55

Dünyanın Sonu

آخر الدنيا

Türler

وبكل تلك الثقة التي غزتني عدت أنظر إلى هدفي. كان الرجل قد اقترب حتى لم يعد بينه وبين الشجرة المعهودة سوى أمتار، وكان صوته واضحا وألفاظ مواله ومعانيه منتظمة ... وربما الغناء الذي بدأه وهو خائف قد عمل عمله ... وجعله يحس بالونس والطمأنينة ... فغناؤه كان قد بدأ يحفل بالنشوة، وكأنه يغني للغناء ذاته، ويقول «يا ليل» مسبحا بأبنوسية الليل وجلاله، و«يا عين» متحسرا على العين التي نامت، وحرمت نفسها من جماله.

وكان علي أن أقتل هذا الرجل المنتشي بمواله وغنائه بعد أقل من دقيقة زمن. ففوهة المدفع تتحرك معه، وعند الشجرة تماما سأحكم التصويب وأطلق الرصاصة.

وأقول كان علي أن «أقتله» فقط لمجرد القول. فالقتل ساعتها لم يعد له في نظري أي هالة أو بشاعة. كان قد أصبح شيئا عمليا بحتا. شيئا لن يكلفني أكثر من مجرد كتم أنفاسي والتنشين، وحركة صغيرة من سبابتي اليمني أجذب بها الزناد.

واقترب الرجل كثيرا، حتى لم يعد بينه وبين الشجرة سوى قصبة.

وكتمت أنفاسي، وبكل ما أملك من قوة، حاولت أن أحمل يدي برصاص الدنيا كله، حتى تكف عن ارتجافتها الرقيقة، ويظل الخط الواصل من منتصف الصدر إلى جهاز التنشين قائما ومستقيما ... وفي ثانية تصورت أن أبي قتل في نفس الليلة، وأن هذا الرجل قتله وقادم لتوه من هناك ولا بد من قتله ... حركة واحدة من الزناد وينتهي كل شيء، فأدخل عالم الليل من أرحب أبوابه ... حركة واحدة، ضغطة صغيرة.

ولا أعرف ما حدث بعد هذا على وجه الدقة.

كل ما أذكره هو ضوء القمر، وجلباب الرجل الأبيض الزاهي البياض، ومواله الذي بدا جميلا يكاد من جماله يوقف الطير على أشجارها تستمع، والشعور بالأمان والونس الذي كان مسيطرا عليه، والذي ظل مسيطرا عليه، حتى وهو يحاذي الشجرة ويبدأ في تجاوزها ... ربما لو كان قد خاف، ربما لو كف عن غنائه أو شعر بالخطر، ربما لو كنت قد آمنت إيمانا كاملا أنه قتل أبي، ربما لو كان حدث شيء خارج عن إرادتي وإرادته، شيء خدش سياج التحريم الذي يحيطه ويتحرك معه، ويتكفل بشل أي إنسان حوله عن أن يلحق به أذى. ربما لو كان قد حدث شيء من هذا لتغير كل شيء ... ولتغير مجرى حياته نفسه؛ إذ لا أستطيع إلى الآن أن أعرف لماذا لم يتحرك إصبعي تلك الحركة الصغيرة الهينة ويضغط على الزناد. وما سر هذا النداء الذي تصاعد من أعماقي، من أعمق أعماقي، من أقدامي وجوفي وأصابع يدي، وقمم شعري ... نداء لم أسمعه قبلا، ولم أكن أتصور وجوده، ولم أعمل له حسابا، ولا اعتقدت أنني - في آخر لحظة - سيتصدى لي هاتف من داخل نفسي يقول لي: حرام ... كلمة نتداولها ونقولها للغير ببساطة، ويقبلها الغير، أو يرفضها ببساطة أيضا. أما أن أقولها أنا لنفسي، وفي لحظة كتلك، فهو ما حيرني وما جعلني إلى الآن أحتار، وما أنبت العرق الغزير من كل مكان في جسدي، وما جعله بحورا في باطن يدي وباطن سبابتي بالذات ... تلك التي كان عليها أن تقوم بالعمل الحاسم في المهمة، عرق غزير لزج، كاد ينزلق معه المدفع من قبضتي، ويجعل سبابتي تنزلق على الزناد كلما أرادت أن تضغط. وهو أيضا لا بد سبب انزلاق إرادتي، كلما استجمعتها وقلت: الآن لأرد بها على النداء المتصاعد من داخلي يقول: حرام حرام! نداء ألعنه وأتساءل عن مصدره، وأستنكر أن تذيب كلمة كهذه كل طاقتي على الإرادة، ويصل ما تحدثه من شلل إلى آخر عقلة في إصبعي.

نداء أدركت قرب النهاية مصدره ... كان الرجل مصدره ... كلما رأيته مطمئنا يغني ويرفع عقيرته، وكأنما الوجود كله ملكه، أحسست أنه لا يضمر شرا، ولا يتوقع شرا. وكلما سمعت كلماته، وتعرفت عليها ووجدت لها معاني، وكلما رأيت جلبابه الأبيض وعمامته، والدقيق الذي طحنه، أحسست أن المسافة بيننا تتلاشى، وأنه يغني لي مثلا، أو يحييني، وأنه إنسان، وأنه حرام ... حرام ... حرام ... كل غنائه وخبطاته بالعصا على ظهر دابته، وهزات أرجله ورنات حنجرته، دون أن يقصد هو أو يعي كانت تصلني على هيئة نداء أمر واحد يقول: حرام، حرام. بل تكاثرت النداءات في النهاية؛ إذ إن أي شيء كان يفعله كإنسان كان يطلق نداء، حتى جلسته الآدمية المنتصبة فوق الدابة كانت تطلق نداء ... تكاثرت النداءات، حتى وجدتها في النهاية تصنع حوله سياجا لا يمكن اختراقه. وكأنه أينما يتحرك تتحرك معه دائرة حرام واسعة لا بد أنها احتوتني وشلتني، والتي بلغ من تأثيرها أنه حين أصبح قاب قوسين أو أدنى من الكوبري، ورآنا وألقى السلام، وجدت المدفع ينزلق من قبضتي ويسقط، ووجدتني أقول: سلام ورحمة الله.

وحين حاذانا ... وقال معتذرا عن مروره علينا راكبا: دستوركم يا رجالة.

وتصاعد من جانبي صوت كنت قد نسيته تماما، يقول: دستورك معك ... اتفضل.

Bilinmeyen sayfa