Eleştirel Görüşler: Düşünce ve Kültür Problemleri
آراء نقدية في مشكلات الفكر والثقافة
Türler
form
التي تصاغ بها الموسيقى إنما هي العنصر الأساسي في تركيبها؛ فتاريخ الموسيقى إنما هو تاريخ الابتعاد التدريجي عن الاتجاه التعبيري المباشر، والاقتراب من المثل الأعلى للصورة الكاملة، وازدياد أهمية القالب أو الصورة يدل على أن صلة الموسيقى بموضوعاتها ليست صلة محاكاة مباشرة؛ إذ إن المرء لا يكون بحاجة إلى اصطناع صورة أو قالب معين لكي يحاكي مباشرة موضوعا خارجيا يتمثل أمامه، أو لكي ينقل إلينا انفعالاته الذاتية، إن مادة الصوت الموسيقي وصورته تنفيان عنه تماما فكرة محاكاة الموضوعات الخارجية، أما المشاعر التي تعبر عنها الموسيقى، فليست هي المشاعر الذاتية للفنان وحده؛ فالرموز الموسيقية تكشف لنا عن عالم من المعاني أشمل من ذلك كثيرا، إنها تكشف عن مدى معرفة الموسيقار بالنفس البشرية ومشاعرها، وبذلك تكون الموسيقى معبرة عما هو أزلي، وعما يتجاوز الوقت واللحظة المناسبة، إنها تقدم إلينا نوعا من الاستبصار والمعرفة الجديدة بعالم المشاعر في ذاتها، ذلك العالم الذي يمكن القول بأن أبوابه تظل مغلقة أمام أنواع التعبير الأخرى كالتعبير اللغوي مثلا؛ فالانفعالات التي تنفذ أذهاننا إلى ماهيتها بفضل الموسيقى ليست انفعالات فردية أو ذاتية، وإنما هي «الصورة المنطقية» للانفعالات (إن جاز هذا التعبير)، كما تتكشف لنا من خلال هذا الوسط الخاص من وسائط نقل المعاني إلى الأذهان.
ففي الموسيقى إذن يجد المرء تأييدا واضحا للرأي القائل إن اللغة ليست هي الوسيلة الوحيدة لمعرفة المعاني، وإن الوظائف اللغوية لا يتعين أن تتكرر بالضرورة في الوسائل الأخرى لهذه المعرفة؛ لأن هذه الوظائف ليست نهائية ولا مطلقة.
وإذا كانت اللغة تعبر عن وجه معين للواقع، فإن الفنون - ولا سيما الموسيقى - تعبر عن أوجه أخرى لا يمكن كشف النقاب عنها على أي نحو مخالف. إن حدود اللغة ليست هي آخر حدود التجربة البشرية، وقد تعجز اللغة عن الوصول إلى تجارب معينة، وتظل للذهن مع ذلك وسائله الخاصة في الوصول إلى هذه التجارب، ومن الواجب أن تفسح نظرية المعرفة مجالا لهذه الوسائل الأخرى - كالفن والموسيقى بوجه خاص - إذا شاءت هذه النظرية أن تكون شاملة لكل أطراف عالم المعاني. •••
فما الذي يترتب على اتساع نطاق نظرية المعرفة إلى الحد الذي يتيح لها استيعاب المعنى الفني في داخلها؟ إن أفقا جديدا يتجلى لنا عندما نتخلى عن تلك النزعة العلمية المتطرفة، التي تكون فيها نظرية المعرفة مجرد نقد للعلم، مقيد بحدود اللغة وبالمظاهر «الخارجية» لتجارب الإنسان، في هذا الأفق الجديد يتسع نطاق المعاني التي تتناولها الفلسفة فيشمل التجارب «الداخلية» التي تنقلها إلينا نظم رمزية أخرى غير اللغة، وعندما نتحرر من إسار اللغة وشروط صحة التفكير المرتبط بالصيغة اللغوية، يتسع نطاق حياتنا الروحية ذاتها إلى حد لم يطرأ ببالنا من قبل.
إن الإنسان الحديث يعيش في أزمة روحية وحضارية؛ فالحياة الآلية قد ضيقت نطاق عالم المعاني الذي يعيش فيه، وأفقدته الإحساس بتلك الرمزية الحيوية التي تحفل بها الطبيعة؛ ذلك لأن مجتمع المدنية الصناعية قد فصل الإنسان عن الطبيعة فصلا كاد أن يكون تاما؛ فلم تعد تجربته تتضمن الإحساس بالقوى الطبيعية المباشرة وبما تنطوي عليه من رموز تثري حياته الروحية.
إنه يعيش في عالم صنعه هو بكل تفاصيله، وبالتالي فقد كل دلالة رمزية له؛ لأن ما يصنعه الإنسان يتكشف كله له، ولا يعود فيه سر ولا غموض، ولا يصلح لكي يتخذ رمزا لمعنى غير مباشر.
ولم يعد العمل الذي يمارسه الإنسان موقظا لذهنه أو مثيرا لخياله، وإلا فأين الخيال في حياة الصانع الذي يدير مسمارا معينا ألوف المرات كل يوم أمام الرصيف المتحرك في مصنعه؟ وأين المعاني الموحية في عمل كاتب السجلات الذي يتلقى كل يوم ألوف الأوراق ويقتصر نصيبه في العمل الاجتماعي على ترقيمها برقم مسلسل؟ إن معين الخيال في هذا النوع من الأعمال - الذي تحفل به الحضارة الحديثة - لا بد أن يجف وينضب، وليس من قبيل المصادفة على الإطلاق أن تنتشر في هذا العصر فلسفة ترى في التحقيق الواقعي معيارا نهائيا «للمعنى»، وتتخذ من القضايا اللغوية ميدانا أوحد لنشاط الذهن، وتصف كل ما عدا ذلك من نواتج الروح بأنه من قبيل الانفعال الغامض الذي لا يقبل التعبير عنه، والذي يظل إلى الأبد متخلفا عن ركب العقل الظافر.
إن مثل هذه الفلسفة إنما هي المقابل الفكري لحياة حضارية خلت من كل محتوى رمزي حي، وانفصل فيها الإنسان عن الطبيعة حتى لم يعد يرى منها إلا أشباحا من صنعه هو.
على أن نفس الحضارة التي اقتلعت الإنسان من جذوره الطبيعية، كفيلة في الوقت ذاته بإثراء حياة الروح على نحو لم يحلم به الإنسان طوال تاريخه من قبل؛ فالإنتاج الصناعي الذي يهدد بأن يحيل عمل الإنسان إلى نشاط آلي يقتل كل خيال خلاق، هو ذاته الذي يمنح الإنسان من الفراغ ما يتيح له تنمية أسمى مواهبه وأرفعها، والآلات التي تحجب عن الإنسان وجه الطبيعة هي ذاتها التي تضع في متناول يديه - في سهولة ويسر - روائع الإنتاج الثقافي والفني كما تراكمت على مر الأجيال.
Bilinmeyen sayfa