ولكن هذا كله لا ينفصل عما أسميته بالمادة الإنسانية والأشكال الفنية التي تمليها المؤسسة الأدبية. ولأضرب لذلك مثلا محددا: إنني حين أقرأ قصيدة كتبها شاعر إنجليزي مثلا عن محارب من أبناء بلده إبان حرب من الحروب؛ فالمفروض أنني أتعاطف مع هذا الإنسان الذي حمل وخرج مدافعا عن وطنه - والدفاع عن الوطن قيمة إنسانية وعالمية لا خلاف عليها - ولكنني حين أندمج في القصيدة وأجد أن الشاعر يريد أن يوصل إلى القارئ في ثنايا الرسالة «رسائل فرعية» أخرى توحي بامتياز عنصري أو قبلي؛ فأنا أتوقف ويشوب تذوقي ما يعكره! لقد كتب «رديارد كبلنج » شاعر الإمبراطورية البريطانية قصائد وروايات كثيرة احتلت أماكنها على أرفف المكتبات سنين طويلة، ولقد تذوقها الإنجليز ودرسوها في مدارسهم، و«قرروها» على الشعوب المغلوبة على أمرها أيام حكم الإمبراطورية، ثم انحسرت الإمبراطورية فانحسر كبلنج! لم يعد يبقى منه غير الشكل الفني، وما أوهاه! إن «كيم» رواية جميلة عن الحياة في الغابات، والأطفال ما يزالون على حبهم لها، وكذلك عدد من رواياته عن غابات الهند، ولكن الرسائل الفرعية التي تقول بامتياز الإنجليز امتيازا عنصريا على غيرهم ما فتئت عقبة في سبيل تذوق كبلنج؛ باعتباره كاتبا إنسانيا! ولقد أخرج له ت. س. إليوت مجموعة من الأشعار التي يسمونها البالادات (والتي تترجم عادة بالمواويل؛ على عدم دقة هذه الترجمة) وقدم للمجموعة بدفاع عن المادة الإنسانية التي يمكن أن تبقى من كبلنج وهي مقدمة جديرة بالدراسة في ذاتها.
في هذا الإطار الكبير تستطيع تصنيف الأدب العربي الذي يمكن أن يرقى إلى مصاف العالمية؛ ليس فقط على الأساس القديم الوحيد، وهو الامتياز الفني - على أهميته القصوى - ولكن أيضا على أساس إثارته اهتمام القارئ؛ لأنه متصل بحياة القارئ (
RELEVANT )، وهو قادر على هذا؛ لأن الرسالة والرسائل الفرعية الباطنة إنسانية، ولأن المادة الإنسانية حافلة، وإذا توافر على ترجمته ترجمة أدبية صادقة من يخلص له وتحلى بالموهبة اللازمة؛ استطاع أن يفرض نفسه على المؤسسة الأدبية العالمية، بل وأن يعدل من مقاييسها، فكيف يكون ذلك؟
الإنسان الذي تغير
ما يزال الجدل دائرا حول «نوع» الأدب الذي يمكن أن يكسر حدود الإقليمية، إما بنجاحه في تحقيق معايير المؤسسة الأدبية العالمية، أو بتخطي هذه المعايير بحيث تصبح «غير ذات موضوع». فأما تحقيق معايير المؤسسة فهو «صعب»، إن لم يكن متعذرا لسبب بسيط؛ وهو هيمنة القيم التي فرضتها الدول الكبرى على مدى عصور طويلة، وهي قيم إنسانية وفنية معا؛ بحيث أصبح القارئ في كل مكان يتوقع أن يسمع هذا الكلام أو ذاك في هذه الصورة أو تلك، أيا كان موقف الأديب من القضايا المطروحة التي أصبحت «لا وطنية» (أو مثل بعض الشركات «عبر الوطنية»). وأقول إن تحقيق هذه المعايير صعب لأن اهتماماتنا ومواقفنا الفكرية تختلف عن الاهتمامات والمواقف التي حددت هذه المعايير على مر العصور. وقد ضربت مثلا في أحد مقالاتي بتصوير البطولة وعلاقة الرجل بالمرأة. ومن باب التذكير فحسب أقول: إنه سوف يتعذر على كاتب القصة الحديثة تحقيق أحد معايير المؤسسة الأدبية الغربية في هذه «العلاقة»؛ وذلك بنزع التابو
Tboo
تماما منها، ونزع هالة الاحترام الدفين التي تكلل المرأة في أدبنا، وذلك مهما بالغنا في النسيب والتشبيب! لقد حرم الأدب الحديث المرأة ذلك الوشاح الوضاء الذي ألقاه عليها مفهوم «الحب» الذي استقته أوروبا في القرن السادس عشر أول مرة من الشرق، وكما يقول كاتب حديث «لقد ذهب ضوء القمر الذي كان سبنسر قد أتى به من الأندلس، وحل محله ضوء الشمس»، وهو يعني بضوء الشمس ما كان الرومانسيون يقصدونه بضوء «النهار العادي»؛ أي إن «موسيقى الأفلاك» و«نيران الأفلاك» التي تحدث عنها سبنسر في ملحمته «ملكة الجان» قد انطمست وأصبحت المرأة كائنا ينتمي لعالم «النثر» بعد أن كانت تنتمي لعالم «الشعر»! وفي هذا الإطار أصبح «الحب» القديم قيمة يطمح إليها ولا تتحقق، وأصبح الشك في قيمة «نظام الأسرة» (أو الزواج باعتباره «مؤسسة») من أهم معايير المؤسسة الأدبية، ويكفي للتدليل على ذلك استعراض روايات الكاتبات الإنجليزيات المعاصرات؛ من «ميوريل سبارك» إلى «مرغريت درابل» خاصة في رواية الأخيرة وعنوانها الطاحونة.
وأنا أقول هذا من باب التذكير فحسب؛ فالشواهد كثيرة، ولن أعود إلى موضوع البطولة أو سواه. المهم أن نتبين أن «تخطي» معايير المؤسسة الأدبية العالمية هو في حقيقة الأمر أيسر من تحقيقها، فكيف يكون ذلك؟ أعتقد أن الإجابة واضحة الآن، وهي التركيز على القيم الإنسانية الثابتة التي لا تتغير بتغير المعايير الاجتماعية أو سواها وأدبنا العربي زاخر والحمد لله بهذه القيم.
ولتيسير التناول أقول إننا إذا أردنا من العالم أن يفهمنا ويتذوقنا فلا بد أن ننفذ إليه من باب فهمه الفهم الصادق. ومعنى فهمه تقديم ما نعرف أنه يستطيع أن يفهمه وما يكون ذا صلة بحياته حتى يتذوقه. حقا قد يستطيع الروائي أن يخلق عالمه الخاص الذي يجر إليه القارئ جرا، وقد يفعل المسرحي ذلك، ولكن الشاعر يستند إلى العالم الكبير المتوارث الذي خلقه الشعراء من قبله وفي عصره. ولذلك فإذا تصدينا للشعر فسوف نجد أن القانون الذي يحكم ترجمة الشعر الأجنبي إلى العربية هو القانون الذي يحكم ترجمة الشعر العربي إلى الإنجليزية مثلا. فالاختيار سيكون محكوما أول الأمر بتحقيق «الصلة
Relevance »، ثم بتحقيق المصطلح الشعري الذي وضعته المؤسسة الأدبية، وبهذا فحسب يمكن تخطي تلك المؤسسة! وأعتقد أن هذه المفارقة تحتاج إلى إيضاح وأمثلة. خذ قصيدة الرثاء. إنها نوع أدبي عالمي، ولكن المبالغة التي نجنح إليها في تراثنا تجعل من المتعذر إيجاد تلك الصلة بسبب الولوع بالمبالغة بل الإغراق والاستغراق فيها محاكاة لعصر أو لشاعر. فالمرثي هو جماع الفضائل بل هو الفضيلة المجسدة، وعندما توفي «توفيت الآمال» وهدت الجبال! وقد غير الرومانسيون الإنجليز مثلا من تقاليد هذا النوع بأن أدخلوا فيه فن التأمل، أي تأمل الحياة البشرية والنظرة الشاملة إليها من عدة زوايا، إلى جانب العنصر الوجداني الذي يجعل الرثاء أقرب إلى القصيدة الوجدانية منه إلى قصيدة المدح. وبهذا تأثر المحدثون فأوجدوا الصلة، واستخدموا المصطلح الشعري الحديث فاقتربوا من العالم. قارن مثلا رثاء «الخنساء» أخاها «صخرا»، أو رثاء «أبي تمام» لمحمد الطوسي بقصائد الرثاء الحديثة التي ترجمتها ووضعتها في كتابي عن الشعر العربي المعاصر، وهي قصائد لصلاح جاهين وفتحي سعيد ووفاء وجدي. إن الفارق هو في حقيقة الأمر فارق بين عالم قديم انقطعت صلتنا به، وعالم حديث نعيش فيه، ولا بد لنا معه من جسور! وأما المصطلح فسأورد نموذجا ساطعا له. إن المازني عندما ترجم بعض القطع من «شكسبير» كان ينشد المصطلح أولا وأخيرا، وهذا ما حدا به إلى التغيير والتعديل والتبديل (وكان يؤثر عنه أنه كان يؤلف حين يترجم، ويترجم حين يؤلف):
Bilinmeyen sayfa