على أنه لم ينفض يده من المحاماة بعد، فما زالت المحاماة مرتزقة، ولقد ارتفع فيها إلى مستوى يحق معه لرجال المحاماة جميعا، في كل جيل وفي كل بلد، أن يذكروه كعلم من أعلامها، وأن يضيفوا اسمه إلى ما يعدونه في مهنتهم من دواعي الشرف وبواعث الفخار.
ومن أعماله في المحاماة يومئذ قضية آرمسترنج التي سلفت الإشارة إليها، فقد وقع بصره في إحدى الصحف على جريمة قتل يدعى أحد المتهمين فيها آرمسترنج، فدهش وتساءل هل يكون ذلك ابن متحديه القديم في نيو سالم ثم صديقه بعد ذلك منذ كان فتى يبيع في الحانوت، ولما تبين له أنه هو كتب إلى أمه يقول:
عزيزتي مسز آرمسترنج
علمت الآن بألمك العميق وبإلقاء القبض على ابنك متهما بالقتل، ويصعب علي أن أصدق أنه عسي أن يرتكب ما اتهم به، إن ذلك لا يبدو ممكنا، وإني لأرجو أن يجرى معه تحقيق عادل على أي حال، وإن عرفاني بالجميل نحوك وما كان لي منك أيام شدتي من عطف طالت أيامه؛ ليحدوني أن أتقدم في سماحة نفس بخدماتي المتواضعة لصالحه، فإن هذا سوف يتيح لي الفرصة أن أرد ولو بقدر ضئيل تلك المبرات التي نلتها على يديك ويدي زوجك المأسوف عليه؛ إذ لقيت تحت سقفكم مأوى كريما بغير مال وبغير ثمن.
وثمة حادثة أخرى لها دلالتها على عظمة الرجل ونبله وسمو نفسه؛ ذلك أنه تقدم عن طيب خاطر ليدافع عن حفيد القس كارترايت، ذلك الرجل الذي طعنه في دينه قبل ذلك بعشرين عاما وهو ينافسه في الوصول إلى مقعد في مجلس الولاية، وكانت هذه التهمة كذلك تهمة القتل، ولشد ما تأثر كارتريت وهو اليوم شيخ كبير؛ إذ شاهد حرارة دفاع خصمه القديم لنكولن عن حفيده الذي ما لبث أن برئت ساحته.
على أن للسياسة اليوم أكثر همه، فما يفرغ من عمله إلا أخذ يتقصى حال حزبه، وكان نشاط دوجلاس يومئذ، ورغبته أن يظفر بمقعده ثانية في مجلس الشيوخ، وميل بعض زعماء الجمهوريين من أمثال جريلي إلى اجتذابه للحزب الجمهوري؛ كل أولئك كان موضع اهتمامه، لا يني يفكر فيه؛ وذلك لصلته بالقضية الكبرى التي باتت قضية الاتحاد كله؛ ألا وهي قضية الرق، فها هي ذي الأحداث والنذر - كالاعتداء على سمنر، وحكم المحكمة العليا في قضية دردسكوت، وقبول الناس في الاتحاد ولاية من ولايات الرق - تسبق العاصفة وتنذر بالراجفة.
دوجلاس ولنكولن
أيقن أبراهام بينه وبين نفسه أنه أصبح أعظم الجمهوريين مكانة في سبرنجفيلد وإلينوى، ولكن موقف دوجلاس من دستور كنساس وإقبال بعض الجمهوريين عليه من أجل ذلك لا يعجبه، ولشد ما ضايقه وكدر خاطره موقف جريلي؛ إذ عد أبراهام ثناءه على دوجلاس نيلا منه غير مباشر.
دخل على صديقه هرندن ذات يوم في مكتبهما فرآه صاحبه مهموما مكتئبا، وما لبث أن تبين أن مرد ذلك لم يكن إلى شيء من جانب زوجه، كما حسب بادئ الرأي، ولكن دعوة جريلي هي التي كدرته، وقد تحدث بهذا إلى صاحبه شاكيا مبينا ما في هذه الدعوة من ظلم وخطر عليه، ويقول صاحبه إنه انصرف من المكتب ولم يزايله همه، ولم يستطع أن يأتي عملا حتى انتصف النهار.
وسافر هرندن إلى الولايات الشرقية فوجد لاسم لنكولن شهرة على بعد الشقة، يحبه الناس وإن لم يروه؛ فما ذكر صاحبه اسمه إلا قوبل بالبشاشة والثناء، وكتب هرندن إلى صديقه ينبئه بذلك وأفضى به إليه حين عاد فطابت بذلك نفسه.
Bilinmeyen sayfa