ولقي هرندن دوجلاس فيمن لقي، وأشارا إلى لنكولن فأحس هرندن أن دوجلاس يوجس من صاحبه خيفة، وقد قال له إذ هم بالانصراف: «لست أضمر للنكولن شرا، ولست أفكر أن أعترض طريقه. بلغه احترامي.»
وانعقد سنة 1858 مؤتمر من الجمهوريين في سبرنجفيلد لترشيح عضو عن الولاية لمجلس الشيوخ، واجتمعت كلمة رجاله على ترشيح لنكولن، وفعلوا ذلك في غبطة وفي حماسة شديدتين.
وهكذا اتفقت كلمة الجمهوريين على لنكولن يقدمونه لينافس دوجلاس رجل الديمقراطيين، وسيلتقي الخصمان، ويكون بينهما هذه المرة صراع دونه كل ما سلف من صراع.
دوجلاس.
وعرف لنكولن مبلغ ما ينطوي عليه الموقف من خطر، وأدرك أنه ملاق منه رهقا شديدا وعنفا، ولكنه يحس في قرارة نفسه أن له في ذلك ما يشفي نفسه، فهو يحمى على الصراع، ولا تظهر مواهبه على أحسن ما تظهر إلا حين يبتعثها ضجيج الموقف وتستثيرها حرارة الدفاع.
وكذلك أشفق دوجلاس وأوجس في نفسه خيفة، فلقد فطن - وهو الخبير بأقدار الرجال البصير بأمور السياسة - إلى دقة الموقف، وأدرك أن أبراهام اليوم غيره بالأمس، فهو منه اليوم حيال قوة لا تنفع معها حيلة ولا يجدي مكر أو دهاء.
وفيما كان رجال حزبه يقدمونه، كان أبراهام يعد خطابا حاسما يعبر به عما في نفسه، ولقد ظل يثبت ما يجري في باله على قصاصات من الورق يدسها في قبعته حتى استوى له موضوعه، فجمعه بعضه إلى بعض في عناية شديدة، وظل يراجعه فقرة فقرة حتى اطمأنت نفسه إليه، وأغلق أبراهام باب المكتب ذات يوم وأنزل الستارة من داخله على الجزء الزجاجي منه، ثم جلس يتلو هذا الخطاب على صديقه هرندن، وكان يبدو على وجهه الاهتمام الشديد، وتدل ملامحه على أنه مقبل على عمل حاسم، وكان يقف في نهاية الفقرات ثم ينظر في وجه صاحبه يتبين موقعها في نفسه، أو ينتظر رأيا منه. واعترض هرندن حين وصل أبراهام إلى قوله: «إن البيت المنقسم بعضه على بعض لن تقوم له قائمة»، وهي فقرة من الإنجيل أشفق منها أن تؤول تأويلا سيئا، فتلقي في روع الناس أن الاتحاد انقسم بعضه على بعض أو هو بسبيل الانقسام، ولكن لنكولن أصر على بقاء هذه الفقرة قائلا إنه يفضل أن يكون نصيبه الفشل وتبقى في خطابه هذه العبارة؛ لأنه تعمد أن يأتي بعبارة قوية قصيرة تألفها أذهان الناس وألسنتهم من قبل، بينما هي تناسب المقام فتقع من نفوسهم موقعا يهز مشاعرهم هزا.
وجمع لنكولن بعض خلصائه قبيل الموعد الذي حدد لخطابه في المؤتمر الجمهوري وتلاه عليهم، فأنكروه جميعا وأظهروا خوفهم على مكانة الحزب وعلى لنكولن، ونصحوا إليه ليصرفوه عن كثير مما جاء فيه، إلا هرندن فقد أيده وقال متحمسا: «ألق هذا الخطاب فسيجعلك رئيس الاتحاد.» ولم يك يدرك هرندن مبلغ ما في نبوءته هذه من صدق.
وكان لنكولن إذا صمم على أمر لن يلويه عنه شيء فقال لأصحابه: «أي أصدقائي، إن هذا الشيء قد أجل إلى مدة طويلة أرى فيها الكفاية، لقد حان الوقت الذي ينبغي فيه أن أعبر عن وجداني، فإذا قدر لي أن يكون مصيري السقوط بسبب هذا الخطاب، فلأسقطن مربوطا إلى الصدق. دعوني ألقى حتفي في الدفاع عما أرى أنه الحق والعدل.»
وقام لنكولن يلقي في المؤتمر خطابه فقال:
Bilinmeyen sayfa