قَالَ: فَبَكَى هَارُونُ الرَّشِيدُ، ثُمَّ قَالَ: يَا أَبَا نَصْرٍ، إِنَّ رَعِيَّتِي وَدَهْرِي غَيْرُ رَعِيَّةِ عُمَرَ وَدَهْرِهِ، قَالَ: يَقُولُ لَهُ أَبُو نَصْرٍ: وَاللَّهِ إِنَّ هَذَا غَيْرُ مُغْنٍ عَنْكَ، فَانْظُرْ لِنَفْسِكَ، فَإِنَّكَ وَعُمَرَ تُسْأَلانِ عَمَّا خَوَّلَكُمَا اللَّهُ.
قَالَ: فَدَعَا هَارُونُ بِصُرَّةِ مِائَةِ دِينَارٍ، وَقَالَ: ادْفَعُوهَا إِلَى أَبِي نَصْرٍ، فَقَالَ أَبُو نَصْرٍ: مَا أَنَا إِلا رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الصُّفَّةِ، ادْفَعُوهَا إِلَى فُلانٍ يُفَرِّقُهَا بَيْنَهُمْ، وَاجْعَلْنِي رَجُلا مِنْهُمْ
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ أَبِي فُدَيْكٍ، قَالَ: " أَجَدَبَتِ الْمَدِينَةُ، وَاخْتَلَّ أَهْلُهَا، وَسَاءَتْ حَالُهُمْ، وَتَكَشَّفَ قَوْمٌ مَسْتُورُونَ، وَخَرَجَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ، فَمَرَرْتُ بِسُوقِ الطَّعَامِ، وَمَا فِيهَا حَبَّةُ حِنْطَةٍ، وَلا شَعِيرٌ، وَإِذَا أَبُو نَصْرٍ جَالِسٌ مُنَكَّسَ الرَّأْسِ، فَقُلْتُ لَهُ: يَا أَبَا نَصْرٍ، مَا تَرَى فِي أَهْلِ حَرَمِ رَسُولِ اللَّهِ ﵌، قَالَ: بَلَى.
قُلْتُ: أَفَلا تَدْعُو اللَّهَ لَعَلَّهُ يُفَرِّجُ مَا هُمْ فِيهِ؟ قَالَ: بَلَى. . . وَحَوَّلَ وَجْهَهُ إِلَى الْقِبْلَةِ، وَقَالَ لِي: اجْلِسْ عَنْ يَمِينِي، فَجَلَسْتُ.
قَالَ: فَانْكَبَّ فَعَفَّرَ وَجْهَهُ فِي التُّرَابِ، ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ، فَقَالَ: اللَّهُمَّ فَارِجَ الْهَمِّ وَكَاشِفَ الْغَمِّ، مُجِيبَ دَعْوَةِ الْمُضْطَرِّينَ، رَحْمَانَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَرَحِيمَهُمَا، صِلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِ مُحَمَّدٍ، وَفَرِّجْ مَا أَصْبَحَ فِيهِ أَهْلُ حَرَمِ نَبِيِّكَ، ﵌، ثُمَّ غُلِبَ فَذَهَبَ، وَقُمْتُ مِنْ عِنْدِهِ.
قَالَ: فَوَاللَّهِ مَا خَرَجْتُ مِنَ السُّوقِ حَتَّى رَأَيْتُ الشَّمْسَ قَدْ تَغَطَّتْ، فَرَفَعْتُ رَأْسِي فَإِذَا رِجْلُ جَرَادٍ أَرَى سَوَادَهَا فِي الْهَوَى، فَمَا زِلْنَ يُسْفِلْنَ، وَأَنَا وَاقِفٌ أَنْظُرُ حَتَّى امْتَلَأَتِ الْمَدِينَةُ، فَاسْتَغْنَى كُلُّ قَوْمٍ بِمَا فِي دَارِهِمْ مِنْ جَرَادٍ فَحَشَوا الأَجْوَافَ.
قَالَ: فَطَبَخَ النَّاسُ، وَمَلَّحُوا وَقَلا مَنْ قَدَرَ عَلَى الزَّيْتِ، وَمَلَأَ النَّاسُ الْحِبَابَ وَالْجِرَارَ وَالْقَوَاسِرَ وَأَلْقَوْهُ فِي جَانِبِ بُيُوتِهِمْ.
ثُمَّ نَهَضَ بَعْدَ ثَالِثَةٍ فَانْتَشَرَ فِي أَعْرَاضِ الْمَدِينَةِ، وَلَمْ يَخْرُجْ عَنْهَا إِلَى غَيْرِهَا، ثُمَّ مَا مَرَّتْ بِنَا ثَلاثٌ حَتَّى جَاءَنَا عَشْرُ سَفَائِنَ دَخَلَتِ الْجَارَ، فَإِذَا هِيَ قَدْ دَخَلَتْ فِي الْوقْتِ الَّذِي دَعَا فِيهِ أَبُو نَصْرٍ، فَرَجَعَ السِّعْرُ إِلَى أَرْخَصِ مَا كَانَ، وَرَجَعَتْ حَالُ النَّاسِ إِلَى أَحْسَنِ مَا كَانَتْ.
قَالَ: فَأَتَيْتُ أَبَا نَصْرٍ، وَهُوَ فِي مَسْجِدِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، فَقُلْتُ يَا أَبَا نَصْرٍ: أَمَّا تَرَى إِلَى بَرَكَةِ دُعَائِكَ؟ فَقَالَ: لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ، هَذِهِ رَحْمَةُ اللَّهِ الَّتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ
1 / 49