حضرة الرئيس، حضرات السادة رجال المؤتمر، إذا استطعنا بادئ ذي بدء أن نعلم أين نحن وإلى أي وجهة نريد أن نتجه، أمكننا أن نعرف ماذا نصنع وكيف نصنعه. إننا الآن قد قطعنا شوطا في العام الخامس منذ تلك السياسة التي أردنا بها وضع حد لما تثيره معضلة الرق من قلق، ولكن هذا القلق لم يقتصر أمره على أنه لم يوقف فحسب، بل لقد ظل يتزايد أبدا، وفي رأيي أنه لن ينتهي حتى يفضي بنا إلى أزمة لا بد أن نجتازها. إن البيت المنقسم بعضه على بعض لن تقوم له قائمة، وإني أعتقد أن هذه الحكومة لا يمكنها أن تدوم ونصفها إلى الرق والنصف الآخر إلى الحرية، ولست أبغي أن ينهار البيت، ولكنني أريد ألا يستمر في انقسامه، ولسوف يكون كله إلى هذا الجانب أو إلى ذاك؛ فإما أن يحول أعداء الرق دون أي اتساع له في المستقبل ويضعوه حيث يرتاح الرأي العام إلى أنه وضع في الموضع الذي يفضي به إلى الفناء النهائي، وإما أن يدفعه أنصاره إلى الأمام بحيث يصبح أمرا مشروعا في جميع الولايات، القديم منها والجديد، الشمالي والجنوبي.
ذلك جانب من الخطاب الذي أفضى به لنكولن إلى رجال المؤتمر في صراحة وجلاء، ولقد أشفق منه كثير من رجال المؤتمر كما أشفق خلصاء لنكولن وخافوا، وهو يريد بالبيت المنقسم على نفسه الولايات الأمريكية أن يظن خصومه أنه يشير بقطع العقدة لا بحلها، وأنه يلمح بذلك إلى الحرب.
ولكن أبراهام كان يعبر بهذا الكلام في الواقع عن شعور أعداء الرق جميعا، فقد باتت المعضلة تستوجب الحل، وكل تهاون فيها إنما يزيدها سوءا على سوء، كالجرح الذي ظهر خطره إن هو أهمل كان فيه الموت المحقق، ومن هنا كانت أهمية هذا الخطاب، ثم من هنا كانت أهمية موقف أبراهام يومئذ، فقد بات لقومه نذيرا، ونفذ قوله إلى الأسماع والقلوب، وطالما أنذرهم غيره فلم تغن النذر.
وكان دوجلاس قد نزل بشيكاغو يدعو الناس إلى تجديد انتخابه لمجلس الشيوخ، فوجد في خطاب خصمه لنكولن فرصة يغتنمها، فاتهمه أنه من دعاة التحرير بالقوة، وأخذ يحذر الناس من انتخابهم إياه، واغتاظ لنكولن لتلك التهمة النكراء، ولكنه لم يستكثرها على دوجلاس، وإنه لواثق أنه سيقذف عما قريب بحقه على باطل خصمه فيدمغه فإذا هو زاهق.
وما كان أبراهام ممن يقرون الثورة والعنف مهما بلغ مقته للرق ومهما ضاق به صدره، ولسوف يبقى دستوره حل تلك المعضلة على أن يكون ذلك في كنف الاتحاد وتحت رايته، التي لا يرضى إلا أن تظل خفاقة عالية تجمع على محبتها وإكبارها بني الوطن جميعا.
وعول دوجلاس على أن يخوض المعركة على أساس خصومته لبوكانون في مسألة دستور كنساس، لا على أساس مخاصمته منافسه لنكولن فيما جاء في خطابه الجديد من آراء، كأنما يستعظم أن يكون ذلك الرجل الذي ما زال شأنه منحصرا في ولايته ندا له، وإن كان دوجلاس ليحس بينه وبين نفسه مبلغ ما تنطوي عليه نفس خصمه من عظمة، ومبلغ ما يحمله قلبه من إيمان.
ولقد شاع خطاب أبراهام في الولايات، وتناقلته الصحف في طول البلاد وعرضها، فكان ذلك أبلغ رد على ترفع دوجلاس وذهابه بنفسه، وأحس أبراهام مبلغ ما أحدثه ذلك الخطاب من أثر في البلاد، تتبين ذلك في قوله: «إذا كان لي أن أمر بالقلم على صفحات تاريخي وأمحو حياتي كلها عن الأنظار، وقد ترك لي أن أختار شيئا أستثنيه من هذا المحو، فإني أختار هذا الخطاب فأدعه للعالم لم تذهب معالمه.»
وليس في قوله هذا شيء من المغالاة؛ فإن خطابه كان أكبر حافز لأولي الرأي أن يقفوا من مسألة الرق موقف الذي يريد الوصول إلى الغاية، فلا تهاون ولا تلكؤ بعد اليوم، وإلا تفاقم الخطب واستعصى على الحل، ودخلت البلاد في طور من الفوضى الجامحة تأتي على الأخضر واليابس. كما أن هذا الخطاب كان أهم حادث في تاريخ حياته، فبعده صار للسياسة كل همه، وبه قدر له أن يصبح في السياسة من رجال أمريكا كلها لا من رجال إلينوى فحسب.
وخطب لنكولن بعد ذلك في شيكاغو يرد على ما اتهمه به دوجلاس، فأعلن أن الوثيقة الكبرى التي يجب أن يتقيد بها الأمريكيون ويسيروا على نهجها هي وثيقة إعلان الاستقلال، وأنه يجب أن ينظر إلى مسألة الرق نظرة إنسانية، وأن يراعي اتفاق مسوري فيما ينجم بين الفريقين من خلاف.
وتكلم دوجلاس بعد ذلك في بلومنجتن ثم في سبرنجفيلد، ورد عليه لنكولن في المرتين، ثم بدا له فخطا خطوة لم يسبقه إلى مثلها رجل من قبله في التاريخ السياسي للبلاد، وذلك أنه أرسل إلى دوجلاس رسولا، يعلن إليه أنه يتحداه أن يلتقي وإياه في مبارزة خطابية يستمع فيها الناس إليهما، ويحكمون بينهما حسبما يرون من كلامهما.
Bilinmeyen sayfa