ويتجلى هذا الاختلاف بين وجهة النظر الخارجية ووجهة النظر الداخلية إلى السلوك بوضوح تام في حالة القدرة على التنبؤ؛ فالعلم يسعى إلى أن يمنح الإنسان القدرة على التنبؤ بمجرى الحوادث الطبيعية وبسلوك الآخرين، والمثل الأعلى له هو أن يكون من الممكن التنبؤ مقدما بأكبر عدد ممكن من الظواهر إن لم يكن بالظواهر كلها. ولكن هل ينطبق ذلك على علاقة الفرد بنفسه؟ وهل يحاول أحد أن يتنبأ «علميا» بما سيسلكه بناء على دراسة وافية بسوابق سلوكه؟ هذا طبعا مستحيل، ويتنافى مع ما يحدث علميا؛ فالأمر المشاهد فعلا هو أن الشعور الداخلي بالحرية يظل قائما مهما زادت معرفتنا العلمية بدوافع الإنسان. بل إنني لأشعر بأن محاولة التنبؤ بسلوكي محاولة عقيمة؛ لأني أنا صانع أفعالي، فلا أحتاج إلى تتبع العوامل المتحكمة فيها، والتي يمكن أن تساعدني على التنبؤ بها.
في هذه الحالة نجد أن عدم قابلية سلوك المرء الداخلي للتنبؤ - حين يكون الأمر متعلقا بمعرفته لنفسه - لا يتعارض على الإطلاق مع شعور المرء بالحرية. بل إن هذا الشعور بالحرية هو ذاته الذي يجعل محاولة تنبؤ المرء بسلوكه محاولة لا معنى لها، والأمر هنا مختلف عما هو عليه في بقية الحالات: فتبعا لوجهة النظر التي عرضناها من قبل، والتي تؤكد عدم التعارض بين العلم وبين الحرية، لا تتنافى الحرية مع قابلية الظواهر الإنسانية للتنبؤ، فإذا تنبأت بأن شخصا أعرفه جيدا سيرفض لونا معينا من الطعام قدم له، فليس معنى ذلك أنه لم يكن حرا في رفضه هذا. وبعبارة أخرى: فإن الجهد الذي يبذله العلم من أجل زيادة قدرتنا على التنبؤ بسلوك الناس لا يتنافى مع الحرية أو يضيق نطاقها. ولكن هذا لا يصدق على ذلك النوع الخاص من المعرفة؛ أعني معرفة المرء بنفسه؛ إذ إن المرء لا يحاول أن يتنبأ بسلوكه قياسا على تصرفاته الماضية، ليس فقط لأن وراء كل فعل عددا لا نهائيا من العوامل التي يكاد يكون من المستحيل الإحاطة بها، والتي قد يستغرق تتبعها - في حالة مجرد اختيار بسيط نقوم به - عمرا بأكمله، بل أيضا لأن الطبيعة الخاصة للمعرفة الذاتية تجعل الشعور بالحرية ضروريا في تعامل المرء مع ذاته؛ بحيث يختلف هذا التعامل اختلافا جذريا عن التعامل مع الآخرين.
على أن هذا الشعور الداخلي بالحرية يقابله، ويرتبط به في الوقت ذاته: شعور آخر لا يستطيع أحد أن ينكر أهميته في حياة الإنسان الأخلاقية، وأعني به الشعور بالمسئولية. هذا الشعور يتخذ - في الحضارات الراقية - صورة علاقة بين الفرد وبين نفسه أو بينه وبين «ضميره»، ولسنا الآن بصدد مناقشة مشكلة التطور الذي طرأ على مفهوم المسئولية؛ بحيث تحولت من مسئولية أمام طرف خارجي - كالمسئولية أمام سلطة المجتمع أيا كان طابعها - إلى مسئولية داخلية لا يتصل الفرد فيها إلا بنفسه، ويكون الفرد فيها هو السائل والمسئول في آن واحد، إنما الذي يعنينا هنا أن مشكلة المسئولية مظهر من مظاهر المعرفة الذاتية للإنسان؛ أعني أن الإنسان لا يعد نفسه مسئولا إلا بناء على معرفة معينة بأبعاد فعله، وبعد تحليل ومقارنة بين فعله الحاضر وأفعاله الماضية، بل بينه وبين ماضيه بأكمله. وربما أدخل مشروعاته المستقبلية في حسبانه أيضا؛ لكي يستيقن من مدى دخول فعله في الإطار الذي يرسمه لحياته في المستقبل، ومعنى ذلك - بعبارة أخرى - أن فكرة المسئولية ترتبط ارتباطا وثيقا بمشكلة العلاقة بين الحرية والعلم، بل إن من الممكن أن تتخذ هذه المشكلة الأخيرة - في أحد جوانبها - طابعا ثلاثيا، يكون أطرافه هو: العلم والحرية والمسئولية، فعلى أي نحو يمكن أن تفهم المشكلة في طابعها الثلاثي هذا؟
ولقد سبق لنا أن ناقشنا موضوع التعارض بين العلم الإلهي الشامل وبين فكرة الثواب والعقاب، أي بينه وبين مبدأ المسئولية أمام الله، وتحدثنا عن الصعوبة التي يواجهها الفكر الإنساني عندما يتصور الله بوصفه خالقا ويتصوره في الآن نفسه بوصفه قاضيا؛ أعني عندما يتصور الخلق الإلهي للإنسان على أنه فعل مطلق تتحدد بوساطته الطبيعة البشرية بجميع تفاصيلها، ويتصور الجزاء الإلهي للإنسان على أنه محاسبة من الله لنفس الإنسان على أفعاله المترتبة على طبيعته هذه، أي على أنه تعبير عن مسئولية الإنسان أمام خالق طبيعته التي تسببت في هذه الأفعال، في هذه الحالة نجد تناقضا واضحا بين العلم - مفهوما بمعناه الإلهي الشامل - وبين الحرية وما يترتب عليها من مسئولية، فهل يوجد مثل هذا التعرض على المستوى الإنساني؟ أعني هل يؤدي العلم الإنساني إلى الحد من المسئولية الأخلاقية مثلما يعتقد البعض أنه يؤدي إلى الحد من الحرية؟
إذا بحثنا هذه المشكلة في أبعادها الثلاثة التي أشرنا إليها من قبل - أعني إذا حللنا العلاقة الثلاثية القائمة بين العلم (أو المعرفة) والحرية والمسئولية - لتكشفت أمامنا - منذ البداية - نقيضة تبدو - لأول وهلة - على قدر غير قليل من الغرابة؛ ذلك لأن الجميع يسلمون بأن الحرية شرط أساسي للمسئولية، ولم يكن التناقض الذي أشرنا إليه منذ قليل بين الله بوصفه خالقا والله بوصفه قاضيا سوى تعبير ضمني عن إيماننا بأن المسئولية لا يكون لها معنى في ظل انعدام الحرية؛ أعني في الحالة التي يكون فيها مصدر الأفعال الإنسانية خارجا عن الإنسان نفسه، أو تكون فيها تصرفات الإنسان خاضعة - بصورة حتمية - لمقتضيات طبيعة لم يكن للإنسان ذاته دور في إيجادها. صحيح أن هناك مجتمعات بدائية تعد الإنسان مسئولا عن أفعال لم يكن هو ذاته مصدرها، أو قام بها مرغما. ولكن حديثنا الآن ينصب على المراحل المتقدمة في الوعي الأخلاقي، وهي المراحل التي تكون فيها حرية الفعل شرطا لا غناء عنه لقيام المسئولية، ومع ذلك فإن المسئولية ذاتها تفترض مقدما نوعا من الحتمية؛ إذ إن عملية وضع المرء موضع المسئولية، تفترض وجود اتصال ضروري بين الشخص حين قام بالفعل الذي يسأل عنه، وبينه في اللحظة التي يسأل فيها، وتفترض وجود خط سببي واحد يجمع بين هاتين اللحظتين. كذلك فإن نتيجة المسئولية وهي الجزاء - سواء أكان جزاء معنويا أم ماديا - تفترض الحتمية؛ لأن هذا الجزاء سيوقع على الشخص بوصفه سببا للفعل. كما أن المفروض أن هذا الجزاء سوف يكون له تأثير معين في الشخص، فيشجعه على فعله المحمود ويثنيه عن الفعل المذموم، ومثل هذا التأثير يفترض بدوره الحتمية والسببية. وهكذا تظهر أمامنا تلك النقيضة بوضوح؛ إذ إن المسئولية تفترض الحرية قبلها، أي كشرط ممهد لها، وتفترض الحرية بعدها؛ أي بوصفها أساس تبرير فعل المسئولية ذاته، وما يترتب عليه من جزاء. وبعبارة أخرى، فإذا كان علمنا بأصل الفعل الذي نحاسب عليه الشخص غير ضروري؛ لأننا نفترض وجود حرية لدى هذا الشخص، فإن علمنا بالنتائج التي ستترتب على محاسبتنا له ضروري حتى يكون لهذه المحاسبة ذاتها معنى. وهكذا يتلخص الموقف في أن المسئولية تقتضي الحرية مقدما. ولكنها تقتضي عكس الحرية؛ أي الحتمية، في المرحلة اللاحقة، كما أن المسئولية لا تشترط العلم في البداية. ولكنها تفترضه وتشترطه في النهاية.
هذه النقيضة تنطوي ضمنا على الاعتقاد بأن الحرية، في مقابل الحتمية، هي المقدمة الضرورية لقيام المسئولية، وهو الاعتقاد الذي قلنا من قبل : إنه - بالنسبة إلى الذهن العادي - يكاد يكون قضية مسلما بها، فهل يصمد هذا الاعتقاد أمام النقد والتحليل؟ وهل من الصحيح أن الحتمية تتنافى مع المسئولية، بمعنى أن السلوك الذي تعرف أسبابه وتحدد مقدما لا يمكن أن يكون سلوكا يسأل عنه المرء؟
من الملاحظ أن هذا الرأي لا يقدم إلا في حالة الأفعال التي تستوجب اللوم فحسب؛ فحين يكون الجزاء المترتب على المسئولية عقابا، عندئذ نبحث في مقدمات الفعل الذي استوجب هذا العقاب، ونحاول أن نثبت أنه لم يكن فعلا «حرا»؛ أي إنه كان فعلا وقع نتيجة لأسباب حتمية؛ وبذلك نخفف من مسئولية المرء عنه أو ننفيها نفيا تاما. أما في حالة الأفعال التي تستحق المدح والإطراء، والتي يكون الجزاء فيها ثوابا، فإننا لا نحاول على الإطلاق أن نخفف من مسئولية الفاعل، أو من مسئوليتنا نحن إذا كنا فاعلين، عن طريق الإشارة إلى وجود سوابق ضرورية وحتمية للفاعل، وكما قال منكوفسكي: «فلست أعرف شخصا رفض اللجيون دونور (وسام الشرف الفرنسي) بحجة أنه من أنصار الحتمية»،
5
ومع ذلك فالمبدأ واحد في الحالتين، فلماذا إذن لا نرفض التكريم على فعل يستحق المدح على أساس أننا لم نكن أحرارا كل الحرية في القيام به، وأن هناك سوابق ضرورية هي التي جعلت من المحتم علينا أن نتصرف على هذا النحو؟ ولماذا نقتصر في استخدامنا لهذه الحجة على الحالات التي نكون فيها معرضين للوم أو العقاب؟ من المؤكد أن هذه الحقيقة وحدها كفيلة بأن تشككنا في صحة الاعتقاد الشائع بأن المسئولية لا قيام لها في ظل الحتمية؛ أي في ظل المعرفة الدقيقة بالأسباب الضرورية المؤدية إلى ظهور الفعل.
وواقع الأمر أنه ليس من الصعب على المرء تصور مسئولية بدون حرية كاملة؛ أعني مسئولية في إطار علم جزئي غير كامل بمقدمات الفعل الذي يسأل عنه المرء؛ فالمسئولية القانونية تفترض قدرا معينا من الحرية. ولكنها لا تفترض حرية مطلقة، بدليل أنها تقوم على أساس وجود قواعد تشريعية معينة يتحتم إطاعتها، سواء بحرية أم بغير حرية. وبعبارة أخرى: فإن عملية البحث عن دوافع الفعل - التي يقوم بها القانون من أجل تحديد مسئولية الفاعل - لا تستمر إلا إلى حد معين، بدليل أن القانون لا يظل يتعقب الأصول الوراثية للفاعل - مثلا - لكي يهتدي فيها إلى الأسباب التي ربما كانت قد تحكمت في جريمته، مع أنه قد تكون هناك من بين هذه الأصول عناصر يفيد منها العلم في الكشف عن عوامل كانت مقيدة لحريته، هي التي دفعته إلى ارتكاب جريمته، ولما كانت المسئولية الأخلاقية تنطوي على قدر من الموازاة مع المسئولية القانونية، ولما كان الضمير الأخلاقي هو «القانون وقد اتخذ طابعا باطنا»،
Bilinmeyen sayfa