السكوت في النهار طوال النهار أحد الأوامر المتعارف عليها الصارمة، الألسن تتيبس في الأفواه لقلة ما تتحرك، الحناجر مخشوشنة من فرط السكوت، فقط حين تذهب قوة النهار ويترك العنبر في حراسة ثلاثة حراس ليل عواجيز في الغالب، قريبي الإحالة إلى المعاش، فقط حين يطمئن الجميع إلى ذهاب الجميع يفرج كل نزيل عن لسانه ويبعث الحياة في شفتيه وفمه وصدره، ويزعق، ويشتم، بكل ما يملك من قدرة وقوة يصرخ ويشتم وكأنما ينتقم من السكوت وأوامر الشلل ويزاول الغريزة التي طال حبسها، غريزة أن يشتم ويشتم، فمن فرط ما يتلقى النزيل من شتائم طول النهار وهو عنها ساكت وبالأمر متسامح تتكون له فعلا غريزة الشتم تنهال بها كل زنزانة على الأخرى ويتبارى في مزاولتها الجميع، بفن وخلق وابتكار، لأسماء الأم وجسدها يختلق ألف تعبير وتعبير.
في أحيان قليلة جدا يحدث، أن فجأة، يدور المفتاح في قفل الباب الكبير ويفتح العنبر، وهنا، وفي لمحة خاطفة واحدة يتسمر كل شيء في مكانه ويحل أعمق وأغرب صمت، صمت الترقب الرهيب لما عساه يكون السبب في فتح الباب.
وتتعدد الأسباب وتكثر، وذات مرة تجد السبب باب زنزانتك نفسه وهو لروعك يفتح وكتلة بشرية ما، تنزلق، ليعود الباب ينغلق. قبل أن تسأل أنت القادم أو يفتح هو من تلقاء نفسه فما للكلام تنهمر مئات الأسئلة من قريب ومن بعيد ومن أقصى الدور الثالث نفسه تتساءل عن حكاية هذا الذي دخل، فلا تدخل بعد التمام إلا حكاية مهولة، لا بد في الحال أن تعرف، وهكذا إن لم تبادر وتجيب، حتى قبل أن تعرف أنت ما هي الإجابة، تنهمر عليك أنت الشتائم هذه المرة وتؤرق عظام أمك وأبيك وأعضائهما أحياء كانوا أم أمواتا. قفص حياة رهيبة يتولى فيها أناس حبس أناس وخنق أناس وضرب أناس وحشدهم وتكديسهم هكذا في علب محبوكة من الزنازين والحجرات. - ما بك يا عم؟ خير!
سمعت أنا وحمزة البسيوني، زميلي في الزنزانة الذي تصادف أن اسمه يشبه اسم قائد السجن الحربي حيث تتم كل ألوان التعذيب، تشابه كان يجعله وبالتالي يجعلني هدفا لتعليقات ونخزات وتعذيب لا حد لها. - مالك يا عم مالك؟
قالها حمزة هذه المرة، بأمل أن يجيب القادم. ومكوما في الركن لا يتحرك كان لا يزال. الأسئلة تترى تخترق باب الزنزانة المصنوع من قضبان متوازية من حديد، لا إجابة، والنتيجة سيول من الشتائم تلعنني وتلعن حمزة. ما أغرب قدرة الإنسان على تعذيب نفسه وتعذيب الآخرين إذا وقع عليه عذاب لا يملك منعه. معذبون يعذبون معذبين. ما أبأسه من محبس داخل محبس وعذاب في لب عذاب!
لا رد ولا تحرك ولا كان باديا عليه أن سيرد. أيكون ما نسمعه منه ليس تنفسا عميقا إن هو إلا نشيج وبكاء، بكاء الصامتين لا حول ولا قوة، وجدت أنفسنا نقترب من الرجل نحيط به مشفقين. أيدينا تطبطب عليه ونستخرج كنزنا الثمين، الشمعة الوحيدة التي نملكها وندخرها للحظات الحاجة القصوى، أشعلناها، بضوئها الذي بدا باهرا، مددت يدي ورفعتها من الكتف إلى الرأس أعدله وأرى الوجه.
كدنا نموت أنا وحمزة رعبا فكلانا طبيب ونعرف ماذا تعنيه تلك الصفرة المتكاثرة المتشاحبة التي لونت الوجه. الحدقات الواسعة المفتوحة وهي تمعن النظر في الفراغ وفي اللاشيء. ما لم ننبهه مات. انهلنا عليه بالأسئلة نستفسر إن كان قد ضرب وأين ضرب وفي أي مكان من جسده يؤلمه أكثر. قسنا النبض وعددنا مرات التنفس . الصدمة فعلا واضحة ولكن لا أدري أي إصابة في الجسد، لا جرح، لا خدش، لا بطن، منفوخ، لا شيء.
وتنفيذا للمعاهدة المعقودة مع الحارس الليلي ساومناه على كوب القهوة. أصر على عشر سجائر ونحن لا نملك إلا علبة. وافقناه على مضض كثير. أخيرا أصبح في يد الرجل كوب قهوة معجز المذاق في تلك اللحظة، وسيجارة «وينجز» بأكملها، وعلى ضوء الشمعة دماء قليلة بدأت تسري في الوجه الخراب، همهمة، تمتمة، تنهدات الكل يختلط بالكل والكلمات بالأصوات والإشارات ورفض أن يفصح.
نلح بكل ما نملك من طاقة إلحاح، والرفض البادي على هيئة صمت هو وحده الجواب. تشاورنا أنا وحمزة، نتركه؟ نخفف الوطأة عنه؟ نترك كل شيء للصباح؟ ولكن حب الاستطلاع فينا لا يمكننا نحن أنفسنا مقاومته، والإلحاح، إلحاحنا وإلحاح بقية الحجرات والزنازين كلما احتمى الرجل بصمته، وتداخلت رغبته في الإفضاء كما يتداخل حيوان القواقع إلى عمق القوقع كلما شعر بلمسة الأصبع. وبكل نعومة رحنا نداعبه، ثم، فجأة، تركناه.
تركناه.
Bilinmeyen sayfa