فلم يرتح يوسف لأجوبة الفتاة المقتضبة، ثم قال: هل هي صديقتك؟ - نعم. - هل أنت جارتها؟ - بل مقيمة معها. - بأي صفة؟ - خادمتها. - خادمتها؟ لماذا ذلك؟ - ماذا أفعل؟ - هل ترضى أمك أو خالتك كما تقولين؟ - لا تدري حتى أعلم إن كانت ترضى؛ ولهذا لا أود أن أتأخر هنا؛ لئلا تصادفني فتأخذني إليها بالرغم مني، وقد ائتزرت بهذه «الحبرة» لكيلا تعرفني. - كيف اتصلت بليلى؟ - لما وجدت نفسي عرضة لذلك الذئب، حاولت الفرار من المنزل وذهبت إلى «المخدم» أطلب خدمة، وكانت ليلى هناك تطلب خادمة فذهبت معها. - هل عرفت ليلى بقصتك؟ - عرفت ببعضها، عرفت أني تركت أمي؛ لأنها تريد أن تزوجني ممن لا أريد فأشفقت علي وآوتني عندها. - هل أنت مرتاحة إلى خدمتها؟ - جدا؛ لأنها تعاملني كأخت. - عجيب. - أين العجيب؟ لو كنت تعرف ليلى ...
وكان كل جواب من أجوبة الفتاة كإزميل يعمل في فؤاد يوسف، فقال: فماذا؟ - لكنت تقول: إنها ليست كسائر البنات. - صدقت ليست كذلك. - إذن تعرفها؟ - لا، ولكن ماذا قالت عني؟ - لم تقل شيئا. - هل عرف أهلها بتفصيل الحادثة؟ - نعم، ولكنها لم تسم لهم الفتى الذي أنقذها ولا أنا فعلت؛ لأني لا أخالفها بأمر. - حسن، إذن أنت محتمية بها. - نعم، ومسرورة جدا تحت حمايتها. - لم تقولي لي اسمك. - هيفاء. - اسم جميل، هل يمكنني أن أراك غدا أيضا يا هيفاء، ولك مني الجزاء الذي تطلبين؟ - أفعل إذا لم تمانع ليلى. - ولا أنا ألومك إذا مانعت، هل تتفضلين أن تدفعي هذه الرسالة إليها وحدها؟ (وكانت الرسالة بلا عنوان ولا إمضاء.) - بكل سرور أفعل. - إني أمتن لك.
ثم افترق الاثنان هو إلى الجنوب وهي إلى الشمال.
التفسير حسب الظواهر
وكان طريق الفتاة من أمام منزل أمها «أو خالتها»، فما بلغته حتى رأت أمها تنزل من آخر درجة من السلم، فأسرعت وكان إسراعها منبها لظنون أمها، فأسرعت هذه وراءها حتى أدركتها بعد عدة خطوات ونظرت إلى وجهها قائلة: هيفاء، إلى أين يا شقية؟ وأين كنت؟ - لا شغل لك معي، لقد كتبت لك أني في سلامة فلا تبحثي عني، فدعيني في سبيلي.
ولكن المرأة لم تدعها تنطلق في سبيلها، بل صدتها وأرجعتها بالقوة محاسنة تارة ومتوعدة أخرى، حتى أدخلتها إلى المنزل، وهناك جعلت تلومها، وتعنفها تارة، وتلاطفها وتتملقها طورا حتى أقنعتها بالبقاء في المنزل، على أن هيفاء ما زالت تود أن تنتهز فرصة للفرار إلى ليلى؛ لكي تدفع لها الرسالة، فلم يتسنى لها الفرار في ذلك النهار عينه، على أنها أبكرت في فجر اليوم التالي؛ لكي تنسل من المنزل على نية أن تذهب إلى ليلى وتدفع لها الرسالة، وتعتذر عن عدم إمكانها البقاء عندها، إلا إذا كانت ليلى تجد وسيلة شرعية للاستمساك بها؛ لأن أمها أقنعتها أنها لم تزل قاصرة، وأنها لا تقدر أن تفعل حسب مطلق حريتها.
نهضت هيفاء لترتدي ثوبها، وأول ما خطر لها هو أن تبحث عن الرسالة في جيب ثوبها الذي كانت ترتديه أمس فلم تجده، بحثت عنه في كل مكان وفي غرفتها فلم تقف لها على أثر، فتحيرت في أمرها، ومع ذلك لم تعدل عن إزماعها إلى ليلى؛ لتبلغها ماذا جرى.
فما همت أن ترتدي ثوبها حتى انفتح الباب بغتة، ودخلت عليها أمها قائلة: لماذا تلبسين ثوبك الآن والوقت لم يزل فجرا؟ فإلى أين؟ - لست ذاهبة وإنما ... - ماذا؟ - أبحث عن شيء أعهده في جيبي ففقدته. - تعنين رسالة؟
فبغتت هيفاء، وقالت: أخذتها؟ - نعم، واكتشفت سرك منها. - سري أنا؟ - نعم سرك، إنك مجنونة لا تعرفين مصلحتك، وإلا ما كنت تفضلين هذا الفتى الأهوج على فهيم الذي لا يفرق عن الأمراء إلا بالاسم. - أي فتى تعنين؟ - أتظنين أني غبية مثلك، فلا أعلم أنك تحبين هذا الفتى المجاور لنا، وأنه يحبك ويستغويك، فأين كان يجتمع بك كل هذه المدة؟ وأين كنت مختبئة يا شقية؟ ألا تعلمين أنك ارتكبت وزرا لا يغتفر، وكدت تخسرين مستقبلك المجيد؟ ماذا حدث بينك وبينه؟ قولي لي؛ لكي أعلم كيف أتلافى مصيبتك.
فامتقع وجه الفتاة وخفق فؤادها جزعا، وقالت: إنك تسيئين الظن بي يا أماه، فلا علاقة لي بهذا الفتى. - اصمتي يا كاذبة، هل تنكرين أنك كنت معه أول أمس، وأنكما افترقتما أمام المنزل؟
Bilinmeyen sayfa