القضية لا تقتصر إذن على الشكل الفني أو على جوانب الصنعة مهما بلغت أهميتها (والحق أن لها أهمية قصوى)، بل إنها تتعدى ذلك إلى ما يكمن خلفها من أحكام تستند إلى القيم والمفاهيم التي تحتفل بها المؤسسة الأدبية. ومن هنا جاء إصرار المؤسسة الأدبية العالمية على ترشيح أعمال معينة للشهرة والذيوع تمجد قيمها وتحط من قيم الآخرين. وأقرب الأمثلة على ذلك صورة العربي أو المصري في فن الرواية المعاصرة بالإنجليزية؛ تلك اللغة التي كادت أن تصبح عالمية. فشخصية «علي» العربي في رواية «بوابة مندلبوم» للكاتبة الإنجليزية «إريس ميردوخ» تجمع كل الرذائل التي يدينها المجتمع الإنجليزي وعلى رأسها الكذب. والكذب الذي يلجأ إليه هذا الشخص يمكن تفسيره وتحليله بعدة طرق، ولكن الكاتبة توحي من طرف خفي بأسباب معينة ترمي في مجملها إلى إدانة الشخصية العربية وسلبها عنصرا من أهم عناصر مثلنا العليا وهو الوفاء. وأما ما يختارونه للترجمة إلى الإنجليزية من الأدب العربي فهو عادة مختارات قديمة من الأدب الجاهلي يبنون عليها نظريات وتحليلات تجعل من أدبنا مرادفا لآداب الأمم القديمة ذات القيم والمفاهيم التي لم تعد تنتمي لعالم اليوم.
وأمم الأرض «المتقدمة» تحتفل بما أسميته «عالم اليوم» فهو العالم الذي يسبغون عليه كل الفضائل - وأسماها وأرقاها في نظرهم نظرة التشاؤم والسخرية من القيمة السلفية، ورفض الدين، والاحتفال بوحشة الفرد وعزلته في عالم قاس مرير، وما يستتبع ذلك من الإباحة، والتركيز على أن الإنسان كائن ضعيف مغلوب على أمره، وأن حريته موهومة، وأن الكثير مما اعتاد إكسابه المعنى في الحقيقة لا معنى له والفلسفات المختلفة التي نبعت من «عالم اليوم» تعمل على بناء عالم جهم قاتم الألوان، يتوارى فيه الأمل أو ينحسر، وتغرب فيه البسمات أو تفتر. وبعض كتابهم يدينون هذا العالم - بطبيعة الحال - ولكن الإدانة تحمل في طياتها معنى التقبل؛ لأنها تؤكد ضرورة التعايش معه، وإيجاد بديل أو بدائل لما فقده الإنسان في غمرة صراعه لتحقيق التقدم، والتعايش يحل بالتدريج محل العيش ليمثل أقصى ما يمكن لإنسان اليوم تحقيقه. وأما أولئك الكتاب الذين ما زالوا يسبحون في فلك الفضائل القديمة، عامرة نفوسهم بالأمل، زاخرة قلوبهم بالحب، فهم يوصفون بالرومانسية وتخصص لهم أماكن نائية في الكتب تتحول بالتدريج إلى زوايا نسيان.
وفي إطار هذه الحداثة، أو ما أسميته «المودرنية» في كتاب حديث لي، تبرز عدة تيارات جديدة يعلي أحدها شأن الشكل الفني إلى درجة التقديس، ويلغي ما أطلقت عليه في هذه المقالات اسم المادة الإنسانية. وهذا التيار يضفي على الأنماط الداخلية في العمل الأدبي أهمية غير عادية، بل يقول بقدرة البناء الداخلي على الإيحاء وحده بالأفكار والمشاعر، وبأن الشكل الداخلي لا يحتاج إلى مادة إنسانية صريحة؛ لأنه يمثل ترجمة لهذه المادة؛ أي إن التجربة الإنسانية أو الخبرة التي درجنا على اعتبارها مصدر المادة الإنسانية تتحول إلى شكل، فإذا ما استغرق هذا الشكل القارئ أو المتذوق انتقلت إليه التجربة أو الخبرة في صورة فنية خالصة. ولا شك أن للفنون البصرية والسمعية تأثيرا كبيرا على هذا الاتجاه الذي يبرز بأوضح معالمه في الشعر الحديث، ولا شك أيضا أن لنظريات وحدة الفنون تأثيرا مباشرا على تطور هذا التفكير النقدي، ولكننا رأينا منذ عهد غير بعيد من يضع له فلسفات مستقلة، ومن يقنن له تقنينا نقديا موغلا في الشطط، محاولا وضع أسس هندسية للبناء، مستقيا من دراسات علم الألسنة الحديث (وهو علم ما يزال في مرحلة التطور والتغيير) قوالب جامدة يصب فيها أي عمل بغض النظر عن مادته الإنسانية.
ولكن المودرنية ليست كذلك في حقيقة الأمر؛ إذ ما فتئت تتطور لتسمح بنشوء نظريات جديدة للقيم، وتفسيرات جديدة لسعي الإنسان وموقفه من هذا الكون، وتركز أيما تركيز على شبكة العلائق المتداخلة في نطاق المجتمع والدولة، انطلاقا من نظرة متكاملة دينامية، فأين نحن من هذا كله؟ وهل استطاع أدبنا الحديث أن يكسر الأنماط السلفية ويخاطب وجدان إنسان عصر العقل والعلم ؟
لقد كنت من المؤمنين دائما - وما أزال - بأن الأدب العربي الحديث قد تخطى مراحل الاستكشاف الأولى، وأنه وجد لنفسه طرقا (لا طريقا واحدا) يمتد من خلالها إلى وجدان العالم الجديد. وإذا كانت الأنماط الشكلية القديمة لم تعد تصلح للوصول إلى قلب الإنسان الحديث وعقله، فإن الأشكال الجديدة لدينا تتفوق على مثيلاتها في غالبية بلدان العالم، وأنا أقول هذا دون مبالغة، بعد أن اطلعت على آداب كثير من الشعوب مترجمة إلى الإنجليزية (قد لا تكون النماذج المترجمة أفضل ما لدى تلك الشعوب ولكنها مؤشر على الاتجاه العام) والأدب العربي الحديث، أيا كان غضبنا منه أو له، منوع حافل، وبه شتى التيارات التي يصفق لها العالم ويهلل، رضيت المؤسسة الأدبية العالمية أم لم ترض. أما جوهر المشكلة في نظري فهو أننا لم نمسك بزمام المبادرة حتى الآن في تقديم هذا الأدب إلى العالم. كيف نمسك بالزمام؟ وكيف وفي أي صورة يمكن لنا أن نقدم هذا الأدب؟
الأدب وحياة القارئ
إذا كان الفن فنا؛ فلابد أن يتخطى الزمان والمكان؛ فأنماط الفن ومادته عالمية، وهي تنبع من الإنسان وتصب فيه، وقد تتفاوت من عصر إلى عصر، ومن مجتمع إلى مجتمع، وقد عكف النقاد على درس هذا التفاوت وتحليله، ولم ينتهوا إلا إلى أن ثمة تيارات أو اتجاهات يمكن رصدها دون معرفة أسبابها الحقيقية، ولو أنهم يتفقون إلى حد كبير على أن هذه التيارات لا يلغي بعضها بعضا، وما قد يتذوقه إنسان اليوم قد يلاقي الفتور بل الرفض والنبذ من إنسان الغد، وما قد يشيح عنه إنسان اليوم قد يسطع كالدر في عصر لاحق. ولهذا كان «هازليت» يقول: إن الفنون لا تتقدم بالمعنى الذي يتقدم به العلم (بمعنى أن الحقائق العلمية الجديدة تطمس ما كان يظن أنه حقيقة بالأمس)؛ لأن العلم بطبيعته يطمس الجهل! وقد طور هذه النظرية ناقد محدث في أوائل القرن هو ت. أ. هيوم فقال بأن للفن دورات، وأن كل دورة تنتهي عندما تفقد الفنون التي شاعت في عصر ما قدرتها على التأثير، فتدفع إلى الوجود بألوان أخرى من الفنون تختلف عنها اختلافا يصل إلى حد التناقض، ثم ينتهي بها الأمر إلى فقدان القوة هي الأخرى؛ بحيث تعود الألوان الأولى، وهلم جرا.
والأدب كما نعرفه اليوم فن من الفنون يتوسل باللغة، فاللغة في الأدب مثل الألوان والمساحات والخطوط والنسب في الرسم، ومثل الأصوات في الموسيقى، وما إلى ذلك، ولكن الأدب كما سبق أن بينت في مقالاتي السابقة يتضمن أبعادا أخرى قد تفتقر إليها الموسيقى؛ فالتشبيه ليس تاما؛ لأن الأدب يشترك أيضا مع وسائل الإعلام في توصيل «رسالة» بالمعنى العلمي لهذه الكلمة - وهي رسالة تجمع بين العناصر الشعورية والذهنية، وليست أبدا مجردة من المعنى أو خالية من الدلالة. قد يبدو هذا الكلام بديهيا، ولكنه لا بد منه حتى ننظر في وضع الأدب العربي إزاء الآداب الأخرى.
قد تكون «الرسالة» في أبسط صورها إحساسا يتجسد في لقطة أو موقف أو صورة أو حادثة، بل قد تكون مجرد متعة تناغم الصور والألفاظ وجرسها الجميل في القصيدة القصيرة مثلا! وهذا أقدم ألوان «الرسائل» وإن كانت صورتها «البسيطة» خادعة! فالإحساس الذي يبدو بسيطا في حقيقته هو بلورة باطنية، تمزج بين المشاعر والأفكار التي تستمد طاقتها الحيوية من وجود الإنسان في مكان وزمان محددين. حقا قد تكون الفكرة عامة أو مجردة حتى إنها لتتخطى الزمان والمكان، وقد يكون الإحساس كذلك، ولكن الفن الأول - الفن الذي يرى معظم الباحثين أنه نشأ في بيئات بسيطة فاستمد مادته الأولى من علاقة الإنسان بالكون وتفسيراته لقوى هذا الكون الغامضة، أقول: إن هذا الفن الأول لم يلبث أن تعقد وتطور نتيجة لتعقد «الرسالة»؛ أي إن الإنسان لم يعد قادرا في هذا العصر على تبسيط الأشياء والتفكير أو الإحساس بنفس العناصر الخالصة التي كان أجداده يفكرون ويشعرون في أطرها. (ولو أن كاتبا محدثا يقول إن الإنسان الأول كان لديه قدر من التعقيد يستعصي علينا فهمه لبعد الشقة بيننا) فمثلا نرى أن القصة القصيرة والرواية الطويلة وهما فنان حديثان لا يقفان بطبيعة بنائهما عند «الرسالة »، وفي كل رواية ترى أن القارئ لا يتلقى رسالة واحدة أو حتى عدة رسائل واضحة. قد يخرج لا شك بانطباع واحد، ولكن هذا الانطباع قد يكون مركبا إلى الحد الذي يستعصي معه تحديد عناصره! وإذا كانت القصة القصيرة أبسط من الرواية في تركيبها؛ فإنها في صورها الحديثة قد تصل إلى حد من التعقيد يرتفع بها إلى مصاف الرواية! بل إن نشأة القصة القصيرة نفسها توضح لنا طبيعة هذا الفن. إن الكتاب أحسوا بالحاجة إلى التحليل الدقيق الذي لا تتيحه القصيدة، وكان تطويرهم لصورة القصة القصيرة بطيئا؛ لأنه سار جنبا إلى جنب مع تطور الصحافة، وتطور لغة النثر نفسها.
فإذا نظرنا إلى كل رسالة على حدة، وتأملنا الحاجة التي يحسها الكاتب إلى الكتابة، وجدنا أن لكل رسالة مرسلا ومستقبلا، ولا يمكن أن تكتمل العملية التوصيلية إلا بهما جميعا؛ أي إن حاجة الكاتب إلى الكتابة لا بد أن تتزامن معها حاجة القارئ إلى القراءة، ومن العبث أن نقول إن الكاتب يكتب ليخرج ما في نفسه سواء فهمه الناس أم لم يفهموه؛ لأن هذا معناه إلغاء وظيفة اللغة وطبيعتها الأساسية باعتبارها أداة توصيل. ولكن إقامة العلاقة بين الكاتب والقارئ من خلال العمل الفني؛ لا يلغي استقلال العمل عن أي منهما؛ لأنه بمجرد أن يكتمل يكون قد خلق في داخله عالمه ووضع الأسس التي تتيح للقارئ أن يستقبل الرسالة، أيا كان هذا القارئ.
Bilinmeyen sayfa