Fikirler ve İnsanlar: Batı Düşüncesinin Öyküsü
أفكار ورجال: قصة الفكر الغربي
Türler
ولعمري إنها لمهمة شاقة. إن مؤرخ الفكر يحاول أن يستنبط مجموعة مركبة من العلاقات بين ما تكتبه قلة من الأفراد وما يقوم به فعلا كثير من الأفراد. ومن اليسير عليه - على الأقل في الخمسة والعشرين قرنا الماضية من تاريخ المجتمع الغربي - أن يكتشف وأن يحلل ما كتبته القلة وما قالته. وقد لا يبلغ هذا السجل حد الكمال، ولكنه يصل إلى درجة نادرة من الإجادة، حتى فيما يتعلق باليونان والرومان، وذلك بفضل الجهد الذي بذلته أجيال متعاقبة من الباحثين. غير أن مهمة مؤرخ الفكر ظلت شاقة حتى أمدته المطبعة والتعليم العام في الصحف والمجلات والرسائل وما إليها بسجل لما فكر فيه وأحس به عامة الناس؛ فقد يستطيع المؤرخ أن يصف في وضوح رأي الناس على اختلاف طوائفهم في أدولف هتلر، سواء أكانوا في ألمانيا أم في خارجها، غير أنه لا يستطيع البتة أن يعرف رأي الملايين من عامة الناس - الذين لم يسمع بهم أحد في العالم اليوناني الروماني - في يوليس قيصر؛ فلم يكن ثمة استفتاء للرأي العام كاستفتاء «جالوب» في أمريكا، ولم تكن هناك رسائل لرؤساء تحرير الصحف أو مجلات شعبية. غير أن مؤرخ الفكر - برغم هذا - لا بد أن يبذل جهدا في رسم صورة متكاملة يجمعها من شتيت المصادر للطريقة التي كانت تسري بها الأفكار في صفوف الجماهير؛ إذ كان يتحتم عليه ألا يحصر نفسه في تحليل الأفكار في صورة أفكار أخرى.
وفي الحق أن هناك ما يسوغ حصر تاريخ الفكر فيما أسماه المرحوم ج. ه. روبنسن: «الطبقات المثقفة». وقد عرف الأستاذ بومر بجامعة ييل الطبقة المثقفة ب «أنها لا تقتصر فقط على الفئة الصغيرة نسبيا من المفكرين والمبتكرين العميقين فعلا، أو على المحترفين وحدهم من الفلاسفة ورجال العلم والدين، والباحثين عامة، وإنما هي تشمل أيضا رجال الأدب والفن المبدعين، وناشري الأفكار، والجمهور القارئ الذكي.» وبعبارة أخرى نستطيع أن نقول إنه من المعقول أن نحصر تاريخ الفكر فيما يقوم به المثقفون من أفعال وأقوال وكتابات. وبالرغم من هذا فإن تعريف الأستاذ بومر يبدو ضيقا بعض الشيء. ثم إنه مما لا شك فيه أن الأفراد غير المثقفين - حتى بالمعنى اللفظي الذي يتصل بالبحث وقراءة الكتب - والأفراد غير الأذكياء، يتقبلون الآراء التي تتصل بالحق والباطل، ولهم أهداف يمكن أن يعبر عنها باللفظ، بل هم يعبرون عنها فعلا، كما أنهم يتأثرون بكل ضروب العقائد، والمذاهب، والخرافات، والتقاليد، والعواطف. إن تاريخ الطبقات المثقفة يستحق التدوين، ولكنه لا يشمل كل تاريخ الفكر، أما إن كان يشمله بأكمله فلا بد من البحث عن عنوان آخر لما يتعرض له هذا الكتاب.
إن مصادر دراسة الأفكار (بأوسع معانيها) التي تعتنقها عامة الناس متعددة في الواقع. ومن الجلي أن الأدب ليس على درجة من التفكير المجرد أو من المستوى الرفيع كالعلم أو الفلسفة الشكلية. وما بقي لدينا من الأيام التي سبقت الطباعة هو - بطبيعة الحال - مما يتصل نسبيا بالمستوى الرفيع؛ فلدينا من عهد الإغريق والرومان والعصر الوسيط، بل ومن عصر النهضة، ما هو أقرب إلى مستوى «النيويورك تايمز» منه إلى المختصرات الموجزة، أو أقرب إلى برنارد شو منه إلى «آني الصغيرة اليتيمة». غير أنه لا يزال لدينا - برغم هذا - قدر كبير من الواضح أنه أقرب إلى مستوى الأرض منه إلى سماء الفلسفة؛ فنستطيع أن نتصل بسقراط الفيلسوف كما ظهر لتلميذه أفلاطون إذا نحن قرأنا «السحب» لأريستوفان، وهي مسرحية يسخر فيها كاتب شعبي ناجح من سقراط. ونستطيع أن نتعرف الأفراد في العصور الوسطى من رجال ونساء لا كما وصفهم الفلاسفة ورجال الدين، ولكن كما وصفهم رجال الدنيا كما فعل شوسر في «حكايات كانتربري».
لقد خلف الرجل العادي - حقا - آثارا كثيرة غير تلك التي وصلت إلينا فيما نسميه الأدب؛ فليس لدينا في الديانات علوم الدين فقط - وأعني بها العناصر الفكرية الأوضح التي تقابل ما يسمى الفلسفة في أمور الدنيا - وإنما لدينا كذلك الطقوس، وما نؤديه كل يوم ، بل ولدينا كذلك ما نسميه - إذا جعلنا من أنفسنا حماة للتراث القديم - خرافات العصور الوسطى والقديمة. وإن جانبا كبيرا مما لا بد أن يستند إليه مؤرخ الفكر هو مما جمعه المختصون الذين نسميهم المؤرخين الاجتماعيين، وهم أولئك الذين أخذوا على أنفسهم واجب البحث عن الأسلوب الذي كانت عامة الناس من جميع الطبقات تعيش فعلا وفقا له. ولم يهتم هؤلاء المؤرخون الاجتماعيون في أغلب الأحيان فقط بما كان الرجال والنساء يأكلون ويلبسون ويفعلون لكسب عيشهم، وإنما اهتموا أيضا بما كانوا يعتقدون خطأه أو صوابه، وبما كانوا يتطلعون إليه في الدنيا والآخرة. وكم من مؤرخ اجتماعي انقلب - بمعنى ما - إلى مؤرخ للفكر، يركز اهتمامه فيما كان يدور في خلد رجل الشارع العادي.
ومن ثم فإن الواجب الكامل لمؤرخ الفكر هو أن يجمع في صورة كاملة مفهومة المواد التي تنحصر فيما بين الآراء المجردة الفلسفية وأفعال الناس المحسوسة. وهو في أحد أطراف مجال بحثه يقترب من الفيلسوف، أو على الأقل من مؤرخ الفلسفة، ويقترب في الطرف الآخر من المؤرخ الاجتماعي، أو حتى من المؤرخ العادي، الذي يهتم بحياة الناس اليومية. غير أن واجبه الخاص هو أن يجمع بين الطرفين، وأن يتابع الأفكار في مسيرها المتعرج في أكثر الأحيان من حجرة الدرس أو المعمل إلى السوق، والنادي، والبيت، وساحة القضاء، وحجرة التشريع، ومائدة المؤتمر، وميدان القتال.
وعندما يقوم مؤرخ الفكر بهذا الواجب الضخم قد يجد نفسه غازيا لميدان جديد من الدرس مهد له من قبل الباحثون، وذلك هو الميدان الغامض الشامل الذي ألفنا أن نسميه فلسفة التاريخ. إن فيلسوف التاريخ يحاول أن يستخدم علمه بما حدث في الماضي لكي يحل جميع ما يكتنف مصير الإنسان من ألغاز. والفلسفة الكاملة للتاريخ (كأي وككل فلسفة أخرى) تستهدف أن تقدم إجابات نهائية عن كل «المشكلات الكبرى»: ماذا هي الحياة الطيبة؟ وكيف يستطيع الناس أن يحيوا الحياة الطيبة؟ وما هو الأمل في إمكان حياة الناس حياة طيبة؟ أو في كلمة موجزة، أين نحن، وإلى أين المسير؟
وسنحاول أن نبين في فصل متأخر من هذا الكتاب لماذا كانت - في منتصف القرن العشرين - أكثر النظم الفلسفية الشائعة في واقع الأمر فلسفات للتاريخ، وأن أسماء شبنجلر وسوروكين وتوينبي معروفة حيثما نوقشت أمور الفكر في أعلى مراتبها. ويكفينا في الوقت الحاضر أن ننبه إلى أن مؤرخ الفكر ينبغي له أن يتحاشى أن يرتدي لبوس المتنبئ وفيلسوف التاريخ مهما اشتد إغراؤه في هذا الاتجاه. وسوف يكون عمله أجدى لو حصر نفسه في مهمة البحث عن الطرق التي أجاب الناس بها عن المشكلات الكبرى - الحياة، والمصير، والحق، والصدق، والله - فتأثرت إجاباتهم على سلوكهم بشكل ظاهر. وهي مهمة أشق وإن تكن أكثر تواضعا. وقد يكون لمؤرخ الفكر رأيه في بعض هذه المشكلات الكبرى على الأقل، بل لا بد أن يكون له هذا الرأي إذا كان إنسانا طبيعيا. ولكنه لو أخلص لتقاليد العلم والبحث كما نضجت لمؤرخ اليوم لبذل أقصى جهده في الاحتفاظ بآرائه الخاصة حتى لا يكون لها تأثير في روايته لآراء غيره.
وفي فصول قادمة من هذا الكتاب سوف أعود بشيء من التفصيل لهذه المسألة كلها، مسألة الطريقة العلمية والموضوعية، وعلاقتهما بدراسة سلوك الإنسان، ويكفيني هنا أن أنبه إلى أن تاريخ الفكر كما عرضته في هذا الكتاب لا يساق للإجابة عن كل المشكلات التي تحيط بالإنسان الحديث، وإنما أسوقه لكي أعين على تقديم بعض هذه المشكلات بصورة أوضح، وربما كان ذلك بقصد الإشارة إلى النتائج التي يحتمل أن تحدث في أثر المحاولات العديدة التي تبذل لحل هذه المشكلات.
وفي الحق يجب أن يتنبه القارئ إلى أن مهمة تتبع ما كان - وما يزال - للأفكار من أثر في جميع الجماهير في المجتمع الغربي، لا يمكن إلا أن تؤدى بصورة ناقصة؛ فالمصادر التاريخية قبل العصور الحديثة إما غير ميسورة وإما من العسير جمعها. وليس الأمر كذلك فحسب؛ لأن المتخصصين ذوي الكفاية قد يستطيعون - إذا ما وجهوا اهتمامهم إلى هذه المشكلة - في الأجيال القليلة القادمة، أن يقوموا بعمل يسدون به هذا النقص في المادة. وإنما هناك صعوبة أخطر ؛ فنحن لا ندرك حتى الآن حق الإدراك - بالرغم من جهود علماء النفس والاجتماع والفلاسفة - ما يدور في عقول الناس وأفئدتهم، وكيف يتحركون نحو العمل، أو نحو السكون.
وعلاوة على ذلك فإن الأفراد الذين بذلوا وقتا طويلا في دراسة هذه المشكلات لم يتفقوا - على أية صورة من الصور - فيما يتعلق بالدور الذي يلعبه في السلوك البشري العقل، والمنطق، والأفكار، والمعرفة، مقابل الوجدان، والعاطفة، والدوافع، والبواعث.
Bilinmeyen sayfa