قالت جوليان: «أخبريه عما حدث لأخيك يا ميريام. أخبريه عن هنري. لكن دعونا نجلس قبل أن تبدئي.»
جلسوا على أحد مقاعد الكنيسة الخشبية وقد انحنوا إلى الأمام محاولين الاستماع لصوت ميريام الخافت، فبدوا لثيو كمجموعة من المصلين المكرهين غير المنسجمين. «رحل هنري إلى الجزيرة منذ ثمانية عشر شهرا بتهمة السرقة باستخدام العنف. لم يكن عنفا شديدا، أو عنفا فعليا. فقد سرق أوميجية ودفعها أرضا. كانت مجرد دفعة بسيطة لكنها سقطت على الأرض، وادعت في المحكمة أن هنري ركلها في ضلوعها بينما كانت ممددة على الأرض. وهذا لم يحدث. أنا لا أزعم أن هنري لم يدفعها. لقد كان مصدرا للحزن والمشكلات منذ طفولته. لكنه لم يركل تلك الأوميجية عندما سقطت أرضا. بل انتشل حقيبة يدها ودفعها ثم فر هاربا. حدث ذلك في لندن قبل منتصف الليل بقليل. ركض حتى انعطف عند ناصية شارع لادبروك جروف وهناك وقع في قبضة رجال شرطة الأمن الوطني. لقد كان حظه عاثرا طوال حياته.» «هل حضرت المحاكمة؟» «حضرتها أنا وأمي. فقد توفي أبي منذ عامين. وكلنا محاميا لهنري - ودفعنا له المال أيضا - لكنه لم يهتم حقا بالقضية. أخذ مالنا ولم يفعل شيئا لمساعدتنا. كان بوسعنا أن نرى أنه وافق الادعاء في قراره بنفي هنري للجزيرة. أيا كان الأمر، فقد سرق أوميجية. وهذا يحتسب ضده. ثم إنه أسود البشرة.»
قال رولف بنفاد صبر: «لا تخوضي في هرائك عن التمييز العنصري. فقد كان دفعه للفتاة هو ما جعله ينال تلك العقوبة لا لون بشرته. لا يرسل المرء إلى مستعمرة العقاب إلا إذا ارتكب جريمة تنطوي على عنف مع من سرقه أو إذا أدين للمرة الثانية بجريمة سطو. لم يدن هنري بأي جرائم سطو لكنه أدين بجريمتي سرقة.»
قالت ميريام: «سرقة سلع من متاجر. لم يكن أمرا سيئا للغاية. سرق وشاحا كي يهديه إلى أمي في عيد ميلادها ولوح شوكولاتة. لكنه كان طفلا حينها. بربك يا رولف، لقد كان في الثانية عشرة من عمره! كان ذلك منذ أكثر من عشرين عاما.»
قال ثيو: «إن كان قد أسقط المعتدى عليها أرضا، فسيكون قد ارتكب جريمة عنف سواء ركلها أم لا.» «لكنه لم يركلها. لقد دفعها جانبا فسقطت. لم يفعل ذلك عمدا.» «لا بد أن هيئة المحلفين لم توافقك الرأي.» «لم يكن ثمة وجود لهيئة محلفين. أنت تعرف مدى صعوبة حمل الناس على أداء الخدمة في الهيئة. فهم ليسوا مهتمين. ولن يكلفوا أنفسهم العناء. حوكم وفق النظام الجديد، في حضور قاض وقاضيين جزئيين. لديهم السلطة لنفي الناس للجزيرة. ويكون قرار النفي ساريا مدى الحياة. لا يوجد أي تخفيف للحكم، ولا سبيل للخروج لمن يحكم عليه. حكم عليه بالنفي مدى الحياة بسبب دفعة غير متعمدة. تسبب ذلك في وفاة والدتي. فقد كان هنري ابنها الوحيد وكانت تعرف أنها لن تراه قط. انسحبت من الحياة بعدها. لكنني سعيدة لوفاتها. فعلى الأقل ماتت دون أن تعرف أسوأ ما ألم به.»
ثم نظرت إلى ثيو وقالت ببساطة: «لكني عرفت. فقد عاد إلى البيت.» «أتعنين أنه هرب من الجزيرة؟ كنت أظن ذلك مستحيلا.» «لقد فعله هنري. عثر على قارب صغير معطوب أغفلته قوات الأمن أثناء تجهيزها الجزيرة لاستقبال المدانين. كانوا يحرقون أي قارب لم تكن حالته تستحق أخذه، لكن أحدها خبئ أو ترك سهوا، أو ربما اعتبروه متضررا للغاية ولم يعد صالحا للاستخدام. كان هنري دائما ماهرا بالأعمال اليدوية. أصلحه سرا وصنع له مجدافين. ومنذ أربعة أسابيع، في الثالث من يناير، انتظر حتى حلول الظلام وأبحر به.» «كان ذلك عين التهور.» «كلا، بل كان عين العقل. كان يعرف أنه ليس أمامه إلا النجاح في العودة أو الغرق، والغرق كان خيرا له من البقاء على تلك الجزيرة. وبالفعل عاد إلى البيت، لقد عاد. أنا أسكن؛ لا يهم أين أسكن. أسكن كوخا على أطراف قرية. وصل بعد منتصف الليل. كنت قد أمضيت يوما مرهقا في العمل، وكنت أنوي الخلود إلى النوم مبكرا. كنت متعبة لكن قلقة؛ لذا أعددت لنفسي قدحا من الشاي عندما وصلت للمنزل ثم غفوت وأنا جالسة على كرسي. لم أنم لأكثر من عشرين دقيقة لكني عندما استيقظت، وجدت أنني لم أكن جاهزة للذهاب إلى سريري. تعرف ذلك الشعور. تكون قد وصلت إلى مرحلة تفوق التعب. ويصبح حتى تبديل ثيابك أمرا يفوق قدرتك.
كانت ليلة حالكة الظلمة، لا ترى فيها النجوم، وكانت الرياح تشتد. عادة أحب صوت الرياح عندما أكون دافئة في بيتي ، لكن تلك الليلة كان وقع صوتها مختلفا على أذني، لم يكن مطمئنا، بل كان ينتحب ويهس بينما يمر في المدخنة، كان مرعبا. خيم على نفسي الاكتئاب، ذلك الكلب الأسود الجاثم على عاتقي، وأنا أفكر في وفاة أمي وهنري الذي لن أراه ثانية. فكرت أنه من الأفضل أن أزيح عن نفسي ذلك الشعور وأذهب إلى سريري. حينها سمعت طرقا على الباب. يوجد جرس لكنه لم يستعمله. بل طرقه بمقرعة الباب مرتين، كان طرقا خفيفا لكني سمعته. نظرت عبر وصواص الباب فلم أر سوى الظلام. كان ذلك بعد منتصف الليل وتساءلت من الذي جاء لزيارتي في ذلك الوقت المتأخر. لكني وضعت سلسلة الباب وفتحته. كان ثمة شخص داكن متكوم بجوار الحائط. بالكاد استطاع طرق الباب مرتين قبل أن تخور قواه ويسقط مغشيا عليه. سحبته إلى الداخل وساعدته على استعادة وعيه. وأعطيته القليل من الحساء والبراندي وبعد ساعة صار يقوى على الحديث. كان يتوق كثيرا للحديث، فضممته بين ذراعي وتركته يتكلم.»
سأل ثيو: «كيف كانت حالته؟»
كان رولف هو من أجاب: «كان متسخا، نتن الرائحة ونحيفا للغاية. فقد جاء من ساحل كمبيريا سيرا على الأقدام.»
تابعت ميريام قائلة: «حممته وضمدت قدميه وتمكنت من أن أضعه في السرير. كان مرتعبا من النوم وحده؛ لذا استلقيت بجواره بكامل ثيابي. لم أستطع النوم. حينها بدأ يتكلم. تكلم لأكثر من ساعة. ظللت خلالها صامتة. فقط ضممته وأنصت له. ثم صمت أخيرا فعرفت أنه نام. ظللت مستلقية بجواره أضمه وأستمع إلى صوت تنفسه وتمتماته. كان أحيانا يتأوه ثم ينتفض فجأة ويهب جالسا، لكني كنت أهدئه كما لو كان طفلا رضيعا وكان يعود للنوم مرة أخرى. استلقيت بجواره وانتحبت في صمت من بشاعة الأمور التي أخبرني بها. لكني شعرت بالغضب أيضا. كان الغضب جمرة ملتهبة تحرق صدري.
Bilinmeyen sayfa