بخور :
لا أظن ويظهر من المكاتيب التي أتتني أول أمس أنهم يرحلون في أوائل الصيف، وكانت فرنسا طلبت أن يعين والي الجبل من بيت شهاب، ولكن إنكلترا اعترضت على ذلك والدولة معها، ولا يبعد أن يعين الوالي من الخارج، وعلى كل حال، إله آبائنا معنا وهو يدبر كل الأمور لخيرنا.
الفصل الثامن والثلاثون
السلطان عبد العزيز
«ما هذه المدافع يا أمي؟ فقد عددت منها أكثر من تسعين مدفعا ولم أبتدئ من الأول!»
هذا ما قالته فتاة جالسة أمام منصبين من الطين، فيهما قصب قائم، عليه قفل من الحرير حسب اتساع الدواليب البلدية التي كان الحرير يحل ويلف عليها، وبيدها كوفية تكبه عليها حتى يصير أقفالا صغيرة، وهي في نحو العاشرة من عمرها، وليس في الغرفة التي كانت فيها غير صندوق عليه فرش، ولحف مطوية، وبعض آنية الطبخ من كانون وقدور وصحاف؛ غرفة حقيرة ولكنها نظيفة، لا ترى فيها ذرة غبار ولا رائحة خبيثة، بل بالضد من ذلك ترى أمامها خميلة فيها الرياحين العطرية والأزهار الجميلة الألوان من الريحان، والأفسنتين، والقرنفل، والفل، والياسمين، وقد تضوع أرجها في الغرفة وامتزج بهوائها الراح بالماء، وهناك ورد جوري ولكن أزراره تقطف قبلما تفتح لكي يخرج منها ماء الورد، فإن صاحب البيت بناء وأجرته كافية لمعيشة بيته، ولا سيما في ذلك الوقت؛ إذ ارتفعت الأجور لكثرة المباني التي كانت تبنى بمال الإحسان تشغيلا للناس، ولكنه كان يتقاضاها يوم السبت، ويسكر بها يوم الأحد، ويقضي يوم الاثنين نائما من أثر السكر، وهذا دأبه، فتضطر زوجته أن تسلك الحرير، وتخرج ماء الورد لمعيشة بيتها، وكانت تكتسب هي وابنتها ما يكفيهم.
فقال لها أمها: سمعت المدافع وأنا آتية، وسمعت الناس يقولون إنه مات السلطان عبد المجيد، والتقيت بالخوري عند مدخل البستان، فبست يده وسألته عن الخبر فقال إنه صحيح، وقد سمعه في البطركخانة ولكنه طمن بالي.
فنظرت الابنة إلى أمها مدهوشة، وقالت: «مات السلطان»، وحاولت أن تدرك معنى هذا الكلام فلم تدركه، فإنها تذكرت أيام الخوف الماضية حينما قتل رجل واحد، وكيف أنها هربت مع أمها وإخوتها إلى بيت خالها، وتأخر أبوها عن الرجوع إلى نصف الليل فقلقوا عليه، لكنها فهمت من قول أمها أن الخوري طمنها، وقال لها إنه ليس هناك ما يخشى منه، وهو رجل صالح وكل الناس يقبلون يده ويحترمونه لكبر سنه ولصلاحه، فصمتت ولم تقل شيئا، ولكنها بقيت تنظر إلى أمها من وقت إلى آخر لترى ما إذا كانت مطمئنة أو مضطربة.
وسمع كل أهالي بيروت صوت إطلاق المدافع، وكان جرجس يكيل ثوبا من القماش لامرأة اشترت منه عشر أذرع، وهو جالس متربعا في دكانه بسوق البزركان والدكان مرتفع عن أرض السوق قدر متر، وبابه غلقان: أحدهما يرفع إلى أعلى ويسند بعصوين، فيصير مثل مظلة فوق الدكان تقي الواقفين أمامه من الشمس والمطر، والآخر ينزل إلى أسفل فلا يكاد يصل إلى الأرض، وارتفاع الدكان عن أرض السوق مترا يقيه من السيل الذي يجري في أسواق بيروت كلما اشتد وقوع المطر فيها، فلما سمع أصوات المدافع ارتجفت يداه وأبطل الكيل ورد الثوب إلى مكانه، وخافت المرأة فسدلت منديلها على وجهها، وسارت في طريقها مسرعة، واتفق أن مر رجل من التجار الكبار في تلك اللحظة، وكان جرجس يعرفه فاستوقفه وسأله عن سبب إطلاق المدافع، فأسر في أذنه قائلا: مات السلطان عبد المجيد ونصبوا السلطان عبد العزيز. فسأله جرجس: هل من خوف علينا؟ فرفع التاجر راحتيه وأشار بشفتيه إشارة من يقول لا أعلم، ولكن الأمر لا يخلو من الخطر .
وكانت أعناق أصحاب الدكاكين المجاورة قد تطالت كلها ليسمعوا ما يقوله التاجر، ولم يكد جرجس يرى إشارته حتى نزل من دكانه ونزع الدروندين، وأنزل الغلق الأعلى ورفع الأسفل وأقفل الباب، فاقتدى به أكثر أصحاب الدكاكين، ولم تكن إلا دقائق قليلة حتى لم تعد ترى دكانا مفتوحا في تلك السوق، وأقفل كثيرون دكاكينهم في سائر الأسواق وأسرعوا إلى بيوتهم، وجعل الناس يتكلمون همسا ولا يجترئ أحد أن يرفع صوته، كأن آثار الجور والظلم رسخت في نفوسهم رسوخ الطبائع، وتوارثوها خلفا عن سلف، فلا يحدث حادث حتى تراهم يذعرون ويهربون إلى بيوتهم، كأنه بفعل عصبي منعكس لا دخل للإدارة فيه ولا لقوة أخرى من قوى العقل.
Bilinmeyen sayfa