Eleştirel Görüşler: Düşünce ve Kültür Problemleri
آراء نقدية في مشكلات الفكر والثقافة
Türler
إن الأمر المؤكد أن لكل أمة الحق - كل الحق - في أن تتغنى بماضيها وتمجده، ولكن التشبث المريض بهذا الماضي ليس له إلا معنى واحد، هو العجز عن السيطرة على الحاضر أو عدم الرضا عنه، وفي اعتقادي أن الأمة التي تتحكم في حاضرها وتمسك بزمامه وتسيطر عليه وتدير دفته في الاتجاه الذي يحقق لها أمانيها، لا تحتاج إلى كل هذا القدر من التغني بالماضي واجترار أمجاد الأسلاف، ولو تأملنا مقدار الجهد الذهني الذي بذل، والطاقات النفسية والعصبية التي أنفقت في المعركة التقليدية بين أنصار الأصل الفرعوني وأنصار الأصل العربي الإسلامي؛ لبدا لنا المعنى الذي نرمي إلى إثباته واضحا وضح النهار؛ إذ إن هذه المعركة كان يمكن أن تحسم لو أن كلا من الفريقين المتنازعين خاطب الآخر بتلك العبارة البسيطة المعقولة الحكيمة، كفانا تناحرا على الماضي يا سادة، ولنتذكر قليلا حاضرنا الذي نعيش فيه!
والحق أن نفس عامل الثبات في الشخصية - الذي يعد مصدرا للفخر والاعتزاز بالماضي العريق - يمكن أن يعد سببا من أسباب التعاسة في الحاضر؛ ذلك لأن الظروف التي أدت - منذ آلاف السنين - إلى بناء حضارة عظيمة يمكن - إذا ظلت سائدة دون تغيير أساسي - أن تؤدي إلى تدهور شديد في الحاضر، وإذا كنا نعترف بأن شخصية الفلاح المصري وطبيعة حياته وطريقة معيشته ظلت على ما كانت عليه منذ أيام المصريين القدماء، فمن الواجب ألا نرى في ذلك ما يدعو إلى الإفراط في الفخر، بل ينبغي أن نجد فيه حافزا قويا إلى التغيير.
إن التفاخر بالأصل والحسب صفة مميزة لشعوب هذه المنطقة من العالم، وحسبنا دليلا على ذلك أن نرجع إلى باب «الفخر» في دواوين الشعر العربي التقليدي، وهو موضوع لا يكاد يكون له نظير بين أغراض الشعر في الآداب العالمية كلها، وفي حياتنا الشخصية كان الفخر بالحسب والنسب - ولا يزال إلى حد بعيد - مصدر كثير من الأحكام الباطلة على الناس، ومن التصرفات الخاطئة في المجتمع، ومع ذلك فإن مثل هذا التفاخر ما زال يمارس على مستوى الشخصية القومية بصورة يمكن أن توصف بأنها مريضة، ومرة أخرى فإني حريص على أن أؤكد أن من حق كل شعب - بل من واجبه - أن يحافظ على تراثه ويتغنى بأمجاده الماضية، ولكن هذا الرجوع إلى الماضي يتخذ في الحالات السوية شكل القوة الدافعة إلى مزيد من النهوض بالحاضر، بينما يتخذ في الحالات المريضة صورة البديل الخيالي عن الحاضر، أو العزاء الوهمي عما هو فيه من تخلف.
إن كل من بحثوا في الشخصية المصرية يؤكدون أن أهم سماتها هو ذلك الاستمرار الفريد بين الماضي السحيق والحاضر، ولكن النتائج التي تستخلص من هذا الاستمرار والاتصال في شخصيتنا تختلف كل الاختلاف بين أجيال الباحثين، ويمكن القول بصورة عامة إن الجيل الأقدم من الباحثين يستمد من هذا الاستمرار قوة روحية هائلة تعطيه أملا كبيرا في الحاضر - أو على الأصح عزاء مريحا عنه - على حين أن جيل الشباب يرى في هذا الاستمرار عاملا مثبطا للهمم، ومظهرا من مظاهر التخلف.
وفي اعتقادي أن كلا من هاتين النتيجتين لا تلزم بالضرورة عن مقدماتها، وأن حقيقة الاستمرار التاريخي لا ينبغي أن تكون مصدرا للأمل المبالغ فيه أو لليأس المفرط.
ذلك لأن المغرقين في الأمل يؤمنون - في واقع الأمر - بنوع من القوة السحرية الغامضة في هذا الشعب الذي استطاع أن يصمد طوال هذا التاريخ ويحتفظ بجوهره نقيا برغم كل المؤثرات الأجنبية والغزوات الدخيلة، وأن يقهر المعتدين بالصبر، ويرغمهم على الرحيل آخر الأمر خاسرين، وفي رأيي أن الإيمان بوجود علاقة سببية بين ماضي الشعب وحاضره هو إيمان صوفي لا يمت إلى التفكير العلمي بصلة، وأن الماضي مهما كانت عراقته لا يستطيع أن يؤثر في الحاضر إلا بقدر ما نبذل نحن في سبيل إنهاض هذا الحاضر من جهود، وكم من الأمم لم يشفع لها ماضيها العريق حين تراخت جهودها ووهنت عزائمها، فأصبح حاضرها تعيسا يدعو إلى الرثاء، بل إني لأومن بأن كل جيل في حياة الأمة يحمل على أكتافه وحده أمانة الكفاح كاملة، أما الاعتقاد بأن الأصل البعيد يرتبط بالحاضر على نحو ما، ويمكن أن يكون قوة مؤثرة فيه، فهو اعتقاد يفتقر إلى تأييد الشواهد التاريخية والمنطق السليم معا، ولا يعدو أن يكون شعورا انفعاليا في بعض النفوس، لا يطابقه في الواقع الموضوعي شيء.
ولست أود أن أعلق على الوجه الآخر من هذه الطريقة في التفكير، وهو الوجه القائل إننا حاربنا الغزاة وانتصرنا عليهم بالصبر، وحسبي أن أقول إن هناك مواقف في حياة الأمم لا تحتمل مثل هذا الصبر، وإن الحد الفاصل بين الصبر والمذلة إنما هو خيط رفيع، وإن الذليل - على أية حال - يستطيع أن يضمن لنفسه عمرا طويلا!
من أجل ذلك لم تكن هذه الفلسفة مقبولة لدى جيل الشباب، وكان استقرار الشخصية القومية وثباتها على المدى الطويل - في نظر هذا الجيل - مدعاة إلى اليأس لا إلى الأمل؛ ذلك لأن هذا الاستقرار إنما يعني استمرار كثير من عوامل التخلف، وقيم الطاعة والخنوع، والإيمان بالقدرية والغيبيات، وأحاسيس المرارة واليأس، والتفنن في الهروب من الواقع والعجز عن التصدي له.
ومع ذلك فإني لست من المؤمنين إيمانا تاما بطريقة تفكير هؤلاء اليائسين؛ ذلك لأن وحدة الشخصية القومية عبر التاريخ، واستمرار السمات السلبية فيها، إنما هو في واقع الأمر استمرار للظروف التي أدت إلى نشوء هذه السمات وتلك الظروف في نهاية التحليل، ذات طابع اجتماعي في الأغلب، أي إنها مما يدخل في نطاق تحكم الإنسان، وليست قدرا فرضته عليه قوة قاهرة، ومن المؤكد أن تغيير هذه الظروف كفيل بأن يؤدي في نهاية الأمر إلى تغيير النتائج المترتبة عليها، وبالتالي إلى القضاء على السمات السلبية في شخصيتنا القومية. وبعبارة أخرى فإن هذه الشخصية القومية - مهما كانت درجة ثباتها - ليست شيئا فطريا مقدرا لنا ويستحيل علينا تغييره، بل نتاج لعوامل معينة في حياتنا هي التي أدت إلى تشكيلها في هذه القوالب، وما ثبات هذه الشخصية على مدى تاريخنا الطويل إلا انعكاس لاستمرار هذه العوامل وعجزنا عن تغييرها طوال هذه القرون، ولكن هذه العوامل قابلة للتغيير من حيث المبدأ (ولا سيما في هذا العصر الذي لا يصمد أمام قوى التغيير فيه شيء)، ومن ثم فإن سمات شخصيتنا القومية يمكن أن تطرأ عليها تحولات جذرية لو استطعنا أن نبذل الجهد اللازم في سبيل تغيير العوامل المؤثرة فيها.
وأول شروط بذل هذا الجهد، وبالتالي أولى مراحل عملية التغيير، هو الشعور الواعي بمظاهر السلبية في شخصيتنا.
Bilinmeyen sayfa