لم تستغرق العملية كلها سوى ثوان، ولكنها أخذت من عمري سنين أستعيدها، وأتأملها وفي كل مرة تخاطبني نفس الأحاسيس، وأرتجف تحت وقع القشعريرة نفسها، وأدوخ كما لو كنت أنا الذي شطرت البلطة رأسه.
ترى، أية قوة خفية تجعلنا نتألم إذا رأينا الغير يتألم؟ ونكاد نموت إذا رأيناه يموت؟ الشاب لم أكن أعرفه أو لي به صلة، ومع هذا؛ فقد ظل مصرعه يطاردني ويعذبني ... وكأني أنا القتيل، بل كان يصل عذابي إلى درجة أكبر ... وكأني أنا القاتل!
وإذا كنت قد روعت مرة لما حدث للشاب ليلتها، فروعي كان أكبر للدقائق القليلة التي أعقبت موته، وبالذات لرؤية وجه الغريب ... وجهه حين انتزع البلطة من مكانها الموغل في عمقه وبشاعته، ووقف يلهث ويستند إليها ... ويقلب نظره بيني وبين الخفير الذي كان قد تمدد على الأرض، لا نعرف إن كان إغماء أو رعبا أماته وأوقف قلبه ... يا له من وجه! ... ويا لبصابيص النار حين أضاءته، وجسدت خلجاته، وجعلت قشعريرتي تتحول إلى رجفة مسموعة لا يمكن إيقافها.
عيناه ... عيناه الضيقتان ما رأيتهما أبدا بهذا الاتساع، بل ما اعتقدت أبدا أن أي عين بشرية يمكن أن تتسع وتستدير، وتصل إلى ما وصلت إليه عين الغريب ... لو كان الغريب هو المقتول؛ لما أوصل الرعب عينيه إلى هذه الدرجة من الاتساع، ولما حدث لوجهه كل ما كان يعانيه من شحوب ... وكأنما الضربة التي فلق بها رأس الرجل قد فتحت بابا سريا له منه مارد أو جني ووقف قبالته يمسك هو الآخر بلطة، ويهم بتصويبها إلى أم رأسه ... لا بد أنه كان يرى فعلا شيئا كهذا؛ وإلا لماذا كان يسيطر عليه كل ما كان مرتسما في عينيه ونظراته الزائغة من رعب؟ ولا بد أنه كان في تلك اللحظة بالذات فاقد الإحساس بنفسه وبما يفعله، فقد كان يدير رأسه وينقل البلطة من مكان لمكان، ويلف ويدور ويفعل هذا بحركة شيطانية سريعة ما عهدتها فيه وليست من خصائصه. وكأنه قد أصبح غريبا آخر غير الغريب الذي صاحبني في رحلة الليل، أقسم أنه كان غريبا آخر ... غريبا لم أستبعد أن يرشق بلطته في رأسي بلا سبب، أو يرفعها ثم يهوي بها على الخفير الممدد، فيقسمه نصفين ... كان واضحا أن باستطاعته أن يفعل أي شيء، وهو في حالته تلك التي لا يدري فيها بما يفعله، بل كان واضحا أنه وصل إلى درجة لا يمكن إيقافه عندها، وإنما عليه أن يستمر يبطش ويقتل ويكسر الرءوس، وكأنما ليدافع عن نفسه ضد هذا الشيء الخارق المهول الذي كان منتصبا أمامه يخيفه ويرعبه، ويفقده من الرعب والخوف عقله.
وباستطاعتي أن أقول إنني والخفير قد نفذنا من تحت بلطته ليلتها بمعجزة. لقد كاد يدفعني وعيي لأن أضغط على زناد المدفع كما علمني، ولا أتركه حتى يفرغ في جسده كل رصاصه ... كنا أربعة كائنات حية، تسيطر عليها أقصى درجات الرعب ... رعب القاتل لا يقل عن رعب القتيل ... ورعب الخفير الفاقد الوعي من الرعب لا يقل عن رعب الغريب ... ورعب القاتل المحترف لا يقل عن رعب الصبي الخام المغامر، وكلنا في حالة دفاع عن النفس ... أنا مستميت على المدفع، والغريب مستميت على البلطة ... مستميت في البحث كالمجنون عن الشبح الذي يرعبه ... والخفير متشبث بإغمائه يحتمي به ولا يريد أن يفيق، ولو خير القتيل نفسه، لاستمات على ميتته مفضلا ألف مرة أن يموت مرة، ولا يعود للحياة؛ ليواجه ميتة البلطة مرة أخرى ... وحتى النار الموقدة كانت تقاوم الفناء بإحراق كيزان الأذرة وشيها ... والكيزان تقاوم النار ويدفعها الرعب عن المصير المحتوم لأن تئز وتشكشك، وتفرقع حباتها أحيانا، وكأنها تستصرخ النار بآخر رمق وتطلب النجدة ... رعب كامل من الموت، وتشبث كامل بالدفاع عن النفس في وسط ليل قد اشتدت ظلمته في محاولة أخيرة للوقوف أمام النهار الطالع. والشاهد الوحيد المحايد قمر أفطس الأنف مخنوق كالمشفق علينا مما نخوضه ... كالحزين على المصير.
حتى بدأنا نشم رائحة لحم آدمي مشوي، تختلط برائحة الذرة المشوية وتملأ المكان. •••
وفجأة، بدأنا نتحرك.
وبدأت الحركة بضربة من قدم الغريب أعادت الخفير إلى صوابه وأوقفته ... وتعاون الرجلان على حمل القتيل، وإطفاء النار التي كانت قد بدأت تسري في لحم ذراعيه وملابسه ... وحملت أنا المدفع والبلطة وسارا أمامي بحملهما ... ولم نذهب بعيدا، فبعد بضعة أمتار وصلنا إلى ساقية مهجورة ... واحدة من تلك السواقي التي كانت تستعمل لاستخراج الماء من جوف الأرض حين يشح ماء النيل، والتي بطل استعمالها من زمن ونبتت حولها الحشائش، وأصبح ماؤها آسنا له لون الزيت المعدني ورائحته ، لتبدأ تدخل في حوزة الليل وأبنائه، تؤخذ عندها المواعيد وتخفى في مياهها المسروقات. وحتى ذلك الوقت لم أكن أعرف أنها تستخدم أيضا كمقبرة لمن لا يستحب أن تحويهم المقابر ... مقبرة تلقى فيها الجثة بعد ربطها بحجر ... وتتكفل مياهها بالتهام لحمها وعظامها وما ترتديه في أيام!
وعدنا في موكب صامت، أنا في المقدمة والخفير وسطنا والغريب في المؤخرة ... وقد انتقلت إليه البلطة والمدفع. وسرعان ما اختفى الخفير بعد أن تبادل معه الغريب همسات، وأكملنا السير وحدنا.
وظللنا فترة لا نتحدث. وكان الغريب أول من نطق، وبدأ كلامه بنبرة عادية، وبلهجة حاول فيها أن يعتذر عن اضطراره لإشراكي في تلك اللعبة الخطرة؛ فقد كان لا بد له من قتل شلبي ... ولم يكن أمامه من يستعين به سواي.
Bilinmeyen sayfa