جذور هذه الأزمة وجذور الأزمة في المجتمع البورجوازي، فإن الأمر المرجح هو أن وسيلة الخروج منها ستكون توسيعا لنطاق العقل وخروجا له من إسار الأنساق الضيقة التي كان من قبل منحصرا فيها.
فإذا طبقنا هذا التفسير على مجتمعاتنا، كانت النتيجة الواضحة هي أن استمرار الدفاع عن مبدأ السلطة - بشتى مظاهره - واضطرار العقل حتى الآن إلى اتخاذ موقع الدفاع، والمطالبة بالحد الأدنى من حقوقه، وهي حريته في التعبير عن نفسه؛ كل ذلك دليل على أن العلاقات الإقطاعية - ولا سيما في المجال الفكري - ما زالت متشبثة بمواقعها، وعلى أن المرحلة التالية في تطورنا الاجتماعي (التي نريدها أن تكون مرحلة اشتراكية) لم تستطع بعد أن توطد أقدامها، وأن تؤثر على عقول الناس وأساليب تعاملهم ونظرتهم العامة إلى الحياة.
وبعد، فلعل النتيجة التي تفرض نفسها بعد هذا الحديث الطويل عن أزمة العقل بين مجتمعاتنا والمجتمعات الغربية، هي أن نوع الأزمة في الحالتين مختلف اختلافا جذريا، وأن إحداهما أزمة مجتمع فاض فيه العقل حتى طغت أمواجه على مجالات لم يكن يستطيع من قبل أن يقترب منها، على حين أن الأخرى أزمة مجتمع ما زال العقل فيه يكافح لكي يكتسب حقه المشروع في التعبير عن نفسه إزاء قوى متأصلة تهدده من كل جانب.
وفي اعتقادي أن الدرس الذي نخرج به من هذا التحليل هو أن أعراض الأزمة العقلية ينبغي أن تكون متباينة تماما في الحالتين، أو لنقل بعبارة أخرى إن من يتصور أن مظاهر أزمة العقل عندنا ينبغي أن تكون مماثلة لمظاهر الأزمة في الفكر العالمي لا بد أن يكون شخصا يخدع نفسه ويخدع الناس، ويكفي أن أضرب لذلك مثلا واحدا مستمدا من فكرة «العبث» أو «اللامعقول».
فالمجتمع الغربي قد سادته في وقت قريب موجة تصف العصر الحاضر بأنه عصر العبث الذي لا يكون فيه لأي شيء معنى ولا غاية، ولكن هذا الوصف للوجود بأنه عبث
absurde ، لا يمكن أن يكون له معنى إلا على أساس «مقارنة» ضمنية تحدث داخل ذهن كان يتوقع أن يجد العالم معقولا، وأن يجد له معنى، ولولا هذه المقارنة لما طرأت أصلا فكرة العبث أو اللامعقول على ذهن أحد؛ فالإنسان البدائي - مثلا - لا يصف العالم بأنه عبث، ولا تطرأ على ذهنه فكرة اللامعقول ، وذلك على الرغم من أنه يعيش هذه اللامعقولية في كل لحظة من حياته؛ لأنه لم يكن يتوقع أن يجد العالم غير ذلك، ولم يقم بأية مقارنة ضمنية بين الحالة الفعلية والحالة المتوقعة أو المرغوب فيها، ومن ثم فإن اللامعقولية تفرض نفسها عليه بوصفها الحالة الأصلية والدائمة والمفروضة للعالم، وعندما تكون اللامعقولية حالة أصلية على هذا النحو، يستحيل أن يصل الوعي إلى إدراك فكرة اللامعقول، وبعبارة أخرى: فإن اللامعقول لا يمكن تصوره إلا على أرضية خلفية من المعقول، وفي الحضارات العقلانية وحدها يمكن أن تظهر - من آن لآخر - فكرة العبث، وتبنى عليها فلسفات كاملة وأعمال أدبية وفنية كبرى، أي يمكن أن تصل هذه الفكرة إلى نطاق الوعي الإنساني.
هذا الكلام موجه - أساسا - إلى أولئك الذين يتصورون إمكان قيام فلسفة أو فن أو أدب للعبث في المجتمع الذي نعيش فيه؛ فبالقدر الذي لا تكون فيه مجتمعاتنا الشرقية قد مرت بتجربة عقلانية هزت حياتها من جذورها، لا يكون هناك معنى للقول إن الوجود عبث، لسبب بسيط هو أن العقل الذي يصدر هذا الحكم لم يكن يتوقع أن يجد الوجود على خلاف ذلك، إنه عقل اعتاد اللامعقول طويلا، وما زالت الخرافة وحرفية النص تحتل في حياته مكانة رئيسية، ومن ثم فلا معنى عنده لفلسفة العبث أو لفنون اللامعقول وآدابه، وإذا ظهرت هذه فلن تكون إلا محاكاة ببغائية تفتقر إلى الأصالة.
إن من يعيش طيلة حياته في اللامعقول لا يملك ترف التفلسف أو التفنن على أساس من اللامعقول؛ لأنه لا يشعر بتناقضه و«عبثيته» عن وعي، ولا يقارنه بأي مقياس عقلي مخالف، فلنعرف إذن حدود أزمتنا العقلية، ولنعمل على الخروج منها بمنح العقل حقوقه كاملة، بدلا من أن نقفز - دون تبصر - من مرحلة التفكير الأسطوري إلى مرحلة ما بعد العقل، متخطين المرحلة الوسطى، مرحلة ممارسة التفكير العقلاني، التي هي أملنا الوحيد في أن نصبح مجتمعا مسايرا للعصر.
نحن وثقافة الغرب1
في العالم اليوم حضارة متفوقة تفوقا لا شك فيه - هي الحضارة الغربية - بالمعنى الواسع لهذه الكلمة ، وفيه أيضا حضارات لم تبلغ هذا القدر من التفوق، ولكن كلا منها يعتز بماض مجيد ويفخر بتراث أسهم بنصيب هام في بلوغ المدنية مستواها الحالي، ولما كانت الحضارة الغربية متفوقة ولكنها حديثة العهد نسبيا، والحضارات الأخرى - مع عدم تفوقها الحالي - لها جذور ممتدة إلى أقدم العهود؛ فقد ترتب على ذلك انقسام بين المثقفين من أبناء الحضارات غير الغربية حول الهدف الذي ينبغي أن تتجه إليه ثقافتهم، أهو مسايرة الحضارة الغربية الجديدة؟ أم إحياء الحضارة القومية الأصلية؟
Bilinmeyen sayfa
ونظرا إلى أن الحجج التي يستند إليها كل من هذين الطرفين قوية مقنعة، فقد كان من الطبيعي أن يحتدم الخلاف بينهما، ويبدو كأنه خلاف يستحيل التوفيق بين أطرافه؛ ذلك لأن أنصار التمسك بالتراث يستندون في دعوتهم إلى أساس متين، هو ضرورة المحافظة على وحدة الأمة عن طريق التعلق بماضيها والاعتزاز به، وهو هدف لا يستطيع أحد أن ينكر أهميته، حتى من كان له رأي مخالف في الوسائل المؤدية إليه، ومن جهة أخرى فإن أنصار مسايرة الحضارة الغربية الحديثة يرتكزون بدورهم على حجة لا مفر من الاعتراف بقوتها، هي عظمة حضارة الغرب في القرون الأخيرة وتفوقها الساحق في جميع المجالات، من علمية وفكرية وفنية واجتماعية، وهم يؤكدون أن من العبث اتخاذ موقف العناد في هذا الصدد؛ إذ إن الحضارة المتقدمة هي التي تسود دائما، ومن المحال أن تستطيع أمة أن توصد أبوابها في وجه التفوق الحضاري الذي يأتيها من مصدر خارجي؛ لأن هذا التفوق سيفرض نفسه سواء شاءت هذه الأمة أم أبت، وكل ما ستجنيه من العناد هو استمرارها في التخلف واستمرار الآخرين في السبق. •••
ومن المؤكد أن أنصار كل من هذين الطرفين يعانون - عن وعي أو دون وعي - نوعا من أزمة الضمير نتيجة لتشبثهم بموقفهم ذي الاتجاه الواحد؛ ذلك لأن من يدعو إلى المحافظة على التراث الحضاري القومي يعلم - على الرغم من قوة حجته - أن الحضارة الغربية لا تزال هي التي تقود العالم، ويدرك أن تجاهل هذه الحضارة والاكتفاء بإحياء التراث كفيل بأن يزيد الهوة بيننا وبينهم اتساعا، وهو يلمس حوله في كل يوم انتصارات جديدة في ميادين العلم، وتجارب شيقة غير مألوفة في الأدب والفن، فلا بد أن يؤدي به ذلك آخر الأمر إلى الإحساس بضعف موقفه، وبأن من الضروري إقامة نوع من الاتصال بين بلاده وبين أصحاب الحضارة المتقدمة، حتى يشعر المثقفون بأنهم يسايرون موكب الزمان ولا يتخلفون عن ركبه، ومن جهة أخرى فإن دعاة الاقتداء بالحضارة الغربية لا بد أن يشعروا - عاجلا أو آجلا - بأنهم قوم مقتلعون من جذورهم، وبأن روابطهم بماضيهم منعدمة، صحيح أنهم يشايعون حضارة تتميز بقوة مادية وروحية طاغية، ولكنهم يحسون بأنفسهم دخلاء على هذه الحضارة غرباء فيها، ويلتمسون لأنفسهم مكانا فيها فلا يجدونه، وينتهي بهم الأمر إلى إدراك قصور دعوتهم، والشعور بأنهم - بمعنى معين - قوم لا ينتمون إلى الماضي الأصيل ولا إلى الحاضر الدخيل. وبالاختصار فإن أزمة الضمير هذه تواجه أنصار التراث القومي وأنصار الحضارة الغربية معا، وذلك حين يتشبث كل منهم بموقفه ويأبى الاعتراف بسلامة موقف الطرف الآخر.
هذه الأزمة - كما قلت - تواجه المثقفين في جميع أرجاء العالم غير الغربي، وضمنه بطبيعة الحال العالم العربي ومنطقة الشرق الأوسط بوجه عام، ومع ذلك ففي اعتقادي أن لهذه المنطقة الأخيرة على وجه التحديد وضعا خاصا ينبغي أن يخفف إلى حد بعيد من وقع هذه الأزمة على ضمائر المثقفين فيها، بل ينبغي أن يؤدي آخر الأمر إلى إزالة الخلاف بين وجهتي النظر المتعارضتين؛ فقد كان الاتصال وثيقا إلى أبعد حد بين حضارات الشرق الأوسط - ومنها الحضارة العربية - وبين الحضارة الغربية على مر العصور، وإذا كان إدراك هذه الرابطة القوية بين الشرق الأوسط وبين جذور الحضارة الغربية حقيقة لا يصعب إثباتها، فإن الكثيرين يعجزون عن استخلاص النتيجة الضرورية التي تترتب على هذه الحقيقة، وهي أن من الواجب ألا يجد المثقفون في هذه المنطقة من العالم - على وجه التخصيص - حرجا في مسايرتهم للحضارة الغربية؛ لأن هذه الحضارة ذاتها لم تتحرج في الماضي من استخلاص دعاماتها الأساسية من حضارات الشرق الأوسط، وبعبارة أخرى فإن العلاقة بين منطقة الشرق الأوسط بالذات وبين الغرب أعقد من أن تكون مجرد ازدواج حضاري، وإنما هي علاقة تداخل وتشابك وثيق، لا ينبغي معه أن يقوم بين المثقفين مثل هذا الخلاف الحاد حول الرجوع إلى التراث أو الاقتداء بالغرب.
وأستطيع أن ألخص النمط الذي جرى عليه الاتصال بين الشرق الأوسط بين الغرب - من الوجهة الحضارية - بأنه أخذ وعطاء متناوبان ومتكرران، أي إن الشرق الأوسط بدأ بإعطاء الغرب مقومات أساسية لحضارته، ثم أخذ منه عناصر دفعت بثقافته إلى الأمام، ثم عاد فأعطاه عناصر أخرى، وهكذا على التوالي، وعندما يكون الاتصال بين حضارتين على هذا النمط؛ فمن الصعب أن نتحدث في هذه الحالة عن حضارة غربية خالصة وحضارة شرقية خالصة؛ لأن كلتا الحضارتين تضم في تكوينها الداخلي عناصر أساسية من الحضارة الأخرى. (1)
كان أول اتصال سجله التاريخ بين حضارة الشرق الأوسط وبين الغرب يمثل مرحلة عطاء كبرى من الشرق إلى الغرب، وهذا أمر طبيعي؛ لأن الشرق الأوسط - كما هو معروف - كان هو المهد الأول للحضارة العالمية الحالية، وقد كان لحركة العطاء هذه مظهر علمي وفلسفي في مطلع العصور القديمة؛ ذلك لأن فلسفة اليونانيين حين أخذت بوادرها في الظهور - في القرن السادس قبل الميلاد - كانت في واقع الأمر نقطة نهاية تطور فكري وعلمي في الشرق بقدر ما كانت نقطة بداية تطور عقلي في الغرب، وفي كل يوم يزداد رجحان كفة الرأي القائل بأن الفلسفة اليونانية لم تبدأ تلقائية - كما تصور الكثيرون في القرن الماضي - وإنما كان ظهورها على أرض اليونان نتيجة لمؤثرات قوية مستمدة أساسا من الحضارات القديمة في الشرق الأوسط.
ومن المؤكد أن الكلام عن «المعجزة اليونانية» ليس إلا اعترافا بالعجز عن تعليل قيام هذه الظاهرة الفذة في تاريخ الفكر البشري، وهي النمو السريع لمجموعة من المذاهب الفلسفية التي كان لها تأثيرها الدائم في الحياة العقلية للإنسان؛ فالتفكير العلمي يأبى الاعتراف بمثل هذه الطفرات المفاجئة، ويكشف لنا عن أدلة متزايدة على وجود تطور متدرج من الحكمة الشرقية إلى التفلسف اليوناني ، ويكفي لإثبات ذلك أن نقول إن أولى المدارس الفلسفية اليونانية كانت في مدن تنتمي جغرافيا إلى الشرق الأوسط، وإن تكن من الوجهة الحضارية مدنا يونانية، فضلا عن أن زيارات كبار الفلاسفة اليونانيين الأوائل لبلاد الشرق الأوسط وتأثرهم بعلمها هي حقائق ثابتة تاريخيا.
ولقد كانت شخصية أفلاطون - وهي أضخم الشخصيات في الفلسفة اليونانية - تجمع في ذاتها خلاصة هذه المؤثرات الشرقية؛ ذلك لأنه قام برحلات متعددة في الشرق، وخاصة مصر، واقتبس من حكمة الشرق عناصر كثيرة، وفضلا عن ذلك فقد ظهرت المؤثرات الشرقية في فلسفته بوضوح كامل؛ فالديانات والنحل الشرقية القديمة قد تركت آثارها واضحة في فلسفة أفلاطون، ولم تكن العقائد الأورفية والفيثاغورية التي كان لها أقوى الأثر في تفكيره إلا وسيلة لنقل التيارات الدينية في الشرق إلى اليونان، وفي وسع المرء أن يقول - بعد تحليل دقيق لاتجاه تفكير أفلاطون - إنه كان فيلسوفا نصف شرقي ونصف يوناني، وإنه هو ذاته كان أكبر دليل على اتصال حضارات الشرق الأوسط القديمة بالحضارة الغربية ممثلة في اليونان، فإذا أدركنا أن التفكير الغربي - منذ أيام اليونان القديمة حتى اليوم - يتضمن عنصرا أفلاطونيا متصلا يظهر أحيانا بصورة صريحة ويظهر في كثير من الأحيان بصورة ضمنية، وإذا أدركنا أن ظل أفلاطون ما زال ممتدا في طريقة التفلسف الغربية حتى عصرنا الحاضر، وأن حضارة الغرب بأسرها مبنية على أسس رئيسية من أهمها الأساس الأفلاطوني؛ إذا أدركنا هذا كله تبين لنا مدى تشابك الصلة بين الحضارات القديمة في الشرق الأوسط وبين الحضارة الغربية في تطوراتها الأولى، واتضح لنا أن عطاء الشرق للغرب - في هذه المرحلة الأولى من تاريخه الثقافي - لم يكن ثانوي الأهمية على الإطلاق كما دأب البعض على تصويره.
وفي أواخر العصور القديمة اتخذت حركة التأثير الشرقي في الغرب شكلا آخر هو الشكل الديني؛ ذلك لأن المسيحية - كما هو معلوم - ديانة شرقية خالصة، شقت طريقها إلى الغرب في الإمبراطورية الرومانية بصعوبة بالغة في بداية الأمر، حتى استتب لها الأمر في النهاية، وأصبحت هي العقيدة الرسمية للعالم الغربي بأسره، وبعبارة أخرى فإن الحياة الروحية في الحضارة الغربية ترتكز منذ أوائل العصر الوسيط على عقيدة تنتمي إلى صميم الشرق الأوسط، وترتبط ارتباطا أساسيا بالإقليم الذي نشأت فيه، ومن المعروف أن هناك خطا متصلا يربط بين عقائد الشرق الأوسط الثلاث: اليهودية والمسيحية والإسلام، وأن هذا الخط يبدو أوضح ما يكون في نظر من يتأمل هذه العقائد من منظور عالمي شامل، ويقارنها بعقائد الشرق الأقصى مثلا، ومعنى ذلك أن الأساس الديني لشعوب الشرق الأوسط وللشعوب الغربية متقارب إلى أقصى حد، ولا جدال في أن هذه العقيدة الشرقية الأصل - أعني المسيحية - لها في حضارة الغرب أهمية أساسية، صحيح أن من الكتاب من يرون أن كل ما في الغرب من خصب فكري وعمق علمي قد ظهر على الرغم من المسيحية لا بسببها، ولكن هؤلاء الأخيرين أنفسهم يعترفون ضمنا بأن للمسيحية دورها الكبير في تشكيل حضارة الغرب، وإن يكن هذا الدور قد اتخذ طابعا سلبيا. وعلى أية حال فسواء نظرنا إلى هذا الدور على أنه سلبي أم إيجابي، فلا جدال في أن المسيحية - من حيث هي عنصر أساسي بنيت عليه الحضارة طوال الألفي عام الأخيرة - دليل حي على أن الرابطة بين حضارات الشرق الأوسط والحضارة الغربية رابطة تداخل وثيق، لا مجرد اتصال سطحي خارجي. (2)
أما المرحلة الثانية في علاقة هاتين الحضارتين فمن الطبيعي أن تكون مرحلة أخذ، أعني أن الغرب هو الذي قدم إلى الشرق في هذه المرحلة عناصر أساسية في غذائه الروحي؛ فقد ظهرت في الغرب - كما قلنا من قبل - مذاهب فلسفية شامخة، ونظريات علمية هامة، تمكن بها اليونانيون من أن ينقلوا الإنسان نهائيا من عهد الأسطورة والخرافة إلى عهد التفكير المنطقي المنظم، وكان من الطبيعي أن تمتد آثار هذه الحركة الفكرية الهائلة إلى الشعوب المجاورة، وبالفعل استجابت الشعوب العربية للمؤثرات اليونانية حالما سنحت لها الفرصة، وكانت حركة الترجمة الهائلة التي نقلت بها المؤلفات الفلسفية اليونانية إلى السريانية والعربية دليلا آخر على مدى التقارب الحضاري بين هاتين المنطقتين، والواقع أن هذه الحركة كانت - بالنسبة إلى هذا العصر - تمثل ظاهرة فريدة ليس لها في العالم نظير. ولو سألنا أنفسنا: أي شعوب الأرض تمكنت من استيعاب تراث اليونانيين والإفادة منه بعمق ووعي في هذه الفترة البعيدة من العصور الوسطى؛ لكان الجواب: شعوب الشرق الأوسط وحدها؛ فهذه الشعوب - ولا سيما العرب - هي وحدها التي تجاوبت مع الثورة الفكرية الضخمة التي بدأها اليونانيون وأدمجت الفلسفات اليونانية في تراثها الحضاري، حتى أثمر هذا كله فلسفة إسلامية لا تستطيع أن تضع فيها الحد لفاصل بين ما هو إسلامي أو عربي بحت وما هو يوناني. (3)
وأعقبت مرحلة الأخذ هذه مباشرة مرحلة عطاء؛ ذلك لأن الفلسفة الإسلامية والعلم العربي - حين بلغا دور النضج - قد امتد تأثيرهما تدريجيا حتى وصل إلى الغرب، فإذا بالغرب يتعرف على فلسفته القديمة مرة أخرى، وبعد مضي أكثر من ألف عام على اختفاء آخر آثارها من خلال العرب.
Bilinmeyen sayfa
وكانت الترجمات اللاتينية للترجمات العربية هي العامل الرئيسي الذي أدى إلى تعريف أوروبا بفلسفة اليونانيين في أواخر العصور الوسطى، وبفضل هذه الترجمات، وكذلك بفضل العلم العربي الأصيل الذي شق له طريقين رئيسيين إلى أوروبا: طريق الحروب الصليبية وطريق الأندلس؛ أتيح للأوروبيين أخيرا أن يعملوا على إحياء العلم والفكر في عصر النهضة بعد طول ركودهما في العصر الوسيط، والحق أن المرء حين يمعن الفكر في هذه الظاهرة التي أصبحت مألوفة يمر بها الكثيرون دون أن يجدوا فيها ما يستلفت النظر، يرى فيها ظاهرة فريدة بحق في تاريخ الاتصال الحضاري، فأين نجد مثالا آخر لحضارة تتعرف على نفسها وتهتدي إلى ذاتها وتحيي ماضيها عن طريق حضارة أخرى؟ من الواضح أن الصلة بين الحضارة العربية والحضارة في الغرب في آخر العصور الوسطى كانت صلة فريدة حقا؛ إذ إن الغرب لم يستطع أن ينهض من جديد بقواه الذاتية، وإنما احتاج إلى دماء جديدة تبعث فيه الحيوية وتمكنه من استرداد نشاطه الذي فقده في ظلام العصور الوسطى الطويل، فاستمدها من أقرب الحضارات إليه، وكان في ذلك نوع نادر من الأخوة الحضارية؛ حيث تقوم حضارة باختزان ثروة حضارة أخرى خلال فترة ضعف هذه الأخيرة واعتلالها، ثم تردها لها في الوقت المناسب - بعد أن تضيف إليها المزيد من عندها - لكي تعود هذه إلى استثمارها والانتفاع بها من جديد، فإذا أدركنا أن هذه الظاهرة التي نسميها بالأخوة الحضارية هي أهم العوامل التي ساعدت على قيام عصر النهضة الأوروبية، وإذا علمنا أن هذا العصر هو الذي بدأ حركة التقدم العلمي الهائل الذي تميز به الغرب طوال القرون الثلاثة الأخيرة من تاريخه؛ لاتضح لنا مرة أخرى أن بين الغرب وبين الشرق الأوسط - ولا سيما العربي منه - روابط يستحيل معها الكلام عن أي تنافر بين حضارتيهما. (4)
وتلت مرحلة العطاء هذه مرحلة أخذ، هي الممتدة من عصر النهضة الأوروبية إلى عصرنا الحاضر، في هذه المرحلة أثبت الغرب تفوقه بما لا يدع مجالا للشك، وذلك في الميدان العلمي والفني والاجتماعي في آن واحد، وأتيح للغرب - بعد أن أحسن الإفادة مما تلقاه من العرب - أن يبني علما شامخا استطاع بتطبيقاته العلمية أن يغير وجه حياة الإنسان في العالم بأسره، وما زالت قدراته هذه في اتساع مستمر، وتلك هي الصفة الرئيسية للمرحلة الحالية من تاريخ العالم؛ فالعلم اليوم - كما يدرس في الشرق والغرب - هو علم غربي إلى حد بعيد، والنظريات الاجتماعية التي تهز أركان العالم وتقوض نظمه الموروثة وتمتد آثارها إلى أبعد أطراف الأرض هي في الأصل نظريات غربية مرتبطة بفلسفات غربية، وكل اتجاه فني جديد في الغرب - في الأدب أو الموسيقى أو الرسم أو النحت - يغزو العالم كله ويلهب خيال المثقفين فيه ويثير مناقشات ومجادلات مستمرة، لا في بلاده الأصيلة وحدها، بل في بلاد ذات جذور حضارية مختلفة عنها كل الاختلاف.
هذا النمط المتكرر من الاتصال الحضاري بين الشرق الأوسط وبين الغرب - بما فيه من أخذ وعطاء متعاقبين - يثبت لنا أن للعلاقة بين هذين الإقليمين طابعا خاصا فريدا يندر أن نجد له نظيرا في حالات الاتصال الحضاري الأخرى؛ ذلك لأن هناك أدلة لا شك فيها على أن ما وصل إليه الغرب في مرحلته الراهنة من تقدم، إنما كان نتيجة لتضافر حضارات الشرق الأوسط معه في العصور القديمة والوسطى وأوائل العصور الحديثة؛ ففي مراحل متعددة كان الشرق يقدم إلى الغرب المادة الخام لحضارته، فيصوغها هذا في أشكال محددة منظمة: قدم إليه معلومات عملية تطبيقية مستمدة من خبرته الحرفية والزراعية القديمة، فصاغها الغرب في اليونان على شكل نظريات هندسية ورياضية أيام فيثاغورس وإقليدس، وقدم إليه مبادئ روحية في العقيدة المسيحية جعلها الغرب لاهوتا منظما في العصور الوسطى، وحورها تبعا لمقتضيات حياته الخاصة في حركات الإصلاح الديني في عصر النهضة، وقدم إليه ترجمات للفلسفة اليونانية وشروحا لها، ومناهج تجريبية للبحث العلمي الذي ازدهر في العصر الذهبي للحضارة الإسلامية، فاتخذ الغرب من هذا كله أساسا لنهضة علمية وفكرية ضخمة تتسع آفاقها حتى اليوم على نحو متزايد.
وعلى ذلك، فإذا كان الغرب في المرحلة الراهنة من تاريخ العالم متفوقا على غيره من الحضارات تفوقا لا شك فيه، وإذا كان المثقفون المنتمون إلى حضارات متعددة يجدون حرجا في الأخذ عن حضارة غريبة تماما عنهم كالحضارة الغربية، فينبغي أن يخف هذا الحرج إلى حد بعيد عند المثقفين المنتمين إلى الحضارة العربية، وحضارة الشرق الأوسط بوجه عام؛ إذ إنهم حين يأخذون اليوم عن العرب فهم إنما يهتدون من جديد إلى كثير من العناصر التي سبق لبلادهم أن قدمتها للغرب وإن تكن مصوغة في شكل جديد، وإذا كان الأمر كذلك، فمن واجبنا أن نتخلى تماما عن ذلك الموقف الذي نعتقد فيه بوجود ثنائية حضارية قاطعة، لا يكون لنا فيها مفر من الاختيار بين أحد أمرين لا ثالث لهما، إما التمسك بتراثنا القومي، وإما مسايرة الحضارة الغربية؛ ذلك لأن تراثنا متداخل مع تاريخهم، وماضينا قد أثر في حاضرهم، والدور الذي قمنا به لكي تبلغ حضارة الغرب مستواها الحالي حقيقة لا يمكن إنكارها، ولو جاز لنا أن نضع عقولنا أمام هذا الاختيار المزدوج ونرغمها على أن تنحاز إلى أحد الطرفين دون الآخر؛ لجاز للغربي بدوره أن يدعو إلى التخلي عن كل ما يتصل بالمسيحية من قريب أو بعيد؛ لأنها ذات أصل شرقي، ولجاز له أن ينظر إلى حركة إحياء العلوم في عصر النهضة على أنها غزو حضاري أجنبي؛ لأن القوة الدافعة لها كانت علوم العرب وفلسفاتهم! •••
إن التضاد الحقيقي - والازدواج الحضاري بمعناه الصحيح - إنما يكون بين الغرب وبين بلاد الشرق الأقصى، ولو اتخذنا اليابان مثالا لبلدان هذا الإقليم؛ لوجدناها ظلت منعزلة عن كل المؤثرات الغربية انعزالا شبه تام حتى القرن التاسع عشر، ولم يكن يقوم بينها وبين الغرب أي اتصال حضاري يذكر قبل ذلك العهد، وفجأة ومنذ فترة لا تزيد عن المائة عام إلا قليلا، تحولت اليابان إلى بلد يقتبس الأساليب الغربية في كثير من مظاهر حياته، حتى أصبح اليوم غارقا في خضم الحضارة الغربية، تظهر فيه تياراتها الأدبية والفنية الجديدة بعد ظهورها في بلادها الأصلية بقليل، ويحاكي الشباب فيه أبناء الغرب في هواياتهم ومظهرهم وأساليب معيشتهم.
فإذا أدركنا أن التيار المحافظ على التراث القومي في هذا البلد الآسيوي ما زال محتفظا بقوته، وأن التقاليد الحضارية ما زالت لها مكانتها المتأصلة في نفس هذا الشعب؛ لأمكننا أن ندرك مدى حدة الازدواج الحضاري في هذه الحالة، ومدى الأزمة التي يعانيها المثقفون نتيجة لهذا الازدواج.
ومن الأمور الجديرة بالملاحظة أن الأوروبي عندما يبحث عن نمط من الحياة مخالف تماما للنمط الذي يعيش عليه، لا يلتمسه في الشرق الأوسط، بل في الشرق الأقصى؛ فهناك يجد ما ينشده من حضارة مختلفة كل الاختلاف عن حضارته الغربية، هناك يجد شعوبا عاشت آلاف السنين بعقائد مختلفة وتقاليد خاصة بها، ويجد تراثا ظل قرونا طويلة مقفلا على نفسه في وجه المؤثرات الخارجية ولا سيما الأوروبية، أي إنه بالاختصار يجد نمط الحياة الذي يقف مع النمط الغربي على طرفي نقيض، أما بالنسبة إلى الشرق الأوسط فإن الاختلاف مهما بلغ مداه لا يكون كبيرا إلى هذا الحد، وحتى التراث الروحي الديني لشعوب هذه المنطقة من العالم يشترك في نقاط كثيرة مع نظيره في الغرب؛ فليست بلاد الشرق الأوسط هي تلك التي يحس فيها الأوروبي بالتضاد الحضاري الحقيقي، لا من حيث مظاهر حياتها الحديثة، ولا من حيث تراثها الحضاري الماضي.
ففي رأيي إذن أن مشكلة التضاد بين التراث القومي والحضارة الغربية الحديثة، لا ينبغي أن تحتل في تفكيرنا المعاصر كل هذه الأهمية؛ لأن هذا التضاد غير قائم أصلا بالصورة التي يقوم بها بين حضارات كثيرة أخرى، وليس معنى ذلك - بطبيعة الحال - أننا نستطيع أن نهتدي مباشرة - في الحضارة الغربية - إلى عناصر شرقية يسهل التعرف عليها؛ إذ إن هذه العناصر قد مرت بشتى أنواع التغيير والتحوير، وإنما الحقيقة التي أود التنبيه إليها هي أن الشرق الأوسط والغرب كان بينهما من الروابط على مر العصور ما يجعل من المستحيل وضع حد فاصل بين النصيب الذي أسهم به كل منهما في تقدم الحضارة البشرية.
والحق أن من الظواهر التي تسترعي الانتباه في بلادنا - وتعد دليلا عمليا على هذا الرأي - أن بعض المفكرين الذين هم من أشد الناس تحمسا للحضارة الغربية، هم في الوقت ذاته من أقدر الناس على تعمق روح أمتهم، ومن أحرص الناس على تراثهم القومي، ويكفينا في هذا الصدد أن نشير إلى شخصيتي طه حسين وحسين فوزي في مصر؛ فقد حورب طه حسين في وقت من الأوقات بحجة أنه يدعو إلى ثقافة مستوردة من الغرب، ويتحمس لها إلى حد التعصب، ومع ذلك فإن كتابا قلائل في البلاد العربية هم الذين بلغوا مستواه في فهم طبيعة الحضارة العربية والقدرة على تحليلها بطريقة عميقة واعية، كذلك فإن حسين فوزي يقف اليوم على رأس الفريق الذي يدافع عن الثقافة الغربية في بلادنا، ولا يخفي في أي مجال إعجابه بكل ما هو أصيل وعميق في حضارة الغرب، ولكنه في الوقت نفسه من أكثر الناس تعمقا في فهم الشخصية المصرية والتعبير عن طبيعتها الباطنة في مختلف العصور التاريخية بوعي كامل، فكيف اجتمعت لهذين المفكرين صفتا الإعجاب المفرط بالغرب، والإخلاص الكامل للثقافة القومية؟ في رأيي أن هذا لم يكن ليحدث لولا أن هناك جذورا مشتركة بين الحضارتين، ولولا أن الشرق الأوسط والغرب كانا على مر العصور متنافرين - رغم اختلاف ظروفهما المحلية - في الإسهام بدورهما في بناء الحضارة الإنسانية، وخلال ذلك الشوط الطويل الذي قطعه الإنسان، منذ أن ظهرت لديه أولى بوادر الوعي الحضاري في مصر القديمة وبابل وآشور، حتى انطلقت صواريخه بين الكواكب في الحضارة الغربية المعاصرة، كان الاتصال الحضاري بين الشرق الأوسط والغرب من أهم العوامل التي ساعدت على بلوغ الإنسان في كافة أرجاء العالم ما بلغه اليوم من تقدم مادي ومعنوي.
دفاع عن الثقافة العالمية1
Bilinmeyen sayfa
إن الحديث عن وجود نوع من «الفراغ الحضاري» - أو بتعبير أدق: نوع من «الغزو الحضاري» - الذي يمارسه الغرب ضدنا لا بد أن يثير فينا التفكير في أسباب هذا الغزو، وفي العوامل التي تجعل حضارة تغزو حضارة أخرى؛ ففي اعتقادي أن الكلام عن الغزو - بوصفه أمرا واقعا - لن يكون مثمرا ما لم يسبقه تحليل للعوامل التي تؤدي إلى هذا الغزو، ومن هذا التحليل تتضح الحلول التي ينبغي اتباعها للتحرر من كل غزو حضاري.
وأود أن أتساءل في البداية: هل نحن حقا - في علاقتنا بالحضارة الغربية - خاضعون لغزو آت من الخارج؟ هل تعد كلمة الغزو أدق وصف لهذه العلاقة؟ يبدو لي أن لفظ «الغزو» لا ينطبق إلا على المرحلة التي كان فيها الاستعمار الأجنبي يفرض علينا فيها ثقافته فرضا، أما فيما عدا ذلك من المراحل، وكذلك في البلاد التي لم تمر بمرحلة الاستعمار المباشر، فإن الظاهرة لا يمكن أن توصف بأنها «غزو»، وإنما هي تأثر أو اقتباس؛ فالحضارة الغربية لم تفرض علينا أدبها وفنها، وإنما نحن الذين اقتبسناه وتأثرنا به، والفارق كبير بين إرغام الآخرين على قبول ثقافة ما، وبين تقبل الآخرين لهذه الثقافة بمحض اختيارهم.
ومع ذلك، فمن حقنا أن نظل نتساءل: ما الذي يجعل ثقافة معينة تؤثر في شعوب أخرى غير تلك التي ظهرت بينها؟ وهل المسألة أشبه بالحروب حيث يغزو شعب أرض شعب آخر، ثم يرحل عنها متى توافرت للشعب المهزوم من العزيمة ما يتيح له أن يرد الغاصب مدحورا؟ في اعتقادي أن الأمر في حالة الثقافة مختلف عن ذلك كل الاختلاف؛ فهو في رأيي أشبه ما يكون بقانون «الأواني المستطرقة»، حيث ينتقل السائل حتما من المنسوب المرتفع إلى المنسوب المنخفض ما دام هناك اتصال بين الاثنين، وعلى الرغم من أن هذا لا يعدو أن يكون تشبيها، فإنه في اعتقادي تشبيه مفيد إلى أقصى حد، يصلح لإلقاء ضوء وضاح على الظاهرة التي نحن بصددها.
ذلك لأن الانتقال في هذه الحالة «حتمي» ما دام هناك ارتفاع من جهة وانخفاض من جهة أخرى في المستوى؛ فالمسألة ليست متوقفة على رغبة الطرف المتلقي في أن يتخلص مما يأتيه من الخارج، بل إن هناك حالة واحدة يستطيع فيها أن يضمن عدم نفاذ العناصر الخارجية إليه، هي أن يرتفع بمستواه بحيث يغدو مكافئا للمستوى الآخر، وربما أمكنه أن يعطي هذا الآخر شيئا من عنده لو استطاع أن يعلو عليه.
ومن جهة أخرى فإن «قانون الأواني المستطرقة» لا ينطبق إلا في حالة وجود اتصال، وهذا يصدق على الحضارات بدورها؛ إذ إن الاتصال بينها هو الذي يجعل الحضارة الأضعف تمتص عناصر من الحضارة الأقوى، وكلما كانت سبل الاتصال أيسر؛ ازداد انطباق هذا القانون إحكاما، ولهذه الحقيقة أهمية كبرى في المقارنة بين موقفنا الحاضر من الثقافة الغربية، وبين موقف الحضارة الإسلامية من الثقافة اليونانية.
ولنتوقف قليلا عند هذه النقطة الأخيرة، التي يبدو أن لها أهمية خاصة في نظر الكثيرين ممن يريدون لنا أن نتحرر من الثقافة الغربية، فيذكروننا دائما بموقف المسلمين من الثقافة اليونانية الوافدة، وكيف أنهم تمكنوا من استيعابها داخل ثقافة إسلامية أو عربية أصيلة.
ولعل أول ما ينبغي أن نلاحظه في هذا الصدد هو أن موقف الفلاسفة لم يكن متحررا إلى الحد الذي يتصوره البعض، وأن الرأي الغالب هو أنهم نقلوا عن الثقافة اليونانية أكثر بكثير مما أضافوا إليها، وأقول إن هذا هو الرأي الغالب؛ لأنه ليس رأي المستشرقين أو الباحثين الأجانب بوجه عام فحسب، بل إنه أيضا رأي كثير من المفكرين الإسلاميين الذين لا يجدون الرد الحقيقي على مشكلة الثقافة الإسلامية لدى الفلاسفة. وبعبارة أخرى فليس من المؤكد على الإطلاق أن الفلاسفة الإسلاميين قد أخذوا موقفا خاصا بهم من التراث الغربي المعروض عليهم في تلك الأيام، وإنما الرأي المرجح أنهم أخذوا كثيرا ولم يعطوا إلا قليلا، ومن هنا رأى البعض أن الثقافة الإسلامية الأصيلة تتمثل في علم الكلام، ورأى البعض الآخر أنها تتمثل في مدرسة بعينها من مدارس علم الكلام هي الأشعرية، ورأى غير هؤلاء أن أهل السنة هم خير معبر عن هذه الثقافة. وهكذا نستطيع أن نميز مراتب أو درجات أربعا على الأقل، لا أقول إنها درجات في اليسارية أو اليمينية أو في التقدم والرجعية حسب الاصطلاح السياسي الحديث، وإنما أقول إنها درجات في الاقتراب من حرفية العقيدة: الفلاسفة، فعلماء الكلام من المعتزلة، فعلماء الكلام من الأشاعرة، فأهل السنة، ولكل فريق من هؤلاء أنصار، وغني عن البيان أن أنصار الفريق الأخير مثلا يحكمون على الفريق السابق - حتى لو كان يضم مفكرا كالغزالي - بأنه متحرر أكثر مما ينبغي، ويؤكدون أن موقفهم هو الاقتراب إلى تمثيل الروح الإسلامية على حقيقتها، وقل مثل هذا عن الباقين جميعا، كل حسب نظرته الخاصة إلى الأمور. ومجمل القول أن النظر إلى الفلاسفة على أنهم هم الذين استطاعوا أن يتخذوا من التراث الغربي (اليوناني) الوافد عليهم موقفا سليما، وعرفوا كيف يصبغوه بالصبغة الإسلامية، ليس أمرا مؤكدا كل التأكيد، وإنما هو رأي يقال به من وجهة نظر خاصة تنطوي ضمنا على طريقة خاصة في الحكم على الحضارة الإسلامية، وهي طريقة سنعرض لها في هذا المقال بعد قليل.
على أن أهم ما في الأمر أنه إذا لم يكن من الممكن التأكيد على نحو قاطع بأن الفلسفة الإسلامية هي التي استطاعت أن تكون مركبا يجمع بين الثقافة الأصيلة والثقافة الدخيلة، فإن كل محاولة للاقتداء بها في عصرنا الحالي تغدو أمرا لا يستطيع أحد أن يضمن ما يسفر عنه من نتائج، وإذا كان فلاسفة الإسلام قد عانوا صعوبات في تأكيد موقفهم الخاص إزاء الثقافة الوافدة من الخارج، فلا بد أن تزداد هذه الصعوبات بالنسبة إلينا - في عصرنا الحاضر - أضعافا مضاعفة.
ذلك لأن الاتصال بين الثقافات أصبح الآن أقوى إلى حد لا متناه مما كان عليه في عصر ازدهار الفلسفة الإسلامية، ولست بحاجة إلى أن أكرر ما يردد على مسامعنا كل يوم من أن التكنولوجيا الحديثة أزالت المسافات مكانيا وثقافيا، ومن أن العالم يتجه سريعا إلى أن يصبح وحدة واحدة؛ فهذه حقائق لا سبيل إلى الشك فيها، لو طبقنا في ضوئها القانون الذي تحدثنا عنه من قبل؛ لأصبح من المؤكد أن انتقال الثقافات من المستوى الأعلى إلى المستوى الأدنى قد غدا في عصرنا الحاضر أمرا محتوما؛ لأن الاتصال بين الأواني المستطرقة قد أصبح أشد إحكاما، وصار حقيقة من حقائق العصر الضرورية.
ومن جهة أخرى فإن الحضارة الإسلامية حين واجهت الفكر اليوناني كانت تواجه ثقافة انتهى عهدها، وتحددت كل معالمها، وعرفت جميع حدودها وأبعادها، كان أمام المسلمين «كم» معين من التفكير الفلسفي، ظهر على شكل مجموعة من المدارس المتعاقبة، واكتمل هذا الكم ثم توقف نهائيا قبل أن يتلقاه المسلمون بما لا يقل عن خمسة قرون، وبالاختصار، وجد المسلمون أنفسهم إزاء «تراث» فكري يستطيعون أن يحددوا موقفهم منه بوضوح (وإن كان هذا الموقف ذاته قد تفاوت بين قبول يكاد يكون تاما وبين رفض قاطع كما أشرنا من قبل)، أما اليوم فإن الثقافة الغربية بعيدة كل البعد عن أن تكون «تراثا»، إنها شيء حي تام متحرك، وفي اليوم الذي يبدو لنا فيه أننا قد اتخذنا من هذه الثقافة موقفا محددا، نراها قد تحركت إلى مواقع جديدة، وفاجأتنا بتيارات لم تكن في حسباننا، بل إن الأهم والأخطر من ذلك أن سرعة تحركها أعظم بكثير من قدرتنا على ملاحقتها، وأن المسافة تزداد اتساعا، والمنسوب العالي في «الأواني المستطرقة» يزداد ارتفاعا، ومن ثم تشتد قوة التيار الذي يسير في اتجاه واحد، من المرتفع إلى المنخفض، هذا وضع جديد كل الجدة، لا يمكن مقارنته على أي نحو بموقف الإسلاميين من التراث اليوناني الذي كان قد بلغ مرحلة الجمود والاكتمال ، والذي ظل متوقفا حيث هو، ينتظر من الآخرين اللحاق به واتخاذ موقف واضح منه.
Bilinmeyen sayfa
والحق أن مشكلة ازدياد الهوة اتساعا بين العالم المتخلف - بوجه عام - وبين العالم المتقدم منظورا إليه بأوسع معانيه، هذه المشكلة لا بد أن تؤرق كل من يفكر باستبصار في مستقبل العلاقات بين هذين العالمين؛ ذلك لأن معدل النهوض - في البلاد التي تقدمت بالفعل - يزداد سرعة، ويبدو أن ازدياد السرعة هذا يؤدي بذاته إلى الجمود أو التوقف في البلاد المتخلفة؛ لأن بطء معدل نموها - إذا حدث مثل هذا النمو - يجعلها تبدو أشبه براكب الدراجة الذي يبدو متراجعا إلى الوراء حين يمرق بجانبه قطار سريع، ومن العبث أن نعزي أنفسنا بأن تقدم الغرب تكنولوجي فحسب، وبأننا نستطيع أن نتفوق عليه في ميدان الثقافة؛ ذلك لأن التكنولوجيا تخلق لنفسها ثقافتها الخاصة، وهي ثقافة ما زلنا بعيدين عنها بعدا كبيرا، ومن الخطأ الفادح أن نتصور أن النهضة التكنولوجية لا ترتبط بنهضة ثقافية، بل إن كل الظواهر تدل على أن النجاح التكنولوجي قد أسدى إلى الثقافة خدمات هائلة، وأن هناك ازدهارا ثقافيا وتنوعا وتعددا وتخصصا وتعمقا لا يقل في أهميته عما نجده - مثلا - في تكنولوجيا الفضاء. أما العزاء الآخر الذي نقدمه إلى أنفسنا بين الحين والحين، وهو أن الغرب سائر إلى الانهيار لتحل حضارات أخرى محله، فهو عزاء واهم إذا صدر عن أناس لم يبذلوا أدنى جهد لمغالبة الغرب والتفوق عليه، ولن يكون له ما يبرره إلا عند الشعوب التي أثبتت بالفعل قدرتها على الكفاح والصمود والبناء في ميادين التنظيم الاجتماعي كما في ميادين التقدم العلمي والتكنولوجي والثقافي.
والحق أنه لمما يبعث على القلق حقا أن نرى مدى اتساع الهوة بيننا وبين الثقافات العالمية المتقدمة، ثم نكتفي بالقول إننا أخذنا ما فيه الكفاية، وإن دور النقل انتهى وحان وقت اتخاذ المواقف المستقلة؛ فبأي مقياس يقال إننا نقلنا عن ثقافة الغرب ما فيه الكفاية؟ هل نحن حقا قد استوعبنا هذه الثقافة حتى نستطيع أن نقف منها موقف الند للند؟ إن الإجابة بالإيجاب ترضي كبرياءنا وتشعرنا بالاطمئنان، ولكن هذا لن يكون إلا رضاء أجوف واطمئنانا زائفا، وإن نظرة واحدة إلى الأجيال الجديدة من دارسينا لتقنعنا بأن قدرة هذه الأجيال على استيعاب الثقافات العالمية الجادة تتضاءل دوما (وذلك لأسباب قد يكون معظمها خارجا عن إرادتها)، ويزداد كل يوم الاتجاه إلى الاكتفاء من هذه الثقافات بالقشور، والاعتماد على ترجمات ركيكة معيبة غير علمية، تعد هي الزاد الأكبر لدى نسبة كبيرة ممن نعتمد عليهم في النهوض بثقافتنا في المستقبل، وما زالت أمهات الكتب الثقافية العالمية غير معروفة لدى جماهير القراء؛ لأننا لم ننقلها بعد إلى لغتنا نقلا أمينا، ولم نعمل على وضعها في متناول أيدي طالبي الثقافة بشروط ميسرة، فكيف يقال بعد ذلك إننا نقلنا وشبعنا، وحان وقت الهضم والاستيعاب والتمثل والبناء الجديد؟
إن رأيا كهذا يلقى استجابة وترحيبا بمجرد أن يصدر، ولكن هذه الاستجابة الفورية يمكن أن تكون عائقا في وجه الإدراك الصحيح للحقائق، وهي أننا لم نصل بعد إلى مرحلة الاستيعاب الكامل للثقافة العالمية، وأن هناك أوضاعا قد تؤدي إلى زيادة الإقلال من قدرتنا على فهم هذه الثقافة، فإذا اقترن هذا العجز المتزايد بشعور بالرضا عن الذات؛ كانت حصيلة الجمع بينهما وضعا خطيرا بحق، نكون فيه بعيدين على نحو متزايد عن المستوى العالمي، ونتصور أننا وصلنا إليه وتجاوزناه، ومن هنا فإن الواجب الأكبر الذي يقع على عاتق المثقفين في بلادنا في الوقت الراهن ليس - في رأيي - أن يبعثوا في الناس أحاسيس الرضا عن الذات، بل أن يثيروا فيهم القلق والرغبة في تجاوز أوضاعهم الراهنة، ومن أهم عناصر هذا القلق أن يدركوا اتساع الهوة بينهم وبين المجتمعات المتقدمة ثقافيا وعلميا وتكنولوجيا، وإني لأعتقد اعتقادا راسخا بأن أول خطوة في سبيل عبور هذه الهوة، وتضييق شقة التخلف، أن نكون في البداية على وعي بمدى اتساعها، وأن نعمل جادين على فهم أسباب تقدم الآخرين لكي نتمكن من اللحاق بهم ثم التفوق عليهم.
على أن الكلام عن «ثقافة عالمية» لا بد أن يصطدم برأي شائع يؤكد أن الحضارة الأوروبية - في جانبيها المادي والمعنوي - ذات طابع محلي، وأن ما أنجزته لا يصلح إلا للمجتمعات التي خلقت هذه الحضارة فحسب، والواقع أن المبالغة في تأكيد الطابع المحلي للثقافة الأوروبية - بل حتى للعلم والتكنولوجيا الأوروبية - تنطوي في رأينا على أخطار لا يستهان بها؛ ذلك لأنها تعني المبالغة في تقسيم البشر إلى أنماط يعد كل منها مقفلا على نفسه، وتغفل الطابع الإنساني العام الذي تتسم به كل نواتج العبقرية البشرية، وصحيح أن أحدا لا يستطيع أن ينكر اصطباغ الثقافات بلون محلي مستمد من الظروف الخاصة للمجتمع الذي تظهر فيه، ولكن هذه النواتج الثقافية المحلية ذاتها تنطوي - في كل الأحوال - على جانب إنساني لا يصح التغاضي عنه.
ففي ميدان النظم الاجتماعية - على سبيل المثال - لن ينكر أحد أن الإقطاع والرأسمالية في أوروبا كان لهما طابع محلي، وأن الظروف الخاصة التي عاشتها أوروبا في العصر الوسيط وأوائل العصر الحديث كانت هي العامل الحاسم في إعطاء هذين النظامين طابعهما المميز، ولكن هذا لن يمنع من تكرار هذين النظامين في بيئات أخرى مغايرة لتلك التي ظهر فيها الإقطاع والرأسمالية الأوروبيان؛ فمع اختلاف الصبغة المحلية يوجد اتفاق في الإطار العام بين الرأسمالية في الولايات المتحدة واليابان مثلا، ومن هنا كان مما يفيد الاشتراكيين في مختلف بلاد العالم - ولا سيما العالم الثالث - أن يدرسوا النظم الاجتماعية الأوروبية لا على سبيل زيادة العلم فحسب، بل على أساس أن أوروبا قد مرت بتجارب يمكن أن تمر بها الإنسانية كلها من بعدها، مع اختلاف في التفاصيل بطبيعة الحال.
إن عوامل الوحدة بين التجارب الإنسانية أقوى في رأيي بكثير من عوامل التباين والاختلاف، وإذا كان من المعترف به أن الإنسان يكون - من الناحية البيولوجية - نوعا واحدا يمكن فيه التزاوج والإنجاب بين أقزام الغابات الاستوائية الزنوج وعمالقة السويد الشقر، وأن مشاعر كالحب والغضب والفرح عنده واحدة، فينبغي أن نعترف أيضا بأن هذه الوحدة تكون أساسا كافيا لتشابه مماثل في التجارب البشرية الأشد تعقيدا، فحين يتخلص بلد أوروبي من عوامل الاستغلال بفضل بنائه نظاما اشتراكيا، ينبغي أن نؤمن بأن النظام الذي بناه يصلح - من حيث المبدأ - للتطبيق على بلاد أخرى تريد بدورها أن تتخلص من الاستغلال؛ إذ إن أنماط الاستغلال واحدة، وطرق التخلص منها متقاربة إلى حد بعيد. أما أن يقال مثلا إن الفلسفة الاشتراكية جزء من الحضارة الأوروبية، وإنها ظهرت في ظروف معينة وبيئة خاصة لا يمكن أن تنطبق إلا فيها وحدها، فإن هذا ينطوي على تجزئة غير مشروعة للتجربة البشرية، فضلا عما يؤدي إليه من أضرار سياسية واجتماعية للبلاد غير الأوروبية، صحيح أننا نستطيع أن نكيف التجربة مع ظروفنا المحلية كما نشاء، ولكن لا ينبغي أن ننكر المبدأ العام، وهو أن الشعوب التي سبقت غيرها من ميدان الحضارة تمر بتجارب يمكن أن تمر بها هذه الشعوب الأخرى في مستقبلها، ومن ثم فلا محل للفصل بين الشعبين بحجة أن الحضارات محلية فحسب.
وإذا كان هذا القول يصدق على ميدان السياسة والمجتمع، فهو - بلا شك - أصدق في ميدان الفنون والآداب، أو في ميدان الثقافة بوجه عام، بل إني لأومن إيمانا راسخا بأن التأثر في هذا الميدان بالذات أوضح منه في غيره بكثير، إني لا أستطيع أن أنكر أن بيتهوفن نتاج لحضارة طويلة امتدت جذورها من أيام المسيحية الأولى وربما قبل ذلك، وأن موسيقاه مرتبطة ببيئة مختلفة عن بيئتي اختلافا بينا، وأنها ظهرت في نظام اجتماعي ربما لم يكن له نظير في مجتمعي، ولكني لا أستطيع - في الوقت ذاته - أن أمنع نفسي من أن أحب بيتهوفن وأن أرى موسيقاه فنا رفيعا يخاطبني بوصفي إنسانا، ويكلمني بلغة أفهمها (لأني تعودت عليها بما فيه الكفاية ) ويبعث في مشاعر لا تختلف عن تلك التي يبعثها في أبناء حضارته، وقل مثل هذا عن كثير من الأدباء والمصورين والمفكرين الذين سما إنتاجهم حتى استطاع أن يخاطب «الإنسان» لا الفرد في هذا المجتمع أو ذاك، ولست أرى في ذلك طغيانا ولا غزوا، بل هو في رأيي إثراء للتجربة الإنسانية وتعميق لها.
على أن الكثير من مفكرينا يعتقدون أن الوسيلة الوحيدة لإثراء تجربتنا - مع تخليصها من تأثير الثقافات الوافدة - هي اتخاذ التراث الماضي بديلا عن المؤثرات الحضارية الدخيلة، ويرون أن هذه الوسيلة هي الكفيلة بالقضاء على الاغتراب الثقافي الناشئ عن اندماجنا في حضارة غريبة عنا.
وأود في هذا الصدد أن أطرح سؤالا لا أهدف منه إلى التعبير عن رأيي الخاص بقدر ما أهدف إلى إثارة مشكلة قد تجد من يبحثها فيما بعد بمزيد من التفصيل: أليس من المحتمل أن يكون هناك اغتراب عن الماضي، يعادل الاغتراب عن العنصر الوافد الدخيل أو يزيد عليه؟ وبعبارة أخرى، هل يشعر المرء نحو ماضيه - إذا كان ذلك الماضي بعيدا، وإذا كانت ظروفه قد تغيرت على نحو جذري - بمزيد من الألفة بالقياس إلى ما يأتي إليه من مؤثرات، هي حقا خارجية، ولكنها تعيش معه في عصر واحد وفي ظروف متقاربة؟ أليس بعد الشقة في الماضي - بدوره - عاملا من عوامل الاغتراب؟ وهل نستطيع أن نطمئن - حين ننادي ببعث حضارة ماضية تفصلنا عنها فترات زمانية واختلافات هائلة - إلى أننا قد تخلصنا حقا من الاغتراب عن أنفسنا؟
إن «الاغتراب عن الماضي» فكرة لا أعتقد أنها تلقى ترحيبا من الكثيرين، ومع ذلك فإني أطرحها آملا أن تبحث بمزيد من العناية، وكل ما أود أن أقوم به الآن هو أن أثير الموضوع فحسب، ولعل أبعاد المشكلة تظهر بمزيد من الوضوح إذا تأملناها في ضوء الظروف الخاصة التي يعيشها الإنسان المعاصر، وهي ظروف تختلف اختلافا جذريا عما كان عليه الإنسان في أي عصر مضى.
Bilinmeyen sayfa
إن عصرنا الحاضر يسير في تطور يؤدي - على نحو متزايد - إلى اختصار المسافات المكانية وتضييق شقة الاختلافات الموضعية، ويؤدي من ناحية أخرى إلى تأكيد الفوارق الزمنية ومضاعفة تأثيرها، وفي كلتا الحالتين يظهر التأثير الحاسم للتفاعل بين التكنولوجيا والثقافة؛ فالتكنولوجيا - كما هو معروف - تتجه بفضل عدد كبير من المخترعات الحديثة إلى صبغ العالم بصبغة ثقافية تزداد تقاربا وتشابها، وبذلك تلغي بالتدريج تأثير الفوارق بين الحضارة، أو تتيح وضع الحضارات المختلفة في إطار معاصر موحد، هذه حقيقة معروفة طالما نبه إليها الكتاب، ولكن الذي لم يتنبه إليه من كتبوا في هذا الموضوع، هو أن نفس العملية التي تؤدي إلى إزالة الحواجز المكانية، وتقريب الشقة بين الثقافات تؤدي من ناحية أخرى إلى زيادة الإحساس بتأثير الفوارق الزمنية؛ ذلك لأن التكنولوجيا الحديثة بدورها هي التي جعلت الإنسانية تمر خلال عشر سنوات من عصرنا الحالي بتجارب تزيد على ما كانت تمر به في العصور السابقة خلال قرن كامل، وهي التي ستجعل معدل التغير هذا يزداد سرعة على الدوام، والمعنى الواضح لازدياد سرعة معدل التغير - في فترات زمنية تزداد قصرا على الدوام - هو أن الشقة بين الماضي والحاضر تزداد اتساعا بلا انقطاع، أي إن الإنسان المعاصر يشعر بأنه أبعد عن إنسان القرن الماضي إلى حد يزيد كثيرا عن إحساس إنسان القرن الثاني عشر بابتعاده عن إنسان القرن الثاني مثلا، وهكذا فإن المكان والطابع المحلي يتجه إلى التقارب والتوحد، على حين أن الفواصل الزمنية بين الحاضر والماضي تزداد حدة على الدوام، وإذا لم نكن على ثقة من ذلك، فإن حركات الشباب، وشعور الأجيال الجديدة بأنها عاجزة عن الالتقاء على أرض مشتركة مع الأجيال الأقدم التي لا تزال تعيش معها في عصر واحد، إنما هو الدليل الملموس الصارخ على ازدياد حدة الفوارق الزمنية في عصرنا الحاضر على نحو لم يكن له نظير في أي عصر سابق.
وإذن فمن سمات هذا العصر الذي نعيش فيه تلك السمة التي لم تظهر بوضوح إلا في وقتنا الراهن، وإن كانت ستزداد ظهورا ووضوحا في المستقبل، وأعني بها تضييق المكان وتوسيع الزمان، وفي مثل هذا الوضع - الذي نعتقد أنه جديد كل الجدة - يكتسب السؤال السابق الذي أثرته للمناقشة دلالته العميقة: فهل يقتصر الاغتراب الثقافي على صلتنا بالثقافات الأجنبية فحسب؟ ألا يمكن أن يظهر - إن لم يكن في الحاضر ففي المستقبل على الأقل - اغتراب ثقافي أشد من ذلك حدة بين الحاضر والماضي؟ وفي هذه الحالة، ماذا يكون مصير تلك الدعوات التي ترى أن طريق التحرر من الثقافات الدخيلة إنما يكون بإحياء ثقافات تفصلنا عنها مسافات زمنية كبيرة؟ أنستطيع حقا أن نتخذ من هذه الثقافات القديمة مرشدا وموجها لنا ونحن آمنون من أن رجوعنا إليها سيخلصنا من كل اغتراب؟
التعصب ... من زاوية جدلية1
عرفت البشرية خلال تاريخها الطويل ألوانا متباينة من التعصب؛ فقد حفظ لنا الشعر معلومات هامة وقيمة عن التعصب القبلي، وسجل التاريخ - وما زال يسجل - حالات لا حصر لها للتعصب الوطني أو القومي، وعرف تاريخ الفكر ألوانا من التعصب الديني أو الطائفي، وشهدت المجتمعات - وخاصة في عصرنا الحديث - ضروبا متعددة من التعصب العنصري أو العرقي، وفي هذه الحالات كلها كان التعصب يمثل انتماء زائدا إلى الجماعة التي ينتسب إليها المرء، وارتباطا بها يصل إلى حد الاستبعاد التام للآخرين أو كراهيتهم أو التعالي عليهم.
والواقع أن التعصب - بوصفه ظاهرة بشرية خالصة تنتمي إلى مجال العلاقة بين إنسان وإنسان - يمكن أن يعالج بمناهج وأساليب متعددة، تبعا للزاوية التي نتأمله منها؛ ففي استطاعة علم النفس وعلم الاجتماع والتاريخ والعلوم البيولوجية؛ في استطاعة هذه العلوم كلها أن تلقي أضواء كاشفة على ظاهرة التعصب، وأن تساعد الإنسان على إزالة هذه الغشاوة التي أعمت بصيرة البشرية ردحا طويلا من الزمان، ومع ذلك فإن المعالجة الفلسفية لهذه الظاهرة تستطيع أن تكشف عن جوانب خفية وأساسية منها، وأن تزيح النقاب عن تلك البناءات الكامنة التي قد لا ينتبه إليها أي علم من العلوم السابقة حين يستنفد طاقته في معالجة المشكلة من زاويته الخاصة، ومن خلال مفاهيمه ومناهجه المميزة، فهناك إذن أبعاد لمشكلة التعصب أعمق من تلك التي تتناولها العلوم الخاصة، وحين أقول «أعمق» فلست أعني بذلك حكما تفضيليا ، بل إن كل ما أقصده هو العمق بمعناه الأصلي لا المجازي، أعني عمق القاع بالقياس إلى السطح، هذه الأبعاد العميقة التي تكمن من وراء كل معالجة علمية خاصة لمشكلة التعصب، تنكشف للتفكير الفلسفي وحده، ربما كان أصلح منهج يتبع في الكشف عنها هو ذلك المنهج الذي أثبت أنه خصب ومثمر في معالجة الموضوعات الإنسانية على وجه التخصيص، وأعني به المنهج الجدلي أو الديالكتيكي .
إن التعصب - كما هو واضح - يتضمن عنصرين: أحدهما إيجابي والآخر سلبي، فالعنصر الإيجابي هو اعتقاد المرء بأن الفئة التي ينتمي إليها - سواء أكانت قبيلة أم وطنا أم مذهبا فكريا أو دينيا - أسمى وأرفع من بقية الفئات، والعنصر السلبي هو اعتقاده بأن تلك الفئات الأخرى أحط من تلك التي ينتمي إليها، وقد يبدو من الأمور البديهية أن يكون هذان العنصران متلازمين؛ إذ إن اعتقاد فئة معينة بتفوقها يعني آليا أنها تنظر إلى الفئات الأخرى كما لو كانت أقل منها قدرا، ومع ذلك فإن هناك نوعا من التميز بين وجهي التعصب هذين، على الرغم من ارتباطهما الوثيق.
ذلك لأن المشكلة التي عانت منها البشرية طوال الجزء الأكبر من تاريخ التعصب فيها كانت مشكلة الوجه السلبي للتعصب، بل إن مفهوم التعصب ذاته يرتبط في أذهان معظم الناس بهذا الجانب السلبي؛ فالشخص المتعصب هو - قبل كل شيء - ذلك الذي يحتقر فئة معينة أو يتحامل عليها، صحيح أن هذا التحامل ينطوي ضمنا على اعتقاد بأنه أرفع من تلك الفئة التي يتحامل عليها، أو أنه بريء من نقائصها، ولكن هذا لا يعدو أن يكون اعتقادا مضمرا فحسب، وفضلا عن ذلك فكثيرا ما يكون سبب التحامل على الآخرين هو نوع من الحسد الخفي الدفين لهم، أو الاعتقاد بأنهم يتمتعون بمزايا يعجز المرء عن بلوغها، وعلى أية حال فإن كراهية الآخرين هي الصفة الغالبة على المتعصب، أما استعلاؤه بنفسه فهو صفة ثانوية، على الرغم من كونها نتيجة لازمة - في معظم الأحيان - عن كراهية الآخرين.
فالتعصب إذن هو في أساسه نظرة سلبية إلى الغير، والمتعصب يتجه بتفكيره أساسا إلى الآخرين في حقد أو حسد أو احتقار، ويميل إلى إلحاق الضرر بالغير أكثر مما يميل إلى تأكيد مزاياه الشخصية أو كسب منفعة لنفسه، وليس في هذا ما يدعو إلى الاستغراب؛ إذ إن الجانب الإيجابي في هذه العلاقة الجدلية لا يؤدي بالضرورة إلى التعصب، فتأكيد المرء لذاته أو اعتقاده بسمو الفئة التي ينتمي إليها، لا يترتب عليه بالضرورة ازدراء للآخرين، ولقد سمعنا كثيرا عن تلك الفلسفة التي تؤكد الأرستقراطية والاستعلاء، ولكنها ترفض التعصب وكراهية الآخرين بوصفها مظهرا لا يتمشى مع وثوق المرء بنفسه وبقدراته؛ فالرفيع والنبيل حقا - عند نيتشه - لا يكره الآخرين ولا يتعصب ضدهم؛ لأنه لا يحتاج من أجل تأكيد ذاته إلى مقارنة نفسه بغيره أو التسلق على أكتاف الآخرين، ومن جهة أخرى فإن تأكيد الذات - في الفلسفات التي تنحو منحى ديمقراطيا - يزداد بالتكاتف مع الآخرين والتسامح معهم لا بالتفوق على حسابهم.
ومعنى ذلك أن الوجه الإيجابي في علاقة التعصب - وهو تأكيد استعلاء الذات - لا يمثل جوهر التعصب، وأن النظرة السلبية إلى الآخرين هي الطابع المميز لذلك النوع الشائع من الانحراف. •••
ولا جدال في أن تلك النظرة السلبية إلى الآخرين ترتكز على اعتقاد بوجود نوع من الشر الكامن فيهم، والذي يبرر به المتعصب تحامله عليهم، ولعل أول ما يطرأ بالذهن هو أن يبادر إلى الكشف عن زيف هذا الاعتقاد بوجود الشر في الآخرين، ويبحث عن أسباب نفسية أو اجتماعية تدفع الناس إلى التحامل على غيرهم بهدف تبرير استغلالهم لهم، أو إيجاد منفذ لشعورهم هم أنفسهم بالإثم أو بالعجز أو بالإخفاق، ومن المؤكد أن ظاهرة التعصب تنطوي على شيء من هذا كله، ولكن العلاقة بين المتعصب وبين من يتحامل عليه هي في معظم الأحوال أعقد من أن تفسر من خلال هذا الفهم الذي يسير في اتجاه واحد، والذي يرتكز على القول بأن التعصب علاقة بين ظالم ومظلوم، وهذه العلاقة المعقدة لا يمكن التعبير عنها أو فهمها إلا من خلال منهج جدلي.
Bilinmeyen sayfa
ولعل تعقد هذه العلاقة يتكشف بوضوح لو ضربنا لها مثلا مستمدا من بلد التعصب المتسق والمنظم، أعني من الولايات المتحدة؛ فقد راعني في الأيام الأولى من زيارتي لهذا البلد أن أجد كثيرا من الشرقيين يتحدثون عن الزنوج بنفس اللهجة التي يتحدث بها الأمريكيون عنهم، ويتجنبون الأحياء والمساكن التي يسكنها «الملونون»، مع أن بلادهم الأصلية تتخذ موقفا مستنيرا من مشكلة الاضطهاد العنصري، وتنتقد الأمريكيين البيض انتقادا مرا على تعصبهم، وحين أتيحت لي فرصة الاطلاع عن كثب على أحوال الزنوج، تكشف لي السبب بوضوح؛ فقد وجدت في حياتهم بالفعل عناصر منفرة، وكانت الأحياء التي يسكنونها أقذر من أحياء البيض إلى حد يدعو الاشمئزاز، كما كان مسلك الكثيرين منهم - على المستوى الشخصي - ينم عن قدر غير قليل من الانحلال.
عند هذا المظهر الانحلالي يتوقف التفكير الذي يسير في اتجاه واحد، فيحكم على الأقلية الزنجية بالشر الكامن، ويجد مبررا للتفرقة التي تمارسها الأغلبية البيضاء ضدها، ولكن التفكير الجدلي يستطيع أن يتوصل - من وراء هذا المظهر السطحي - إلى التعقد والتشابك الحقيقي الذي تنطوي عليه علاقة التعصب؛ فانحطاط الزنجي ليس سببا للتعصب ضده فحسب، بل هو قبل ذلك نتيجة لهذا التعصب، وممارسة التعصب تزيد من تدهور الجماعة التي يمارس ضدها التعصب، وبذلك تكتمل عناصر الحركة الجدلية في علاقة التعصب؛ إذ إن من يمارس الاضطهاد يعمل - عن وعي أو بغير وعي - على إبقاء من يضطهده في حالة يكون فيها جديرا بأن يضطهد، وكلما ازداد الاضطهاد وطال أمده، اشتد التدهور الذي يبرر الاضطهاد ويخلق له المعاذير، وازداد التباعد والاستقطاب بين طرفي علاقة التعصب.
ومثل هذا يقال عن شكل آخر من أشكال التحامل، هو اتهام الأقليات بالتقوقع والتساند والتكاتف فيما بينها على حساب تعاونها وتضامنها مع الأغلبية؛ ففي هذه الحالة بدورها تؤدي ممارسة الأغلبية للاضطهاد إلى رد فعل لدى الأقلية يتمثل في مزيد من الانطواء على ذاته والحرص الشديد على مصالح أفرادها، وهذا الحرص يدفع الأغلبية إلى مزيد من الاضطهاد، فتقابلها الأقلية بمزيد من الأفعال «الدفاعية» التي تزيد من كراهية الأغلبية لها، وهكذا تتوالى الحركة الجدلية حتى تصل إلى تضاد بين قطبين لا سبيل إلى التوفيق بينهما.
فهل لا يوجد سبيل لكسر هذه الحلقة المفرغة؟ وهل يتحتم أن يظل طرفا هذه العلاقة في تباعد وتنافر يتزايدان بلا انقطاع؟ إن المنطق السليم يقنعنا بأن المشكلة ليست مما يستعصي حله، وبأن هذا الحل لا بد أن يبدأ بجهود تبذلها الأغلبية لا لأنها هي الأفضل، بل لأنها هي المسيطرة، وهي التي تملك زمام المبادرة؛ فمن الممكن أن تسير الحركة الديالكتيكية في الاتجاه العكسي، وأن يتضاءل التباعد والتنافر إذا خطت الأغلبية خطوة تقربها من الأقلية، وتعيد إليها ثقتها بنفسها، وعندئذ يحق لنا أن نتوقع خطوة مماثلة من الطرف الآخر، ويستمر التقارب باطراد، فيسحق في طريقه بذور التعصب. •••
إن من الشائع - عند تحليل الهيكل البنائي للتعصب - أن يقال إن التعصب ينشأ عند الأغلبية ضد الأقلية أولا، وإن تعصب هذه الأخيرة ليس إلا رد فعل دفاعيا تقوم به لحماية نفسها من الاضطهاد الذي تمارسه عليها الأغلبية، ولا جدال في أن هذا النمط ينطبق بالفعل على الأغلبية الساحقة من حالات التعصب التي عرفها تاريخ البشرية، غير أن هناك حالات قليلة يكشف التحليل الجدلي عن خروجها على هذا النمط المألوف؛ أعني حالات يبدأ فيها التعصب لدى الأقلية، وتضطر الأغلبية إلى القيام بردود فعل دفاعية ضدها، أو إلى ممارسة تعصب مضاد أشد وأعنف من التعصب الأصلي.
وقد شهد عصرنا الحاضر نموذجا فريدا لهذا اللون من التعصب في روديسيا وفي جنوب أفريقيا؛ حيث تمارس أقلية بيضاء من أصل أوروبي اضطهادا جماعيا شاملا ضد أغلبية أفريقية من سكان البلد الأصليين؛ ذلك لأنه على الرغم من وجود أوجه تشابه قوية بين هذا النوع من الاضطهاد العنصري وبين نظيره في الولايات المتحدة الأمريكية، فإن بينهما فارقا بنائيا لا يصح تجاهله، هو أن الأول تعصب عدواني من الأقلية تجاه الأغلبية، على حين أن الأغلبية في الحالة الثانية هي التي تمارس التعصب على أقلية مغلوبة على أمرها، ولا شك في أن تعصب الأقلية ضد الأغلبية أشد ألوان التعصب شراسة؛ إذ إن هذه الأقلية تدرك أنها - من الوجهة العددية على الأقل - في مركز الضعف، ومن ثم فهي تعوض ضعفها باتخاذ جميع التدابير الكفيلة بإبقاء الأغلبية المضطهدة في حالة لا تسمح لها بالانقضاض عليها، ومن هنا كانت أقسى أنواع التعصب العنصري التي يعرفها عصرنا الحاضر هي تلك التي تمارسها الأقلية الحاكمة في روديسيا وجنوب أفريقيا ضد الأغلبية الملونة من سكان البلاد الأصليين.
على أن تاريخ اليهودية يمكن أن يعد مثلا صارخا - امتد عبر مئات طويلة من السنين - لهذا اللون الفريد من تعصب الأقلية ضد الأغلبية، ومن الجدير بالذكر أن الأقلية اليهودية لم تكن - في أية حالة من الحالات - أقلية حاكمة مسيطرة على زمام الدولة كما هي الحال بالنسبة إلى الأوروبيين في روديسيا وجنوب أفريقيا، وإنما كانت أقلية ضعيفة من الوجهة السياسية، ومع ذلك فقد كانت - وهي في حضيض الضعف - تمارس نوعا من الاستفزاز يدفع المجتمع الذي توجد فيه إلى اضطهادها رغما عنه.
ذلك لأن أسطورة شعب الله المختار - مهما قيل عنها - تقوم بدور حقيقي في التراث اليهودي، صحيح أن المستنيرين من أبناء هذا التراث يحاولون تفسيرها بمعان غير عنصرية، ولكن هناك شواهد قاطعة على أن هذه الأسطورة تكون جزءا لا يتجزأ من التكوين العقلي لليهودي العادي، وتدفعه إلى أنواع من السلوك لا بد أن تؤدي آخر الأمر إلى التصادم بينه وبين مجتمعه.
وحتى لو قيل إن المجتمع يتخذ الأقلية اليهودية الموجودة فيه «كبش فداء» يفرغ فيه شعوره بالخيبة أو اليأس أو الإخفاق - وهو أمر لا يمكن للباحث الموضوعي أن ينكر حدوثه في حالات معينة على الأقل - فإن وقوع الاختيار على الأقلية اليهودية بالذات طوال ألوف السنين لكي تكون «كبش الفداء» هذا؛ هو أمر يدعو إلى التأمل العميق، ويدفعنا إلى البحث عن جذور التعصب في هذه الأقلية ذاتها قبل أن نبحث عنها في المجتمع المحيط بها.
فالتحليل الجدلي لظاهرة الاضطهاد العنصري لليهود يثبت لنا أن هذا الاضطهاد في حقيقة الأمر رد فعل من جانب الأغلبية على الأقلية، إنه في حقيقته اضطهاد مضاد، أما الاضطهاد الأصلي فهو ذلك الذي تمارسه الأقلية اليهودية، وهو - بطبيعة الحال - اضطهاد صامت مستكين حين تكون هذه الأقلية في مركز الضعف، ولكنه ينقلب إلى وحشية مخيفة حين تتحول إلى مركز القوة، كما هي الحال في مذابح فلسطين المشهورة. وعلى ذلك فلو شئنا أن نصحح الرأي الشائع عن التعصب ضد اليهود، لقلنا عنه إنه تعصب مضاد، أو إنه في معظم حالاته رد فعل، أما الفعل الأصلي والتعصب الأساسي، فيرجع إلى خرافات وأساطير استفزازية عنيدة على الدوام تكون جزءا لا يتجزأ عن التراث اليهودي.
Bilinmeyen sayfa