Fikirler ve İnsanlar: Batı Düşüncesinin Öyküsü
أفكار ورجال: قصة الفكر الغربي
Türler
1 - تمهيد
2 - المنبع الهليني
3 - أزمة الثقافة الإغريقية
4 - عالم واحد: الثقافة الكلاسيكية المتأخرة
5 - مذهب المسيحية
6 - العصور الوسطى (أولا)
7 - العصور الوسطى (ثانيا)
8 - صنع العالم الحديث: (أولا) الإنسانية
9 - صنع العالم الحديث: (ثانيا) البروتستانتية
10 - صنع العالم الحديث: المذهب العقلي
Bilinmeyen sayfa
11 - القرن الثامن عشر: نظرة كونية جديدة
12 - القرن التاسع عشر: (أولا) النظرة الكونية المتقدمة
13 - القرن التاسع عشر: (ثانيا) الهجوم من اليمين ومن اليسار
14 - القرن العشرون: هجوم اللاعقليين
15 - منتصف القرن العشرين: عمل لم يتم
1 - تمهيد
2 - المنبع الهليني
3 - أزمة الثقافة الإغريقية
4 - عالم واحد: الثقافة الكلاسيكية المتأخرة
5 - مذهب المسيحية
Bilinmeyen sayfa
6 - العصور الوسطى (أولا)
7 - العصور الوسطى (ثانيا)
8 - صنع العالم الحديث: (أولا) الإنسانية
9 - صنع العالم الحديث: (ثانيا) البروتستانتية
10 - صنع العالم الحديث: المذهب العقلي
11 - القرن الثامن عشر: نظرة كونية جديدة
12 - القرن التاسع عشر: (أولا) النظرة الكونية المتقدمة
13 - القرن التاسع عشر: (ثانيا) الهجوم من اليمين ومن اليسار
14 - القرن العشرون: هجوم اللاعقليين
15 - منتصف القرن العشرين: عمل لم يتم
Bilinmeyen sayfa
أفكار ورجال
أفكار ورجال
قصة الفكر
الغربي
تأليف
كرين برنتن
ترجمة
محمود محمود
مقدمة
بقلم محمود محمود
Bilinmeyen sayfa
إن من دلائل النهضة المعاصرة في الشرق العربي هذه الحركة القوية في الترجمة التي تستهدف نقل كل ما وصل إليه الإنسان في أي ركن من أركان الأرض إلى لغتنا العربية، من أدب، وعلم، وفن، وفلسفة، وتاريخ، وغير ذلك من المعارف الإنسانية؛ لكي تنشر هذه الأفكار بين الناس وتختلط بتراث غني خلفه لنا أسلافنا الأمجاد، فتنبت نباتا طيبا جديدا، نرجو أن يكون دعامة التقدم في هذه البلاد ذات الحضارات القديمة، كما نرجو أن يكون هذا المزيج الثقافي الجديد، الذي يجمع بين ما يكشفه الإنسان بعقله وما يكشفه بقلبه وبصيرته، هاديا للبشرية ومنقذا لها من الضلال الذي تتردى فيه، ومن حالة القلق التي تساوره.
وبالرغم من أننا كنا نود أن تتلفت هذه الحركة إلى الشرق فتنقل إلينا تراث الهند والصين والفرس، وإلى الجنوب فتعرفنا بتفكير الإنسان الأفريقي، كما تلفتت إلى الشمال والغرب، إلا أنها اتجهت في الواقع بأكثر جهدها نحو الغرب وحده فأعطتنا صورة واضحة عن حكمة الإغريق، وسياسة الرومان، ومعالم النهضة الأوروبية ، واتجاهات الفلسفة والعلوم الحديثة.
وقد انتقلت إلينا هذه المعارف في أغلب الأحيان في صور شتيتة لا يكاد يربط بينها رابط؛ فهذا علم، وهذا فن، وهذه فلسفة، إلى غير ذلك دون أن ندري إن كان بالعقل الذي أنتج كل ذلك ميزة معينة، أو خصيصة ذاتية يتفرد بها بين عقول الأمم الأخرى ولا ندرك مقدار تغلغل هذه الأفكار في أذهان عامة الشعب وتأثرهم بها.
ثم وقع بين يدي هذا الكتاب، الذي كان أول صدوره في عام 1950م، لمؤلفه كرين برنتن، أستاذ التاريخ في جامعة هارفارد بأمريكا، وتصفحته فوجدت أنه يسد هذه الثغرة، ويحاول أن يميز الفكر الغربي بصفة خاصة اتصف بها منذ أقدم العصور حتى اليوم، فرأيت أن أقوم بنقله إلى اللغة العربية، وشجعتني على ذلك مؤسسة فرانكلين بالقاهرة، التي سوف تتولى نشره في البلاد العربية كافة.
وأبادر إلى القول بأن أهم ما يتميز به الفكر الغربي هو توتر شديد في عقول المفكرين الذين يبغون الموازنة بين المثل الرفيعة العليا التي عرفها الإنسان من قديم، ونادت بها الأديان، وواقع الحياة الذي لا يتفق وهذه المثل؛ فهي تحاول أن ترفعنا إلى السماء، ويشدنا الواقع إلى الأرض بقوة لا نستطيع أن نقاومها أو أن نتصدى لها.
والنهج الذي سار عليه المؤلف في بحثه هو سرد التطورات التي حدثت في الفكر الغربي في هذا الاتجاه سردا تاريخيا مسلسلا. وقد حاول في ختام الكتاب أن يسلط ضوء الماضي على تفكير الإنسان الغربي الحديث لعله يستطيع أن يفسر هذه التيارات الجديدة التي ظهرت، والتي لا تؤمن بمنطق العقل كل الإيمان، وإنما ترى أن الإنسان كما يتأثر بالمعقول يتأثر كذلك باللامعقول الذي يرجع إلى رواسب عميقة في النفس البشرية لا يمكن أن تقتلع من جذورها، وهي رواسب من الخرافة والوحي والخيال لا سند لها البتة من العقل.
ولعل أهم ما يتعرض له المؤلف في كتابه هذا هو رواية قصة الحلول المختلفة التي كان يتخذها الإنسان في الغرب للإجابة عما يسميه الكاتب ب «المشكلات الكبرى»؛ مشكلات الوجود الإنساني ومصيره : ما فائدة الحياة؟ وكيف يستطيع الناس أن يحيوا حياة طيبة؟ وما هو الأمل في بلوغ مثل هذه الحياة الطيبة؟ أين نحن من هذا الكون؟ إلى أين المسير؟ ثم ما هو المصير؟ ماذا نعني بالحق والباطل؟ والخير والشر؟ والجميل والقبيح؟
هذه كلها أمور لا بد للإنسان في كل زمان ومكان من الإجابة عنها، وقد حاول المؤلف أن يقص علينا تاريخ هذه المشكلات في الغرب، وما رآه المفكرون فيها، وما آمن الناس به في مختلف العصور؛ فكان مؤرخا للفكر في الغرب، بأوسع معاني هذا التعبير، ولم يكن مجرد مؤرخ للفلسفة في حدودها الضيقة التي لا تشتمل على أكثر نواحي التفكير البشري، من دين أو فن أو علم أو أدب، والتي لا تعبأ بأي الأفكار في حياة الناس.
وفي هذا الصدد يقسم الكاتب المعرفة الإنسانية إلى نوعين مختلفين: المعرفة التي يمكن تراكمها، والمعرفة التي لا يمكن أن تتراكم.
وخير مثال للمعرفة التراكمية هو المعرفة التي نسميها عادة بالعلوم الطبيعية، ومجرد العلوم؛ فقد أخذت أفكارنا في علوم الفلك والطبيعة - مثلا - تتراكم منذ بدأ الإنسان يدرس هذه العلوم في شرق البحر المتوسط، وفي غضون آلاف السنين التي مرت بعد ذلك، حتى أخذت تتكون تدريجا في صورة علوم الفلك والطبيعة كما ندرسها اليوم في المعاهد والكليات. ولم تكن عملية التكوين هذه منتظمة مطردة، غير أنها كانت ثابتة بوجه عام. ولا تزال بعض النظريات التي ظهرت منذ البداية صادقة حتى اليوم، نظرية أرشميدس في الكثافة النوعية. كما أن كثيرا جدا من النظريات قد أضيفت إلى الرصيد القديم، وكذلك نبذنا الكثير من هذا القديم لما ثبت فيه من أخطاء. وكانت النتيجة نظاما، أو علما، له أساس متين مقبول في كل مكان من المعرفة المتراكمة، وله حدود من المعارف الجديدة المضافة آخذة في الاتساع. ولا يختلف العلماء في الأسس، وإنما يدور بينهم الجدل - والعلماء يتجادلون كما يتجادل الفلاسفة وعامة الناس - في هذه الحدود النامية دون القاعدة المستقرة. أما هذه القاعدة أو هذا الأساس فإن جميع العلماء يسلمون بصدقه.
Bilinmeyen sayfa
وخير مثال نعرفه هنا للمعرفة اللاتراكمية يستمد من ميدان الأدب؛ فالأدباء يقدمون فروضا معينة، وأفكارا معينة عن سلوك الأفراد، وعن الحق والباطل، وعن الجميل والقبيح. وقد كتب فيها الأدباء الإغريق باليونانية منذ أكثر من ألف عام، وكان غيرهم من المفكرين في نفس الوقت يكتبون أيضا باليونانية عن حركات النجوم أو عن نظريات الأجسام الصلبة في الماء. ولكن أدباءنا المعاصرين يكتبون اليوم في نفس الموضوعات التي عالجها الأدباء الإغريق وبنفس الطريقة والأسلوب إلى حد كبير، وبغير زيادة واضحة أو معينة في المعرفة. أما علماؤنا فإن لديهم عن علوم الفلك والطبيعة معارف وأفكارا وفروضا تربو كثيرا على ما كان عند اليونان.
ولا بد لمؤرخ الفكر من دراسة تطور المعرفة التراكمية والمعرفة اللاتراكمية على حد سواء، أن يدرس أثر كل منهما في الحضارة الإنسانية والسلوك البشري. ومن أجل ذلك فإن مؤلف الكتاب لم يهمل النظر في هذه الناحية أو تلك.
ومن الواضح أن الجهد لا بد أن يبذل لكي تتطور المعرفة اللاتراكمية - وبخاصة في الميادين الاجتماعية وعلوم النفس والأخلاق - حتى ترقى إلى مستوى التقدم العلمي الذي تم بالتراكم، وبذلك ترقي الحكمة التي توجه تطبيق العلم، والتي يسير الإنسان على هداها، فتؤدي به إلى حياة السلم والرفاهية. ولا يكفي أن تدور الحكمة في رءوس قلة من العباقرة المفكرين، بل لا بد من نشرها بين الناس كافة، بالتعليم والصحافة والإذاعة وغيرها من الوسائل، حتى يمكن لقادة الدول المخلصين أن يحققوا ضروب الإصلاح المختلفة بالطريق الديمقراطي السليم، فترفع العامة من شأن نفسها عن علم وخبرة ومعرفة، ولا تكون ثمة حاجة إلى قوة أعلى أو سلطة متحكمة تفرض عليها مسلكا معينا ترغمها عليه إرغاما دون وعي منها أو اقتناع من جانبها.
ومن هذه الأفكار التي يرى مؤلف الكتاب أن الغرب قد ألح دائما في تاريخه على نشرها بين الناس والأخذ بها، والتي كافح من أجلها كثير من المفكرين: الإيمان بديمقراطية الحكم السليمة، وبحق كل فرد في التعبير عن نفسه، قولا وسلوكا، دون أن يلحق الأذى بأخيه. وقد أراد الغرب دائما أن يثبت قواعد الحرية والمساواة لكي يحقق السعادة للجميع، بالرغم من الحربين العالميتين اللتين نشبتا في هذا القرن العشرين، فزعزعتا كيان الديمقراطية والحرية الفردية وهزت أركانهما لفترة نرجو ألا تطول.
وقد يكون من العسير على الفرد العادي أن يدرك الأساس العقلي الذي يبرر ضرورة المساواة والحرية والإخاء بين الناس، ومن ثم كان لا بد له من الإيمان بهذه المثل العليا عن طريق الدعوة الدينية. ومن أجل هذا فإن أثر المسيحية لم يختف قط في تاريخ الفكر الغربي منذ ظهورها حتى اليوم.
وترجع أسس التفكير الغربي إلى مصادر عدة، أولها المصدر الإغريقي؛ فقد وضع الإغريق أسس الأدب والفلسفة والتاريخ الغربي. وكانوا أول من استخدم العقل بطريقة مبتكرة لم يسبقهم إليها شعب من الشعوب، فكانوا بحق واضعي أسس التفكير الموضوعي، والتفكير المنطقي. وكانوا أول من حاول أن يعلل بالعلم ظواهر الطبيعة. وظهر من بينهم زعماء الفلسفة في تاريخ الغرب؛ فكان منهم سقراط، الذي استشهد في سبيل حرية الرأي والديمقراطية والتقدم الفكري، وكان منهم أفلاطون، صاحب نظرية المثل، وكان منهم أرسطو، ذلك الرجل الموسوعي، الذي ينادي بالتوسط في جميع الأمور.
اليونان هم منبع ما نعرفه بالثقافة الكلاسيكية، وهي أكثر من فلسفة مجردة، إنما هي أسلوب من أساليب العيش، يؤمن صاحبه بأن لبدنه عليه حقا، ولا يكفي للرجل المثقف أن يشبع تطلعاته العقلية، بل لا بد له أيضا من أن يسد حاجاته الجثمانية ولكن في «غير إسراف» كما كان يعبر الإغريق؛ فهم أول من بشر بأن الوسط هو خير الأمور، وقد نعتوه بالوسط الذهبي.
وبلغت الثقافة الكلاسيكية ذروتها في عهد بركليز، ثم أخذت بعد ذلك في التدهور، وكان ذلك في القرن الرابع قبل الميلاد، عندما ضعف نظام المدن الحكومية، وأخذت الأفكار تميل نحو الوحدة العالمية، ونشر الثقافة في جميع أنحاء الأرض، وهو الدور الذي أرادت المسيحية أن تقوم به، والمسيحية كما نعلم تستمد كثيرا من أصولها من الثقافة العبرية؛ فعن طريقها تسربت هذه الثقافة إلى أوروبا.
ثم جاء الرومان، وقد أخذوا عن المدنية الإغريقية أصولها، وأضافوا إليها القوانين الموضوعة، وهندسة الطرق، فكانت من عناصر الثقافة الفردية فيما بعد.
واستمرت المسيحية في انتشارها وبسط نفوذها على عقول الناس، وقد انتصرت على غيرها من المذاهب؛ لأنها جاءت أملا للضعفاء والمساكين، تواسيهم وتؤازرهم، كما أتت بفكرة الخلاص للبشر من ذنوبهم عن طريق تضحية المسيح.
Bilinmeyen sayfa
وربما كان أهم الأدوار التي لعبتها المسيحية في تاريخ الغرب قد تم أداؤه في الفترة التي تعرف في التاريخ بالعصور الوسطى؛ عصور الفروسية والإقطاع، التي كان الناس ينقسمون فيها إلى طبقتين اثنتين؛ فهم إما سادة وإما عبيد، ولا تكاد الطبقة الوسطى يكون لها وجود.
وفي هذه العصور كانت الكنيسة هي أهم المؤسسات الثقافية، ونفوذها أقوى من نفوذ أية هيئة أخرى، والفلسفة كلها تدور حول موضوعات الدين. ومن أجل دراسة الدين وعلومه أنشئت الجامعات في هذه الحقبة من تاريخ الغرب، وكان لها هي الأخرى سلطان يلي في أهميته سلطان الكنيسة.
وبالرغم من اتساع الهوة بين المثل الرفيعة التي ينادي بها الدين وواقع الحياة كما كان في العصور الوسطى، فقد كان المجتمع في تلك القرون من تاريخ أوروبا مجتمعا مستقرا، يعتقد فيه الإنسان أن الدنيا هكذا خلقت، وأن تقسيم الناس إلى نبلاء وأرقاء من طبيعة الأمور. وإذا كنا نقول اليوم بالتطور المستمر في الخليقة وفي المجتمع البشري، وفي التقدم المتصل في شئون الحياة، وفي علاقات الناس بعضهم ببعض، إذا كنا نعتقد ذلك منذ القرن الثامن عشر على الأقل، وبعد الدفعة القوية التي دفعها داروين بفلسفته، فقد كان أسلافنا في العصور الوسطى يؤمنون بالثبات وبالاستقرار الدائم فوق الأرض.
بيد أن هذا الإيمان بالثبات الذي أخذت به تلك العصور الوسيطة لم يحل دون اطراد التقدم في العلوم وفي نظام المجتمع، ولم يكن الدين وحده هو كل شيء في حياة المرء؛ فقد كان هناك الفرسان والرهبان على السواء. ولا نغالي إذا قلنا إن ثقافة العصور الوسطى لم تكن ثقافة مستقلة في حد ذاتها منقطعة الصلة عما قبلها وما بعدها؛ إذ إنها - مهما يكن من شيء - كانت حلقة في سلسلة تطور الفكر الغربي، بل لعلها كانت مقدمة للفكر الحديث. وبالرغم مما كان يسودها من روح التشاؤم فلم تخل من بارقة أمل في المستقبل تحول في نهايتها وفي بداية العصور الحديثة إلى نظرة متفائلة إلى حياة الإنسان في هذه الدنيا.
ومن ثقافة تلك العصور انبثقت نهضة أوروبا في العلوم والفنون في القرن السادس عشر، وحركة الإصلاح الديني البروتستانتي، وهما نزعتان إنسانيتان، ترميان إلى تخليص المرء من كثير من الخرافات العلمية والدينية، وإلى الدعوة إلى الاعتقاد في «الطبيعي» ونبذ كل «ما وراء الطبيعي» من الأمور الخارقة التي لا يسندها العقل أو يعللها المنطق.
واشتد الإيمان بالعقل تدريجا حتى هل القرن الثامن عشر وقامت حركة عامة في أوروبا تعرف بحركة التنوير تقرر إمكان تحقيق الكمال المنشود في هذه الدار الأولى بجهد العقل الإنساني، فتفاءل الناس واستبشروا بحياتهم بعدما كانوا ينظرون إلى هذه الحياة نظرة متشائمة قاتمة، ويؤمنون بأن الحياة الكريمة، والسعادة والنعيم، لا تتحقق إلا في الدار الآخرة، في الفردوس كما جاء وصفه في الكتاب المقدس.
وفي أواخر القرن الثامن عشر اندلع لهيب الثورة في فرنسا لتقضي على ما تبقى في حياة الناس من آثار الإقطاع، فأخذت بفكرة التقدم وأيدتها، ثم عززها بالعلم داروين. وآمن الناس بالحرية الفردية إلى أقصى الحدود، ولعلهم بالغوا في هذا الاتجاه إلى درجة تكاد تبلغ حد الفوضى، حتى أشرف القرن التاسع عشر، وكان عصر حكم الملكة فكتوريا في بريطانيا، فأخذ المفكرون يحدون من هذا التطرف، ويحاولون أن يقفوا من الحرية موقفا وسطا، فلا ينطلق الفرد دون مبالاة بحقوق المجتمع؛ فكانت فترة من فترات التوفيق والاتزان.
وهذا التوازن بين الأضداد هو من سمات القرن التاسع عشر في أوروبا؛ التوازن بين سلطة المجتمع وحرية الفرد، بين الولاء للأمة والولاء للإنسانية قاطبة، بين قبول الجديد والاحتفاظ بالتقليد، بين الإيمان بالله والإيمان بالآلة ... وهكذا، حتى كان هذا القرن العشرون الذي نعيش فيه، فاضطرب الميزان، واشتعلت الحرب العالمية الأولى في مستهله، والحرب العالمية الثانية في منتصفه، وكان الإنسان يريد أن يشق طريقه إلى المعرفة الصحيحة بقوة السلاح! وكان من أثر ذلك أن تبين لأصحاب الرأي بعد حرب فكرية ضروس أن التوسط لا بد أن يمتد أيضا إلى مجال الملكية، فلا يتملك الفرد حسبما شاء، ولا يفقد كل ما يملك، فوضعت أسس الاشتراكية السليمة. كما تبين لأهل الرأي أيضا أن العقل وحده لا يهدي؛ فكانت الدعوة إلى اللامعقول، بالمعنى الواسع لهذا الاصطلاح الذي يقيم للعواطف الإنسانية وزنا إلى جوار العقل البشري، وكانت الدعوة إلى دراسة علوم الاجتماع والإنسان إلى جانب علوم الطبيعة، وكانت هناك - فوق كل هذا - الدعوة إلى الإيمان بالله قوة كبرى تعلو قدرة العقل وكفاية العلم. •••
أما بعد، فهذه خطوط عريضة للمنهج الذي سار عليه المؤلف في كتابه الذي أراد به أن يستعرض تاريخ الفكر الغربي، مع التنويه بآثار القادة في توجيه الثقافة وبثها في عقول العامة. ومن ثم كان عنوان الكتاب: «أفكار ورجال».
ولعل مما يؤخذ على المؤلف أنه يميل إلى الاعتقاد بأن الفكر الأوروبي كان فكرا مستقلا لم يتأثر، إلا في القليل، بتفكير أهل الشرق، وإلى أن حضارة الغرب هي أرقى الحضارات. ولكن مما يخفف من هذه النظرة المتحيزة ما يعبر عنه من أمل في اختلاط جميع ثقافات العالم في مستقبل تاريخه بحيث تكون هناك ثقافة واحدة عالمية في القرن الحادي والعشرين أو الثاني والعشرين.
Bilinmeyen sayfa
ويعزو المؤلف تفوق ثقافة الغرب - حسبما زعم - إلى أثر البيئة والمناخ في أوروبا، وإلى تفوق الأجناس الغربية على غيرها، وإلى النمو المطرد في المعرفة التراكمية في تلك البلاد. كما يعزو أسباب القلق والسخط في هذه الثقافة إلى الفجوة العميقة التي تقع بين «ما هو كائن» و«ما ينبغي أن يكون» أو بين «الواقعي» و«المثالي».
ولكنه - كما بينت - يتفاءل بظهور الأفكار الجديدة التي تدعو إلى الاشتراكية والاعتماد على العناصر اللاعقلية في تفكير الإنسان إلى جانب العناصر العقلية، والتمسك بالمبادئ الديمقراطية، والعودة إلى الإيمان بالله والدين.
الفصل الأول
تمهيد
هذا كتاب عن الآراء التي اعتنقها الناس - ولا يزالون يعتنقونها - في عالمنا الغربي فيما يتعلق بالمشكلات الكبرى؛ المشكلات الكونية التي تبحث عما إذا كان للعالم معنى في مقدور البشر أن يدركوه، وإذا كان الأمر كذلك فماذا عسى أن يكون هذا المعنى، والمشكلات الخلقية التي تبحث عما إذا كان لما نعمل ولما نريد أن نعمل معنى من المعاني، والتي تبحث أيضا فيما نعني فعلا بالخير والشر، والجميل والقبيح. وأن مجموع ما دون الإنسان من إجابات عن هذه المشكلات وما شابهها - وأعني بها الجانب الأكبر من فلسفتنا الغربية، وما لدينا من أدب وفن، وتاريخ طبيعي من بعض الوجوه - ليشغل ملايين المجلدات، ومن ثم فإن أية طريقة من طرق السرد لهذه الإجابات لا بد أن تهمل منها أكثر مما تستطيع أن تورد.
وهناك عدة وسائل ممكنة يسترشد بها مؤرخ هذه الآراء والأفكار؛ وسائل يمكن أن نسميها مجازا: طرق رسم مصورات الأفكار، وهو تشبيه أصدق من كثير من التشبيهات في أغلب الأحيان؛ لأن المؤرخ والصور كليهما لا يستطيعان قط أن يعرضا على قارئ الكتب أو المصورات صورة كاملة من الواقع الذي يريدان أن ينقلاه إليه. وأقصى ما بوسعهما أن يقدما إليه تخطيطا، أو مجموعة من الدلائل التي تشير إلى الواقع. وهناك وسائل متباينة للاختيار من المجموعات الضخمة من التفصيلات قد تحصل على مصور يحشد فيه صاحبه كل ظاهرة لها اسم، وكل جبل صغير، أو نهير، أو ملتقى طرق. وقد يحصل على مصور يتجاهل كثيرا من التفصيلات بقصد إطلاع القارئ على موقع الأرض، وشكل السلاسل الجبلية فيها، والعلاقات القائمة بين تصريف المياه، والتضاريس، وطرق المواصلات، إلى غير ذلك. والطريقة الأولى والطريقة الثانية نافعتان على السواء، ويتوقف نفعهما على حاجات من يستخدم الطريقة، وسنحاول قطعا في هذا الكتاب، عند رسم مخطط لتاريخ الأفكار، أن نسلك الطريقة الثانية. سنحاول في هذا الكتاب أن نرسم صورة عامة لمواقع الحركات الثقافية والفكرية، وسوف نهمل كثيرا من الأسماء الشهيرة، بل وربما نهمل أيضا قليلا من المعالم، وذلك في سبيل إيضاح ما أحسته مجموعات كبيرة من الرجال والنساء في الغرب فيما يتعلق بالإجابات عن المشكلات الكبرى في مصير الإنسان.
وهناك أيضا مجموعة أخرى لها أهميتها في الوسائل المتباينة التي يسترشد بها مؤرخ الفكر. ويتضح هذا التباين في المفارقة بين انتقاء الأفكار والآراء التي يعدها المؤرخ حقا أو صدقا، وعرض مختارات لا تحيز فيها للآراء والأفكار لكي يصدر القارئ حكمه الخاص فيها، والطريقة الأولى - في تعبير المصطلحات التربوية - تقوم على أساس المبدأ الذي يقول ب «أن التعليم هو تثبيت الأفكار»، وأما الطريقة الثانية فأساسها «أن التعليم هو عرض المشكلات».
وليست الطريقة الأولى أو الثانية - في عالم الواقع - بالعامة التي لا تقبل الاستثناء؛ ذلك أن الطريقة الأولى مهما تكن جازمة - في الغرب على الأقل - قل أن يقصد بها أربابها أن يروي المتعلم ما يسمع أو يقرأ عن ظهر قلب. كما أن الطريقة الثانية مهما تبلغ من التهاون وحرية الفكر لا يمكن أن يعني بها أصحابها أنه لا يجوز البتة النقل عن الثقات، وأن كل امرئ يصوغ آراءه الخاصة في دنياه الخاصة. كلتا الطريقتين كالقطبين في هذه الدنيا أرض باردة غير مأهولة. ومهما يكن من أمر فإن هذا الكتاب سوف يحاول أن يقترب من دائرة القطب الثاني، من المبدأ الذي يقول بأن الفرد يجب أن يبذل جهدا كبيرا تلقائيا، فيفكر وينتقي وحده، وأن تاريخ الفكر - على حد تعبير ألفرد نورث هوايتهد الواضح - إنما هو «مغامرات الأفكار» لكل من يغوص في هذا التاريخ. وكل مغامرة تتضمن شيئا من الشك.
وهذان الاتجاهان - أعني في الخطوط العريضة دون التفصيلات، والتفكير المستقل دون استيعاب المعرفة «الصحيحة» وتفسيرها - يتفقان مع الشعور السائد في الولايات المتحدة بأننا استوعبنا في الماضي من الوقائع أكثر مما ينبغي، وفكرنا فيها أقل مما ينبغي.
ويتضح هذا الشعور في الحركة التي تؤيد التعليم العام - مهما يكن الاسم الذي يطلق على هذه الحركة. وحركة التعليم العام هذه قد يغالى فيها، شأنها في ذلك شأن أكثر أمثال هذه الحركات. وتدرك العامة بحكمتها الخطر الذي يحدق بالطفل إذا ألقينا به في خضم الماء ثم تخلينا عنه، ولا يحب الإنسان العاقل أن يلفظ «الطفل » - وأعني به هنا السيطرة السليمة الطيبة على الوقائع الضرورية. وثقافتنا - بوجه عام - منظمة تنظيما يدعو إلى الإعجاب، ويسمح باستجماع الحقائق اللازمة للتفكير المثمر في مشكلة معينة استجماعا دقيقا وسريعا، كما يهيئ الاتصال المباشر بهذه الحقائق؛ فهناك كثرة من المكتبات، ودوائر المعارف، وكتب النصوص التي هي في الواقع من أمهات المراجع.
Bilinmeyen sayfa
وكذلك لا يحب إنسان عاقل أن يلفظ «الطفل» الذي يتمثل في التعميمات السليمة، أو النظريات. غير أن في هذا المجال مشكلة، تلك هي الفصل بين التعميمات السليمة، والتعميمات غير السليمة. في ميدان مثل ميدان العلوم الطبيعية توجد نواة من النظريات يعرفها كل العاملين ذوي الكفاية في الميدان، ولا مناص لهم جميعا من قبولها. وليس الأمر كذلك في ميادين علوم الدين والفلسفة والأدب والفن - كما سنبين فيما بعد - فمن البين هنا أن رجال المعرفة والذوق يختلفون فيما بينهم اختلافا شديدا؛ لأننا في هذه الميادين لا نكتفي بالتساؤل «عما هو كائن»، وإنما نحس جميعا، بدرجات متفاوتة، أن «شيئا آخر ينبغي أن يكون».
وفي المجتمع الديمقراطي يعتقد الناس أن لكل عضو في المجتمع دورا يلعبه في العملية المعقدة التي يتحول فيها «ما ينبغي أن يكون» - أي حاجات الناس والأشكال التي يعبرون بها عن هذه الحاجات - تدريجا، وبصورة ناقصة، وربما كذلك بطريقة لا يمكن التنبؤ بها، إلى «ما يكون». (والمشكلات التي يقابلها المرء في هذه العملية، وهي أولا: هل العملية وهم من الأوهام؟ - وتلك هي بعينها المشكلة القديمة: الحتمية أو حرية الإرادة - هذه المشكلات أمثلة طيبة للمشكلات التي لا تحل ولكنها - برغم ذلك - ملحة، ولها أهميتها التي لا يمكن تجاهلها، وقد اهتم بها العقل الغربي آلاف السنين.)
لا بد للفرد في المجتمع الديمقراطي أن يمارس الحكم في مثل هذه المشكلات؛ لأنه إذا لم يفعل فلا مندوحة من أن يصدر فيها الحكم خصوم الديمقراطية أصحاب النفوذ بطريقة لا ترضيه. وقد عبرت ب «الممارسة» عمدا؛ لأني قصدت إلى بذل الجهد العقلي والبدني. ولكن الجهد العقلي معناه إصدار القرارات، ومحاولة حل المشكلات التي لم يبت فيها مقدما ، ومحاولة الموازنة والاختيار بين التعميمات المتعارضة. وهذا الكتاب يعطي القارئ الجاد فرصة كافية لمثل هذه الممارسة.
ولم أهدف من هذا الكتاب أولا إلى أن أقدم للقارئ المعرفة، وليس هو بالكتاب الذي يعين القارئ على أن يتفوق في حل الألغاز، وليس تاريخا لأي نظام من النظم الكبرى، عن دين، أو فلسفة، أو بحث، أو علم، أو أدب، أو فن؛ فإن كتابا موجزا يعالج كل هذه الموضوعات لا يعدو أن يكون قائمة بأسماء، وقليلا من العناوين الملائمة، كقولنا مثلا: «شلي الهوائي»، أو «كيتس صاحب الصوت العذب». وأود أن أذكر بخاصة أن هذا الكتاب ليس تاريخا للفلسفة، ولم يكتبه فيلسوف محترف، ولا يعالج فيلسوفا واحدا معالجة كاملة شاملة من جميع النواحي. وإنما أحاول جهدي في هذا الكتاب أن أعالج ذلك الجانب من عمل الفيلسوف الذي كان له أثر فيما عند الطبقات المثقفة من آراء. إنه - على حد تعبير المستر د. س. سومرفل - تاريخ آراء (أي وجهات من النظر) أكثر منه تاريخ أفكار. ولا يمكن أن يحل محل الدراسة العميقة لتاريخ الفلسفة بشكلها المعروف لأولئك الذين يريدون أن يقوموا بمثل هذا العمل.
وثمة كلمة إيضاح أخيرة. إن القارئ الجاد قد يجد أن معالجتنا لكثير من هذه المشكلات أبعد ما تكون عن الجد، بل قد يجدها خفيفة لا وزن لها، وهذه مشقة حقيقية. ويبدو لمؤلف هذا الكتاب أن كثيرا من المشكلات الضخمة التي تتعلق بالخير والجمال كثيرا ما عولجت - وبخاصة بين الشعوب التي تتكلم الإنجليزية - بقدر كبير من التوقير، مما أدى إلى الخلط الشديد بين «ما ينبغي أن يكون» و«ما هو كائن». ويحب الأمريكيون أن يعدوا أنفسهم مثاليين، والواقع أن كثيرا منهم كذلك. غير أن الأجانب كثيرا ما يتهموننا بأننا نفصل فصلا تاما بين مثلنا وأعمالنا، وهم في هذا غير منصفين، بالرغم من أن موقفهم له سند من الواقع؛ فنحن نميل - كشعب - أن نقدس بعض الآراء المجردة إلى درجة يحتمل معها أن نخطئ فنحسب أننا بمجرد تدوين الأفكار على الورق، وبمجرد قبولنا شفويا لهدف من الأهداف باعتباره فاضلا، قد حققنا الهدف. ويشهد بذلك تاريخ حياة وودرو ولسن منذ إعلان الشروط الأربعة عشر حتى الانتهاء من معاهدة فرساي. ويشهد بذلك أيضا «التعديل الثامن عشر».
وقد بذلت في هذا الكتاب إزاء هذه الموضوعات جهدا يشبه جهد الطبيب في عيادته، وهو نظرة إلى الأمور تتطلب دقة البحث في التافه والحقير بغية إدراك ما نعالجه فعلا عندما ندرس الأفكار التي لها تأثيرها في الكائنات البشرية التي تحيا فعلا. ولا يمكن أن توصم هذه النظرة بأنها «ضد التوقير»، وإنما هي نظرة «لا يتوافر فيها التوقير» أثناء القيام ببحث المشكلة بالطريقة التي يعالج بها الطبيب مرضاه.
ولا تعني هذه النظرة إنكار وجود الخير والجمال، أو إنكار الرغبة فيهما، أكثر مما يعني الفحص الطبي إنكار وجود الصحة والسلامة أو الرغبة فيهما.
حدود تاريخ الفكر
إن مجال الدراسة الذي يعرف باسم تاريخ الفكر ليس أمرا هينا محدود الجوانب؛ فقد يندرج تحت هذا العنوان مدى فسيح من الموضوعات الفعلية، من آثار الفلاسفة الممعنين في التجرد، إلى التعبير عن الخرافات الشائعة مثل التشاؤم الشديد من العدد 13. وقد تعرض مؤرخو الفكر لأفكار الفلاسفة كما تعرضوا للآراء التي يعتنقها رجل الشارع، ومهمتهم الأساسية هي محاولة تعرف «العلاقات بين آراء الفلاسفة، والمثقفين، والمفكرين، وطريقة العيش الواقعية للملايين الذين يحملون على عواتقهم واجبات المدنية».
وهي مهمة تفرق أساسا بين تاريخ الفكر وبين تلك النظم القديمة الثابتة، مثل تاريخ الفلسفة، أو تاريخ العلم، أو تاريخ الأدب. مؤرخ الفكر تهمه الأفكار أنى وجدها، سواء أكانت أفكارا همجية أم معقولة، تأملا رقيقا أم تحيزا عاما. ولكنه يهتم بهذه الثمار من نشاط الإنسان العقلي من حيث تأثيرها في وجود الإنسان كله أو تأثرها بهذا الوجود. ومن ثم فهو لا يتعرض فقط للأفكار المجردة التي تولد غيرها من الآراء المجردة؛ فهو لا يتعرض مثلا لتلك النظرية السياسية المجردة التي تعرف بالعقد الاجتماعي كأنها ناحية من نواحي التفكير المشروع فحسب. إنما هو يعالج حتى أشد الأفكار تجريدا عندما تتسرب هذه الأفكار إلى رءوس الأفراد العاديين وقلوبهم؛ فهو يفسر ما كان يعني العقد الاجتماعي لأولئك الثوار في القرن الثامن عشر الذين قر في نفوسهم أن حكامهم قد خرقوه.
Bilinmeyen sayfa
ولعمري إنها لمهمة شاقة. إن مؤرخ الفكر يحاول أن يستنبط مجموعة مركبة من العلاقات بين ما تكتبه قلة من الأفراد وما يقوم به فعلا كثير من الأفراد. ومن اليسير عليه - على الأقل في الخمسة والعشرين قرنا الماضية من تاريخ المجتمع الغربي - أن يكتشف وأن يحلل ما كتبته القلة وما قالته. وقد لا يبلغ هذا السجل حد الكمال، ولكنه يصل إلى درجة نادرة من الإجادة، حتى فيما يتعلق باليونان والرومان، وذلك بفضل الجهد الذي بذلته أجيال متعاقبة من الباحثين. غير أن مهمة مؤرخ الفكر ظلت شاقة حتى أمدته المطبعة والتعليم العام في الصحف والمجلات والرسائل وما إليها بسجل لما فكر فيه وأحس به عامة الناس؛ فقد يستطيع المؤرخ أن يصف في وضوح رأي الناس على اختلاف طوائفهم في أدولف هتلر، سواء أكانوا في ألمانيا أم في خارجها، غير أنه لا يستطيع البتة أن يعرف رأي الملايين من عامة الناس - الذين لم يسمع بهم أحد في العالم اليوناني الروماني - في يوليس قيصر؛ فلم يكن ثمة استفتاء للرأي العام كاستفتاء «جالوب» في أمريكا، ولم تكن هناك رسائل لرؤساء تحرير الصحف أو مجلات شعبية. غير أن مؤرخ الفكر - برغم هذا - لا بد أن يبذل جهدا في رسم صورة متكاملة يجمعها من شتيت المصادر للطريقة التي كانت تسري بها الأفكار في صفوف الجماهير؛ إذ كان يتحتم عليه ألا يحصر نفسه في تحليل الأفكار في صورة أفكار أخرى.
وفي الحق أن هناك ما يسوغ حصر تاريخ الفكر فيما أسماه المرحوم ج. ه. روبنسن: «الطبقات المثقفة». وقد عرف الأستاذ بومر بجامعة ييل الطبقة المثقفة ب «أنها لا تقتصر فقط على الفئة الصغيرة نسبيا من المفكرين والمبتكرين العميقين فعلا، أو على المحترفين وحدهم من الفلاسفة ورجال العلم والدين، والباحثين عامة، وإنما هي تشمل أيضا رجال الأدب والفن المبدعين، وناشري الأفكار، والجمهور القارئ الذكي.» وبعبارة أخرى نستطيع أن نقول إنه من المعقول أن نحصر تاريخ الفكر فيما يقوم به المثقفون من أفعال وأقوال وكتابات. وبالرغم من هذا فإن تعريف الأستاذ بومر يبدو ضيقا بعض الشيء. ثم إنه مما لا شك فيه أن الأفراد غير المثقفين - حتى بالمعنى اللفظي الذي يتصل بالبحث وقراءة الكتب - والأفراد غير الأذكياء، يتقبلون الآراء التي تتصل بالحق والباطل، ولهم أهداف يمكن أن يعبر عنها باللفظ، بل هم يعبرون عنها فعلا، كما أنهم يتأثرون بكل ضروب العقائد، والمذاهب، والخرافات، والتقاليد، والعواطف. إن تاريخ الطبقات المثقفة يستحق التدوين، ولكنه لا يشمل كل تاريخ الفكر، أما إن كان يشمله بأكمله فلا بد من البحث عن عنوان آخر لما يتعرض له هذا الكتاب.
إن مصادر دراسة الأفكار (بأوسع معانيها) التي تعتنقها عامة الناس متعددة في الواقع. ومن الجلي أن الأدب ليس على درجة من التفكير المجرد أو من المستوى الرفيع كالعلم أو الفلسفة الشكلية. وما بقي لدينا من الأيام التي سبقت الطباعة هو - بطبيعة الحال - مما يتصل نسبيا بالمستوى الرفيع؛ فلدينا من عهد الإغريق والرومان والعصر الوسيط، بل ومن عصر النهضة، ما هو أقرب إلى مستوى «النيويورك تايمز» منه إلى المختصرات الموجزة، أو أقرب إلى برنارد شو منه إلى «آني الصغيرة اليتيمة». غير أنه لا يزال لدينا - برغم هذا - قدر كبير من الواضح أنه أقرب إلى مستوى الأرض منه إلى سماء الفلسفة؛ فنستطيع أن نتصل بسقراط الفيلسوف كما ظهر لتلميذه أفلاطون إذا نحن قرأنا «السحب» لأريستوفان، وهي مسرحية يسخر فيها كاتب شعبي ناجح من سقراط. ونستطيع أن نتعرف الأفراد في العصور الوسطى من رجال ونساء لا كما وصفهم الفلاسفة ورجال الدين، ولكن كما وصفهم رجال الدنيا كما فعل شوسر في «حكايات كانتربري».
لقد خلف الرجل العادي - حقا - آثارا كثيرة غير تلك التي وصلت إلينا فيما نسميه الأدب؛ فليس لدينا في الديانات علوم الدين فقط - وأعني بها العناصر الفكرية الأوضح التي تقابل ما يسمى الفلسفة في أمور الدنيا - وإنما لدينا كذلك الطقوس، وما نؤديه كل يوم ، بل ولدينا كذلك ما نسميه - إذا جعلنا من أنفسنا حماة للتراث القديم - خرافات العصور الوسطى والقديمة. وإن جانبا كبيرا مما لا بد أن يستند إليه مؤرخ الفكر هو مما جمعه المختصون الذين نسميهم المؤرخين الاجتماعيين، وهم أولئك الذين أخذوا على أنفسهم واجب البحث عن الأسلوب الذي كانت عامة الناس من جميع الطبقات تعيش فعلا وفقا له. ولم يهتم هؤلاء المؤرخون الاجتماعيون في أغلب الأحيان فقط بما كان الرجال والنساء يأكلون ويلبسون ويفعلون لكسب عيشهم، وإنما اهتموا أيضا بما كانوا يعتقدون خطأه أو صوابه، وبما كانوا يتطلعون إليه في الدنيا والآخرة. وكم من مؤرخ اجتماعي انقلب - بمعنى ما - إلى مؤرخ للفكر، يركز اهتمامه فيما كان يدور في خلد رجل الشارع العادي.
ومن ثم فإن الواجب الكامل لمؤرخ الفكر هو أن يجمع في صورة كاملة مفهومة المواد التي تنحصر فيما بين الآراء المجردة الفلسفية وأفعال الناس المحسوسة. وهو في أحد أطراف مجال بحثه يقترب من الفيلسوف، أو على الأقل من مؤرخ الفلسفة، ويقترب في الطرف الآخر من المؤرخ الاجتماعي، أو حتى من المؤرخ العادي، الذي يهتم بحياة الناس اليومية. غير أن واجبه الخاص هو أن يجمع بين الطرفين، وأن يتابع الأفكار في مسيرها المتعرج في أكثر الأحيان من حجرة الدرس أو المعمل إلى السوق، والنادي، والبيت، وساحة القضاء، وحجرة التشريع، ومائدة المؤتمر، وميدان القتال.
وعندما يقوم مؤرخ الفكر بهذا الواجب الضخم قد يجد نفسه غازيا لميدان جديد من الدرس مهد له من قبل الباحثون، وذلك هو الميدان الغامض الشامل الذي ألفنا أن نسميه فلسفة التاريخ. إن فيلسوف التاريخ يحاول أن يستخدم علمه بما حدث في الماضي لكي يحل جميع ما يكتنف مصير الإنسان من ألغاز. والفلسفة الكاملة للتاريخ (كأي وككل فلسفة أخرى) تستهدف أن تقدم إجابات نهائية عن كل «المشكلات الكبرى»: ماذا هي الحياة الطيبة؟ وكيف يستطيع الناس أن يحيوا الحياة الطيبة؟ وما هو الأمل في إمكان حياة الناس حياة طيبة؟ أو في كلمة موجزة، أين نحن، وإلى أين المسير؟
وسنحاول أن نبين في فصل متأخر من هذا الكتاب لماذا كانت - في منتصف القرن العشرين - أكثر النظم الفلسفية الشائعة في واقع الأمر فلسفات للتاريخ، وأن أسماء شبنجلر وسوروكين وتوينبي معروفة حيثما نوقشت أمور الفكر في أعلى مراتبها. ويكفينا في الوقت الحاضر أن ننبه إلى أن مؤرخ الفكر ينبغي له أن يتحاشى أن يرتدي لبوس المتنبئ وفيلسوف التاريخ مهما اشتد إغراؤه في هذا الاتجاه. وسوف يكون عمله أجدى لو حصر نفسه في مهمة البحث عن الطرق التي أجاب الناس بها عن المشكلات الكبرى - الحياة، والمصير، والحق، والصدق، والله - فتأثرت إجاباتهم على سلوكهم بشكل ظاهر. وهي مهمة أشق وإن تكن أكثر تواضعا. وقد يكون لمؤرخ الفكر رأيه في بعض هذه المشكلات الكبرى على الأقل، بل لا بد أن يكون له هذا الرأي إذا كان إنسانا طبيعيا. ولكنه لو أخلص لتقاليد العلم والبحث كما نضجت لمؤرخ اليوم لبذل أقصى جهده في الاحتفاظ بآرائه الخاصة حتى لا يكون لها تأثير في روايته لآراء غيره.
وفي فصول قادمة من هذا الكتاب سوف أعود بشيء من التفصيل لهذه المسألة كلها، مسألة الطريقة العلمية والموضوعية، وعلاقتهما بدراسة سلوك الإنسان، ويكفيني هنا أن أنبه إلى أن تاريخ الفكر كما عرضته في هذا الكتاب لا يساق للإجابة عن كل المشكلات التي تحيط بالإنسان الحديث، وإنما أسوقه لكي أعين على تقديم بعض هذه المشكلات بصورة أوضح، وربما كان ذلك بقصد الإشارة إلى النتائج التي يحتمل أن تحدث في أثر المحاولات العديدة التي تبذل لحل هذه المشكلات.
وفي الحق يجب أن يتنبه القارئ إلى أن مهمة تتبع ما كان - وما يزال - للأفكار من أثر في جميع الجماهير في المجتمع الغربي، لا يمكن إلا أن تؤدى بصورة ناقصة؛ فالمصادر التاريخية قبل العصور الحديثة إما غير ميسورة وإما من العسير جمعها. وليس الأمر كذلك فحسب؛ لأن المتخصصين ذوي الكفاية قد يستطيعون - إذا ما وجهوا اهتمامهم إلى هذه المشكلة - في الأجيال القليلة القادمة، أن يقوموا بعمل يسدون به هذا النقص في المادة. وإنما هناك صعوبة أخطر ؛ فنحن لا ندرك حتى الآن حق الإدراك - بالرغم من جهود علماء النفس والاجتماع والفلاسفة - ما يدور في عقول الناس وأفئدتهم، وكيف يتحركون نحو العمل، أو نحو السكون.
وعلاوة على ذلك فإن الأفراد الذين بذلوا وقتا طويلا في دراسة هذه المشكلات لم يتفقوا - على أية صورة من الصور - فيما يتعلق بالدور الذي يلعبه في السلوك البشري العقل، والمنطق، والأفكار، والمعرفة، مقابل الوجدان، والعاطفة، والدوافع، والبواعث.
Bilinmeyen sayfa
ليس بين هؤلاء الأفراد اتفاق تام - على أي شكل - على أنه لا بد من البحث في السلوك البشري المحسوس عن مركبات مثل المعقول واللامعقول. غير أنه ليست هناك مجموعة من التعريفات العملية الفعالة لهذه المصطلحات مقبولة في جميع أنحاء العالم.
دور الأفكار
ومن ثم كانت هناك بعض المشكلات العويصة التي تتعلق بالطرق، وربما كانت تتعلق أيضا بالفلسفة، لا بد من مواجهتها قبل أن نستطيع البدء في دراسة تراثنا الفكري الغربي في مصادره الإغريقية والعبرية الكبرى. إن مؤرخ الفكر يحاول أن يرى كيف تعمل الأفكار في هذه الدنيا، وأن يدرس العلاقة بين ما يقول الناس وما يقومون بعمله فعلا: ماذا يعني بالأفكار، وماذا يعني بقوله إن للأفكار تأثيرها في هذه الدنيا؟ إن هذه هي في حد ذاتها مسائل فلسفية، يدور فيها الجدل بين الأفراد بغير اتفاق. وهذه الحقيقة وحدها توضح أن هذه المسائل ليست مما يمكن الإجابة عنها كما يفعل الصبي الأمريكي عندما يجيب عن مثل هذه الأسئلة: ماذا يعني مهندس السيارات بالكاربيوريتر؟ وماذا يعني عندما يقول إن الكاربيوريتر يؤدي وظيفته؟
إن الأفكار تختلف اختلافا بينا عن الكاربيوريتر. ولكن أرجو ألا يخطئ القارئ فيحسب أنها أقل واقعية من الكاربيوريتر، أو أنها أقل أهمية في حياتنا، أو أنها مجرد ألفاظ ليست لها البتة أية قيمة.
سنأخذ «الأفكار» هنا بمعنى واسع جدا حقا كأي مثل ملموس لعمل العقل البشري يمكن التعبير عنه بالألفاظ. ومن ثم فإن لفظة «آه» التي تصدر عن رجل يؤذي إصبعه بالمطرقة ليست على الأرجح فكرة من الأفكار. أما قوله: «لقد آذيت إصبعي بالمطرقة» فهو تعبير ساذج جدا، ومن ثم فهو فكرة من الأفكار. ثم إن قوله: «إن أصبعي تؤلمني لأني آذيتها بالمطرقة» يتضمن أفكارا أشد تعقيدا. أما أمثال هذه الأقوال: «إن إصبعي تؤلمني لأن ضربة المطرقة أثرت في أعصاب معينة نقلت إلى جهاز العصبي المركزي نوعا من الإثارة يرتبط بما نسميه الألم.» أو: «إن إصبعي تؤلمني لأن الله يعاقبني على ما اقترفت من آثام.» فهي فروض شديدة التعقيد، تنقلنا إلى مجالين هامين من مجالات الفكر: المجال العلمي، والمجال الديني.
وتصنيف جميع ضروب الأفكار التي تتضافر في تأليف ما نسميه عامة بالمعرفة هو في حد ذاته المهمة الكبرى التي تضطلع بها عدة نظم، منها المنطق، وعلم المعرفة، وعلم المعاني. وتأتي بعد ذلك مهمة البت في أي أنواع المعرفة صادق، أو إلى أي حد يصدق قدر معين من المعرفة، ومهمات أخرى كثيرة لا نستطيع هنا أن نحددها. وقد أثارت في أيامنا هذه دراسة علم المعاني، وتحليل الطرق المعقدة التي تدل بها الكلمات - عند استخدامها في تبادل الآراء بين الأفراد - على معانيها اهتماما بالغا. ويكفينا فيما نحن بصدده أن نميز تمييزا أساسيا بين لونين من المعرفة: المعرفة التي يمكن تراكمها، والمعرفة التي لا يمكن أن تتراكم.
وخير مثال للمعرفة التراكمية هو المعرفة التي نسميها عادة بالعلوم الطبيعية، أو مجرد العلوم؛ فقد أخذت أفكارنا في علوم الفلك والطبيعة «تتراكم» منذ بداية دراسة هذه العلوم منذ آلاف السنين في شرق البحر المتوسط، كما أخذت تتكون تدريجا في صورة علوم الفلك والطبيعة التي ندرسها في المعاهد والكليات. ولم تكن عملية التكوين منتظمة، ولكنها كانت ثابتة بوجه عام، ولا تزال بعض الأفكار أو النظريات التي ظهرت منذ البداية صادقة، كفكرة أرشميدس في عصر اليونان عن الكثافة النوعية. ولكن كثيرا جدا من النظريات والأفكار قد أضيف إلى الرصيد الأول من الأفكار، كما أن كثيرا أيضا قد نبذ لخطئه. وكانت النتيجة نظاما، أو علما، له أساس متين مقبول في كل مكان من المعرفة المتراكمة، وله حدود من المعرفة الجديدة آخذة في الاتساع. والجدل يتركز بين العلماء - والعلماء يتجادلون كما يتجادل الفلاسفة وعامة الناس - في هذه الحدود النامية دون الأساس. أما هذا الأساس فإن جميع العلماء يقبلون صدقه.
ويمكن للمعرفة الجديدة بطبيعة الحال أن تنعكس خلال الأساس كله، وتسبب ما يمكن أن نسميه حقا ب «الثورة» في العلم، ومن ثم فإن نظريات الميكانيكا الكمية والنسبية قد كان لها صداها في لب طبيعة نيوتن.
أما المعرفة اللاتراكمية فخير مثال نسوقه هنا لها يستمد من ميدان الأدب؛ فالأدباء يقدمون فروضا معينة، وأفكارا معينة عن الأفراد، وعن الحق والباطل، وعن الجميل والقبيح. وقد كتب الأدباء باليونانية في هذه الأمور منذ أكثر من ألفي عام. كما كان غيرهم في نفس الوقت ويكتبون باليونانية عن حركات النجوم أو عن نظريات الأجسام الصلبة في الماء. ولكن أدباءنا المعاصرين يكتبون اليوم في نفس الأشياء التي كتب عنها الأدباء اليونان بنفس الطريقة إلى حد كبير وبغير زيادة واضحة أو معينة في المعرفة. أما علماؤنا فإن لديهم عن علوم الفلك والطبيعة معارف وأفكارا وفروضا تربو كثيرا على ما كان عند اليونان.
وإذا أردنا أن نعرض الموضوع في أبسط صورة قلنا إن الأديب اليوناني كأريستوفان، أو الفيلسوف اليوناني كأفلاطون، إذا عاد إلى الأرض بمعجزة في منتصف القرن العشرين وتحدث إلينا (ولم يظفر بأية معرفة جديدة منذ وفاته) يستطيع لتوه أن يتكلم في الأدب وفي الفلسفة مع ج. ب. شو أو مع جون ديوي، دون أي إحساس بالغرابة. في حين أن عالما إغريقيا كأرشميدس في مثل هذا الوضع - مهما يكن عبقريا - يحتاج إلى أن يقضي أياما عدة يمحص فيها كتب الطبيعة الأولية والمتقدمة، ويكتسب فيها قدرا كافيا من الرياضيات قبل أن يستطيع الكلام في موضوعه مع عالم حديث في الطبيعة مثل بور أو أينشتين.
Bilinmeyen sayfa
وفي عبارة أخرى نستطيع أن نقول إن طالب الجامعة الحديث ليس أحكم من الحكماء القدامى، وليس له ذوق أفضل من ذوق السابقين، ولكنه يعرف من علم الطبيعة قدرا أكبر مما عرف أعظم العلماء اليونان؛ إنه يعرف «وقائع» أكثر في الأدب والفلسفة مما كان يعرف أحكم الإغريق في عام 400ق.م، ولكنه في علم الطبيعة لا يعرف «وقائع» أكثر فحسب، وإنما هو يدرك العلاقات بين الوقائع؛ أي النظريات والقوانين.
وهذه التفرقة بين المعرفة التراكمية والمعرفة اللاتراكمية واضحة ونافعة، وهو كل ما يريده المرء من التفرقة. «إن هذه التفرقة لا تعني أن العلم جيد ونافع، وأن الفن والأدب والفلسفة رديئة وغير نافعة، وإنما تعني أنها مختلفة فيما يتعلق بالتراكم فحسب.» وكثير من الناس يتخذون هذه التفرقة دليلا على أن الفن أحط شأنا من العلم، وتسوءهم هذه التفرقة إلى حد أن ينبذوا أي صدق أو منفعة تتضمنها التفرقة. وتلك من عادات الناس المألوفة التي ينبغي لمؤرخ الفكر أن يحسب لها حسابها.
وربما كانت الحقيقة هي أن العلم قد تراكم «بسرعة» في الثلاثمائة السنة الأخيرة، في حين أن الفن والأدب والفلسفة قد تراكمت «ببطء» في ألوف عديدة من السنين. وقد يكون عظماؤنا من بعض النواحي أحكم من العظماء في الماضي، وقد يكون ما لدى المواطن الأمريكي المتوسط من الحكمة والإدراك السليم أكثر مما كان لدى المواطن الأثيني. بيد أن هذه الأمور مما يشق قياسها، ومما يشق الاتفاق فيها، في حين أن صفة التراكم في المعرفة العلمية لا جدال فيها تقريبا. إن أكثر المدافعين عن تقدم الفنون والفلسفة تفاؤلا لا يمكن أن يؤمن بأن شيكسبير بالنسبة إلى سوفوكليز هو كنيوتن بالنسبة إلى أرشميدس.
وقد حاولنا فيما سبق أن نبالغ بالضرورة في تبسيط الفارق بين المعرفة التراكمية والمعرفة اللاتراكمية. ويلاحظ أن ذلك الجانب من المعرفة الذي لا يقع تحت عنوان «العلوم» لم يلق - لعدة أجيال من مفكري الغرب، وعند كثير من مفكري اليوم - حقه من الإنصاف بنعته ب «اللاتراكمي». ويمكن القول بأن ما نسميه عادة ب «العلوم الاجتماعية» به في حد ذاته - وليس باعتباره تقليدا ضعيفا للعلوم الطبيعية - قدر من المعرفة المتراكمة التي تتعلق بتبادل العلاقات بين الكائنات البشرية. وهذه المعرفة ليست مجرد تراكم للوقائع، وإنما هي أيضا تراكم لتفسيرات صادقة لهذه الوقائع. وهكذا استطاع رجال الاقتصاد في مدى قرن ونصف قرن من آدم سميث إلى لورد كينز - أن يزدادوا «إدراكا» للنشاط الاقتصادي، ويمكن القول كذلك أن الفلاسفة استطاعوا على كر القرون أن يحسنوا من طرائقهم في التحليل، كما أنهم ازدادوا تحديدا للأسئلة التي يوجهونها لأنفسهم - وذلك بالرغم من أنهم لا يزالون يواجهون بعض المشكلات التي واجهها أفلاطون وأرسطو. وأخيرا قد يستطيع المتشائم أن يقول إن كل ما نتعلمه من التاريخ هو أننا لا نتعلم منه شيئا قط، غير أن أكثرنا يؤمن بأن رجال الغرب قد بنوا على مر القرون هيكلا من الحكمة والذوق السليم الذي لم يتوافر للإغريق. أما مدى انتشار هذه الحكمة وذلك الذوق في مجتمعنا فذلك أمر آخر.
والحق أن مسألة «النشر» في المعرفة التراكمية واللاتراكمية على السواء، مسألة تصحيح الأخطاء الشائعة في تفكير الجمهور، هي على الأقل في أهمية مسألة اتفاق الخبراء، بل هي في المجتمع الديمقراطي ربما كانت أكثر منها أهمية. ويتضح ذلك في ميدان كميدان الاقتصاد، إلا لأولئك المصرين على ازدراء التفكير الاقتصادي. إن رجال الاقتصاد يختلفون وكذلك يختلف الأطباء. وحتى في أمريكا الحديثة، حيث يكون للطب تقدير بالغ بين جميع الطبقات، ليس من اليسير أن نعلم الجمهور حتى يتصرف عن علم في الشئون الطبية. وفي الشئون الاقتصادية لا يزال الجمهور حتى في منتصف القرن العشرين عاجزا إلى حد كبير عن الإفادة من مقدار المعرفة المتراكمة التي يملكها الخبراء، وإلا ما حاولنا أن ننشئ درجة من التجارة الدولية المتوازنة مع احتفاظنا بمستوى عام مرتفع - وكثيرا ما تكون مرتفعة جدا في نواح معينة - من ضريبة الحماية الجمركية.
ومن الواضح أن مؤرخ الفكر لا بد أن يهتم بالمعرفة التراكمية والمعرفة اللاتراكمية على حد سواء، ولا بد أن يبذل قصارى جهده لكي يميز هذا النوع من المعرفة من ذلك، وأن يتقصى العلاقة المتبادلة بينهما، وأن يدرس آثارهما على السلوك البشري. إن كلا اللونين من المعرفة له أهميته، وكل لون منهما يفعل فعله في هذه الدنيا.
وهنا يأتي سؤالنا الثاني: كيف تؤثر الأفكار في هذه الدنيا ؟ إن أية إجابة عن هذا السؤال لا بد أن تأخذ في الاعتبار أن «الأفكار» هي في الواقع «أفكار مثالية»، هي تعبيرات عن الآمال والتطلعات عن رغبات الناس وجهودهم؛ فنحن نقول مثلا إن «الناس جميعا قد خلقوا متساوين» أو نقول مع الشاعر كيتس:
الجمال الحق، والحق الجمال،
هذا كل ما نعرفه على الأرض،
وكل ما نحتاج إلى معرفته.
Bilinmeyen sayfa
ماذا تعني أمثال هذه الأقوال؟ إذا زعمت أن جسما ثقيلا وجسما أخف منه وزنا يسقطان خلال الهواء بسرعتين مختلفتين، أمكنك أن تسقطهما من فوق ارتفاع معين ثم تشهد ما يحدث. وقد فعل ذلك جاليليو، وإن لم يكن - كما نعرف اليوم - من برج بيزا المائل. ويستطيع المشاهدون أيضا أن يرقبوا ثم يتفقوا بعد مراجعة ما شهدوا، ولكن ليس بوسعك أن تختبر القول بالمساواة بين الناس، أو تطابق الحق مع الجمال، بمثل هذه الطريقة. وأنت على يقين أن أية مجموعة اعتباطية من الناس لن تتفق في الواقع في هذين الموضوعين بعد الجدل فيهما.
إن نوع المعرفة الذي أسميناه تراكميا؛ أي المعرفة العلمية، يخضع بوجه عام لنوع من الاختبار يجعل بالإمكان أن يتفق على صدقها أو بطلانها كل ذي عقل سليم، مدرب تدريبا صحيحا. أما نوع المعرفة الذي أسميناه لا تراكميا فلا يخضع لمثل هذا الاختبار، ولا يمكن له أن ينتهي بمثل هذا الاتفاق، ومن ثم فقد استنبط بعضهم من هذا - كما ذكرت من قبل - أن المعرفة اللاتراكمية لا فائدة منها، وليست معرفة حقيقية وليس لها معنى وليس لها - فوق هذا كله - أثر فعلي في سلوك البشر. إن هؤلاء الناس كثيرا ما يتوهمون أنفسهم واقعيين في الصميم، عقلاء يعرفون ما هي الدنيا في واقعها. وهم في الحق مخطئون، عقولهم ضيقة كعقول أولئك الأبرياء من المثاليين الذين يلومونهم.
إذ إن قولا كهذا: «خلق الناس جميعا متساوين» يعني على أقل تقدير أن فردا ما «يريد» أن يكون الناس جميعا متساوين من بعض الوجوه. ولو قلنا: «ينبغي أن يكون الناس جميعا متساوين» كان هذا القول صراحة هو ما نسميه بالفكرة المثالية . وهذا الخلط بين «ما ينبغي» وما هو «كائن» هو عند مؤرخ الفكر عادة من العادات المتأصلة في رجال الفكر. ويدرك مؤرخ الفكر فوق هذا أن «ما ينبغي» و«ما هو كائن» يؤثر أحدهما في الآخر، وهما جانبان من عملية متكاملة، لا يستقل أحدهما عن الآخر ولا يتعارضان، أو هما على الأقل لا يتعارضان في أكثر الأحيان. ويعرف حقا مؤرخ الفكر أن الجهد الذي يبذل في سبيل سد الثغرة بين المثالي والواقعي، بين «ما ينبغي» و«ما هو كائن»، هو من الموضوعات الرئيسية الهامة في تاريخ الفكر. هذه الثغرة لم تنسد قط، أو على الأقل لم يسدها المثاليون الذين ينكرون «ما هو كائن» ولم يسدها الواقعيون الذين ينكرون «ما ينبغي». إن الناس لا يتصرفون باطراد تصرفا منطقيا (معقولا) طبقا لما ينادون به من مثل. وفي هذا يكون النصر للواقعيين. غير أن مثلهم التي ينادون بها ليست خلوا من المعنى. وليس التفكير في المثل نشاطا سخيفا لا أثر له في حياتهم. إن المثل - كالشهوات - تدفع الناس إلى العمل، وفي هذا يكون النصر للمثاليين.
وربما كنا اليوم في الولايات المتحدة أقرب إلى الانسياق وراء خطأ الواقعيين منا وراء خطأ المثاليين. وإن كان كثير من المثل قد أضاء حياتنا خلال التاريخ، ثم إن دراسة تاريخ الفكر يجب أن تعيننا على أن نفهم الأسباب. ولكنا نستطيع الآن أن نكتفي بهذه الملاحظة: ليس في تاريخ البشر وقائع هامة لا ترتبط بالأفكار، أو أفكار هامة لا ترتبط بالوقائع. والجدل القائم الذي يدور بين الماركسيين وخصومهم، وهو: هل التغيرات الاقتصادية أعمق جذورا من التغيرات الأخرى؟ هذا الجدل ليس له معنى من الناحية المنطقية، وليس هناك مهندس للسيارات يحلم بالجدل فيما إذا كان الغاز أو الشرارة هو الذي يدير آلة الاحتراق الداخلي. دع عنك أيهما سبق الآخر: الغاز أو الشرارة. وليس بمؤرخ الفكر حاجة إلى الجدل فيما إذا كانت الأفكار «أو» الاهتمامات هي التي تحرك الناس في علاقاتهم بالمجتمع، ولا حاجة إلى أيهما سبق. بغير الغاز والشرارة «معا» لا يدور المحرك، وبغير الأفكار والاهتمامات (أو الشهوات، أو الدوافع، أو العوامل المادية) معا لا يكون مجتمع بشري عامل حي، ولا يكون تاريخ للبشر.
أهمية تاريخ الفكر في عصرنا
إن دراسة تاريخ الفكر لها أهميتها بوجه خاص في زماننا؛ لأن مثل هذه الدراسة لا بد أن تعيننا على مزيد من وضوح الفكر في إحدى القضايا الهامة في هذا العصر. وقد عرضت علينا جميعا هذه القضية في أشكال عديدة من التربية والدعاية، وقد تعرض علينا أحيانا في صورة معتدلة، وأحيانا أخرى في صورة هستيرية جدا. ويحب كتاب الصحف أن يضعوها في مثل هذه العبارة: العلوم والتكنولوجيا مكنت من ظهور الأسلحة التي تستطيع أن تقضي على الجنس البشري في الحرب القادمة. ويبدو أن الحكمة السياسية والخلقية لم تخترع وسيلة من الوسائل لمنع الحرب القادمة. ويقول كتاب الصحف ينبغي لنا أن نلتمس السبيل إلى أن نسمو بحكمتنا السياسية والخلقية (وهي حتى الآن لا تراكمية، أو تتراكم ببطء على أحسن الفروض) وبتطبيق هذه الحكمة إلى مستوى معرفتنا العلمية (وهي سريعة التراكم) ومستوى تطبيقها في التكنولوجيا ولا بد أن نهتدي إلى هذا السبيل على عجل حتى لا تقع حرب أخرى.
ويمكن أن يصاغ الموضوع في عبارة أخرى استخدمناها من قبل، وهي أقل من هذه إثارة. إن ما أسميناه المعرفة المتراكمة مكن البشر - وبخاصة خلال القرون الثلاثة الماضية - من تحقيق السيطرة الخارقة على ما يحيط بهم من بيئة غير إنسانية؛ فإن الناس لا يتناولون المادة غير العضوية فحسب، ولكنهم يستطيعون أيضا أن يقوموا بالشيء الكثير في تشكيل الكائنات العضوية الحية؛ فهم يستطيعون تربية الحيوان إلى الحد الأقصى من المنفعة للناس. وهم يستطيعون التحكم في كثير من الكائنات العضوية الصغيرة كما أنهم أطالوا من عمر الإنسان في البلدان المتقدمة إلى أبعد مما كان يبدو ممكنا منذ أجيال قليلة مضت.
ولكن الناس لم يحققوا بعد نصرا مماثلا في السيطرة على البيئة الإنسانية في أعلى مستويات السلوك البشري الواعي. والظاهر أن معرفة السبب الذي يدفع الناس إلى إرادة أشياء معينة ، ولماذا يقتلون غيرهم للحصول على هذه الأشياء، وكيف تتغير رغباتهم أو تشبع، ومعرفة كثير من المدى الفسيح للسلوك البشري - الظاهر أن كل هذا ينتمي إلى المعرفة اللاتراكمية أكثر من انتمائه إلى المعرفة التراكمية. وهذه المعرفة اللاتراكمية، سواء أكانت فلسفة، أم علوم الدين، أم حكمة عملية، أم مجرد الإدراك العام الساذج، لم تبلغ حتى اليوم حدا يكفي لحفظ السلام على الأرض - دع عنك أن تنفي كل ضروب الشر في العلاقات الإنسانية. وما لم يتوافر لنا نوع آخر من المعرفة والسلوك البشري - كما يقول بعض الكتاب المنذرين - معرفة من نوع ما يعلمه عالم الطبيعة أو البيولوجيا، فسوف تضطرب أمورنا إلى حد تتحطم معه حضارتنا، وربما يتحطم معه أيضا الجنس البشري.
إن إحدى المشكلات الكبرى في زماننا هي هذه في عبارة موجزة: هل يمكن أن يمكن ما نسميه ب «العلوم الاجتماعية» الإنسان من التحكم في بيئته البشرية إلى ما يشبه مدى ما مكنته العلوم الطبيعية من السيطرة على بيئته غير البشرية؟ إن مؤرخ الفكر في العصر الحاضر مرغم على أن يركز عمله في هذه المشكلة، وأن يركز فكره أولا في الطريقة التي عالج بها الناس في الماضي المشكلات الأساسية في العلاقات الإنسانية. إنه يكتب - بمعنى من المعاني - تاريخ العلوم الاجتماعية.
ويجب أن نوجه الأنظار بصفة خاصة إلى أن تاريخ الفكر في حد ذاته لا يحل المشكلات التي تزعجنا اليوم جميعا؛ إذ لا يمكن أن تحل هذه المشكلات إلا بالجهد الجماعي الذي نبذله جميعا، وبوسائل لا يمكن أن يتنبأ بها أحكم الفلاسفة أو العلماء - بل أحكم كتاب افتتاحيات الصحف. إن العلوم الاجتماعية إذا سارت في الطريق التي سلكتها العلوم، الطبيعية، فإن الذي يحل المشكلات الكبرى هو ذلك النوع من الناس الذين نسميهم العباقرة. غير أن العباقرة لا يستطيعون إيجاد الحلول إلا بسبب العمل الكامل الدءوب الذي يقوم به آلاف العاملين في البحث وفي الحياة العملية. وأهم من ذلك أن هذه الحلول لا يمكن أن تترجم إلى عمل اجتماعي فعال في مجتمع ديمقراطي إلا إذا كانت لدى المواطنين في هذا المجتمع درجة من الإدراك الأساسي لما هو حادث، ويمكن أن تصبح دراسة تاريخ الفكر نافعة لأولئك المشتغلين بالعمل الإيجابي في مشكلات العلاقات الإنسانية، ولأولئك الذين ينحصر عملهم الرئيسي في ميادين أخرى.
Bilinmeyen sayfa
إن معرفة كيفية سلوك الناس في الماضي لها أهمية قصوى لأولئك الذين يعملون مباشرة في ميدان العلاقات الاجتماعية، إما كعلماء اجتماعيين أو كرجال عمليين. وسنرى في فصل مقبل من فصول هذا الكتاب أن موضوع الفوائد التي تعود من الدراسة التاريخية، وحدود هذه الدراسة، كان من الموضوعات التي ثار حولها جدل كثير في مراحل معينة من حضارتنا الغربية وقد كان هناك دائما أفراد يرون أن دراسة التاريخ ليس من ورائها جدوى، بل هي شر، وحد من إمكان تحليق الروح إذا لم يجذبها التاريخ إلى أسفل. ولكن الحكم العام لحضارتنا الغربية هو أن معرفة التاريخ هي على أقل تقدير نوع من امتداد الخبرة الفردية، ومن ثم فإن لها قيمتها للذكاء البشري الذي يستغل الخبرة. ومن المؤكد أن نوع المعرفة الذي أسميناه تراكميا - العلوم الطبيعية - يلتزم بالرأي الذي يؤمن بأن التعميمات الصالحة يجب أن تعتمد على الخبرة الواسعة التي تشمل ما نسميه عادة بالتاريخ. ومن ثم فإن العلوم التاريخية أو التكوينية - كالجيولوجيا التاريخية أو الباليونتولوجيا - هي في أهمية العلوم التحليلية كالكيمياء فيما تحققه العلوم الطبيعية. وللتاريخ نفس الضرورة في العلوم الاجتماعية.
وإذا أريد للعلوم الاجتماعية أن تتقدم وجب على التاريخ في الواقع أن يتمم العمل الميداني والتجربة. إن تسجيل ما أداه الناس في الماضي لازم لإنقاذنا اليوم من ضياع أوقاتنا في دياجير الظلام. وتشتغل اليونسكو - منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة - بدراسة تعاونية فسيحة المجال للتوتر الذي يهدد بالانفجار في شكل صراع عنيف. ولا يمكن فهم هذا التوتر دون الاهتمام بتاريخه - أعني التاريخ الخاص لهذا التوتر. فالتاريخ إذن يمدنا ببعض الحقائق الضرورية، بالمادة الخام للوقائع، يسجل التجربة والخطأ، الذي يلزم لفهم السلوك البشري في الوقت الحاضر.
وأهم من هذا الفائدة التي تعود على من يؤدي منا الواجبات العديدة الهامة في مدنيتنا - تلك الواجبات التي لا تتطلب معرفة التخصص في العلوم الاجتماعية، أو العمل الخلاق في هذه العلوم - الفائدة التي تعود على هؤلاء من معرفة التاريخ، وبخاصة تاريخ الفكر. ويستطيع المرء أن يتخيل مجتمعا تدير فيه قلة من الخبراء شئون الجماهير بمهارة وكفاية - وقد تخيل المستر ألدوس هكسلي في الواقع في قصته «العالم الطريف» مثل هذا المجتمع. كما ابتدع مستر ب. ف. سكنر مجتمعا عبقريا في كتابه «والدن الثانية». فهذا مطمع كثيرا ما يغري أصحاب المزاج الهندسي. غير أن الثمرة التي تنتج من هذه «الهندسة الثقافية» لن تكون مجتمعا «ديمقراطيا». وحتى إن أمكن تحقيق مثل هذا المجتمع - وهو ما أشك فيه - فإن الأمريكان الذين نشئوا في تقاليدنا الوطنية يتعذر عليهم العمل فيه. إننا نلتزم بالحلول الديمقراطية، التلقائية، واسعة الانتشار، لمشكلاتنا، نلتزم بالحلول التي نبلغها بالجدل والقرارات الحرة على نطاق واسع، تلك القرارات التي نصدرها بطريقة من طرق تعداد القرارات الفردية. إن العلماء وهم القلة المبدعة يقدمون الحلول بطبيعة الحال. ولكن الحلول لا تتحقق إلا إذا فهمناها جميعا، ووضعناها موضع التنفيذ لأننا ندركها، ونوافق عليها، ونريدها.
وهنا أيضا نستطيع أن نستضيء بما حدث في العلوم الطبيعية؛ فقد قام علماء الأمراض والوقاية، والأطباء العاملون، بعمل مبدع ولكنهم لم يستطيعوا معه القضاء على بعض الأمراض كالتيفود أو الدفتريا على سبيل المثال. ولكن هذا التقدم العظيم في الصحة العامة في مجتمعنا لم يصبح ممكنا إلا لأن الغالبية الكبرى من الناس في بضع عشرات السنين الأخيرة فهمت - ولو بصورة ناقصة - نظرية الجراثيم في الأمراض، وأرادت أن تمحو المرض، وعاونت بحرية وعن فهم إلى حد كبير في عمل الخبراء.
وليس من شك في أن الخبراء الذين يعملون مع شعوب جاهلة، شعوب تعتنق عن الأمراض عقائد غير التي تعتنقها، قد حققوا شيئا من التقدم في إزالة أمراض مثل التيفود أو الدفتريا. وتقدمت الصحة العامة حتى في الهند وأفريقيا. غير أن سير هذا التقدم كان أبطأ هناك منه عندنا، وأقل ضمانا، لا لشيء سوى أن الخبراء لم يستطيعوا في الواقع أن يشركوا بقية السكان معهم في معارفهم وإنما لجئوا إلى السلطة، والنفوذ، والإغراء، والحيل، لكي يقوموا بالعلاج.
إن الطريقة الناجحة للانتقال من الفكرة في ذهن العبقري إلى أثرها المنتشر بين الناس كافة - وهي موضوع الفقرات القليلة السابقة - هي من المشكلات الكثيرة الهامة التي ما زلنا لا نعرف عنها نسبيا إلا القليل. ومن المؤكد أن هناك مشكلة، وأن العبارة الأخاذة التي تنسب إلى إمرسن وهي: «لو أن إنسانا اخترع مصيدة فئران أفضل مما لدينا، لعبد الناس إلى بابه طريقا.» هي عبارة مضللة في أقل تقدير؛ لأن الطرق لا بد أن تتقاطع، وربما لم ينشأ البتة طريق. إن التطعيم كان لا بد له في أول الأمر أن يكتسب إلى جانبه مهنة الطب، ثم الجمهور، بالرغم من أن طريق انتشاره سهل نسبيا. فما بالك بآراء ماركس؟ ما هي مجموعة الطرق الملتوية التي سارت من المتحف البريطاني إلى الكرملين؟ ويلاحظ هنا أنه حتى بين الخبراء لا يوجد شيء يقرب من الاتفاق العام على حقيقة الآراء الماركسية وقيمتها مما يوجد فيما يتعلق بالتطعيم.
وإذا اهتدى خبراؤنا إلى وسائل العلاج - أو على الأقل لتخفيف - الأمراض الاجتماعية كالحرب، والتدهور، والبطالة، والتضخم، والانحراف، والجريمة، وكل سلسلة الشر الطويلة، لما أفلحوا في أن تكون هذه الوسائل فعالة إلا إذا كانت لدى البقية منا بعض المعرفة بما ينصح به هؤلاء الخبراء. وإذا كان تقدم العلوم الاجتماعية في زماننا ليس كبيرا جدا، وإذا كان لا بد لنا من الاعتماد على نوع القادة ونوع الأفكار التي تتعلق بالكائنات البشرية التي كان لا مناص لأسلافنا من الاعتماد عليها - إذا كان الأمر كذلك لكانت الحاجة أمس إلى أن يكون لدى جميع المواطنين في المجتمع الديمقراطي شيء من المعرفة بتاريخ التفكير. وإذ كان ينقصنا الخبراء في الوقت الحاضر، وركنا إلى الإدراك العام، فلا بد أن يكون هذا الإدراك العام عاما حقا، والتاريخ - كغيره من جميع ضروب الخبرة - مرشد نافع في تكوين الإدراك العام. إنه مرشد، وليس قائدا لا يخطئ ، أو صانع معجزات! فإن أردت المعجزة - وهي بالتأكيد حاجة بشرية - فعليك أن تبحث عنها في غير التاريخ: إن ربة التاريخ «كليو» من الآلهة ذوات القدرة المحدودة.
بعض أنماط تاريخ الفكر
لدينا في الوقت الحاضر في منتصف القرن العشرين سجل كامل مطبوع لما قال الناس وما فعلوا في الماضي، لدينا أصول تعليقات الأجيال المتعاقبة من المؤرخين والنقاد. لدينا من هذا ما لا يستطيع فرد واحد أن يطلع على كل ما يتعلق منه بجانب كبير من جوانب هذا السجل التاريخي. إن حياة واحدة لا تكفي لقراءة كل كلمة لدينا سطرها اليونان القدامى وكل كلمة كتبت عنهم. وعلى كتاب التاريخ وقرائه على السواء أن يختاروا من هذا القدر الكبير مما كتب. وهذه ملاحظة هامة وإن تكن من البديهيات.
والمشكلة الحرجة التي علينا جميعا أن نجابهها هي كيفية الاختيار، وكيفية تمييز المهم من غير المهم. وكيف نتعرف المهم إذا التقينا به. إن الإجابة الكاملة عن مثل هذا السؤال تحتاج إلى كتاب بأسره في منهج البحث للمؤرخ. ويكفينا هنا أن نحاول في إيجاز أن نبرر طريقة الاختيار في هذا الكتاب، وأود قبل هذا أن أبحث في بعض طرق الاختيار الأخرى التي نبذتها.
Bilinmeyen sayfa
من مبادئ الاختيار المعقولة، الشائعة جدا في أمريكا في هذه الأيام، هي أن ننتقي ما يقال عنه إنه «حي» بالنسبة إلينا في هذه الأيام، وأن ننبذ ما يقال عنه إنه «ميت». ونعتقد أن الأول هام، والثاني لا يهم إلا المتحذلق أو الأخصائي، ومن ثم يقال لنا: دعنا بكل وسيلة نأخذ عن أفلاطون «أفكاره الحية»، ولا نأخذ من أفكاره ما كان ينطبق على الإغريق في عهده فقط.
والصعوبة في ذلك هي في معرفة ما نعني ب «الحي» في مثل هذا المجال. قد نعني «ما تعتقد الغالبية العظمى من الناس في صدقه.» ونستطيع القول إن كل ما يحتاج عالم الطبيعة إلى معرفته - بهذا المعنى من الطبيعة عند الإغريق هو الجانب الذي ما زلنا نعتقد في صحته. ولكن حتى العالم قد يستطيع أن يتعلم الكثير من تاريخ العلم . يستطيع أن يتعلم كيف يمكن الوقوع في الخطأ بسهولة، وكيف أن الرأي الجديد السليم - حتى في مثل هذا الميدان - أمر شاق عسير. ويستطيع أن يتعلم أن العلم ليس برجا عاجيا، وإنما هو جزء من الحياة الإنسانية الكاملة.
ومهما يكن من أمر فإن علم الطبيعة مثل واضح للمعرفة التراكمية. ولم يكن أفلاطون عالما في الطبيعة، إنما كان فيلسوفا، همه الأول المشكلات التي تتعلق بالحياة الصحيحة والحياة الخاطئة، ووجود الإله، وخلود الروح، والعلاقات بين الدوام والتغير، وموضوعات أخرى من هذا القبيل. وهذه أمور من المعرفة اللاتراكمية، ليس من السهل فيها بأية حال من الأحوال أن نقرر ما هو حق وحي منها اليوم، وما هو باطل وميت. ومن الحقائق التي دلت عليها الخبرة أن قراء أفلاطون في القرن العشرين يتراوحون بين أولئك الذين يرون في كل ما كتب الحكمة السامية، وأولئك الذين يرونه كله هراء، وبين أولئك وهؤلاء درجات من التفاوت.
ويبدو أن أولئك الذين يتحدثون عن اختيار ما بقي من الماضي حيا اليوم يعنون بالحي أحيانا المألوف، ويعنون بالميت الغريب. خذ مثالا لذلك مأساة إغريقية قديمة: مسرحية أنتيجون لسوفوكليز. تعالج المسرحية جهود أنتيجون لضمان أداء طقوس الجناز الصحيحة إزاء جثة أخيها بولينيسيس، الذي قتل في الثورة التي قامت ضد كريون، الحاكم الشرعي لطيبة. ولما كان كريون يعتقد أن مصير بولينيسيس لا بد أن يشهر به ليكون مثالا لما يحدث للعصاة والخارجين على القانون؛ فقد رفض دفن الجثة بالطريقة الصحيحة، وعندما حاولت أنتيجون مستعطفة أن تؤدي طقوس الدفن لأخيها، حكم عليها بالموت.
إن إمكان شيوع مثل هذا الصراع بين أنتيجون وكريون وتطبيقه على قوم مثلنا أمر لا يحتاج إلى بيان؛ فإن أنتيجون تضع إحساسها الخاص بالخطأ والصواب تجاه ما يتطلبه النظام الشرعي الذي نعيش في ظله. وهناك - برغم هذا - من يرى أن ما يثير إحساسها بالخطأ والصواب في معاملة جثة أخيها - شيء غريب، بل تافه في نظر الأمريكان الحديثين، فيفوتهم لذلك مغزى الدراما، ما لم ينبهوا إليه. وطبقا لما يرى هؤلاء النقاد والمعلمون لا يمكن أن تكون هذه التحفة الفنية لسوفوكليز حية بالنسبة إلينا إلا إذا اتضح أن أنتيجون كانت فعلا أشبه بثورو أو غاندي، مشتركة في حركة من حركات «العصيان المدني».
ولم تكن أنتيجون بطبيعة الحال إحدى هؤلاء، وإنما كانت عذراء يونانية من عصر الإغريق العظيم، تتأثر تأثرا عميقا بآراء تتعلق بالكرامة البشرية غريبة عنا بعض الشيء. ولكن ما هو غريب في أنتيجون له لدينا أهمية قصوى؛ فالتاريخ - حتى تاريخ الفكر - نافع فوق كل شيء لأنه ينتزعنا من محيط حياتنا الضيق المحدود، ويبصرنا بمدى اتساع الخبرة البشرية، ومدى تعقيد ما نسميه في إهمال «الطبيعة البشرية»، وإلى أي حد يتشابه الناس ويمكن التنبؤ بتصرفاتهم، وإلى أي حد يختلفون ولا يمكن التنبؤ بتصرفاتهم.
وإذا نحن أخذنا المألوف، أو الأشياء التي نجد فيها أدنى مشقة لقبولها كأمور إنسانية، مبدأ للاختيار في معمعان وقائع التاريخ، هبطنا كثيرا بقيمة أي دراسة للماضي. ولو كانت معرفتنا بالناس حقا تراكمية فقط، كمعرفتنا بعلم الطبيعة، لأمكننا الاحتفاظ بالجوانب الحية ونبذ الجوانب الميتة من سجل الماضي. غير أن معرفتنا بالناس ليست تراكمية، ولا نستطيع أن نأخذ عقلا بأي مبدأ «بسيط» عند الاختيار بين الحي والميت، والصالح وغير الصالح، والهام وغير الهام. ولكن لا بد من نوع من أنواع الاختبار، وكل من يكتب التاريخ أو يقرؤه يقوم بالاختيار. وإنما ينبغي أن يتسع مجال الاختيار، ولا بد أن تكون النماذج المختارة طيبة بقدر الإمكان، ولا يكون الاختيار مقررا بأي نظام مقيد من نظم الأفكار، ولا ينبغي أن يهمل تاريخ الفكر الديمقراطي تاريخ الفكر غير الديمقراطي.
وهناك مبدأ آخر للاختيار - في تاريخ الفكر على الأقل - وذلك أن تأخذ الشخصيات التي يعدها الرأي العام المثقف اليوم أصولا ككبار المفكرين والكتاب ونعرض ما كتبوه في وضوح وإيجاز بقدر الإمكان. وهذا عمل يستحق الأداء، وقد تم أداؤه بإجادة. غير أن ذلك ليس ما نعنيه في هذا الكتاب بتاريخ الفكر، إنما هو تاريخ الفلسفة أو تاريخ الأدب أو تاريخ النظريات السياسية. أما ما نعنيه بتاريخ الفكر فهو شيء أكثر من ناحية وأقل من ناحية أخرى من سجل ما أنجزته كبار العقول في ميادين المعرفة اللاتراكمية. هو أكثر من ذلك لأنه يحاول أن يكتشف ما تحسه وما تفكر فيه وما تعمله العامة من الرجال والنساء دون العباقرة والعظماء. وهو أقل من ذلك لأنه لا يستطيع - دون أن يصل إلى أبعاد لا حد لها - أن يحلل تحليلا كاملا التفكير الشكلي عند العظماء وأشباه العظماء من المفكرين كما يحلل هذا الفكر المحترفون والفنيون في الكتب المعتمدة في الفلسفة والفن والأدب. لا يهمنا هنا تفكير أفلاطون في حد ذاته كما يهمنا أن نعرف إلى أي حد كان هذا التفكير جزءا من أسلوب العيش الإغريقي، وإلى أي حد ينبذ هذا التفكير ذلك الأسلوب والعيش، وإلى أي حد كانت عامة المتعلمين تقبله في المجتمعات التي جاءت فيما بعد - وباختصار نحن أقل اهتماما بأفلاطون في حد ذاته منا بما أفاد الناس من أفلاطون أو كانت أو نيتشه.
وأخيرا - وهذه أشد المشكلات تعقيدا - هناك ذلك النوع من الاختيار من بين تفصيلات الماضي التي لا تكاد تنتهي، ذلك الاختيار الذي يرتب هذه التفصيلات بقصد التدليل على شيء ما. إن كل المؤرخين في الواقع يرتبون مادتهم بطريقة تسوق القارئ إلى أن يعتقد أن بعض الفروض الخاصة بالناس ومصيرهم هي فروض صادقة، وكثيرا ما تكون هذه الفروض ضخمة وفلسفية إلى أبعد الحدود؛ فقد استخدم سنت أوغسطين في كتابه «مدينة الله» وقائع التاريخ التي جمعها لكي يبرهن على أن المسيحية لم تضعف الإمبراطورية الرومانية، وأن الإمبراطورية إنما سقطت لأن الله ينزل العقوبة بالأشرار. أما جورج بانكروفت في تاريخه للولايات المتحدة فيستخدم وقائعه المختارة لكي يبين أننا نحن الأمريكيين الشعب المختار حقا للإله الديمقراطي الحق، وأن «مصيرنا الواضح» هو أن نقود العالم إلى حياة أفضل. أما الفيلسوف الإنجليزي هربرت سبنسر في القرن التاسع عشر فقد وجد أن التاريخ يبين بجلاء أن الناس يتقدمون من المجتمعات المقاتلة المتنافسة إلى المجتمعات المسالمة المتعاونة الصناعية.
ولا يزال التاريخ - وربما سوف يبقى دائما - أقرب إلى المعرفة اللاتراكمية منه إلى المعرفة التراكمية. نعم إن بعض طرائقه في البحث، وطرائقه في الحكم على صحة الدلالة، هي علمية أو تراكمية. ولكن المؤرخ - إن عاجلا أو آجلا - لا بد أن يقابل هذه المشكلة: ماذا تعني دلائله إذا قيست بمقاييس الحب والكراهية الإنسانية، ومقاييس الآمال والمخاوف. إنه لا بد - عاجلا أو آجلا - أن يقيم، وأن يحكم بالطيب والخبيث، وأن يدخل الفرض في حسابه. أما العلم - كعلم في حد ذاته - فلا يفعل شيئا من هذا، وإنما يقتصر على إقامة قواعد عامة أو قوانين وصفية في أساسها، وليست تقويمية.
Bilinmeyen sayfa
وفي هذا الكتاب نمط من أنماط التقويم، وفكرة رئيسية، وتفسير لمجرى الحوادث الإنسانية، التي لا بد أن تظهر بصورة محددة لأولئك الذين يتابعون الكتاب حتى نهايته. وأستطيع هنا في إيجاز، قد يكون مخلا بالوضوح، أن أسارع فأقول إن هذا الكتاب سيحاول أن يبين أن المثقفين الغربيين في خلال ألفي السنة الأخيرة قد عاونوا على إنشاء مستويات رفيعة جدا من الحياة الطيبة والسلوك المعقول، وأنه في السنوات الثلاثمائة الأخيرة انتشرت فكرة - وبخاصة في غضون مذاهب التقدم والديمقراطية - تقول بأن كل فرد حيثما كان في هذا الزمان على هذه الأرض، يستطيع، أو ينبغي له، أن يعيش وفقا لهذه المستويات وأن يكون «سعيدا»، وأن الحربين العالميتين اللتين نشبتا في العصر الحديث وما أعقبهما من شرور، والانهيار الاقتصادي العظيم، وكثيرا غير ذلك، قد جعلت تأجيل هذه الحياة الديمقراطية الطيبة - بل جعلت التخلي عنها كلية - أمرا محتملا عند كثير من المفكرين، وأن أقرب تفسير إلى العقل للفشل النسبي الذي أصاب المثل الديمقراطية والتقدم يرجع إلى المبالغة من المؤمنين بها في تقدير ما عند الرجل العادي اليوم من تعقل وقدرة على التفكير التحليلي، وأنه - بناء على ذلك - ينبغي لكل المهتمين بمصير الإنسان أن يدرسوا بعناية فائقة طريقة السلوك الفعلي للناس، والعلاقة بين مثلهم وأعمالهم، وبين أقوالهم وأفعالهم، وأخيرا، أن هذه العلاقة ليست بسيطة، مباشرة، سببية، كما نشأ أكثرنا على العقيدة أنها كذلك.
وفي خلال هذا الكتاب تدور مشكلة ضخمة حقا؛ مشكلة تشغل كثيرا أذهان كل من يهتم اليوم بالعلاقات الإنسانية، وهي مشكلة يجدها المرء في فجر تاريخ الفكر الغربي عند الإغريق في القرن الخامس قبل الميلاد، وهي مشكلة يتضمنها تميزنا بين المعرفة التراكمية والمعرفة اللاتراكمية. ولنسلم بأن العلم، أو المعرفة التراكمية، يستطيع أن يبين لنا في كثير من الحالات المحسوسة ما هو حق وما هو باطل، أو حتى ما هو «عملي» وما ليس بالعملي. ولكن هل هناك معرفة يعتمد عليها تنبئنا بما هو طيب وما هو خبيث؟ هل هناك علم، أو معرفة، ب «المعايير» أم هل ما نسميه عادة بالحكم على القيم (ولا أستطيع هنا أن أهبط إلى الأغوار السحيقة التي تتطلبها المعالجة الجادة لهذه المصطلحات) عاجز في أساسه عن الخضوع لقياس أداة التفكير؟
إن أهل الغرب - فيما يتعلق بالحق والباطل، والجميل والقبيح - لم يصلوا في الواقع إلى نوع من الاتفاق يشبه ما بلغوه في الأمور التي تتعلق بالعلوم الطبيعية. غير أن التقاليد الغربية يسري فيها في الواقع تيار شديد التدفق يرفض الزعم - الذي ظهر بين الحين والحين في تاريخ الغرب من السفسطائيين إلى المنطقيين الوضعيين - بأنه لا جدوى من تعليل أخلاق الناس وأذواقهم، ولا جدوى من البحث العقلي في «حاجاتهم». وبالرغم من الأقوال الشائعة مثل «لا فائدة من الجدل في الأذواق»، والادعاءات مثل «القوة تحدد الحق» فإن أهل الغرب ينبذون العقيدة بأن القيم ليست إلا نتيجة اعتباطية للرغبات الإنسانية المتعارضة. وهذا النبذ هو في حد ذاته حقيقة كبرى.
سنحاول في هذا الكتاب ألا نتحاشى هذه المسألة الكبرى؛ مسألة وجود معرفة قياسية للقيم، وإنما سوف نحفز القارئ على أن يفكر بنفسه فيها. ويعترف مؤلف هذا الكتاب أنه سار في تفكيره الخاص في الاتجاه الذي يرى أن الحكم على القيم لا يمكن - عند أهل الغرب - أن يقوم على أساس متين إلا إذا أقحمنا نوعا من النشاط الإنساني نسميه عادة ب «الإيمان». إن الناس بوسعهم أن يعتقدوا - بل هم يعتقدون - أن باخ مؤلف موسيقي أفضل من أوفنباخ، وهم يجزمون بذلك كما يجزمون بأن قمة إفرست أعلى من قمة واشنطن. إنهم يستطيعون أن يفكروا في العلاقة بين باخ وأوفنباخ وفي حكمهم على هذه العلاقة. وهم يستطيعون أن ينقلوا كثيرا مما يفكرون فيه (أو مما يحسونه) بشأن هذه العلاقة إلى زملائهم، بل إنهم ليستطيعون أن يقنعوا زملاءهم أن يقبلوا رأيهم في هذه العلاقة.
ولا نستطيع هنا إلا أن نمس موضوع الحكم القياسي من ظاهره. ومن الجلي أن المرء لا يستخدم في الحكم على العلاقة بين موسيقى باخ وموسيقى أوفنباخ نفس المعايير التي يستخدمها في الحكم على العلاقة بين ارتفاع قمة إفرست وارتفاع قمة واشنطن. إن أكثرنا عند الحكم في الموضوع الثاني يعود إلى مرجع جيد ويقبل حكمه، ولا يحاول أن يقيس القمتين بنفسه. مثل هذه العودة إلى مرجع في أمر واقعي (أو في «علم من العلوم» بمعنى ما) كثيرا ما يأخذ به المدافعون عن صحة الأحكام القياسية في الأخلاق، والجمال، وغير ذلك من الميادين، الذين يريدوننا - طبقا لذلك - أن نقبل الرجوع إلى الكنيسة مثلا فيما يتعلق بوجود الله. بيد أن هناك في الواقع فارقا بين الإفادة من المرجعين في هذين المثالين؛ ذلك أن كل فرد مدرب يستطيع أن يخطو نفس الخطى التي يراها الجغرافيون صحيحة والتي انتهت إلى قياس القمتين، في حين أن مثل هذه العملية مستحيلة بالنسبة إلى وجود الله. نعم إن الأفراد المدربين تدريبا صحيحا يستطيعون أن يتابعوا خطوات التفكير التي يبرهن بها رجال الدين على وجود الله، غير أنهم سوف يلتقون بكثير من الأدلة المتعارضة، بما فيها الأدلة التي تنتهي بالبرهان على أن الله «غير» موجود.
كذلك يستطيع الفرد المدرب، تدريبا صحيحا أن يتابع خطوات الفكر التي يبرهن بها ناقد موسيقي على أن موسيقى باخ أفضل من موسيقى أوفنباخ، وسيجد هنا كثيرا من الفروق، ولكنه سوف يجد أيضا اتفاقا أكثر مما هناك على وجود الله - وسوف يجد الدليل في المراجع على أن الحكام الكفاة يتفقون على أن موسيقى باخ أفضل من موسيقى أوفنباخ. وسوف يجد أدلة مركبة، تدخل في ميدان الأخلاق، تبرهن على أن باخ كان في الموسيقى أعلى مرتبة من أوفنباخ وأنه ألف قطعا موسيقية أقوى أثرا وأفضل وقعا إذا قيست بمعايير الجمال. وسوف يجد شروحا فنية جدا قائمة على رياضيات الموسيقى وطبيعتها. وأخيرا سوف يسعده أن يجد أن باخ يؤلف في الموسيقى الجادة تأليفا جيدا، وأن أوفنباخ يؤلف موسيقى خفيفة تأليفا جيدا، وأن المرء يستطيع أن يستمتع باللونين، كل في مكانه الملائم.
وإذن فليس العقل عاجزا بأية حال في مسائل القيم؛ فهو يستطيع أن يفعل الكثير، وهو يستطيع فوق كل شيء أن يقنع الناس وأن يعلمهم. ولكن العقل لا يستطيع أن يفعل المستحيل فيستبعد ما يعده العقليون الأقحاح من عناد الأفراد - أعني عقيدة كل فرد أنه عند حد أدنى معين لا بد أن يختلف عن غيره، وأن له إرادة، وشخصية خاصة به. هذه الإرادة - عند حد معين - يجب أن تجد لنفسها دعامة من الإيمان «تستند إلى الأمور التي لا تروى».
الفصل الثاني
المنبع الهليني
وصلت إلينا كتابات كلاسيكية، أو قديمة، أو إغريقية، يرجع تاريخها على وجه التقريب إلى ما بين عام 750ق.م، وعام 1000 ميلادية، تشمل مجال التفكير الذي قام به الناس في ميادين المعرفة اللاتراكمية. وقد عبر الفلاسفة الإغريق، ومراقبو الطبيعة البشرية منهم، والمؤرخون الإغريق، ورجال الأدب، في صورة من الصور، عن كل ضروب الخبرة الفكرية والعاطفية تقريبا التي عرفها أهل الغرب ووضعوا لها الأسماء. وقد يبدو هذا القول مبالغا فيه، وهو ليس بطبيعة الحال إنكارا للقوة، والوزن، والجمال والحكمة، والابتكار، بشتى المعاني مما تم إنجازه في العصور الوسطى أو الحديثة في هذه الميادين.
Bilinmeyen sayfa
وتستطيع أن تلمس صحة هذا الزعم في أي ميدان تقريبا؛ ففي الأدب مارس الإغريق كل ما نعرف من أشكال، بما فيه شيء يقرب جدا من الرواية، في النهاية. وقد بلغوا في الملحمة خاصة، وفي الشعر الغنائي والشعر التمثيلي، وفي التاريخ، مستويات لم نستطع بعد أن نتخطاها، بل لم نستطع أن نبلغها كما يرى بعضهم. وفي الفلسفة طرحت مدارسهم كل المشكلات الكبرى - الكينونة والصيرورة، والواحد والمتعدد، والجسم والعقل والروح والحالة - وقدموا لها حلولا كبرى. وكان من بين الفلاسفة الإغريق: المثاليون، والماديون، والعقليون، والوجدانيون، والمؤمنون بالتعدد، والمتشككون، والساخطون والنسبيون، وأصحاب المذهب التجريدي. أما التصوير فلم تصلنا منه أصول. وقد كان التدهور في أكثر وجوه الحضارة - الذي أعقب انهيار العالم الإغريقي الروماني - عظيما، إلى درجة أن الناس لم يستطيعوا أن يعنوا بهذه الصور، أو على الأقل لم يفعلوا ذلك. وهناك شك في أن فن التصوير عند الإغريق بلغ من العظمة ما بلغه فن النحت أو العمارة. ولا يخامرنا شك في عظمة الفنين الأخيرين اللذين أمكن أن يصلا إلينا، وإن يكن في صورة ناقصة في أكثر الأحيان، لصلابة المادة التي صنعتا منها. وأخيرا في ميدان العلوم والمعرفة التراكمية طور الإغريق إلى درجة رفيعة الجانب النظري من الرياضيات وعلم الفلك، وقاموا بعمل قيم في علم الطبيعة وفي الطب. وقد بنوا في ذلك إلى حد ما، على ما تم من قبل في مصر وفي بلاد النهرين. ثم بنى الرومان، إلى حد ما، على ما أنجزه الإغريق، وبلغوا مستويات رفيعة في الهندسة. أما في الحياة السياسية والاقتصادية فقد بلغت الثقافة في هذا الصدد درجة عظيمة من التعقيد. كان هؤلاء الناس، في عبارة موجزة، قوما «متمدنين» مدنية كاملة.
وفي الحق لقد بلغت هذه الحضارة القديمة مكانة عالية، حتى إن الكتاب والمفكرين، في فرنسا وفي إنجلترا، لم يستطيعوا إلا حوالي عام 1700 ميلادية أن يفكروا في إمكان أن يقتربوا - وهم المحدثون - من الإغريق والرومان ككتاب وفنانين وعلماء - أو كأشخاص متمدنين، في إيجاز. ولكن مكانة «القديم» بهذا المعنى كادت تختفي من أمريكا في منتصف القرن العشرين؛ ففي التربية العامة فقد الكلاسيكيون حتى أعمالهم الرجعية، ولم تعد اليونانية تدرس في المدارس الثانوية. وبقيت اللاتينية ولا تكاد تعدو الدراسة الشكلية الخفيفة.
وبالرغم من أن كثيرا من الأمريكان المتعلمين في جهل تام بالعمل الذي كان له في وقت من الأوقات معنى عظيم، فإن أعمال اليونان ما زالت تكون جانبا رئيسيا من المحصول الأساسي لثقافتنا، وليس من قبيل الحذلقة ، أو حتى من قبيل العامة العلمية، أن يرجع علماؤنا في السيكولوجيا - بعد كثير من علماء العلوم الإنسانية والأدباء - إلى الإغريق. وإذا كان علماء السيكولوجيا قد أخذوا عن المصادر الإغريقية «عقدة أوديب»، والعقدة النرجسية (أو حب الذات)، والفوبيا (الحب الجنوني) والمانيا (التهوس)؛ إذا كانوا قد فعلوا ذلك فلأن الميثولوجيا (الأساطير) عند اليونان هي في الواقع من الكنوز المذهلة فيما يتعلق بالملاحظات الواقعية - والخيالية في غير المعنى الرومانتيكي - عن سلوك الإنسان وآماله، وطبيعته البشرية المعهودة التي لا ينضب لها معين. وليست الأساطير النوردية أو الكلتية إذا قورنت بالأساطير الإغريقية إلا أمرا تافها، ضئيلا، ساذجا، فيما يتعلق بالطبيعة البشرية. إننا لا نعرف أنفسنا حق المعرفة إذا لم نعرف شيئا إطلاقا عن الإغريق. كما أن التجربة اليونانية الرومانية في الحضارة كانت كاملة من بعض النواحي. وهي تعرض - كما يذكرنا بذلك فلاسفة التاريخ - شيئا يشبه الدورة الكاملة، من الشباب إلى الكهولة إلى الموت، أو من الربيع إلى الشتاء. لها بداية كما أن لها نهاية.
وأخيرا، ترعرعت الديانة المسيحية في هذه الحضارة، وليس من شك في أن للمسيحية أصولا يهودية تخرج كثيرا عن نطاق التأثير الإغريقي، ولكنها في نموها ونظامها كانت جزءا لا يتجزأ من العالم اليوناني الروماني في السنوات القلائل الماضية في الحياة العملية لتلك الحضارة. ولا نستطيع أن نفهم المسيحية اليوم إلا إن فهمناها في ذلك الحين.
إن أصول الإغريق غير مسطورة في التاريخ، ولكنها تنعكس واضحة في الأساطير والخرافات الإغريقية وفي الآثار الباقية. ومن الواضح أن الشعوب التي تتكلم الإغريقية جاءت من الخارج، من الشمال من حوض الدانوب، أو حتى أبعد من ذلك شمالا. وهم ينتسبون من ناحية اللغة على الأقل إلى الجرمان والكلت والسلاف. وقد هبط هؤلاء الإغريق - أو الهلينيون كما يسمون أنفسهم - في موجات متلاحقة، كان آخرها الموجة الدورية التي أتمت زحفها في فترة تاريخية معينة عند بداية الألف السنة الأولى قبل المسيح - أو هبطوا على ثقافة وطنية سابقة نسميها اليوم «المنوانية». ويكاد يكون من المؤكد أن الهلينيين والمنوانيين قد امتزجوا عنصريا وثقافيا، مع سيادة الهلينيين، ومع هبوط المستويات الثقافية، الذي يصاحب غزو شعب أقل حضارة لشعب أعلى حضارة؛ لأن المنوانيين كانت لهم حضارة رفيعة، كما تدل على ذلك آثارهم في النحت والعمارة. ومن هذا العهد المظلم برز الإغريق بوضوح في القرن الثامن قبل الميلاد، تجارا ومحاربين - كما كانوا من قبل - وفنانين سابقين، بل ومفكرين أيضا فيما يبدو، ومنظمين ذلك النظام الإغريقي المشهور الذي يعرف بالمدن الحكومية ذات السيادة التي تحكم نفسها بنفسها. وفي المدينة الحكومية نشأت ثقافة الإغريق الكلاسيكية. وكان حجم أثينا والأرض التي تجاورها أتيكا، في القرن الخامس قبل الميلاد - وهو قرن عظمتها - يبلغ مبلغ مدينة أمريكية متواضعة في العصر الحاضر، سكانها لا يجاوزون مائتي ألف نسمة.
إن ألف العام من مدنية البحر المتوسط الكلاسيكية تقدم إلينا شيئا لا نستطيع إهماله - فرصة نشاهد فيها نوعا من تجربة مجموعة من الآراء التي ما برحت جزءا من حياتنا اليومية. وربما كنا نسلك سلوكنا الراهن بسبب ما فعلته أجيال كثيرة جدا من أسلافنا باعتبارهم أشخاصا من قبل التاريخ، أكثر مما نسلك هذا السلوك بسبب ما فعلته الأجيال القليلة نسبيا من أسلافنا باعتبارهم أعضاء في ثقافة البحر المتوسط الكلاسيكية هذه. فالأجسام البشرية، من الكبد إلى المخ، كانت في أساسها منذ ألفين وخمسمائة عام كما هي اليوم، كما أن كثيرا من عاداتنا العقلية، وعواطفنا، وحاجاتنا السيكولوجية، قد تكون بغير شك قبل أن يكون للإغريق ذكر بوقت طويل، غير أن التاريخ لا يروي لنا إلا القليل من هذه الأمور، وبالأخص تاريخ الفكر؛ فتاريخ الفكر الغربي يبدأ في الواقع إلى حد كبير بالإغريق، لأنهم كانوا أول من استخدم العقل بطريقة جديدة تلفت النظر. وقد خلف الإغريق أول سجل ثابت شامل في مجتمعنا الغربي لنوع التفكير الذي تقوم به في حياتنا بقدر كبير (وإن كان أحيانا ضد ما نهوى). وليست هناك كلمة جيدة، خالية من الغموض، لهذا اللون من التفكير. ولنطلق عليه في بساطة اسم «التفكير الموضوعي».
ولم يكن الإغريق أول شعب مفكر، بل ولم يكونوا أول من فكر تفكيرا علميا؛ فقد استخدم المساحون المصريون، وراصدو النجوم الكلدانيون، الرياضيات. ومن ثم فقد فكروا تفكيرا علميا. ولكن الإغريق فكروا أولا في مجال الخبرة الإنسانية كلها؛ بل لقد فكر الإغريق في كيفية سلوكهم. وربما حاول كل إنسان أن يفعل ما فعل الإغريق بالتفكير - أي هيأ نفسه للكون الغريب، المحير، والمعادي أحيانا، الذي ليس بالتأكيد هو ذاته، والذي يسير فيما يبدو في أغلب الأحيان غير آبه به، والذي يظهر أن له إرادة، وقوة، وغرضا، لا يتفق وأغراضه في كثير من الأحيان، وربما كان البوشمان في أستراليا، والإيروكوا، والكالموك، وسائر الشعوب الأخرى، يفكرون في هذه الأمور، ولو عرفنا فعلا كيف تعمل عقولهم استطعنا أن نفهمهم. ولكن ما نود أن ننبه إليه هو أن بعض الإغريق - في وقت قد يرجع إلى العصر العظيم - قاموا بهذا التفكير «على طريقتنا»، وفكرت عقولهم كما نفكر.
أما أسلافهم البدائيون فلم يفكروا بطريقتنا؛ فقد استمعوا إلى الرعد، وشاهدوا البرق، ونالهم الخوف، وأدركوا قطعا أن البرق أو الرعد ليسا من البشر، لكن لا بد أن يكونا من الأحياء - فكل شيء عند بعض البدائيين حي. ولذا فقد انتهوا إلى الإيمان بأن كائنا شديد القوى، أسموه الإله زيوس، يلوح بصواعقه الشيطانية خلال السماء ويسبب كل هذا الاضطراب، وظنوا أنه يلوح بها أحيانا في وجه الآلهة الأخرى، وأحيانا يلوح بها لمجرد إظهار غضبه، وأحيانا أخرى - بطبيعة الحال - يلوح بها في وجه الإنسان الفاني، فيلحق به الموت. ويعتقد الإغريقي الطيب - أو يأمل - أنه لو أدى لزيوس الاحترام الواجب فإن الإله لا يصيبه بالصواعق. وحتى في قلب أيام الثقافة الأثينية العظيمة، كان الرجل العادي يعتقد في زيوس وصواعقه.
ويلاحظ أن الإغريق الأوائل «فسروا» الصواعق، وفسروا كل شيء تقريبا بأنه من صنع الآلهة، أو الأرواح، أو الجن، أو العمالقة، أو ذلك النوع من الإنسان الراقي الذي أطلقوا عليه اسم الأبطال. غير أن بعض الإغريق - ولسنا ندري متى أو أين انتهوا إلى أن أمورا كثيرة تجري في الكون دون أن يقربها أي إله من الآلهة ؛ فاعتقدوا - على سبيل المثال - أن الجو يصنع نفسه بنفسه، ولم يعرفوا الكثير عن الكهرباء، ولم يعرفوا بالتأكيد ما يكفي لأن يربط الأمثلة البسيطة من المغناطيسية التي لاحظوها بأي شيء يبلغ في قوته قوة الرعد والبرق. ولكننا نستطيع أن نقول إنهم اعتقدوا أن الصواعق ظواهر طبيعية، تخضع للتفسير العلمي المعقول.
ويصور أرستوفان في مسرحية «السحب»، التي مثلت لأول مرة في عام 423 قبل الميلاد، الصراع بين التفسير القديم الخارق للطبيعة والتفسير الحديث الطبيعي. وبالرغم من المجون والهزل المقصود - الذي يعرض فيه مؤلف المسرحية القضية العلمية - تستطيع أن تدرك أن بعض الأثينيين كانوا يعتقدون نظرية جوية لها قيمتها، تقول بأن الرياح تسير من مناطق الضغط العالي إلى مناطق الضغط المنخفض. وقد صعق أرستوفان - أو لعله تظاهر بالذهول ليؤثر في جمهور المستمعين - لهذه الآراء المختلفة، وهو يترك فينا أثرا بأن نظرية زيوس القديمة هي الأصح، ولكن بالرغم من السخافات التي يجريها على لسان الفيلسوف سقراط - وهو عنده مثال المفكر الجديد - تستطيع أن تلمس العقل الإغريقي وهو يعمل جاهدا في تفسير ظاهرة الجو.
Bilinmeyen sayfa
وليس معنى هذا أن المفكرين المجددين كانوا ضد الدين، أو أنهم كانوا ماديين. نعم كان بعضهم كذلك، كما كان كثير من المفكرين الإغريق والرومان المتأخرين بتعبيرنا في الوقت الحاضر عقليين كاملين. ولكن العقل عند الإغريق في العصر العظيم كان أداة جديدة مثيرة يستخدمونها في كل التجارب البشرية بما فيها التجربة البشرية التي تتعلق بالأمور المقدسة. ويستطيع المرء على أكثر تقدير أن يقول إن الإغريق الأوائل استخدموا العقل في ثقة وفي مجال فسيح، وأنهم كانوا يحبون نسج النظريات، وأنهم لم يحسنوا ذلك الضرب من جمع الحقائق البطيء وملاحظتها واختبارها الذي يستخدمه العلم الحديث. وقد جمع الإغريق فيما بعد كثيرا من الحقائق في البحث والعلم، وقل من الناس منذ ذلك الحين من جمع من الحقائق أكثر مما فعل أرسطو.
وجدير بنا أن نسير في هذه المسألة - مسألة الطريقة التي كان يعمل بها العقل الإغريقي - شوطا أبعد من ذلك قليلا. وتواجهنا في هذه المرحلة مشكلتان فلسفيتان على الأقل غاية في القدم: مشكلة التعميم، ومشكلة المتشابه وغير المتشابه التي ترتبط بها.
وقد قلت - أولا - منذ حين «الطريقة التي يعمل بها العقل الإغريقي»، ولكن هل كان هناك عقل إغريقي؟ ألم يكن هناك الملايين من أفراد الإغريق، لكل عقله الخاص؟ في أي جمجمة محسوسة يستقر هذا «العقل الإغريقي» العجيب؟ وسنعود بشكل جدي إلى هذه المشكلة - مشكلة التعميم - حينما نصل إلى أوروبا في العصور الوسطى، حينما احتلت بين المثقفين مكانة مركزية، أما هنا فيكفينا أن نلاحظ أن هناك آراء جانبية حول المشكلة، وهناك وسائل نتجنب بها الحكم بأنه كانت هناك عقول إغريقية بقدر ما كان هناك من إغريق، ووسائل نتجنب بها الحكم بوجود عقل إغريقي واحد، هو اللب أو النمط في كل التفكير الإغريقي (وهو حكم أشد سخفا من سابقه في نظر الأمريكي العادي).
ويقع حل المشكلة في هذه العبارة المألوفة «رأيه الخاص»، وذلك أن «كلا منا» يحب بطبيعة الحال أن يعتقد أن له رأيا خاصا. ولكن هل نعتقد حقا أن لكل أمريكي من المائة المليون البالغين رأيا خاصا؟ وهل تمتلئ الملايين العديدة من هذه العقول في أكثر الأحيان بنفس الرأي، بالأفكار التي تصاغ على صورة واحدة بالراديو والصحف، وهوليوود والمدرسة، والكنيسة وكل العوامل التي تلعب بعقولنا؟ وهناك من غير شك العصاة، والمنشقون، والذين «يخالفون» عن عمد - وإن يكن حتى هؤلاء يتجمعون في طوائف صغيرة تشترك في كثير من الآراء. والواقع أن قولنا: «العقل الإغريقي»، و«العقل الأمريكي» مفيد؛ لأنه يقابل واقع الخبرة العادية.
ويمكن أن يساء استخدام أمثال هذه العبارات بالمبالغة في تبسيطها، وتجميدها، وتهوين العلاقة بينها وبين الواقع. ولكنا لا نستغني عنها في مرحلة النمو العقلي التي بلغناها نحن المحدثين.
فلنسلم إذن بأن هناك عقلا إغريقيا، وأن هذا العقل يعمل في كثير من الأحيان بنفس الطريقة التي يعمل بها العقل الأمريكي. ولكن أليست كل العقول - كالعقل الصيني، وعقل البوشمان - أقرب إلى التشابه منها إلى الاختلاف؟ إن أمامنا هنا وجها خاصا من أوجه المشكلة المنطقية التي تعرضنا لها فيما سبق على عجل. وكحل عملي - مرة أخرى - نقول إن بين الجنس البشري، والمجموعات البشرية، أوجها من التشابه وأوجها أخرى من الخلاف، وإن من واجبنا أن نحاول وصف الجانبين، وربما كان آمن - على سبيل المثال - أن نقول إن أجهزة الهضم في الكائنات البشرية متشابهة، وإن الخلاف في أدائها وظائفها خلاف بين فرد وآخر، وليس خلافا بين جماعة وأخرى، وإن يكن هذا الخلاف عظيما ويرجع إلى أسباب معقدة. ويمكن بعبارة أخرى أن نقول إنك قد تستطيع أن تقسم الناس قسمين: أصحاب الهضم الجيد وأصحاب الهضم السيئ، إلا أن الأفراد في كل مجموعة لا يكادون يشتركون في شيء. وإذن فهذه ليست بالمجموعات الحقيقية، من ذلك النوع الذي يدرسه المؤرخون وعلماء الاجتماع.
والكائنات البشرية - من ناحية أخرى - تختلف اختلافا بينا في لون البشرة. ويمكن تقسيم كل الكائنات البشرية في نوع من أنواع الطيف اللوني، كل لون فيه يدخل في غيره، من الأسود الفاحم إلى ناصع البياض - وإن يكن من العسير جمع الحقائق التجريبية التي تتعلق بهذا التقسيم؛ فالخلافات الفردية إذن لها أهميتها القصوى. ومع ذلك فالمجموعات - من الرجل الأبيض، إلى الرجل الأصفر، إلى الرجل الأسود - لها أهمية أكبر. هذه المجموعات، أو هذه العناصر، ليست كما يظن الجاهلون أو المتعصبون، «لكن لا ينكر أنها من حقائق الحياة». وربما كان بين الصيني المتوسط، والأمريكي المتوسط، والأفريقي الزنجي المتوسط - إذا جمعنا كل الصفات البشرية وكل ضروب نشاط الإنسان - من التشابه أكثر مما بينهم من الخلاف. ولكنهم يختلفون في لون البشرة، وعلى هذا الخلاف قامت أهمية كبرى في العلاقات الإنسانية.
وإذا تحدثنا عن أوجه الخلاف وأوجه الشبه بين عقول الناس، كان أمامنا بالتأكيد مجموعة من المشكلات ليست أقل تعقيدا من مشكلات اختلاف اللون. والفروق الفردية هنا عظيمة جدا، وهي تتقاطع بشكل واضح مع حدود المجموعات، من حيث القومية، والطبقة، واللون، وما شابه ذلك، وإذا قصدنا بالعقل ما يقصده الفسيولوجيون ب «الذهن»، فإن الخلافات الفردية تكون واضحة. وإذا قصدنا «عقل الجماعة»، فهناك فعلا مجموعات تشترك في الرأي، والعاطفة ، والعادات العقلية، التي تختلف من الآراء والعواطف، والعادات العقلية للمجموعات الأخرى. وليس من شك في صدق ذلك إذا نحن حكمنا «بثمار» النشاط العقلي. فإن مقطوعة من هومر حتى في الترجمة إلى الإنجليزية تختلف عن أي مقطوعة من العهد القديم العبري أو من كتاب الموتى المصري. والتمثال الإغريقي لا يشبه التمثال الهندي القديم، والمعبد اليوناني لا يشبه ناطحة السحاب الأمريكية.
فإذا قلنا إن الإغريق هم أول من استخدم التفكير الموضوعي بطريقة معينة، وإن الإغريق عاشوا في جو عقلي يشبه جونا العقلي في كثير من الوجوه، ويختلف كل الاختلاف عن تفكير جيرانهم، إذا قلنا ذلك فنحن نصدر حكما عاما جدا من نوع الأحكام التي لا مناص لنا من إصدارها في مثل هذه الأمور، إن الكيموي يمتلك من طرق التحليل ما يمكنه من التحديد، والوزن، والقياس بدقة بالغة، فيستطيع أن ينبئك من أي الوجوه يشبه مركب مركبا آخر، ومن أي الوجوه يختلف المركبان. ولا يستطيع دارس البشر أن ينبئك إن كان الناس عامة إلى الخلاف أقرب منهم إلى التشابه؛ فالناس مركبات معقدة أشد تعقيد.
وبالطبع كان هناك من الإغريق القدامى من لم يفكر تفكيرا منطقيا - وسوف نلتقي ببعضهم. كان هناك من الإغريق القدامى من كانوا بمزاجهم على الأقل يطمئنون في فلسطين أو الهند أو الولايات المتحدة في العصر الحديث. وكل ما نستطيع أن نذكره هنا ونحن آمنون هو أن مجال نشاط العقل الإغريقي فسيح جدا، وفي داخل هذا المجال معيار، أو نمط، أو طريقة من طرق التفكير المميزة أسميناها التفكير المنطقي، وهي نصف التفكير الشكلي الإغريقي (أو الفلسفة) كما تصف الثقافة العامة الأوسع التي نظنها إغريقية خاصة بالإغريق.
Bilinmeyen sayfa
التفكير الإغريقي الشكل
بلغ الإغريق من القلق والطموح - وربما أيضا من مجرد التبكير في تاريخ الفكر الغربي - حدا لا يقنعون معه باستخدام التعليل البطيء، المحدود، التجريبي دائما، الذي نسميه العلوم الطبيعية. كانوا يبحثون عن حلول للمشكلات الكبرى التي لم يوفق العلماء حتى اليوم في حلها، وربما لا يوفقون البتة إلى ذلك: كيف بدأ الكون؟ ما مصير الإنسان فوق هذه الأرض؟ هل هناك حياة أخرى؟ هل الدليل الحسي وهم؟ أيهما أشد واقعية، التغير أم الدوام؟ وحتى في العلوم هنا من الإغريق من فكر في مثل الصرامة التي فكر بها أفضل العلماء المحدثين، ولاحظ بمثل الدقة التي لاحظوا بها. ويجدر بنا أن نبدأ في عرض موجز لمدى التفكير الإغريقي في العصر العظيم بمثالين من أمثلة هذا النوع من التفكير العلمي:
المثال الأول:
تلك الكتابات التي تعزى إلى أبقراط، وهو من علماء الطبيعة في القرن الخامس. وقد ترك أبقراط أو تلاميذه وصفات طبية لأمراض فردية محسوسة يمكن أن تكون حتى اليوم نافعة. وهو لم يتخط مرحلة الشيطان أو رجل الطب في التفكير في الأمراض فحسب، وإنما تخطى كذلك المرحلة التالية، مرحلة النظريات العامة الساذجة الطموحة - عن الأمراض - كأن يدمى المريض دائما للتخفيف من الحمى، وأن يتناول في كل حالة «شربة» مسهلة. إنما كان يحصل على الحقائق مباشرة، حتى يستطيع أن يتعرف المرض في المرة الثانية، ولا يخلط بينه وبين الأمراض الأخرى التي تبدي أعراضا مشابهة وإن لم تكن مطابقة.
وليس هذا بالعمل الهين. وقد كان أبقراط يدرك أنه يعرف القليل عن الأمراض، ولكنه أراد أن يعرف هذا القليل معرفة جيدة منظمة. وكان يؤمن بأن الطبيعة تميل إلى أن تعيد في المريض التوازن الذي نسميه الصحة. وكان يتشكك في الأدوية، وبخاصة تلك التي ترتبط بالنظريات الكبرى عن الصحة والمرض. ومن ثم فقد كان الغرض الأول عنده كطبيب هو «ألا يغير» وأن يريح المريض، وأن يمكن الطبيعة من أن تقوم بعملها العلاجي. وقد ظن بعض معاصريه أنه بغير قلب؛ تهمه دراسة الأمراض أكثر مما يهمه علاجها. غير أن أبقراط ظفر بالتقدير فيما بعد، باعتباره المؤسس الحقيقي لعلم الطب، وحتى عصرنا الحاضر يردد أطباؤنا قسم المهنة المشهور «يمين أبقراط»، وإن يكن هذا القسم هو بالتأكيد من وضع عهد متأخر.
والمثال الثاني:
هو المؤرخ ثيوسيديد، الذي اقترب من كتابة التاريخ بطريقة علمية كما فعل أي مؤرخ آخر. فإن ثيوسيديد - كأبقراط، الذي ربما أخذ «ثيوسيديد» عنه العلم - يكتب نوعا من التقارير الطبية. إنه يحاول أن يبين ما جرى فعلا خلال حرب بلبونيز بين أثينا وإسبرطة، حينما ثارت عواطف الناس إلى درجة تكاد تكون مرضية. لم تكن عنده نظريات ضخمة عن تاريخ البشر، ولم يكن لديه أمل في علاج شرور الحرب. ولم ينضم إلى جانب أثينا أو جانب إسبرطة، وإن يكن قد تولى القيادة من قبل في جيش أثينا. ولم يهتم بالحكايات، أو الفضائح، أو حوادث التاريخ المثيرة للخيال، وإن تكن لديه أفكار عن الحق والباطل - أو قل إن شئت أهواء. وهو يؤثر بوضوح النظام، والهدوء، ومزايا الحياة الاجتماعية، على العصيان، والمنافسة القوية، وأسباب القلق، والقسوة، والعنف. ولكنه لم يكن واعظا، إنما كان يلاحظ ويراجع ما دون عن النضال الدرامي بين كائنات بشرية معينة، ويحتفظ بهذا التدوين حتى يكون الخلف أحكم في العلاقات البشرية.
غير أن ميدان المعرفة العظيم الذي أوضحه الإغريق لأنفسهم في تلك القرون الأولى لم يكن في العلوم، إنما كان في الفلسفة. وكلية الفلسفة ذاتها إغريقية، وتعني بالحرف: «حب الحكمة» أو: «حب المعرفة»، وقد أصبح لها فيما بعد معنى فني عند الإغريق المتأخرين يقرب من معناها في أذهاننا، وهو: محاولة الإجابة عن المشكلات الكبرى التي ذكرناها من قبل. وقد تساءل الإغريق عن كل هذه المشكلات الكبرى، وأجابوا عنها جميعا، وبالرغم من أن بعض الناس قد أدخل في هذه الأسئلة والإجابات تحويرا طفيفا منذ عهد الإغريق، إلا أن المعاصرين من الفلاسفة لا يزالون يسيرون على الأرض التي تجادل فوقها الإغريق. وإذا كانت الفلسفة معرفة تراكمية، فهي ليست تراكمية كعلم الطبيعة، ولا يزال الفلاسفة يختلفون في كل شيء إلا في بعض طرائقهم في التفكير، في حين أن علماء الطبيعة متفقون في لب الموضوع. ولا يسلم الفلاسفة بطبيعة الحال - إلا إذا استثنينا المنطقيين الوضعيين في الوضع الحاضر - بأن موضوعهم تنقصه طرق اختبار صحة ما يصلون إليه من نتائج. إلا أن معاييرهم - كما يقولون - في تحديد الصدق «تختلف» عن معايير العلماء. وهم يزعمون أن موضوعهم قد تقدم كما تقدم المنطق أو الرياضة.
وبالرغم من أن أكثر ما دونه فلاسفة اليونان حتى حوالي عام 400ق.م لا يوجد إلا في صورة قصاصات، أو مقتبسات من هنا وهناك، أو روايات في الكتب التي وصلت إلينا، إلا أننا نعرف أن الإغريق قد ساروا شوطا بعيدا عندما جاء عصر أرسطو وأفلاطون، ولسنا في حاجة هنا إلا إلى أمثلة من المجال الفسيح الذي صالوا فيه.
كانت عندهم مدرسة في وقت باكر - هي مدرسة أهل أيونيا - تعتقد أن كل شيء قد تطور عن مادة أبسط، وهي المادة الأولى للدنيا، كالماء والهواء. والظاهر أن أحدهم - إنكسمندر - كان يعتقد أن الكائنات البشرية قد تطورت عن الأسماك. وكان هذا مجرد حدس؛ فإن هذا الفيلسوف الأيوني لم يسبق دارون في البحوث البيولوجية الطويلة الدقيقة، بل إن خصوم المزاج الفلسفي الإغريقي يقولون إنه مثال طيب للفيلسوف - رجل ذو أفكار ولكنه يعدم الوسيلة التي يختبر بها صحة هذه الأفكار.
Bilinmeyen sayfa
وثمة إغريقي آخر - هرقليطس - كان يعتقد أن كل شيء يتدفق، وأن الصيرورة هي الحقيقة الوحيدة. يقول إن هذا النهر الذي تنظر إليه والذي تطلق عليه اسما واحدا ليس هو بعينه في أية لحظة من اللحظات. أما بارمنيدس فكان على نقيض مذهب هرقليطس تماما في التدفق؛ لأن التغير عنده وهم، والحقيقة كل واحد عظيم، كامل، لا يتجزأ.
أما ديموقريطس - وهو مادي متطرف - فكان يعتقد أن كل شيء، بما في ذلك الإنسان وعقله وروحه، يتكون من جزيئات صغيرة جدا لا ترى ولا تتجزأ، يسميها: الذرات. وأرجو أن تلحظوا هنا أن هذه نظرية فلسفية، وليست تفكيرا سابقا لعلم الطبيعة الحديث. أما فيثاغورس - الذي كان رياضيا أيضا - والذي ارتبط اسمه دائما بالنظرية التي تقول بأن المربع المنشأ على الوتر في مثلث قائم الزاوية يساوي مجموع المربعين المنشأين على الضلعين الآخرين، أما فيثاغورس كفيلسوف فكان دائما في الجانب غير المادي، أو الروحي. كان يعتقد في الأرواح غير المادية وفي صورة من صور الميتافيزيقيا، هي تناسخ الأرواح.
وقد افتتن الإغريق بهذه القدرة التي مارسوها آخرا ، القدرة على التعليل، فتابعوها في متاهة المنطق الصرف، بل في أركان هذا المنطق وزواياه. وقد اشتهرت في هذا الباب مشكلة السلحفاة والأرنب، التي ذكرها أول الأمر زينو الذي ينتمي إلى مدرسة إليا، وباتت - بالطبع - مجرد اختبار للذهن. وهذه هي المشكلة: إذا سلمنا بأن أخيل - أسرع الرجال عدوا - يجري بسرعة تساوي عشرة أمثال سرعة السلحفاة، وأنه قد وضع السلحفاة في موضع يسبقه بعشر أقدام، فإن أخيل لن يلحق بها. لماذا؟ ذلك أن أخيل إذا تقدم عشر أقدام تقدمت السلحفاة قدما، وإذا تقدم أخيل القدم التالية، تقدمت السلحفاة عشر القدم - وهكذا إلى الأبد، سوف يفصل بينهما دائما جزء من البوصة.
وهناك أيضا لغز الكذاب الذي يعزى إلى رجل اسمه يوبليديز من مجارا. يقول أبيمنديز الكريتي: «كل أهل كريت كذابون.» ولكن أبيمنديز نفسه الذي يقول بهذا كريتي، فهو إذن كذاب؛ ومن ثم فإن قوله ليس بصحيح. ومن ثم فإن أهل كريت ليسوا بالكذابين ومن ثم ... وهكذا.
ولكن حتى واضعو الألغاز كانوا يقومون بشيء أكثر من اللعب بأداة جديدة؛ كشفوا أن العادة والإدراك العام تضلل في بعض الأحيان، وأن الأشياء ليست دائما كما تبدو، وأن التفسير المعقول أو العلمي للظواهر يناقض أحيانا الانطباعات الحسية. ونعتقد أن زينو كان يعرف أن أخيل في هذا العالم الواقعي يسبق السلحفاة في لمح البصر، ولكنه كان أيضا يعرف أن الآراء التي يكونها المرء بالإدراك العام عن الزمان والمكان والحركة لم تكن هي الكلمة النهائية في هذه الأمور. إن عالم الطبيعة الحديث يقول إن بحوث زينو في العلاقات بين المكان والزمان تؤدي إلى طريق ضيق مغلق. بيد أنها - برغم ذلك - كانت مكتشفات في مجالات مجهولة، تشير إلى العقل الإغريقي القلق المتطلع.
وكذلك لم يقم هذا النشاط الذهني في عزلة منفصلة؛ فإن فلاسفة الإغريق في تلك القرون الأولى كانوا بالتأكيد هم من نسميهم اليوم بالمثقفين، غير أنه يبدو أنهم كانوا أسرع إلى الاختلاط مع مواطنيهم في الأماكن العامة من المثقفين في العالم الحديث. وهم لم يردوا بأية حال من الأحوال كل زملائهم من المواطنين إلى الفلسفة، وسنرى في الفصل المقبل أن كثيرا من آرائهم في الدين والأخلاق سبقت رجل الشارع بمدى فسيح. ويظهر النزاع بين الآراء الجديدة والوسائل القديمة في وضوح عند أول فيلسوف نعلم عنه الشيء الكثير، وأعني به سقراط، وهو رجل ظل اسمه ما ينيف على ألفي عام رمزا للبحث الفلسفي.
كان سقراط مواطنا أثينيا، مهنته قطع الأحجار، وطبيعته طبيعة المعلم الواعظ الذي لا ينفك عن التعليم. ولا نعرفه بما كتب بنفسه فحسب - فقد كان محدثا ولم يكن كاتبا - وإنما نعرفه أساسا مما كتب اثنان من تلاميذه: أفلاطون الفيلسوف، وزنوفون المؤرخ. وقد أحبه تلاميذه. أما بقية أهل أثينا فقد ساورتهم فيه مشاعر مختلطة، وقد اعتاد أن يجر زملاءه المواطنين إلى البحث الفلسفي ويحثهم عليه، وكان يشبه نفسه بذبابة الماشية، هدفه أن يلدغ زملاءه فيخرجهم عن اقتناعهم ورضاهم بالطرق التقليدية، كما يخرجهم عن عدم المبالاة والتراخي إزاء ما في هذه الدنيا من شرور. ذلك أن سقراط كان وليد الحركة الفكرية الجديدة التي شكت في التقاليد، والمظاهر، والمسلمات، وبحثت عما يفضلها. ومهما يكن من شيء فقد كان رجل الأخلاق أقرب منه إلى الميتافيزيقي. وقد وقف متحديا عمالقة أثينا على أساس خلقي.
وآراء سقراط الأساسية عن الحق والباطل هي في صميمها آراء أكثر المذاهب الخلقية الكبرى، بما فيها «القاعدة الذهبية» و«المثل الطيبة» لم يحب الكذب، أو الغش، أو السرقة، أو القسوة في ميدان الآلهة التي نشأ هو ومواطنوه على العقيدة فيها (آلهة ما نسميه اليوم ب «الأساطير اليونانية») فقد كانت تكذب، وتغش، وتسرق بل وتفعل ما هو أسوأ من ذلك. وهذه الأفعال الخبيثة عند الإنسان، فكيف تكون طيبة في إله؟ واعتقد سقراط أن في باطنه أشياء خيرا من هذه؛ أشياء يحدثها عن ضميره، أشياء أفضل من هذه الحكايات التي تعلمها في صباه، وعليه أن يتبع ضميره، ولا يتبع التقاليد. ورأى أن «المعرفة هي الفضيلة»، وأنك إذا عرفت الطيب «فعلا»، فلن تستطيع أن تفعل الخبيث. والتقاليد القديمة ، والوسائل القديمة المتراخية لم تكن - في اعتقاده - معرفة، إنما كانت جهالة.
وقد يجذب سقراط مواطنا أثينيا في السوق العامة في أثينا، ويأخذ معه في الحديث، ويسأله في براءة: «ألست تعتقد أن زيوس يحيا حياة طيبة؟» فيجيبه الآخر: «بالتأكيد.» - وهل تعتقد أن زيوس خلف من بعده أطفالا من امرأة من عالم الفناء؟ - نعم لقد فعل، وقد نشأ محدثه على حكايات تروى عن حب زيوس لليدا، وداناي، ويوروبا، وكثيرات غيرهن، وكان يعرف كل شيء عن أبنائه الأبطال. - وهل تعتقد إذن أن زيوس قد ارتكب الخطيئة؟ (ولم يشأ المواطن المأخوذ أن يوجه إليه السؤال في هذه الصيغة، غير أن سقراط يسوقه في يسر إلى أن يقول: «نعم.» لأن زيوس على كل حال قد تزوج من الإلهة هيرا.) - وهل تعتقد أن الزنا خطيئة؟
وهنا يخضع المسكين لسقراط؛ فليس من نتائج سقراط مفر: إذا كان زيوس يرتكب الخطيئة فهو ليس طيبا، ومن ثم فهو ليس بالإله. أو إذا كان زيوس إلها، فهو طيب، ولذلك فهو لا يرتكب الزنا.
Bilinmeyen sayfa