وكانت كلمتي الأخيرة مصحوبة بإشارة قوية من يدي وخبطت على القضبان الحديدية التي أمامي قائلا: «إن الحكام لا يستمدون سلطانهم إلا من الأمة، ويفقدون كل حق في السلطان إذا تخلت عنهم الأمة.» وكانت القاعة ساكنة في أثناء دفاعي كأنها خالية، ولما فرغت من قولي تلفت حولي وكانت الوجوه ساهمة شاخصة نحوي، وكان عبد الحميد ينظر إلي حزينا واجما، وأما أمي وأختي فإنهما كانتا تبكيان بكاء مرا.
ونطق القاضي قائلا: «الحكم بعد أسبوع.» هكذا دائما! وكان وجهه هادئا كأنه يقول: «عليكم السلام.» وخرجت من قاعة الجلسة، ونزعت نفسي من حلقة أهلي وسرت مع حارسي حتى ركبنا العربة وفي قلبي عاصفة، وسارت العربة بي وأنا مطرق لا أنظر حولي حتى وقفت آخر الأمر عندما سجن الاستئناف.
الفصل الثامن والعشرون
لم تكن رهبتي من السجن في هذه المرة مثل الرهبة التي وقعت في نفسي عندما جئت إلى سجن الاستئناف أول مرة.
وبدأت تستولي علي حالة من التجرد والتأمل صرفتني عن كل شيء، ووطنت نفسي على أسوأ ما أتوقع، واتجهت بقلبي إلى الله تعالى أن يثبت جناني حتى لا يتزلزل، واستكثرت من الكتب حتى صارت لي مكتبة منوعة أستطيع أن أتنقل فيها كما أشاء، وكنت أقضي وقتي بين التأمل والقراءة والصلاة، وما أشقى الذين تخلو قلوبهم من الإيمان إذا ألحت عليهم الكروب.
ولما جاءني خبر حكم القاضي بعد أسبوع برفض المعارضة واستمرار حبسي لم أبتئس منه، بل عزمت على أن أصرف نفسي عن التفكير في المعارضة حتى لا أزعزع فكري بالانتظار والتلهف والتساؤل، وجمعت كل إرادتي لأستفيد من وجودي بالسجن، فكنت أنتهز كل فرصة للتحدث مع زملائي، ووجدت في ذلك ذخرا عظيما من التأمل.
كنت أشعر في أول الأمر كأن بيني وبينهم سدودا منيعة يتحصنون مني وراءها، أو كأن لهم قواقع ينكمشون فيها كلما أحسوا محاولتي في الكشف عن ضمائرهم، ولكني استطعت بعد حين أن أصل إلى قلوبهم وما فيها من صفحات مطوية في الظلمات، والذين لا يعرفون من الحياة إلا الجانب الوديع الهادئ الآمن لا يعرفون من حقائق الحياة إلا قليلا، فالصفحات المطوية في أطباق قلوب هؤلاء تروي قصص المآسي التي جفت دموعها، وتحجر قلبها، وكثيرا ما كنت أسأل نفسي هل ولد هؤلاء هكذا؟ لا. لا! لقد ولدوا أطفالا أبرياء كما يولد الأطفال بغير شك، وكان من أقرب نزلاء السجن إلى مودتي ذلك السجين رقم 92 الذي ذكرته من قبل، وهو الشاب المتهم بالقتل وكان اسمه «نوفل»، وكان لا ينقطع عن الضحك والغناء والمزاح مع علمه بأنه لا ينتظر في الحياة إلا ريثما تنظر محكمة النقض في أمره، وكان يتحدث عن حكم الإعدام كما لو كان فكاهة، وقد جمعت بيني وبينه ساعات النزهة في فناء السجن، وكنت أحس نحوه عطفا عجيبا، كما كنت أحس منه عطفا عجيبا، ولم أستطع أن أدرك السر الذي جعل منه رجلا سفاكا للدماء مع كل محاولاتي التدسس إلى أغوار قلبه، وقد عرفت من أحاديثي معه أنه نشأ يتيما منذ قتل أبوه في معركة من معارك القبائل بالصعيد، وأبى أهله أن يدلوا الحكومة على القاتل ليبقى حيا حتى يكبر ابن القتيل فينتقم لأبيه.
وظلت أمه تلقنه عقيدة الانتقام منذ صغره، حتى أصبح الثأر عنده إيمانا مقدسا، فلما صار شابا جعل كل همه أن يتربص بالرجل الذي قتل أباه حتى تمكن من قتله ذات ليلة.
وجاءني نوفل ذات يوم في ساعة النزهة، وانفرد بي قائلا: أرجوك أن توصي أحد أصحابك بشراء شمعتين لي.
فضحكت قائلا: أتخاف من الظلام؟
Bilinmeyen sayfa