أنا «سلطان» قانون الوجود
جيوكوندا مصرية
البراءة1
لحظة قمر
حوار خاص
سيف يد
حكاية مصرية جدا
عن الرجل والنملة
أنا «سلطان» قانون الوجود
جيوكوندا مصرية
Bilinmeyen sayfa
البراءة1
لحظة قمر
حوار خاص
سيف يد
حكاية مصرية جدا
عن الرجل والنملة
أنا سلطان قانون الوجود
أنا سلطان قانون الوجود
تأليف
يوسف إدريس
Bilinmeyen sayfa
أنا «سلطان» قانون الوجود
لا أعتقد أن أحدا - خارج أسرة مدرب الأسود محمد الحلو - قد حزن لمصرعه مثلما حزنت.
ذلك أن القدر ليلتها ساقني لأدخل السيرك، وكانت ليلة الافتتاح، ولا أعرف لماذا، ولكني بعد رؤيتي لعبة الأسود تنبأت أن حادثا جللا لا بد سيقع، وأن قاهر الأسود محمد الحلو سيصرع على يد أو «ناب» أحد أسوده؛ بل بحت بالخاطر الحزين لمن كانوا معي، ووافقني بعضهم، بينما لم يكترث الآخر وكأن الأمر لا يعنيه.
وحين تنبأت بما تنبأت به لم أكن ساعتها أستعمل حاستي السادسة ولا كنت صوفيا قد أصيب فجأة بحالة وصل مع الذات العليا واتصال، ولا أعتقد كذلك أني ولي من أولياء الله.
بل حتى لم أكن أعاني من نوبة غربة تدفعنا أحيانا لتجريد الأشياء من دفئها المكنون وإفراغها من التفاؤل.
بصراحة، لم أكن ساعتها متأثرا بأي شيء خارج القمع الضوئي المتهرئ المكفي علينا، يقتطعنا من العالم، ويقطع العالم عنا.
وحينما لا يحدث الشيء صدفة، بل تكون أنت - أنت الإنسان العادي مثلي - على يقين أنه سيحدث.
وحين لا يحدث نتيجة خطأ أو إهمال.
حين يحدث وكأنه لا بد أن يحدث.
حينذاك من الممكن أن نقف عنده؛ لأن الأمر لا بد هام وخطير، ويصبح واجبا علينا أن نعود، كلنا هذه المرة، إلى ذلك القمع الضوئي المقلوب نعيش الظاهرة التي دارت أحداثها المروعة هناك، فمن يدري، ربما بعد أن نحياها نجلس، لأول مرة منذ زمن طويل على ما أعتقد نفكر، ليس في محمد الحلو وإنما في أنفسنا، من يدري، ربما تحدث المعجزة وحسنا أني كنت هناك، وأني شاهد عيان. •••
Bilinmeyen sayfa
نصف الألعاب مضت، كاللب، نقزقزه قطعا لليلة أولى من ليالي رمضان.
أثناء الاستراحة كان العمال قد أقاموا حلبة ترويض الأسود.
في هالة من فرقعة الأسواط والجئير الذي تضخمه الميكروفونات «ليرعب أكثر!» والصراخ والهدير وأصوات الغابة، دخلت الأسود. عبرت ذلك النفق الحديدي القائم بين محبسها في الكواليس وبين الحلبة، ذلك القفص الحديدي صدئ وقديم. هذا صحيح، ولكنه حديدي أصلي وزيادة في الاحتياط مربوط بحبل قديم إلى العامود الرئيسي لخيمة السيرك.
الأسود دخلت، أسود ستة، زيتية الصفار أو رمادية البنية أو بلا أي لون له اسم، متشابهة، كثرتها تمنع عنها جلال التفرد، وانكماشها يخلع عنها إحساس الملك أو حتى إحساس التوظف في قطاع عام.
ما لبثت الأسود جميعا بعد دخولها أن أخذت أماكنها على شكل نصف دائرة مقعية كتماثيل أسود قصر النيل، مادة أقدامها الأمامية فوق الحامل الخشبي الموضوع أمام كل منها. كل الأسود فعلت ذلك ما عدا الأسد قبل الأخير، ذلك الذي عرفنا فيما بعد أن اسمه «جبار»؛ فقد أقعى فوق منصته رافضا أن يمد أقدامه أمامه فوق الحامل.
وتولى مذيع أنيق، غريب الأناقة على المكان والناس والأجهزة وبائعي اللب والكازوزة، تقديم المدرب. وبصوت مؤدب، لا مبالغة في طبقاته (وهذا أيضا غريب) قال: الآن نقدم ... بطل الأسود ... وقاهر الملوك ... ملوك الغابة ... البطل محمد الحلو.
انصبت أضواء الكاشف الوحيد على الرجل الضخم الواقف بجوار القفص، والذي يلتحف بعباءة لامعة براقة، هذا صحيح، ولكن يبدو وكأنما استعيرت من متحف ملابس الممثلين بالمسرح القومي.
وكانت مفاجأة؛ فهذا الرجل قد رأيناه قبلا رئيسا لفريق «الجمباز» في لعبة سابقة، يقود فريقا من أكثر من عشرة أشخاص يتولون، ويتولى معهم القفز العالي والدحرجة والقيام بما يشبه المستحيلات، وهو عمل يكفي وحده لأن يقوم به إنسان واحد، المهم، فتح الباب الوحيد في القفص الحديد الدائري، ودخل الحلو، بعظمة ملك يلج قبوا للنبيذ، وتولى العامل إغلاق الباب وراءه بترباس متين.
لاحظ محمد الحلو على الفور أن «جبار» لا يمد قدميه كما ينبغي، ومن فوره اتجه إليه وحاول أن يصحح الخطأ لتصبح نصف الدائرة كاملة، نصف دستة من ملوك الغابة الرابضة المقعية الخانعة ، وهو بينها ، ملك الحلبة، وملك الملوك، وملك السيرك وملك الليلة.
تناول الحلو سيخا حديديا مدببا من طرفه، ولكن طرفه ذاك معلقة به قطعة لحم صغيرة جدا (عرفنا فيما بعد أنها ليست لحم عجول وإنما، لغلو الأسعار، فهي لحم حمير). وانقض الحلو بالحربة الملغمة بقطعة اللحم (وكأنها سيف المعز وذهبه) تجاه الأسد آمرا إياه، أن يمد قدميه. ولم يحدث سوى أن الأسد نام بمنتهى الحزم ورفض أن يستجيب. حاول الحلو مرة أخرى، نفس النتيجة. الحلو، فوق بطولته، رجل استعراض مدرب. إن مسألة التمرد أو الطاعة أشياء لا تهمه بالمرة، المهم أن ينجح العرض، وألا يبدو هذا التمرد الواحد واضحا للعيان.
Bilinmeyen sayfa
وهكذا نفض يدا من مسألة جبار بسرعة وبصرخة هائلة ركزت الأنظار عليه وعلى الأسود الخمسة دافعة أقدامها فوق الحامل الخشبي، وراكعة. وحينذاك فقط تولى محمد الحلو تقديمها. فكان أولها من ناحية اليمين «سلطان» الذي عرفنا الآن جميعا أنه هو المجرم الذي نهش جانب الحلو وأدى لمصرعه، وكان المتمرد اسمه جبار، والباقون أسماء من هذا الطراز الحائز على صيغ كثيرة للمبالغة.
كان على الحلو بعد هذا أن يرفع الحوامل الخشبية من أمام الأسود ليستعد لعرضها القادم.
وهنا فقط بدأت أنتبه.
كان يتقدم من الأسد، ناظرا في عينيه، آمرا إياه بهما على ما يبدو أن يمتثل، ثم بيديه، ودون أن يغير من نظرته، يتولى قذف الحامل بعيدا عن منطقة الخطر، وهكذا ...
وتمت المحاولات الأربع الأولى بنجاح، وعند جبار الذي كان حامله خاليا من أقدامه، ما كاد الحلو يقترب حتى زأر الأسد فجأة واقترب برأسه من المدرب هاما بالتقدم الأكثر.
وهنا لمحت ارتدادة خوف سريعة من المدرب.
وبدأت أنتبه أكثر.
ليس توقعا لما هو قادم من ألعاب.
وإنما لما هو أهم، لتلك النظرة الصادرة من عيني الأسد، والنظرة المنصبة تجاهها من عين الحلو. أحسست أن اللعبة الحقيقية الخطرة هنا، وأن في الوضع ما يزعج، على الأقل يزعجني أنا.
الليلة الافتتاح هذا صحيح. ومآزق الافتتاح معروفة، كم جربها أولئك الذين قدر لهم أن يكون عملهم ، مهما كان جهدهم أو ابتكارهم أو كدهم الخاص، مسألة تقديرها ليس في يد رئيس أو مجلس، إنما في يد جمهور، يقزقز اللب، ويجرع الكولا، وبمنتهى البساطة يصعد إلى السماء، أو يخسف أحيانا، بأعظم الأعمال قيمة، إلى أسفل سافلين.
Bilinmeyen sayfa
الليلة الافتتاح، والجمهور كثير، والأضواء هي الأضواء، والسيرك هو السيرك، ولكنه زمان، في أول إنشائه كان سيركا متلألئا، صاخب الجمهور، غني الأضواء. كان فعلا ذلك المكان الذي قصد بالسيرك أن يكونه. المكان الذي تدخله ليخلب لبك، لتعيشه تماما، تنسى نهائيا أن في الخارج حياة وأحياء ومشاكل.
وأيضا كان السيرك للاعبين حلبة صراع، أمام جمهوره الحافل تتفجر بطولاتهم، يغامرون حتى بالحياة وهم يتأكدون أن الموت في غمرة المجد والأضواء وإحساس النفس المصرية الممتد بالبقاء والخلد، شيء بالمرة، لا يخيف.
ونحن الآن في سيرك رمضان عام 72.
أنا شخصيا لم أكن أريد الدخول، ولكن لأنه على الأقل أمتع بكثير من مسرحيات الصيف التي تنفرد كل منها برائحة نتنة خاصة، فليكن السيرك.
ولكن أي سيرك!
إنك أحيانا لا تحس بالشيخوخة والكبر إلا حين تقابل زميل دراسة سابقا أو صديقا له نفس سنك. وحين دخلت الخيمة لم يكن في كل ما رأيته شيء سخيف أو عجوز أو غير عادي. المشكلة أن كل شيء كان طبيعيا وعاديا وكأنك داخل إلى ديوان حكومة أو تعبر حديقة عامة.
لم يدهمني ذلك الإحساس أنك انتقلت فجأة من عالم مطفي أو قليل البطولة والنور إلى عالم مليء بالوهج، بالخوارق، بالمعجزات، عالم يبهرك ويحفزك إلى الخوارق والبطولات.
فكأني فعلا انتقلت من شارع مزدحم إلى ميدان صغير مزدحم بالكراسي هذا صحيح، كثير الجمهور هذا صحيح، ولكن شيئا ما حدث للكشافات فجعلها مسلطة أساسا على الجمهور، تنير الحلبة، ولكنها بإضاءتها للمشاهدين تجعل من تلك الوجوه جزءا من العرض.
وأي وجوه؟
نفس الوجوه.
Bilinmeyen sayfa
المتزاحمون الغارقون في العرق أمام الجمعيات الاستهلاكية، في ممرات الأتوبيس وعلى سلالمه، المتوقفون فراغا لمشاهدة خناقة، الجاعلون من «السلطة» على مائدة الإفطار مسألة حياة أو موت، تفننا في صنعها، انتقاء لمكوناتها وبهاراتها ومخللاتها .
وجوه ...
وجوه كثيرة تلمح بينها وجوه الأشقة العرب، وتستمتع بمرأى الكروش المصرية المتكومة باسم الله ما شاء الله تصنع لكل كرش رجلا ورأسا وملحقات. النساء وقد بدأت مودة الطويل تنتشر، أقصد الطويل التخين، فقد بدا واضحا جدا آثار مربة خرز البقر، وإلا فهي آثار «العلف» أو شيء لا بد شبيه بالعلف.
وجوه، ظللت طويلا، والكشافات تنصب على معظمها، أتأملها، أتأمل ما يرتسم على ملامحها من تعابير، وعبثا ما كنت أحاول، فالأبخرة الدسمة المتصاعدة من معدات تجأر بمحتويات الإفطار، والعرق المتصبب من تلقاء نفسه من صدور وبطون بالكاد تلهث لتؤدي وظائفها، بالكاد إذا تجشأت تتجشأ.
أنوار كاشفة مكشوفة مسلطة على وجوه لا تعكس الضوء، بعضها بالدسم يمتصه، وبعضها لقلة التغذية يمتصه أيضا، وحلبة متربة، والحضور المسرحي لا وجود له؛ فلا جماعة، وإنما عائلات وأفراد لا يجمعهم ذلك الرابط العام الذي يخلق جو العرض ويحيطه، حتى المهرج من فرط ما نحت دوره من خطوط تؤكد دوره كمهرج، لا يهرج. العمال الذين يقومون بالإعداد للألعاب يرتدون «بدلا» لا بد أن أصلها كان شيئا آخر، ربما لباس صعيدي، ربما قلع مركب ربما ممسحة بلاط. زرقاء كل بدل العمال زرقاء. ولكن كل أزرق منها له لون، وفيها زرار، على الأقل لمحت زرارين، ومع هذا فجميع بنطلوناتها بلا زراير وبلا أحزمة أو بأحزمة تصلب الوسط فقط وتترك البنطلون يأخذ الوضع الذي يحلو له وينفتح من أمام بأي مطلق من الحرية يراه. المنضدة التي تقدم عليها لعبة الوقوف فوق الزجاجات والتي لو كان بها أي خلل ممكن أن تودي بحياة اللاعب، لا تصلح أصلا للارتكاز على أربع، وإنما لا بد لها من سنادات، ولا بد أن تتأمل حكمة الكون أو تفكر في اعتزال الدنيا وأنت ترى منضدة المطبخ تلك، التي لم تطل من عشر سنوات، وأربعة عمال بأربعة أقراص مدورة بأربعة بنطلونات مفتوحة بأربع جاكتات «زعر»، يدخلون، ليزنوا الأرجل الأربعة. ما فائدة أن أتحدث عن اللعبة نفسها إذا كان هذا هو حال المنضدة، وإذا كان حال اللاعبة التي تزامل اللاعب ومفروض أن تساعده أدهى؛ ذلك أنها سمينة إلى درجة مزعجة ترتدي جوربا من جوارب «الباليه»، جورب من سمك الجسد والأرجل والأرداف التي يحتويها ومن طول ما احتواها، تفتق في أكثر من مكان (ربما لهذا سموها؛ أي ذلك الغذاء المسمن، المفتقة). فأنا لن أتحدث عن اللعبة أو حتى لو كان صاروخ قد أطلقته فتاة كتلك من فوق منضدة كهذه المنضدة ليصل إلى القمر، حتى لو تمت بهذه الأزياء والمناضد والجوارب جراحة تحيل الدودة إلى إنسان، فالمعجزة، أي معجزة، تكون قد انتهت من نفسك قبل أن تبدأ، انتهت، وانتهت معها ليلة من ليالي العمر، فالسيرك قام، ليخلب اللب، ليبهر، لينقلك إلى عالم غريب حافل بالألوان والبطولات والجمال والمعجزات.
ولكن اللعبة الخطرة كانت قد بدأت.
لعبة ترويض الأسود. •••
هي لحظة.
ولكن ليلة كهذه يكفيها لحظة تحس فيها أنك حقيقة تنفعل وأنك حقيقة في سيرك.
ولكن، حتى هذه اللحظة أفسدها علي ذلك السؤال الملح: من أين جاءني ذلك الشعور أن شيئا ما سيحدث؟
Bilinmeyen sayfa
ملت على جارتي أهمس بألفاظ، فإذا بها تنظر لي باستغراب حقيقي؛ فهي الأخرى كان لديها نفس الشعور.
المسألة إذن ليست وهما. هناك في الجو شيء يخيم.
ليس وافدا من كون آخر.
ولا متسرب إلى القمع المقلوب من الخارج. شيء نابع من الحلبة ذاتها، وحتى ليس من شيء بعينه في الحلبة، في الحقيقة نابع من كل شيء تضمه الخيمة، من الحيوانات والكاشفات، والأشياء والبشر، من جارتي، ومني، ومنك أنت لو كنت هناك.
مضى الحلو يتحرك، يحيي، ينقل الأشياء داخل القفص، نفس الحركات التي تعود أن يفعلها من زمن طويل. لا جديد فيما يفعل، لا جديد في الليلة إلا عصبية ليلة الافتتاح المؤقتة المعهودة، حتى الوجوه، الوجوه كلها داخل القفص وخارجه ظل يراها حتى لم يعد يراها.
النظرة المتبادلة بينه وبين الأسد، سلطان كان أو جبار، هي فقط ذلك الشيء الجديد، في الليلة وفي حياته.
الرجل محبوس مع ستة أسود في قفص، وحياته كلها وهو مع الأسود في قفص.
والأسد ، بالتأكيد هو الأسد.
ولكن الرجل، هل الرجل هو الرجل؟
والرجل ليس الحلو وحده. الرجل هو كل من تضمه الخيمة، لاعبا أو عاملا، وعازفا ومتفرجا، هل الرجل نفس الرجل؟
Bilinmeyen sayfa
بينه وبين نفسه، بينه وبين أهله وجيرانه وأصحابه، أبدا لا تغيير، هنا فقط. هنا حيث يصبح وجها لوجه مع الخطر المروع الذي عمله أن يروضه، هنا يحس الرجل أن شيئا ما حدث. كأنه دائما يقول أنا البطل، حتى من غير أن يقولها كان يقولها بنظراته يقولها بمشيته، بقهقهاته، بالعاملين من حوله، حتى الأسود نفسها كانت تقولها. أنا البطل، القادر، الواثق المتأكد.
أيكون ما ينتابه هو لحظة شك؟ ولكن من يكون إذن إذا لم يكن البطل؟
من الآن، أنا؟ ...
كنت أرى الناس أكيلة عيش، وأفندية، وبورمجية، وجدعان، ولكن من بينهم أنا البطل. هم أيضا يرون أني البطل. يصفقون للبطولة حتى لو تجسدت في غيرهم، في شخصي أنا.
الآن حدث شيء. ألم يعودوا يرونني بطلا؟ أم هم لم يعودوا يريدون البطل، أي بطل؟ أيكون الأمر أني أنا شخصيا لم أعد أحفل أن أكون عليهم البطل؟ أيكون الكفر المزدوج قد حدث؟ كفرت أنا بهم وكفروا هم بي، وجميعا كفرنا حتى بوجود بعضنا البعض. والبطل مثل اللابطل، والميت كالحي، والحي كالميت، والمومس كالفاضلة، والحرامي كالشريف، الأمس كالغد، الأمل كاليأس.
إن البطل لا يولد وحده.
البطل يخلق.
ولا بد كي يوجد ويعيش أن يترعرع في ظل إحساس عام بضرورة البطولة، بروعة البطولة، بتفرد البطل.
ولا يمكن لفكرة البطولة أن تترعرع في جو عام كهذا وحدها.
البطولة قيمة، ولا بد أن توجد وسط محصول وافر من القيم.
Bilinmeyen sayfa
لا مجد للبطولة، بلا مجد للكرامة، بلا مجد للنبوغ، بلا مجد للشرف، بلا مجد للعمل الصالح.
وأيضا لا توجد البطولة، بلا جو عام تلعن فيه اللابطولة. تجتث كالحشائش الضارة منه، وتجتث معها حشائش سامة أخرى كالجبن كالتفاهة كالنفاق كالكذب.
أما حين «ينجح» الجميع، المجتهد، والغشاش والمزور والأبله والنابغ. حين يصبح لا فرق، لا أعلى ولا أسفل، لا أرفع ولا أحط.
حين تمضي الحياة بامتحان لا يرسب فيه أحد، ولا يتفوق أحد، ولا يفصل أحد. حين يحدث هذا. ماذا يبقى من الإنسان؟
وإذا كان هذا السؤال لم يعد يهتم أحد بأن يجيب عليه، بله، أن يطرحه، فإن هناك أناسا في حياتنا لا يستطيعون أبدا إهمال السؤال، فهو فارض نفسه عليهم فرضا ولا فكاك منه. هؤلاء هم تلك النسبة فينا التي تحيا وجها لوجه مع الخطر.
وبالذات مع خطر من هذا النوع.
فمحمد الحلو يواجه هذه الوحوش الضارية ويمنع خطرها بما يملكه من إرادة البشر وقدرتهم وما فيهم من بطولة أو قدرة على البطولة.
أليس من المهم إذن لمحمد الحلو أن يعرف، في تلك اللحظات التي ينغلق عليه فيها القفص ويصبح وحده أمام الخطر ولا مغيث، أن يعرف ماذا بقي فيه أو له.
ماذا بقي من البطل؟ •••
تصفيق الناس للألعاب في السيرك، له معنى مختلف عن أي تصفيق آخر، يحمل معنى إنسانيا عميقا جدا. هناك أبدا أنت لا تصفق مجاملة أو مجاراة. بصدق تصفق. والعمل الذي ينتزع منك التصفيق ليس أي عمل. كلما اقترب من قدرتك على القيام به بهت وفق أهميته. كلما استحال عليك القيام به بهرك وازدادت حدة تصفيقك.
Bilinmeyen sayfa
ليلتها كان للتصفيق في أذني وقع غريب. فمهما بلغت اللعبة أمامنا من مهارة، ومهما احتوت من إعجاز وبطولة، فالتصفيق حتى في أعتى موجاته كان دائما يبدو فاترا وكأنه صادر عن جمهور قد قرر بادئ ذي بدء، ألا يقيس أي شيء بمقياس قدرته عليه أو استحالته، وكان أي شيء وكل شيء يبدو مستحيلا تماما أو حتى ممكنا تماما. لا فرق.
كان في الحقيقة نوعا من تصفيق الخجل إذا لم تصفق. تصفيق أداء الواجب تدفعه كثمن التذكرة، كالضريبة، وأمرك لله.
وكانت مضخات اللاعبين تجأر قواها في محاولات مستميتة من أجل الوصول إلى مياه الجمهور العميقة وسحبها لتصعد إلى مستوى ما يقومون به من بطولات كي تنسكب بعد هذا شلالات حماس وإحساس وانبهار. ولكن المياه ظلت دائما أبعد من مدى المضخات، وأبعد.
ماذا كان قد بقي من البطل محمد الحلو؟ •••
ذلك الذي بدأ حياته في ساحة السيرك، صبيا يلعب، ويفرح أنه يلعب، وفوق هذا يكسب، ثم حالما بالبطولات يحلم، ثم بطلا يحقق الأحلام وبالسعادة القصوى يتمتع. الجمهور يجأر ويزأر طربا، وهو يقتل نفسه كي يجعله يجأر أكثر وأكثر. الدفء حوله وفي داخله. الحياة حلوة. الأمل عريض. حتى النقود بجلالة قدرها، وفي لحظات كتلك، لا تهمه بالمرة.
حين تختار أن تكون مروض وحوش، أو لاعب ترابيز، أو طيار اختبار وتجارب فصحيح أنك تأكل عيشا بهذه الوسيلة، ولكن لو كان أكل العيش وحده هو الهدف لما اخترت أيا منها أصلا، ولجأت، مثلما يلجأ أكيلة العيش إلى أي عمل آخر خال من أية خطورة كما يفعل الملايين من الناس أكلة العيش والأرزقية.
ذلك أنك تختار هذا العمل لتسعد ذاتك أولا ولتثبت لنفسك وللناس قدراتك.
فإذا لم يعد مهما أبدا لدى أناس أن تثبت بطولتك، ولا حتى لديك أنت نفسك.
فماذا يبقى منك؟
أكل العيش؟
Bilinmeyen sayfa
أجل، أكل العيش كان هو الإنسان الذي يواجه الأسود وحده في القفص المغلق.
الخيمة كلها أكلة عيش، متفرجين وعمالا وبائعي كازوزة، ولكن الذي وزع الأرزاق جعل الآخرين متفرجين.
كلهم يتفرجون.
ويصفقون.
ذلك التصفيق الفاتر.
الناجحون جميعا في امتحان الحياة.
النافضون يدهم من كل شيء، الضيقون بأي شيء، الراضون حتى عن السخط. والساخطون حتى على الرضا، الذين انسحبت منهم مياه الاندماج الحي العميق حتى أصبح مستحيلا أن يصلها خلجة انفعال أو نبضة حماس أو لحظة غضب.
أكل العيش وحده مع أكلة لحوم البشر.
والقفص الحديدي مغلق.
ومن بين أنيابهم عليه أن ينتزع لقمة عيشه. •••
Bilinmeyen sayfa
تلفت حولي.
لا تغير يذكر في انفعالات الوجوه.
لا أحد يعرف.
حتى هو نفسه، محمد الحلو، لا يعرف.
الوحيد، في الخيمة كلها الذي كان يعرف، هو الأسد نفسه.
الأسد ملك الغابة لأنه ملك الإحساس.
خطره الأعظم أن لديه القدرة دائما أن يعرف، وعلى وجه اليقين، إحساس من أمامه.
وإذا اشتم أنه خائف منه انقض عليه.
فالغابة ليس فيها إلا المخوف والخائف ، تلك هي العلاقة الوحيدة، ذلك هو القانون الأعظم.
كل خائف من حيوان يخيف بدوره حيوانا آخر.
Bilinmeyen sayfa
إلا الأسد.
الجميع يخافونه وهو لا يخاف أحدا.
الحيوان الوحيد الذي يخاف منه الأسد.
هو الإنسان.
أو بالضبط هو ذلك الإنسان الذي بما منح من ذكاء وإرادة وسلاح يستطيع أن يواجه الأسد وهو لا يمثل أنه خائف منه، ولكن حقيقة وصدقا غير خائف منه، بل ربما شاعر أنه الأقوى.
ولا بد لكي تروض الأسد أن تروض نفسك أولا بحيث تصل إلى الدرجة التي تواجه فيها أسدا أو عدة أسود وأنت غير خائف منها.
الأسد وحده أدرك أن ذلك الرجل، الرجل الذي يعرفه جيدا وتعود منه دائما أن يمد أصابع نظراته الغريزية إلى أعمق أعماقه فلا تنبئه الغرائز إلا بأن الرجل ليس فقط غير خائف منه ولكن يأمره وينهره ويملك إرادة وثقة بنفسه أقوى بكثير مما لديه؛ هو الملك، وأن عليه إن أراد البقاء أن يخاف ويطيع.
ولا بد للإنصاف هنا أن أذكر أن إنسانا آخر في الخيمة كان يعرف. ذلك الشاب الذي ما توقف لحظة واحدة عن الطواف حول القفص وملاحقة نظرات الأسود التي تلاحق الحلو. ذلك الشاب الذي عرفت فيما بعد أنه ابنه والذي خلفه. كان هو الآخر بغريزته العظمى يعرف ويدرك، فهو يعرف الأسود جيدا، رباها مع أبيه وصاحبها، ويعرف أباه جيدا، ويعرف لا بد كنه هذه النظرات الخارجة من عيون الأسود، ومعنى تلك النظرة التي تواجهها والخارجة من عيون أبيه.
وحتى ما تلا هذا من حركات لم تغير الموقف.
إن محمد الحلو مدرب قديم، باعه طويل، وجراب خبراته مليء، إن المسألة ليست شجاعة وبطولة فقط. إنها أيضا مليئة بالصنعة والحنكة والدهاء.
Bilinmeyen sayfa
ها هو يخرج من الجراب كل ما تملك أصابعه التي لا بد أصابتها رعشة خفيفة لا تلحظ، كل ما تملك أصابعه إخراجه. بقية الأسود تلعب، والجمهور يصفق، وكل شيء يمضي وكأن لا خطر البتة هناك. ولكن الرجل ليس نفس الرجل. إنه هذه المرة خائف. هكذا راحت تدق أحاسيس الأسد الغريزية وتؤكد. في يده الرمح المدبب المرعب ولكنه يرتعش. النظرة خارجة من عينيه ليست واضحة وقاطعة وحاسمة، إنها تتردد، إنها تحسب، إنها تراجع، إنها تحوم، أبدا ليست نفس النظرة.
تلك كانت الليلة الأولى.
الليلة التي أدرك فيها «جبار» هذا الإدراك.
ولكن الذي قتل محمد الحلو هو «سلطان».
وعضه في الليلة التالية.
فجبار حديث المعرفة بمحمد الحلو.
لا تزال العلاقة بينهما علاقة من يخاف من.
ولهذا كان هو أول من أدرك أن الآخر خائف.
أما «سلطان» فأمره مختلف. سلطان قضى عمره كله يعرف الحلو ويخاف منه، ويطيعه، والليلة الأولى، مثلها مثل كل الليالي الأخريات، مرت، وسلطان يقوم بما تعود القيام به من ألعاب، يأمره الحلو، فيطيع، يكافئه، بلحم الحمير، فيسعد. الحيوان الذي فيه كان غافلا مستسلما كالعادة للطبيعة الجديدة المتمدينة المروضة التي تكونت له. في الليلة التالية فقط، عرف سلطان.
فجأة وللمرة الأولى، يدب في غرائزه العميقة ذلك الشعور الذي لم يخالجه أبدا. الرجل؛ ذلك الرجل الذي يخاف منه، الليلة خائف.
Bilinmeyen sayfa
يقترب منه الحلو لأداء اللعبة.
يزأر.
يصبح لنظرة الرجل تشتت غريب لم يعهد.
ولو كان الأسد يعرف الاستنكار لاستنكر أن يحدث هذا.
فما حدث بالنسبة إليه شيء لا يصدق، إذا كان الأسد يعرف ما يصدق وما لا يصدق.
للأسف هو لا يعرف إلا لغة واحدة يتفاهم بها مع الكون والأشياء والحيوانات والناس من حوله، ومع الرجل حتى ذلك الرجل. لغة لا تحتوي إلا كلمة واحدة. كلمة لا وجود لها إلا في لغتنا نحن، ولكن الكلمة التي إذا جاءته من الرجل، أحس أنه أصغر وأضأل وأضعف وأجبن وأن عليه أن يرضخ. نفس الكلمة التي إذا رآها في عين الرجل أحس أنه هو الأقوى والأعظم والملك، وأن عليه أن يفتك.
لا. لم يكن يريد عض الحلو أو قتله.
ربما أراد أن يتأكد.
ربما أراد أن يستفز الرجل ليقرأ في عينيه نفس النظرة، الكلمة التي تعود إذا رآها أن يركع ويخضع.
أراد تماما كما يفعل المدرب حين يستفز الأسد برمحه ليزأر ليخيف المتفرجين كي يزدادوا تقديرا لبطولته، أراد أن يستفز محمد الحلو بانقضاضه أو بمخالبه أو بأنيابه، لينتفض له، مرة أخرى، ذلك الرجل الذي تعود أن يجبن أمامه.
Bilinmeyen sayfa
ولكنه ما كاد يستثير وينقض ويدفعه حتى سقط. حتى انهار تماما وهو في أقصى درجات الرعب، حتى أطبق على الخيمة كلها رعب أكثر من رعب الحلو نفسه.
وهكذا فجأة أدرك الحيوان العميق المستسلم لقيوده ومصيره وخوفه أنه كان مخدوعا، وأنه الأقوى والأعظم والمسيطر والملك.
واندفع ينهش لحم صاحبه المدرب، ويعضه، ويكسر قيوده ويستعيد نفسه.
ونستغرب بعد هذا لماذا صام «سلطان» عن الطعام وقضى الأيام التالية حزينا.
الحزن في رأيي كان سببه أنه أبدا لم يرد أن يحدث ما حدث.
إن الأسد حيوان ليس الغدر في طبعه.
وكالكلب، الوفاء عنده، غريزة.
وهو لم يقصد أن يغدر أو يفترس أبدا صاحبه.
أراد فقط، كل ما أراد، أن يستمر على وضعه خائفا من ملكه وصاحبه ومدربه وسيده. أراد، كل ما أراد، أن يجعله يشعره مرة أخرى أنه الأقوى والأقدر.
كان متأكدا أنه سيقابل هجمته بهجمة أشد منها.
Bilinmeyen sayfa
كان يعبث، كما تعود أن يعبث، حتى يناله العقاب، كما تعود أن يناله، ويسعد بعودته للخضوع والطاعة والذلة.
وحين سقط الرجل، حين سقطت الهيبة الضخمة وضاع الصولجان. حين لم يعد باقيا أمام سلطان إلا أن يحس بالشفقة على صاحبه فيطبطب عليه ويأخذ بيده وخاطره، لم يستطع للأسف أن يفعل. فالأسد، كالحيوانات، كالغابة في أساسها، لا يحس بالشفقة على أحد. ولو كانت الشفقة قانونا من قوانين الوجود لماجت الحياة وازدحمت بأشكال وأنواع وأنماط ركيكة عاجزة لا تصلح للحياة وإن كانت تصلح للشفقة. الأسد إذا لم يخف، خوف. إذا لم يخف أن يؤكل خوف بأن يأكل. وإذا لم يجد التخويف، أكل فعلا، وربما هذه هي طريقته في إظهار الشفقة. أن يأكل من لا يعتمد في بقائه حيا إلا على إحساس الآخرين بالرثاء والشفقة. •••
إلى المستشفى حملوا محمد الحلو ليموت طبا وعلاجا.
وإلى حديقة الحيوان أخذوا «سلطان» ليموت كمدا واكتئابا.
وكم آلمني ما حدث للحلو !
وكم آلم الناس الطيبين، من رأوا الفاجعة ومن لم يروها.
ولكن لأننا جميعا مشغولون بالإجابة على السؤال: لماذا يحدث للحلو ما حدث للحلو؟
ولماذا ينهش الحيوان المتوحش صاحبه الذي دربه وأطعمه ورباه؟
ولأننا جميعا لو استحلنا إلى أكلة عيش فسيكون مصيرنا أن تنهشنا أكلة اللحوم. والإنسان أثبت أنه على رأس أكلة لحوم البشر.
لأن الأمر كذلك.
Bilinmeyen sayfa
فإني أترك المشكلة لكم لتفكروا فيها.
ففي هذه اللحظة أنا قابع مع سلطان في حبسه الانفرادي، قاتلا، ومجرما، ومنبوذا، ومحل سخط الجميع وازدرائهم، قابع معه أتساءل، كما لا بد لذي العقل منا لو كان حيوانا، أو للحيوان منا لو كان ذا عقل أن يتساءل: ما هي جريمتي أيها السادة؟
أني عقرت الرجل وأرديته!
ما ذنبي وأنا لم أفعل إلا أني قمت بدوري كوحش عليه أن ينهش إذا خاف مدربه، وأن يلعب إذا أخافه المدرب؟!
أم كنتم تريدونني أن آخذها أنا الآخر هزلا، ويصبح الوحش الذي في نكتة، كما أصبح أي شيء نكتة.
إني آسف أيها السادة، شديد الأسف لما حدث لسيدي السابق، شديد الإعجاب بابنه الذي يعتلي الآن ظهور الأسود ويخيفها، آسف أيها السادة فقانون الغابة ليس قانونها فقط، إنه قانون الحياة والأحياء، ذلك الذي لم تستطع حتى أديان السماء كلها أن تلغيه.
إما أن تخاف وتركع أو تخيف وتقتل. في القفص وخارج القفص، فأنت مقتول إن ضعفت أو خفت، أو قاتل، وأنت المسئول عما تختار.
آسف أيها السادة، فأنتم وحدكم الذين تسخرون من هذا القانون وتضحكون، فإذا كان العالم يحياه حقيقة وقانونا وتحيونه أنتم سخرية ونكتا فالذنب ليس ذنب «سلطان».
ليس ذنبي.
وليس ذنب صاحبي محمد الحلو.
Bilinmeyen sayfa
صاحبي الذي خضعت له بطلا.
وحين أصبح آكل عيش مثلكم أرديته.
فأنا لست سلطان الأسد.
أنا سلطان قانون الغابة، وقانون الحضارة، وقانون الإنسان، وقانون كل الوجود.
جيوكوندا مصرية
إنها ليست أول مرة أحاول، ربما هي ثالث أو رابع مرة؛ فأنا أحس كلما أردت كتابتها أن اللغة التي استعملها أخشن وأصلب وأجوف بكثير من أن تستطيع التعبير عنها، أحس أن لغتنا، تلك التي نتحدث بها ونكتب خلقت لتصوير أحداث ضخمة وأحاسيس كبيرة الحجم كالصخر، أو حتى إذا صغرت فهي كالرمل أو الحصى، في حين أن ما أريد تصويره ناعم موسيقي رقيق دقيق كأنه الذرات العالقة بشعاع الضوء إذا سقط في غرفة مظلمة. لا، ليس حتى كعزف الكمان أو أنين الناي، إنما هو كاللحن الذي لا تستطيع سماعه إلا إذا خفت الضجة في الدنيا كلها أو سكن الكون تماما، ثم طهرت نفسك من كل ما يشغلها من هموم الأرض وأحاسيسها الترابية العابرة، واستحضرت في ذاتك المعاني الحقيقية للرحمة والحب والحنان والإنسان، المعاني الخالدة السرمدية التي يحيا البشر على أمل أن ذات يوم تتحقق، حينئذ فقط، وبعد طول معاناة في تهيئة النفس، وطول تأمل وسكون، ستجد نغما رقيقا واهن الضعف قد بدأ يتسرب إلى نفسك، ليس من أذنك فقط، وإنما من كل ذاتك ولكل ذاتك، يتسرب النغم تسربا لا يفعل أكثر من أن يحيل ذاتك نفسها إلى ذات النغم، حتى لتندمج معه في وحدة بالغة الشفافية.
أنى لي بكلمات تستطيع وصف هذا وكلماتنا صنعت لمعان محدودة واضحة لا شك فيها ولا اختلال، أنى لي بكلمات تستطيع وصف عشر الانفعال، والواحد على المائة من الارتجافة أو الخفقة الواهنة المرهفة التي يكاد السمع يتجاوزها؟
أنى لي بألوان أستطيع بها وصف لون «حنونة» المسيحية، ذلك اللون الذي لا هو أبيض ولا قمحي، ولا هو أوروبي ولا شرقي، لا هو صعيدي ولا من أقصى الشمال في بحري، لون حتى في مكوناته زرقة ليست زرقة الموات ولكنها كزرقة الفجر إذا شقشق، أو زرقة البحر إذا هجع وتحولت موجاته إلى نداءات وديعة تئوب إلى مستقرها عند الشاطئ خاشعة ساجدة تهيب بك أن ترتمي بحرا وتعب زرقته حتى النهاية.
وكيف لي أن أبدأ القصة وليس في ذهني بداية واضحة، إن هي إلا علاقات متصلة بين الناس ومنشأ مشترك، وطفولة، ثم صبا، و«شال» كموني باهت، وحجرة ليس بها أحد سوانا، وخبز مقدس، ثم إنجيل صغير الحجم كثير الصفحات ، مكتوب بلغة عربية لها طعمها الخاص.
وكنت في سن البلوغ، تلك التي تحس فيها أن هناك دنيا هذا صحيح، وهناك صبح وشمس وقمر، وهناك بلاد بعيدة قبل البحر المالح وعبر المالح وبعد المالح، «الطلمبات» بضخامتها السوداء الزيتية المهولة وصوتها المتئد الوقور المستمر، والماء المجذوب بسحر خفي وبكم هائل إلى فتحاتها والماء الهادر الغاضب المندفع الأرعن الخارج عنها، هناك الغربان والعصافير، وأولياء الله الصالحون، وهناك المصحف والآيات التي يجب عليك حفظها وكلها عن جنة شديدة الجمال غريبة، وعن نار جحيمية يقشعر لها بدنك، وثواب وعذاب ودنيا وآخرة، وهناك أيضا، وهذا هو المهم المباشر، خيزرانة الشيخ مصطفى المنكفئ العمامة إلى أمام أكثر مما يجب، ذي الأرجل الرفيعة المنتهية بركب كرءوس عيدان الكبريت، حين يضع ساقا رفيعة فوق ساق، ويتدلى حذاؤه حائل اللون فاغر الفاه، ويهز لك رأسا فوقها تهتز العمامة ويقول: سمع يا ولد. هناك شيء ما هذا صحيح. شيء لا نراه ولا نحسه، شيء آخر غير ليلة القدر، والموت، والحب الشديد الذي أكنه لأبي، شيء بإرادته مختلف لا يريد أن يظهر، ربما خوفا علينا؛ إذ ربما لو ظهر لمتنا من شدة الخوف والرعب والمواجهة، شيء آخر غير العفاريت، فالعفاريت رغم كل شيء فيها ما يضحك، ولكن هذا الشيء لا يبعث على الضحك أبدا. إنه قاس وقور مهيمن رحيم.
Bilinmeyen sayfa