6
فمن الممكن القول: إن المسئولية الأخلاقية تفترض بدورها قواعد معينة، نقلت إلى المجال الباطن في الإنسان، ويتوجب على المرء إطاعتها مثلما يتوجب عليه إطاعة نصوص القانون، في هذه الحالة لا تفترض المسئولية حرية كاملة، بقدر ما تفترض إطاعة قواعد «الضمير الخلقي»؛ أي إنه إذا لم تكن الحتمية مؤدية إلى إعفاء المرء من المسئولية القانونية، ألا يثير ذلك احتمالا في أن تكون المسئولية الأخلاقية بدورها ممكنة في ظل الاعتقاد بالحتمية؟
إن من المسلم به أن هناك اختلافا أساسيا بين المسئولية الأخلاقية والمسئولية القانونية؛ فالقانون «نفعي» يستهدف تحذير الناس من ارتكاب الأخطاء، ويراعي في عقوباته أن تكون رادعا للآخرين لا جزاء للفاعل وحده. أما الأخلاق فهي شخصية، يتركز الحكم فيها على الفاعل نفسه؛ ومن ثم كانت أكثر اهتماما بالنوايا والمقاصد. وكان يبدو أنها تتنافى مع وجود الحتمية. ولكن ألا يجوز أن يكون في الأخلاق بدورها جانب نفعي؛ بحيث إنني عندما ألوم نفسي على فعل خاطئ، لا أوجه هذا اللوم إلى نفسي على أساس أنني كنت أستطيع أن أسلك بطريقة مخالفة (إذ أن هذا مستحيل في رأي مذهب الحتمية)، بل أوجهه على أساس أنني آمل بهذا اللوم، أن أتجنب تكرار مثل هذا الخطأ في المستقبل؟ في هذه الحالة تكون المسئولية ممكنة في ظل الحتمية، ولا يكون هناك تعارض بينهما.
على أن هذا التعارض يمكن أن يزول بمزيد من السهولة إذا رجعنا إلى تجربتنا الباطنة، فمهما كان رأي المرء في مشكلة الحتمية، وهل هي السائدة في العالم أم أن الحوادث فيها عنصر أساسي من العرضية، فإنه لا يستطيع أن يستخلص من شعوره الداخلي بالمسئولية؛ أي إن الجمع بينهما ممكن بلا تعارض في داخل الشخص الواحد، وتعليل ذلك ميسور؛ إذ إن الحتمية مبدأ لا شخصي شامل، على حين أن المسئولية ظاهرة معيشية، تعد من المعطيات المباشرة للوعي، وبها تتميز حياتنا الإنسانية على وجه التخصيص، الحتمية مبدأ يمتد إلى ما لا نهاية في المكان والزمان على حين أن المسئولية تجربة حية شخصية، تحدث في زماننا ومكاننا الخاصين، ولها حدودها المعلومة، ولما كانت الفكرتان لا تجتمعان على أرض واحدة، فإن التعارض بينهما لا بد أن يكون مصطنعا.
وأخيرا، فحتى لو سلمنا بوجود تعارض بين المسئولية التي تفترض الحرية وبين الحتمية التي تنفيها، فينبغي أن نتذكر أن هذا التعارض مصطنع؛ لأن الحتمية - كما أكدنا في موضع سابق - لا تنفي الحرية، ولأن هناك تراثا فلسفيا كاملا يجعل الحرية كامنة في نفس علمنا بالأسباب المتحكمة في السلوك وإدراكنا الواعي بها، لا في حالة العماء والتخبط التي تبدو فيها أفعالنا مفتقرة إلى أي سبب. (3) من الحرية النظرية إلى الحريات العملية
ليست التأملات النظرية السابقة منقطعة الصلة بالبحث العلمي في العلاقة بين العلم والحرية الشخصية؛ ذلك لأن الاتجاه النظري للمفكر لا بد أن يكون له تأثير في طريقة تناوله للأمور من زاويتها العملية. ومن الزيف أن نعتقد بوجود انفصال بين الوجه النظري والوجه العملي للفكر؛ إذ إن التجربة الإنسانية تشهد في كل لحظة بالتداخل الوثيق بين هذين الوجهين. وفي حالة مشكلة الحرية بالذات، كان للمواقف النظرية للمفكرين تأثيرها الفعال في نظرتهم إلى الحريات العلمية؛ إذ إن الفلسفات التي تقيم تعارضا بين العلم والحرية، لا تنادي عادة بمبدأ السعي الإيجابي من أجل اكتساب مزيد من الحريات العلمية عن طريق العلم، على حين أن تلك التي تزيل هذا التعارض تفتح الباب على مصراعيه أمام العلم كما يبذل جهود الإيجابية في سبيل نطاق الحريات الإنسانية .
ومعنى ذلك أن انتقالنا من بحث المشكلة على المستوى النظري التأملي إلى بحثها على المستوى الإنساني الواقعي، ليس انتقالا من مجال مخالف له، وإنما هو انتقال من الوجه النظري إلى الوجه التطبيقي لنفس المجال، وإذا كان قد ظهر من المفكرين من ينكرون أصلا قيمة البحث النظري في هذه المشكلة، ويؤكدون أن أمثال هذه التأملات الفلسفية إنما هي مناقشات عقيمة يقوم بها أشخاص لا يريدون التصدي للمشكلة الحقيقية في مواجهة مباشرة، فإن من واجبنا أن نؤكد ضرورة الجمع بين الوجهين: النظري والعملي لمشكلة الصلة بين العلم والحرية، وأن نثبت أن الأبعاد الحقيقية لهذه المشكلة لا تتضح إلا عن طريق إدراك العلاقات المتبادلة بين هذين الوجهين، وسوف يتبين لنا من الموضوعات التي اخترنا أن نعالجها في القسم التالي من هذا البحث أن هناك تداخلا وثيقا بين جانبي المشكلة هذين، وأن المناقشة النظرية السابقة تكتسب مزيدا من الوضوح وتحدد المعالم، وتنتقل إلى مجال التطبيق الواقعي بفضل المناقشة العلمية التي سننتقل إليها الآن. (3-1) مشكلة الحرية في العلوم المختلفة
أولى المشكلات التي يتعين علينا أن نعرض لها في هذا الجزء من بحثنا هي النتيجة التي تصل إليها العلوم المختلفة بالنسبة إلى مشكلة الحرية، وينبغي أن نلاحظ - منذ البداية - أننا لا نستهدف تقديم عرض شامل لرأي مختلف العلوم في هذه المشكلة؛ لأن مثل هذا العرض يتجاوز بكثير أبعاد بحث كهذا. بل إننا سنكتفي بالحديث عن وجهة نظر مجموعة محدودة من العلوم في هذه المشكلة. كذلك فإن العلوم التي سنعرض لها لا تعالج مشكلة الحرية معالجة مباشرة؛ إذ إن الموضوعات التي تبحث هذه العلوم لا تتصل مباشرة بمثل هذه المشكلة. بل إن الرأي الذي نقول به في هذا الصدد يمكن التوصل إليه بطريقة ضمنية غير مباشرة فحسب. وأخيرا ينبغي أن يلاحظ أن هذا الموضوع يمثل جسرا يمكن العبور عليه من البحث النظري إلى البحث العلمي لمشكلة الصلة بين العلم والحرية؛ إذ إن المسائل التي تعالج فيه تصلح للجمع بين وجهي المشكلة هذين، أو على الأصح: تمهد للانتقال من أحدهما إلى الآخر. (أ) الفيزياء
خلال فترة ازدهار العلم الميكانيكي في القرنين السابع عشر والثامن عشر، ساد الاعتقاد بأن القوانين الطبيعية تخضع لنوع من الحتمية الشاملة يجعل حوادث الكون كلها تسير في اتجاه يمكن حسابه مقدما بدقة كاملة إذا ما توافرت المعطيات الكافية، واستدل بعض المفكرين من ذلك على أن السببية الدقيقة التي يخضع لها الكون لا تترك مجالا للحرية الإنسانية، وعلى أن هذه الحرية لا يعود لها معنى في عالم تتحكم القوانين الضرورية في كل ما يقع فيه من أحداث. وكان أدق تعبير عن هذا الموقف هو تلك الفقرة المشهورة التي عبر فيها العالم الفرنسي «لابلاس» عن سيادة الحتمية في الكون، فقال: «لو وجد عقل يعرف - في لحظة معينة من الزمان - كل القوى التي تمارس تأثيرها في الطبيعة، فضلا عن المواقع التي تتخذها في تلك اللحظة جميع الأشياء التي يتألف منها الكون؛ لاستطاع أن يضم حركات أكبر الأجسام في العالم وحركات أصغر الذرات في صيغة واحدة، بشرط أن يكون هذا العقل من القوة بحيث يخضع كل المعطيات للتحليل، فبالنسبة إلى عقل كهذا لن يكون هناك شيء غير يقيني، بل يصبح الحاضر والمستقبل ماثلين أمام ناظريه.»
هذه الصيغة تعبر بوضوح قاطع عن موقف العلم الطبيعي في أواخر القرن الثامن عشر وأوائل القرن التاسع عشر من مشكلة الحتمية. ولكن هل يمكن القول: إنها تؤثر فعلا في نظرتنا إلى مشكلة الحرية كما اعتقد الكثيرون؟ الواقع أن هذه الصيغة فرضية في أساسها؛ فهي تتحدث عن حالة غير متحققة فعلا، يوجد فيها عقل محيط بكل صغيرة وكبيرة عن العالم في لحظة معينة من الزمان، وحتى لو قيل: إن مسألة إمكان وجود مثل هذا العقل أو عدم وجوده مسألة ثانوية، وأن أهم ما في الأمر هو المبدأ نفسه في صورته الموضوعية، فينبغي أن نلاحظ أن هذا المبدأ لا يمس الحرية الإنسانية، إنه يؤكد إمكان التنبؤ بكل حوادث الكون. ولكنه لا يتدخل في مسار الإطلاق بقابلية الحوادث للتنبؤ، وسيظل هذا السلوك يسير في مجراه دون أي تدخل خارجي.
Bilinmeyen sayfa