الكتاب الأول: أوميجا ()
الفصل الأول
الفصل الثاني
الفصل الثالث
الفصل الرابع
الفصل الخامس
الفصل السادس
الفصل السابع
الفصل الثامن
الفصل التاسع
Bilinmeyen sayfa
الفصل العاشر
الفصل الحادي عشر
الفصل الثاني عشر
الفصل الثالث عشر
الفصل الرابع عشر
الفصل الخامس عشر
الفصل السادس عشر
الفصل السابع عشر
الفصل الثامن عشر
الفصل التاسع عشر
Bilinmeyen sayfa
الكتاب الثاني: ألفا ()
الفصل العشرون
الفصل الحادي والعشرون
الفصل الثاني والعشرون
الفصل الثالث والعشرون
الفصل الرابع والعشرون
الفصل الخامس والعشرون
الفصل السادس والعشرون
الفصل السابع والعشرون
الفصل الثامن والعشرون
Bilinmeyen sayfa
الفصل التاسع والعشرون
الفصل الثلاثون
الفصل الحادي والثلاثون
الفصل الثاني والثلاثون
الفصل الثالث والثلاثون
الكتاب الأول: أوميجا ()
الفصل الأول
الفصل الثاني
الفصل الثالث
الفصل الرابع
Bilinmeyen sayfa
الفصل الخامس
الفصل السادس
الفصل السابع
الفصل الثامن
الفصل التاسع
الفصل العاشر
الفصل الحادي عشر
الفصل الثاني عشر
الفصل الثالث عشر
الفصل الرابع عشر
Bilinmeyen sayfa
الفصل الخامس عشر
الفصل السادس عشر
الفصل السابع عشر
الفصل الثامن عشر
الفصل التاسع عشر
الكتاب الثاني: ألفا ()
الفصل العشرون
الفصل الحادي والعشرون
الفصل الثاني والعشرون
الفصل الثالث والعشرون
Bilinmeyen sayfa
الفصل الرابع والعشرون
الفصل الخامس والعشرون
الفصل السادس والعشرون
الفصل السابع والعشرون
الفصل الثامن والعشرون
الفصل التاسع والعشرون
الفصل الثلاثون
الفصل الحادي والثلاثون
الفصل الثاني والثلاثون
الفصل الثالث والثلاثون
Bilinmeyen sayfa
أبناء البشر
أبناء البشر
تأليف
بي دي جيمس
ترجمة
سارة ياقوت
مراجعة
محمد حامد درويش
ولدت بي دي جيمس في أكسفورد عام 1920، ودرست بمدرسة كامبريدج الثانوية للبنات. عملت منذ عام 1949 وحتى 1968 في هيئة الصحة الوطنية ثم في وزارة الداخلية؛ حيث عملت أولا في قطاع الشرطة ثم في قطاع السياسة الإجرامية. استغلت كل تلك الخبرات في كتابة رواياتها. كانت عضوة بالجمعية الملكية للأدب والجمعية الملكية للفنون، وتولت رئاسة هيئة الإذاعة البريطانية، كما كانت عضوة بمجلس الفنون بإنجلترا؛ حيث ترأست لجنة الاستشارات الأدبية، وكانت أحد أعضاء مجلس إدارة المجلس الثقافي البريطاني، وتولت منصب قاضية جزئية في ميديلسكس ولندن. حازت على عدة جوائز في أدب الجريمة في بريطانيا، وأمريكا، وإيطاليا، وإسكندينافيا، من بينها جائزة زعيم كتاب أدب الغموض بأمريكا، وميدالية الشرف للأدب من نادي الفنون الوطنية بالولايات المتحدة. حصلت على درجات علمية شرفية من سبع جامعات إنجليزية، ومنحت رتبة الإمبراطورية البريطانية عام 1983 ورتبة النبلاء مدى الحياة عام 1991. انتخبت عام 1997 رئيسة لجمعية الكتاب.
عاشت في لندن وأكسفورد ورزقت بابنتين، وخمسة أحفاد، وسبعة من أحفاد الأبناء، وتوفيت في السابع والعشرين من نوفمبر من عام 2014.
Bilinmeyen sayfa
مرة أخرى، إهداء لابنتي
كلير وجاين
اللتين ساعدتاني.
الكتاب الأول
أوميجا (Ω)
يناير-مارس 2021
الفصل الأول
الجمعة 1 يناير 2021
في ساعة مبكرة من صباح هذا اليوم، 1 يناير 2021، بعد منتصف الليل بثلاث دقائق، أردي آخر بشري ولد على الأرض قتيلا في شجار بحانة في إحدى ضواحي بيونس آيرس، عن عمر ناهز خمسة وعشرين عاما وشهرين واثني عشر يوما. إن صدقت التقارير الأولية، فقد مات جوزيف ريكاردو كما عاش. لطالما كانت الأفضلية التي حظي بها - إن صح أن نسميها كذلك - أكثر مما يطيق، كونه آخر بشري سجلت ولادته رسميا، دون أن تكون راجعة إلى أي مزية أو موهبة يملكها. وها قد مات. جاءنا الخبر هنا في بريطانيا في برنامج الساعة التاسعة الذي يذاع بخدمة الراديو الوطنية وسمعته مصادفة. كنت قد جلست وأنا أنوي الشروع في كتابة تلك اليوميات التي سأضمنها النصف الأخير من حياتي، عندما نظرت إلى الساعة وخطر ببالي أن أطلع على عناوين نشرة أخبار الساعة التاسعة. كان موت ريكاردو آخر خبر ذكر فيها، وقد ذكر باختصار في بضع جمل دون تشديد، قرأها مقدم النشرة بصوته الذي حرص على أن يكون حياديا. لكني شعرت عندما سمعته أنه مبرر صغير آخر لأن أبتدئ تلك اليوميات اليوم بالتحديد، الذي يوافق أول يوم في السنة، وعيد مولدي الخمسين. لطالما أحببت ذلك التاريخ المميز عندما كنت طفلا، حتى مع العناء الذي كان يسببه لي كونه يأتي سريعا بعد الكريسماس بحيث تكفي هدية واحدة للاحتفال بالمناسبتين ولم تكن قط أفضل بكثير من أي هدية كنت سأتلقاها في أي من المناسبتين.
بينما أبتدئ الكتابة، فإن هذه الأحداث الثلاثة؛ رأس السنة، وعيد مولدي الخمسين، وموت ريكاردو، بالكاد تبرر تلطيخ الصفحات الأولى من ذلك الدفتر السلكي الجديد. لكني سأمضي قدما؛ فالكتابة سلاح بسيط يضاف لترسانة أسلحتي لمحاربة جمود النفس. وإن كان لا شيء يستحق التدوين، فسوف أدون هذا اللاشيء، حتى إذا بلغت من العمر أرذله إن قدر لي - كما يتوقع أغلبنا، فقد صرنا خبراء في إطالة العمر - فسوف أفتح إحدى علب أعواد الثقاب التي أكتنزها وأشعل نارا صغيرة وقودها ترهاتي الشخصية تلك؛ فأنا لا أنوي ترك دفتر اليوميات ليكون شاهدا على السنين الأخيرة من حياة رجل، فحتى عندما تبلغ مني الأنانية أوجها، لا أكون مخدوعا بذاتي لتلك الدرجة، فما الذي يمكن أن يثير الاهتمام في دفتر يوميات ثيودور فارون، أستاذ الفلسفة، وزميل كلية ميرتون بجامعة أوكسفورد، ومؤرخ العصر الفيكتوري، المطلق والذي ليس لديه أبناء، والمنعزل، والذي مدعاته الوحيدة للشهرة أنه ابن خالة زان لايبيات، حاكم إنجلترا الديكتاتور. وعلى كل حال، لا داعي لأي سجل شخصي إضافي؛ ففي جميع أنحاء العالم، تستعد حكومات الدول للاحتفاظ بشهادتها من أجل خلفائنا الذين لا نزال أحيانا نخدع أنفسنا بأنهم قد يأتون من بعدنا، تلك الكائنات القادمة من كوكب آخر التي قد تهبط على تلك البرية الخضراء وتتساءل عن ماهية الحياة الحسية التي سكنتها يوما ما. فنخزن كتبنا ومخطوطاتنا، ولوحاتنا الفنية العظيمة، ونوتاتنا وآلاتنا الموسيقية وقطعنا الأثرية. خلال أربعين عاما من الآن على الأكثر، ستكون أعظم مكتبات العالم قد أظلمت وأغلقت أبوابها. وستتحدث المباني، التي ستظل واقفة حينها، عن نفسها.
Bilinmeyen sayfa
على الأرجح لن يصمد الحجر اللين لمباني أكسفورد لأكثر من قرنين. وبالفعل تناقش الجامعة إذا ما كان ثمة جدوى من ترميم واجهة مسرح شيلدونيان المتداعية. لكني أحب تصور أن تلك الكائنات الخرافية ستهبط في ميدان سانت بيتر وتدخل إلى الكاتدرائية العظيمة، التي يسودها الصمت ويتردد فيها صدى وقع أقدامهم تحت الغبار الذي خلفته القرون. هل سيدركون أنها كانت يوما أعظم المعابد التي بناها البشر لواحد من آلهتهم الكثيرة؟ هل سينتابهم الفضول تجاه طبيعته، ذلك الإله الذي عبد بذلك القدر من الإجلال والتعظيم، وهل سيحير ألبابهم معنى شعاره الغامض الذي كان يوما بسيطا للغاية، مجرد عصوين متقاطعتين موجود مثلهما في كل مكان في الطبيعة، ومع ذلك ثقلا بالذهب، وزينا ببهاء بالجواهر؟ أم ستكون قيمهم وطرق تفكيرهم غريبة عنا لدرجة أنهم لن يتأثروا بأي مما كان يثير انبهارنا أو يأسر ألبابنا؟ لكن على الرغم من اكتشاف كوكب - كان ذلك في عام 1997 حسبما أذكر - أخبرنا رواد الفضاء أنه قد يكون صالحا للحياة، لم يصدق حقا أنهم قادمون إلا قلة منا؛ هم حتما موجودون. فلا يعقل أن يمنح هذا النجم الصغير وحده وسط هذا الكون الفسيح القدرة على دعم نمو وتطور كائنات ذكية. لكننا لن نصل قط إليهم ولن يأتوا هم إلينا قط.
منذ عشرين عاما، عندما صار العالم شبه مقتنع بالفعل أن جنسنا قد فقد للأبد القدرة على التناسل، صار البحث عن آخر ولادة بشرية هوسا عالميا، وارتفع لمرتبة الفخر القومي، وصار منافسة عالمية كانت في النهاية عديمة الجدوى بقدر ما كانت حادة وشرسة. كي تتأهل ولادة لها، كان يجب أن يوجد إخطار رسمي بها، وأن يسجل تاريخها ووقتها بدقة. استبعد ذلك عمليا نسبة كبيرة من أبناء الجنس البشري الذين عرف تاريخ مولدهم لكن لم تعرف ساعته، وأصبح من المقبول، ولكن من غير المشدد عليه، أن النتيجة لن تكون قط حاسمة. فأنا أكاد أجزم أن في إحدى الغابات النائية، وداخل كوخ بدائي، خرج إلى ذلك العالم اللامبالي آخر بشري دون أن يلاحظه أحد. ولكن بعد شهور من التدقيق والتمحيص، اعترف رسميا، بجوزيف ريكاردو، ذي العرق المختلط، الذي ولد بصفة غير شرعية في مستشفى بيونس آيريس في الساعة الثالثة ودقيقتين، بتوقيت غرب أوروبا الصيفي، يوم 19 أكتوبر 1995. فور إعلان النتيجة، ترك كي يستغل شهرته تلك بأفضل طريقة ممكنة، بينما وجه العالم اهتمامه صوب شيء آخر وكأنما أدرك فجأة عبثية ما كان يفعله. وها قد مات، وأشك في أن أي دولة ستتحمس لإيقاظ مرشحيها الآخرين من غفلتهم.
فنحن ساخطون ومثبطو الهمة، ليس بسبب نهاية جنسنا الوشيكة ولا حتى عدم قدرتنا على منعها، وإنما لفشلنا في اكتشاف السبب؛ فالعلوم الغربية والطب الغربي لم يؤهلانا لمواجهة فداحة ذلك الفشل الذريع ولا للخزي الذي تسبب به لنا. كثيرا ما واجهتنا أمراض كان من الصعب تشخيصها أو علاجها، وكاد أحدها يفتك بسكان قارتين قبل أن ينقضي. لكننا كنا نتمكن دائما من اكتشاف السبب في نهاية المطاف. لشدة حسرتنا، منحنا أسماء للفيروسات والجراثيم، التي لا تزال تصيبنا حتى يومنا هذا؛ إذ يبدو إهانة شخصية لنا كونها لا تزال تجتاحنا، مثل الأعداء القدامى المستمرين في مناوشاتهم وإسقاطهم لضحية من حين لآخر كلما تأكد لعدوهم النصر. كانت العلوم الغربية بمثابة إلهنا؛ فقد استطاعت بسلطانها النافذ إلى كل جوانب حياتنا أن تطيل أعمارنا وأن تمنحنا الطمأنينة والشفاء والدفء والغذاء ووسائل الترفيه، وقد كنا ننتقدها بأريحية بل نكفر بها في بعض الأحيان كما كفر البشر بآلهتهم، مع أنهم يعرفون أنه، مع كفرهم به، سيظل ذلك الإله، الذي خلقوه واستعبدوه، يوفر لهم رزقه من مسكن لأوجاعهم وقلب بديل ورئة جديدة ومضاد حيوي، وعجلات متحركة، وصور متحركة. سيظل النور يضيء دائما عندما نضغط الزر، وإن لم يضئ فبإمكاننا اكتشاف السبب. لم أكن ماهرا في مادة العلوم قط. كنت لا أستوعب إلا القليل منها عندما كنت طالبا بالمدرسة والآن وقد بلغت الخمسين من عمري لم يزد استيعابي لها كثيرا. لكني مع ذلك اتخذتها إلهي أنا أيضا، حتى وإن لم أكن قادرا على سبر أغوار إنجازاتها؛ لذا انضممت إلى أولئك الذين تحرروا من الوهم واعتبروا أن إلههم قد مات. بوسعي أن أتذكر بوضوح الكلمات الواثقة التي قالها عالم أحياء عندما تبين أخيرا أنه لا يوجد على وجه الأرض امرأة حبلى: «قد نستغرق بعض الوقت لاكتشاف سبب ذلك العقم الذي من الواضح أنه أصاب جميع سكان العالم.» ها قد مرت خمس عشرة سنة ولم يعد لدينا أمل في أن ننجح في اكتشافه. كفحل شبق أصابه العجز فجأة، جرح كبرياؤنا بما كنا نعتبره جوهر ثقتنا بأنفسنا. فمع كل ما نملك من علم وذكاء وقوة، لم نعد قادرين على الإتيان بما تأتي به الحيوانات دون تفكير. لا عجب أننا صرنا نعبدهم ونمقتهم في آن واحد.
أصبح عام 1995 هو العام الذي سمي «العام أوميجا»، وقد أصبح ذلك الاسم متعارفا عليه عالميا. دار جدال عام كبير في أواخر تسعينيات القرن العشرين حول إذا ما كانت الدولة التي ستكتشف علاجا لذلك العقم العام ستشاركه مع باقي العالم، وإن فعلت فتحت أي شروط. واتفق على أن هذه كارثة عالمية وأن العالم كله يجب أن يتحد لمواجهتها. كنا لا نزال في أواخر تسعينيات القرن العشرين نتحدث عن أوميجا باعتباره مرضا، أو خللا سيشخص ويعالج بمرور الزمن كما وجد الإنسان علاجا للسل والخناق، وشلل الأطفال، وحتى للإيدز في نهاية المطاف، وإن كان بعد فوات الأوان. وبمرور الأعوام، وعندما لم تؤل الجهود المشتركة تحت رعاية الأمم المتحدة إلى شيء، انهار ذلك القرار بالانفتاح الكامل؛ فغلفت الأبحاث بالسرية، وصارت جهود الدول مدعاة للاهتمام المشوب بالريبة والشغف. ضافر المجتمع الأوروبي جهوده، وحشد مؤسسات البحث والقوى العاملة. كان المركز الأوروبي للخصوبة البشرية الواقع في ضواحي باريس أحد أكثر تلك المؤسسات وجاهة في العالم، وكان يتعاون - على الأقل علانية - مع الولايات المتحدة التي كانت تبذل جهودا أكبر. لكن لم يحدث تعاون مشترك بين الأعراق المختلفة؛ فقد كانت الغنيمة أكبر من أن يتشاركوها فيما بينهم. كانت الشروط التي يمكن مشاركة السر وفقها محل تخمين وجدل محتدم. اتفق على أنه بمجرد أن يكتشف العلاج يتعين مشاركته؛ فقد كان يعد معرفة علمية لا ينبغي، ولا يمكن، لعرق أن يحتكرها لأجل غير مسمى. لكن، عبر القارات والحدود الدولية والعرقية المختلفة، كان كل منا ينظر إلى الآخر بتوجس وريبة، معتمدين على الشائعات والتكهنات. وعاودت حرفة التجسس القديمة الظهور مرة أخرى. تسلل العملاء القدامى خارج جحور تقاعدهم في وايبريدج وتشيلتنهام ولقنوا غيرهم حرفتهم. بالطبع لم يكن التجسس قد توقف، حتى بعد انتهاء الحرب الباردة رسميا عام 1991؛ فالبشر قد أدمنوا ذلك المزيج المسكر من مجازفة المراهقين وخيانة البالغين لدرجة تمنعهم من التخلي عنه بالكلية. في أواخر تسعينيات القرن العشرين، ازدهرت مؤسسة التجسس الرسمية كما لم تزدهر منذ انتهاء الحرب الباردة، وخرج من رحمها أبطال جدد، وأشرار جدد، وأساطير جديدة. كانت أعيننا مسلطة على اليابان بالأخص، خشية أن يكون هذا الشعب، الذي يتمتع بعبقرية تقنية، في طريقه بالفعل لإيجاد الحل.
وها قد مرت عشر سنوات وما زلنا نراقبهم، لكن بقلق أقل وأمل منعدم. لا يزال التجسس مستمرا حتى اليوم، ولكن مع أن خمسا وعشرين سنة قد مرت على ولادة آخر بشري، فإن قليلين منا فقط هم من يوقنون في قرارة أنفسهم أن كوكبنا لن يسمع صرخة مولود مرة أخرى. أما اهتمامنا بالجنس فهو آخذ في التلاشي؛ فقد طغى الحب الرومانسي والمثالي على الإشباع الجسدي المجرد رغم جهود حاكم إنجلترا المتمثلة في إقامة محال وطنية إباحية تهدف لاستثارة رغباتنا الواهنة. لكن أصبح لدينا ملذات حسية بديلة؛ وهي متاحة لجميع المسجلين بخدمة الصحة الوطنية. نذهب كي تدلك وتمسد وترطب وتعطر أجسادنا الآخذة في الهرم، وتدرم أظافر أيدينا وأقدامنا وتقاس أطوالنا وأوزاننا. أصبح مبنى كلية «ليدي مارجريت هول» مركز التدليك الخاص بجامعة أكسفورد، وهناك أرقد عصر كل ثلاثاء على الأريكة متطلعا إلى الحدائق التي لا تزال تلقى العناية، متمتعا بساعة التدليل الحسي المحتسبة بدقة التي توفرها لي الدولة. ويا له من جهد دءوب واهتمام مهووس ذلك الذي نوجهه تلقاء التشبث بوهم حيوية منتصف العمر، إن لم يكن الشباب. أصبح الجولف هو الرياضة الوطنية الآن. لولا أوميجا لاعترض دعاة حماية التراث البيئي على تشويه وإعادة تصميم تلك المساحات الواسعة من الريف، التي يعد بعضها من أجمل ما لدينا، لبناء ملاعب جولف أكثر تحديا. جميعها مجانية؛ فذلك جزء من الرفاهية التي وعد بها الحاكم. لكن بعضها صار حصريا، بإبقاء الأعضاء غير المرحب بهم خارجها، ليس بمنعهم من الدخول، فذلك يعد غير قانوني، بل بتلميحات التمييز الطبقي المتوارية التي تعلم كل مواطن بريطاني، حتى أغلظهم، تفسيرها منذ نعومة أظافره. فنحن ما زلنا بحاجة إلى مظاهر الأبهة؛ فالمساواة ما هي إلا نظرية سياسية ولا تصلح سياسة تطبيقية، حتى في ظل حكم زان لبريطانيا القائم على المساواة. جربت مرة أن ألعب الجولف، لكني ما لبثت أن وجدتها لعبة غير جذابة بالمرة، ربما لأنني استطعت زحزحة جلفا من الأرض لكني لم أستطع مطلقا أن أزحزح الكرة عن موضعها. أنا الآن أمارس العدو. كل يوم تقريبا، أخرج للركض فوق التربة الناعمة لبورت ميدو أو في ممرات المشي المهجورة بغابة ويثام، وأعد الأميال التي أقطعها؛ ومن ثم أقيس معدل ضربات القلب وفقدان الوزن وقوة التحمل. فأنا، مثلي مثل الجميع، أتوق لأن أظل على قيد الحياة، وأشاركهم هوس الحفاظ على وظائف جسمي.
أتذكر أن الكثير من هذا بدأ في مطلع تسعينيات القرن العشرين؛ اللجوء إلى الطب البديل، والزيوت العطرية، وتدليك الأجساد وتمسيدها ودهنها بالزيوت، والإمساك بالأحجار الكريمة طلبا للاستشفاء، والجنس بلا إيلاج. ارتفعت معدلات المشاهد الإباحية والعنف الجنسي في الأفلام وعلى التلفاز وفي الكتب وحتى في الواقع، وأصبحت أكثر جرأة، بينما أخذت تقل في الغرب أعداد أولئك الذين يمارسون الحب وينجبون الأطفال. بدا ذلك حينها تطورا مستحسنا في ظل الزيادة السكانية المفرطة التي كان العالم يعاني منها. لكن كوني أستاذ تاريخ، كنت أراه بداية النهاية.
كان لا بد من تحذيرنا في مطلع التسعينيات؛ ففي عام 1991 أظهر تقرير الاتحاد الأوروبي انخفاضا في أعداد الأطفال المولودين في أوروبا، والتي بلغت 8,2 مليون عام 1990، وكان ذلك الانخفاض ملحوظا في البلدان التي يعتنق معظم سكانها مذهب الروم الكاثوليك. اعتقدنا أننا نعرف الأسباب، وأن ذلك الانخفاض جاء متعمدا نتيجة للمواقف التحررية تجاه تنظيم النسل، والإجهاض، وتأخير النساء العاملات للإنجاب سعيا وراء حياتهن المهنية، ورغبة الأسر في رفع مستوى معيشتها. وقد ساهم في انخفاض أعداد السكان أيضا انتشار الإيدز خصوصا في أفريقيا. أطلقت بعض الدول الأوروبية حملة قوية للتشجيع على الإنجاب، لكن معظمنا كان يرى أن ذلك الانخفاض محمود بل ضروري. فقد كنا بأعدادنا الضخمة نلوث الكوكب، وإن كنا سنتكاثر بأعداد أقل فإن ذلك أمر مرحب به. لم تكن المخاوف منصبة على انخفاض أعداد السكان بقدر ما كانت منصبة على رغبة الأمم في الحفاظ على شعوبها وهويتها الثقافية وعرقها، وفي أن ينجب أبناؤها عددا من الصغار يكفي لحفظ هياكلها الاقتصادية. لكن حسبما أذكر، لم يشر أحد إلى أن تغيرا كبيرا يطرأ في نسب الخصوبة لدى الجنس البشري. وعندما جاءت أوميجا، جاءت بغتة، وقوبلت باستنكار. فبين ليلة وضحاها، بدا الأمر وكأن الجنس البشري فقد قدرته على التناسل. في يوليو 1994 تسبب اكتشاف أن حتى الحيوانات المنوية المجمدة والمحفوظة المستخدمة في التجارب والتلقيح الصناعي فقدت فاعليتها، في ذعر غير معهود ألقي على أوميجا بستار من رهبة الخرافات والسحر والتدخل الإلهي. وعاودت الآلهة القديمة الظهور بسلطانها الرهيب.
لم يتخل العالم عن الأمل حتى وصل الجيل الذي ولد عام 1995 إلى سن البلوغ الجنسي. فبعد اكتمال الاختبارات التي أجريت عليهم، واكتشاف أنه لا يوجد من بينهم من يستطيع إنتاج حيوانات منوية خصبة، أدركنا أن تلك لا محالة هي نهاية جنس «الإنسان العاقل». كان ذلك العام، عام 2008، هو العام الذي ارتفعت فيه معدلات الانتحار. ليس بين كبار السن، بل بين أبناء جيلي من متوسطي العمر، ذلك الجيل الذي كان عليه أن يتحمل وطأة تلبية المتطلبات المهينة والملحة لمجتمع يشيخ ويتداعى. حاول زان، الذي كان حينها قد استولى على السلطة في إنجلترا، منع الانتحار الذي كان يتحول إلى وباء بفرض غرامات على أقرب أقرباء على قيد الحياة للمنتحرين، مثلما يصرف المجلس اليوم معاشات كبيرة لأقارب فاقدي الأهلية والعاجزين من كبار السن ممن يقررون إنهاء حياتهم. وقد أتى ذلك بثماره؛ فقد انخفض معدل الانتحار هنا مقارنة بمعدلاته المهولة في مناطق أخرى من العالم، بخاصة الدول التي تقوم ديانتها على عبادة الأسلاف، واستمرار العائلة. لكن أولئك الذين ظلوا على قيد الحياة استسلموا لتلك النزعة السلبية التي سادت العالم كله تقريبا وأسماها الفرنسيون «الضجر العالمي». فتكت بنا كالمرض الخبيث؛ وقد كانت بالفعل مرضا، له أعراض ما لبثت أن أصبحت شائعة، تمثلت في الوهن الجسدي، والاكتئاب، وتوعك غير معروف السبب، والاستعداد للإصابة بالأمراض المعدية البسيطة، وصداع دائم يمنع من الحركة. حاربته كما فعل كثيرون غيري. بعض الناس، ومن ضمنهم زان، لم يصابوا به على الإطلاق، ربما وقاهم منه افتقارهم للخيال أو في حالته أنانية مفرطة شكلت درعا قوية تمنع أي كارثة خارجية من اختراقها. ما زلت أحيانا بحاجة لأن أصارعه، لكني صرت لا أهابه مثل ذي قبل. الأسلحة التي أحاربه بها هي تلك الأشياء التي أجد فيها سلوتي؛ الكتب والموسيقى والطعام والنبيذ والطبيعة. تلك المبهجات المسكنة هي بمثابة تذكارات حلوة مريرة على أن السعادة البشرية زائلة، لكن متى كانت السعادة دائمة؟ ما زال بوسعي أن أجد اللذة، لذة ذهنية أكثر منها حسية، في ازدهار الربيع في أكسفورد، في أزهار شارع بيلبيرتون رود التي تبدو وكأنها تزداد جمالا عاما بعد عام، في ضوء الشمس وهو يزحف على الجدران الحجرية، وفي أشجار كستناء الهند وهي تتمايل مع الريح في أوج ازدهارها، وفي رائحة حقل فاصوليا تفتحت أزهاره، وفي أول أزهار اللبن الثلجية، وفي رقة تضام أوراق زهرة خزامى. يجب ألا تخبو اللذة، فسيحل الربيع على مدى قرون عدة دون أن يتسنى للبشر التلذذ برؤية تفتح أزهاره، وستتداعى الجدران وتموت الأشجار وتتعفن، وتصبح الحدائق مجرد حشائش وأعشاب.
كل ذلك الجمال سيبقى بعد فناء الذكاء البشري الذي يلاحظه ويتمتع به ويحتفي به. أقول ذلك لنفسي، لكن هل أصدقه حقا بعدما أصبحت اللذة لا تأتي إلا نادرا، وعندما تأتي، يصعب التفريق بينها وبين الألم؟ أتفهم السبب وراء ترك الأرستقراطيين وكبار ملاك الأراضي أملاكهم دون عناية بعد أن فقدوا الأمل في ذرية تخلفهم. فليس بإمكاننا أن نحيا إلا في اللحظة الحالية، وليس بإمكاننا أن نعيش أي لحظة زمنية أخرى، وإدراكنا لذلك هو أبعد ما نستطيع أن نبلغه إلى الحياة الأبدية. لكن عقولنا تشرد إلى القرون الماضية بحثا عن الطمأنينة في وجود أسلافنا، دون أمل في ذرية، ليس لنا فحسب بل لجنسنا كله، ودون أن نجد الطمأنينة في أن جنسنا سيبقى بعد أن نموت نحن، وأشعر أحيانا أن جميع الملذات الذهنية والحسية ما هي إلا وسائل دفاعية متهالكة مثيرة للشفقة تكالبت لتمنعنا من تدمير حياتنا.
في خضم فجيعتنا العالمية، مثل أبوين مكلومين، أخفينا كل ما يذكرنا بما فقدناه. فقد فككت ساحات لعب الأطفال من متنزهاتنا. في الاثنتي عشرة سنة الأولى بعد حدوث أوميجا، رفعت الأراجيح وثبتت لأعلى، وتركت الزحاليق وأطر التسلق دون تجديد طلائها. ثم أزيلت تماما وفرشت أرضيات ساحات اللعب الإسفلتية بالعشب أو زرعت فوقها الأزهار كما لو كانت قبورا جماعية صغيرة. حرقت الألعاب، باستثناء الدمى التي اتخذتها بعض النسوة، اللاتي فقدن عقولهن، بديلا للأطفال. أما المدارس التي أغلقت أبوابها منذ مدة طويلة فقد أوصدت نوافذها بالألواح الخشبية أو أصبحت تستخدم مراكز تعليم للكبار. وأزيلت كتب الأطفال بمنهجية من مكتباتنا. وصرنا لا نسمع أصوات الأطفال إلا في الشرائط والتسجيلات، ولا نرى صورهم المتحركة البهية إلا في الأفلام أو برامج التلفاز التي لا يطيق بعضنا مشاهدتها لكن يدمنها معظمنا كما لو كانت مخدرا.
Bilinmeyen sayfa
أطلق على الأطفال الذين ولدوا في العام 1995 اسم «الأوميجيين». لم يخضع أي جيل آخر لذلك الكم من الدراسات والاختبارات التي خضعوا لها ولا نال ذلك القدر من القلق والتقدير والتدليل الذي نالوه. كانوا رجاءنا وأملنا في الخلاص وكانوا، ولا يزالون، يتمتعون بجمال استثنائي. يبدو في بعض الأحيان وكأن الطبيعة في أوج غلظتها جعلتهم كذلك كي تجعلنا نتحسر على ما فقدناه. فالذكور، الذين بلغوا من العمر الخامسة والعشرين الآن، أشداء واستقلاليون وأذكياء ووسماء كآلهة يافعة. العديد منهم أيضا قاس ومتعجرف وعنيف، وثبت أن ذلك ينطبق على كل الأوميجيين في سائر العالم. يشاع أن عصابات «ذوي الوجوه المطلية» المخيفة التي تجوب الريف ليلا، لتنصب الكمائن للمسافرين غير الحذرين وترهبهم، هي من الأوميجيين. ويقال إنه عندما يلقى القبض على أحد الأوميجيين، تعرض عليه الحصانة إن كان مستعدا للانضمام إلى شرطة الأمن الوطني، بينما يلقى بباقي أفراد العصابة، المدانين بنفس تهمته، في المستعمرة العقابية على جزيرة مان، التي ينفى إليها حاليا كل أولئك المدانين بجرائم عنف أو سطو أو سرقة متكررة . ليس من الحكمة أن نقود سياراتنا دون حماية في الطرق الثانوية المتداعية، لكن بلداتنا ومدننا آمنة، وتكافح الجريمة فيها بفاعلية أخيرا بالعودة إلى تطبيق سياسة الترحيل التي كانت مطبقة في القرن التاسع عشر.
أما إناث الأوميجيين فيملكن جمالا من نوع مختلف، جمالا كلاسيكيا جافيا فاترا، يفتقر إلى الحيوية والروح. اتخذن لأنفسهن تصفيفة شعر مميزة لا تقلدها النساء الأخريات قط، ربما بدافع الخوف من التقليد. فهن يتركن شعورهن طويلة ومنسدلة، ويربطن شريطة مفرودة أو مجدولة حول جباههن. وهي تصفيفة لا تليق إلا بوجه ذي جمال كلاسيكي، له جبهة عالية وعينان واسعتان متباعدتان. وكشأن أقرانهن من الذكور، يبدو أنهن يفتقرن إلى القدرة على المشاركة الوجدانية البشرية. يعد الأوميجيون، رجالا ونساء، سلالة منفصلة، تدلل وتسترضى وتهاب، وينظر إليها برهبة تنطوي على بعض الإيمان بالخرافات. قيل لنا إنهم في بعض الدول يقدمون قرابين في طقوس الإخصاب التي عادت إلى الحياة بعد قرون من التحضر الظاهري. أتساءل أحيانا ماذا سنفعل هنا في أوروبا إن وردت إلينا أخبار بأن الآلهة القديمة قبلت تلك القرابين المحرقة وأن طفلا ولد حيا.
ربما نحن من جعلنا الأوميجيين على ما هم عليه بحماقتنا؛ فنظام يجمع بين المراقبة المستمرة والتدليل التام لا يصلح لتنشئة سوية. إن عاملت الأطفال كالآلهة منذ نعومة أظافرهم، فلا لوم عليهم إن تصرفوا كالشياطين عندما يكبرون. أحمل لهم ذكرى لا تزال حاضرة في ذهني بوضوح، وتظل رمزا حيا لنظرتي لهم، ونظرتهم لأنفسهم. حدث ذلك في يونيو الماضي، في يوم حار لكن حره لم يكن خانقا، وكان ضوء شمسه يسطع بوضوح وتزحف السحب ببطء مثل حفن من نسيج قطني رقيق عال في السماء اللازوردية، وهواؤه عليل تشعر ببرودته المعتدلة على وجنتيك، يوم لا يشبه مطلقا أيام صيف أكسفورد الرطبة البطيئة. كنت أزور زميلا أكاديميا في كلية كرايست تشرش وكنت قد دخلت تحت القوس المدبب العريض الذي يعلوه تمثال ولسي كي أعبر ساحة توم كواد عندما رأيتهم، مجموعة أوميجيين من أربعة ذكور وأربع إناث، واقفين يستعرضون أنفسهم بأناقة على قاعدة المبنى الحجرية. بدت النسوة بخصلات شعرهن المعقوصة اللامعة التي أحاطت بوجوههن مثل الهالة، وحواجبهن المرفوعة، والطيات والثنيات المتكلفة لأثوابهن الرقيقة، كما لو كن قد خرجن للتو من رسوم رسمها رسامو ما قبل الرفائيلية على زجاج نوافذ الكاتدرائية. ووراءهن وقف الذكور الأربعة مباعدين بين سيقانهم وعاقدين أذرعهم، موجهين أنظارهم ليس للنسوة بل لما وراء رءوسهن بتعال كما لو كانوا يؤكدون سيادتهم المطلقة على الساحة كلها. بينما كنت أمر، نظرت الإناث نحوي بعيونهن اللامبالية الخاوية من التعبير، التي حملت لمحة ازدراء واضحة. أما الذكور فتجهموا لبرهة ثم أشاحوا بأنظارهم كما لو أنها وقعت على شيء غير جدير بالملاحظة واستمروا في حملقتهم بالساحة. شعرت حينها، كما أشعر الآن، بسعادة بالغة لأني لم أعد مضطرا للتدريس لهم؛ فمعظم الأوميجيين اكتفوا بالحصول على درجة علمية أولى فقط، وليسوا مهتمين بإكمال مسيرتهم التعليمية. كان الطلاب الأوميجيون الذين درست لهم يتمتعون بالذكاء لكنهم كانوا مشاكسين وعديمي الانضباط وملولين. كنت سعيدا لأني لست مضطرا إلى إجابة سؤالهم الذي لم يتفوهوا به: «ما الفائدة من ذلك كله؟» فالتاريخ، الذي يفسر لنا ما حدث في الماضي كي نفهم حاضرنا ونواجه مستقبلنا، لجنس يسير في طريق الانقراض، هو أقل التخصصات نفعا.
زميل الجامعة الذي يتعامل مع أوميجا بهدوء تام هو دانيل هيرتسفيلد، لكن من الناحية الأخرى، باعتباره أستاذا لعلم الحفريات الإحصائي، ينظر عقله إلى الزمن من بعد آخر. كالرب في الترنيمة القديمة، كانت ألف سنة في نظره كليلة أمس التي انقضت. جلس إلى جواري في حفل بالكلية في السنة التي كنت فيها أمين سر مهرجان النبيذ، وقال لي: «ماذا ستقدم لنا بجانب الطيهوج يا فارون؟ هذا سيفي بالغرض تماما. يقلقني أنك أحيانا تميل قليلا إلى أن تكون مغامرا أكثر مما ينبغي. وأتمنى أن تكون قد وضعت برنامجا معقولا لاحتساء النبيذ. سيحزنني، وأنا على فراش الموت، أن أتذكر الأوميجيين الهمجيين وهم يستنفدون مخزون الكلية من النبيذ.»
قلت: «إننا نفكر في الأمر. ما زلنا ننوي اختزان النبيذ بالطبع، لكن على نطاق أضيق . يشعر بعض زملائي أننا نبالغ في التشاؤم.» «لا أعتقد أن المرء يمكنه أن يبالغ في التشاؤم. لا أرى سبب اندهاشكم البالغ جميعا من أوميجا. ففي النهاية، من ضمن أربعة مليارات شكل من أشكال الحياة التي وجدت على هذا الكوكب، انقرض ثلاثة مليارات وتسعمائة وستين مليونا. ولا نعلم السبب. بعضها انقرض انقراضا جائرا، والبعض الآخر بسبب كوارث طبيعية. بعضها قضت عليه الكويكبات والنيازك. في ضوء هذه الانقراضات الجماعية، يبدو من غير المنطقي حقا أن نعتبر أن جنس «الإنسان العاقل» معفيا من ذلك. سيكون جنسنا أحد أقصر الأجناس جميعها عمرا، فيمكنك القول إنه يمثل مجرد طرفة عين للزمن. وبصرف النظر عن أوميجا، ربما كان كويكب ذو حجم كاف لتدمير هذا الكوكب في طريقه إلينا الآن.»
ثم بدأ يلوك قضمات من طيهوجه بصوت عال كما لو أن ذلك الاحتمال قد منحه بهجة عارمة.
الفصل الثاني
الثلاثاء 5 يناير 2021
خلال السنتين اللتين كنت أحضر فيهما اجتماعات المجلس بدعوة من زان بصفتي مستشارا مراقبا، اعتاد الصحفيون أن يكتبوا أننا تربينا معا، وأننا بمثابة أخوين. لكن هذا لم يكن صحيحا. فمنذ أن كنت في الثانية عشرة من عمري، كنا نقضي عطلات الصيف معا لا أكثر. لم يكن ذلك الخطأ مفاجئا. فقد كدت أنا نفسي أصدقه. فحتى الآن، عندما أنظر إلى الماضي يبدو لي الفصل الدراسي الصيفي كسلسلة متعاقبة مملة من الأيام الرتيبة، التي تغلب عليها جداول مواعيد الحصص، ولم تكن مؤلمة ولا كنت أهابها، لكن كان علي أن أتحملها حتى تأتي لحظة الخلاص، وفي بعض الأحيان القليلة استمتعت بها لفترة وجيزة، فقد كنت تلميذا نبيها ومحبوبا نوعا ما. وبعد أن أقضي بضعة أيام في المنزل، كانت والدتي ترسلني إلى وولكوم.
حتى وأنا أكتب الآن، ما زلت أحاول أن أفهم طبيعة مشاعري تجاه زان حينها، ولم ظل الرابط بيننا قويا ولم دام لتلك الفترة الطويلة. لم تكن مشاعري ذات طبيعة جنسية، مع أنه تقريبا في معظم الصداقات الوطيدة يكون ثمة بذرة خفية لانجذاب جنسي. وحسبما أذكر، لم نتلامس قط، حتى من باب اللعب الغليظ. فلم يكن ثمة لعب غليظ؛ فقد كان زان يكره أن يلمسه أحد، وكنت أنا قد أدركت مبكرا حدوده التي يجب ألا أتعداها واحترمتها كما كان هو أيضا يحترم حدودي. ولم تكن أيضا قصة الرفيق المسيطر المعهودة، قصة الرفيق الأكبر عمرا يقود تابعه المعجب به الأصغر منه، وإن كان يكبره بأربعة أشهر فقط، فلم يشعرني قط بأنني أدنى منه؛ فلم يكن ذلك أسلوبه. كان يرحب بي دون مودة خاصة ولكن كما لو كان يستقبل توأمه، أو بضعة منه. كان يحظى بجاذبية بالطبع ولا يزال. عادة تكون الجاذبية صفة مبغوضة لكني لم أعرف قط سببا لذلك. فلا يمكن أن يحظى بها من لا يملك القدرة على الإعجاب بالآخرين بصدق، على الأقل في لحظة لقائهم والتحدث معهم. الجاذبية صفة صادقة دائما؛ فقد تكون سطحية لكنها ليست مصطنعة. عندما يكون زان برفقة شخص ما، فإنه يعطيه انطباعا بالحميمية والاهتمام، ويشعره بأنه لا يحتاج إلى رفقة أي شخص سواه. مع أنه قد يستقبل نبأ وفاة ذلك الشخص في اليوم التالي دون أي تأثر، بل قد يقتله بنفسه حتى دون وخز ضمير. الآن أشاهده على التلفاز وهو يقدم تقريره ربع السنوي للأمة فألحظ نفس الجاذبية.
Bilinmeyen sayfa
كلانا توفيت أمه. تلقيتا الرعاية في آخر أيامهما في قصر وولكوم، الذي تحول الآن إلى دار رعاية مسنين لمن يختارهم المجلس. قتل والد زان في حادث سيارة بفرنسا بعد عام من توليه حكم إنجلترا. اعترى ذلك الحادث بعض من الغموض؛ فلم يفصح عن أي تفاصيل بشأنه قط. دارت في ذهني تساؤلات عن الحادث حينها، ولا زالت تدور حتى الآن، وهذا يوضح لي الكثير بشأن علاقتي مع زان. جزء من ذهني ما زال يعتقد أنه قادر على القيام بأي شيء، يحتاج نوعا ما لأن يصدق أنه عديم الرأفة، لا يقهر، خارق للعادة، كما كنت أراه ونحن صبية.
تفرقت سبل الأختين في الحياة. كانت خالتي، بمعاونة مزيج من الجمال والطموح وحسن الحظ، قد تزوجت من بارونيت في منتصف عمره، بينما تزوجت والدتي من موظف حكومي برتبة متوسطة. ولد زان في قصر وولكوم، وهو أحد أجمل القصور في دورست. وولدت أنا في كينجستون، سيري، في جناح الولادة بالمستشفى المحلي، ثم اصطحبت إلى منزل فيكتوري شبه منفصل يقع في شارع طويل كئيب، تصطف فيه منازل مماثلة، يؤدي إلى متنزه ريتشموند بارك. نشأت في أجواء مليئة بالحقد. أتذكر أمي وهي تحزم حقائبي لزيارتي الصيفية إلى وولكوم، وهي ترتب قمصاني النظيفة وتمسك بأفضل معطف أملكه، تفرده وتتفحصه بتمعن بدا كأنه يحمل عداوة شخصية، كما لو أنها كانت تمقته بسبب المبلغ الذي اضطرت لدفعه مقابله، وبسبب أنها اشترته بمقاس يكبرني تحسبا لأن ينمو جسدي، وحينها كان قد أصبح ضيقا لدرجة غير مريحة، وبين هذا وذاك لم يكن ثمة فترة زمنية ناسبني فيها مقاسه بالضبط. كانت تعبر عن شعورها تجاه حظ أختها الحسن بمجموعة من العبارات التي غالبا ما تتكرر: «من الجيد أنهم لا يرتدون الملابس الرسمية على العشاء. فأنا لن أعمل في توزيع المنشورات كي أشتري لك حلة سهرة، ليس في سنك هذا. فتلك حماقة!» ثم يأتي السؤال المحتم، الذي تشيح ببصرها عني لتسألني إياه، فلم تكن تفتقر تماما للحياء: «هي وزوجها منسجمان جيدا، أليس كذلك؟ بالطبع أفراد تلك الطبقة الاجتماعية يبيتون في غرف منفصلة.» ثم تختم بقول: «بالطبع سيرينا لا تمانع ذلك.» كنت أعلم حتى وأنا في الثانية عشرة من عمري أن سيرينا كانت تمانع ذلك.
أظن أن والدتي كانت تفكر في أختها وزوج أختها أكثر بكثير مما كانا يفكران هما فيها. حتى اسمي المسيحي العتيق يرجع الفضل فيه لزان. فقد سمي تيمنا بأحد أجداده وأجداد والده؛ فقد كان «زان» أحد الأسماء المنتشرة في عائلة ليبيات منذ عدة أجيال. أنا أيضا سميت تيمنا بجد والدي. فلم تر أمي أي داع لأن تتفوق عليها أختها في مجال اختيار اسم شاذ لطفل. لكن السير جورج كان يثير حيرتها. ما زلت أذكر تعليقها المتبرم: «لكنه لا يبدو لي مثل بارونيت.» كان السير جورج هو البارونيت الوحيد الذي قابله كلانا، وكنت أتساءل ما الصورة الذهنية التي تستحضرها للبارونيت، فربما تخيلت أحد أبطال لوحات فان ديك الباهتة الرومانسية يخرج من إطار لوحته، بعجرفة بايرونية حزينة، إقطاعي محتقن الوجه متعال، مرتفع الصوت، يجيد رياضة صيد الثعالب. لكني فهمت ما تعنيه؛ فلم يكن يبدو لي أنا أيضا مثل بارونيت. وبكل تأكيد لم يكن يبدو عليه أنه مالك قصر وولكوم. كان وجهه مثلثيا، مرقطا بالأحمر، وكانت له شفتان مخضلتان صغيرتان يعلوهما شارب بدا سخيفا ومصطنعا، وقد بهت شعره الأحمر الذي ورثه عنه زان فصار لونه كلون القش الجاف، وكانت عيناه تسرحان بحزن وحيرة في أراضيه. لكنه كان راميا ماهرا، وكانت أمي ستوافقني في ذلك الرأي. وكذلك كان زان. لم يكن مسموحا له باستخدام بنادق بوردي التي يملكها والده، لكنه كان يمتلك بضع بنادق كان يصطاد بها الأرانب، وكان يسمح له باستخدام مسدسين برصاصات فارغة. كنا نثبت بطاقات التصويب على الأشجار ونقضي ساعات طويلة نحاول تحسين نتائجنا في الرماية. بعد بضعة أيام من التمرين، تفوقت على زان في الرمي بالبندقية وبالمسدس. مثلت براعتي تلك مفاجأة لكلينا، ولي أنا بالأخص. فلم أتوقع أن أحب الرماية أو أن أبرع بها؛ إذ كاد يربكني اكتشافي كم استمتعت بالمتعة الحسية، المشوبة ببعض الذنب، لملمس المعدن في راحة يدي، واتزان الأسلحة الذي يبعث على الرضا.
لم يكن لزان أي رفقاء آخرين خلال العطلات، ولم يبد أنه بحاجة لهم. لم يأت أي أصدقاء من مدرسته بشيربورن لزيارته في وولكوم. وعندما سألته عن المدرسة تملص من الإجابة. «لا بأس بها. أفضل من الحال الذي كان من شأن هارو أن تكون عليه.» «أفضل من إيتون؟» «لم يعد أبناء عائلتنا يلتحقون بإيتون. فجدي الأكبر خاض شجارا كبيرا فيها أدى إلى اتهامات علنية، ورسائل غاضبة، وغادرها حانقا. لا أذكر سبب كل هذا.» «ألا تضايقك قط العودة إلى المدرسة؟» «لم ستضايقني؟ هل تضايقك أنت؟» «لا، بل على العكس أحبها. إن لم يكن بوسعي القدوم إلى هنا، كنت سأفضل الذهاب إلى المدرسة عن الإجازة.»
سكت لبرهة ثم قال: «المشكلة أن المعلمين يريدون أن يفهموا الطلاب، فهذا ما يعتقدون أنهم يتلقون أجرهم لقاءه. لكني أبقيهم في حيرة من أمرهم. فأنا في فصل دراسي طالب مجتهد، أحصل على أعلى الدرجات، والطالب المدلل لناظر القسم، ومؤهل للحصول على منحة من أكسفورد؛ ثم في الفصل الدراسي الذي يليه، أتسبب في مشاكل جمة.» «مشاكل من أي نوع؟» «من النوع الذي لا يستدعي الفصل، ثم بالطبع في الفصل الدراسي الذي بعده أعود طالبا مطيعا. وهذا يربكهم ويقلقهم.»
لم أكن أنا أيضا أفهمه، لكن ذلك لم يشعرني بالقلق. فأنا لم أكن أفهم نفسي حتى.
بالطبع أدرك الآن لم أحب زان استضافتي في وولكوم. أعتقد أني خمنت السبب تقريبا منذ البداية. لم يكن لديه أدنى التزام تجاهي، ولا تقع عليه أي مسئولية ناحيتي، ولا حتى مسئولية الصداقة أو الاختيار الشخصي. وهو لم يخترني. كنت ابن خالته، وقد فرضت عليه، وكان وجودي أمرا واقعا. وبوجودي في وولكوم، لن يضطر قط للإجابة على السؤال الذي لا مفر منه: «لم لا تدعو أصدقاءك لقضاء العطلة هنا؟» ولم قد يحتاج إلى ذلك؟ فلديه ابن خالته يتيم الأب ليسليه. خففت عن كاهله، كونه طفلا وحيدا، عبء القلق الأبوي المفرط. لم أستشعر وجود ذلك القلق بدرجة كبيرة لكن بدوني، ربما كان والداه سيشعران أنهما ملزمان بإبدائه. منذ طفولته، لم يكن بوسع زان أن يتحمل الأسئلة أو الفضول أو أي نوع من التدخل في حياته. وقد تعاطفت مع ذلك؛ فقد كنت أشبهه كثيرا جدا في هذا الشأن. لو كان ثمة وقت كاف أو داع لذلك، لكان من المشوق تتبع نسبنا المشترك للوقوف على أسباب ذلك الاكتفاء الشخصي الزائد عن الحد لدينا. أدرك الآن أن ذلك كان أحد أسباب فشل زواجي. وهو غالبا يقف وراء عزوف زان عن الزواج. فاختراق باب الحصن المنيع الذي يحمي ذلك القلب والعقل يتطلب قوة أكبر من قوة العشق الجسدي.
نادرا ما كنا نرى والديه خلال أسابيع الصيف الطويلة تلك؛ فمثل أغلب المراهقين ، كنا ننام في وقت متأخر وعندما نستيقظ يكونان قد أنهيا إفطارهما. كانت الوجبة التي نتناولها في الظهيرة توضع لنا في المطبخ، وكانت عبارة عن إناء من الحساء المعد في المنزل، والخبز والجبن والفطائر المحشوة، وقطع من كعكة الفواكه الغنية المخبوزة بالمنزل، وكانت تعدها لنا الطاهية الحزينة التي كانت على نحو يتجافى مع المنطق تتذمر من عبء تحضير الوجبة الإضافية لنا وفي الوقت نفسه من غياب حفلات العشاء الراقية التي يمكنها استعراض مهارتها فيها. وكنا نعود إلى المنزل قبل العشاء بوقت بالكاد يكفي كي نغير ملابسنا ونرتدي حلتينا. لم تكن خالتي ولا زوجها يتجاذبان أطراف الحديث معنا مطلقا أثناء العشاء، على الأقل عندما كنت هناك، وكانا يستأثران هما بالحديث كل منهما مع الآخر، بينما كنت أنا وزان نأكل في صمت ونسترق بين الحين والآخر فيما بيننا نظرات المراهقين الانتقادية التآمرية. كان حديثهما المحموم يدور دوما حول خطط بشأننا ويستمر كما لو أننا لم نكن موجودين.
ذات مرة قالت خالتي وهي تنزع برقة القشرة عن ثمرة خوخ دون أن ترفع عينيها عنها: «قد يرغب الولدان في رؤية قلعة مايدن.» «لا يوجد ما يستحق المشاهدة في قلعة مايدن. يمكن لجاك مانينج أن يصطحبهما في قاربه عندما يذهب لصيد الجمبري.» «أنا لا أثق في مانينج. سيقام حفل غدا في بول وقد يودان حضوره.» «حفل من أي نوع؟» «لا أذكر، لقد أعطيتك برنامجه.» «ربما يودان قضاء يوم في لندن.» «ليس في ذلك الطقس البديع. الأفضل لهما أن يخرجا في الهواء الطلق.»
عندما بلغ زان السابعة عشرة من عمره وصار مسموحا له لأول مرة استخدام سيارة والده، كنا نذهب بها إلى بول لملاحقة الفتيات. كنت أجد تلك النزهات مريعة ولم أرافقه فيها إلا مرتين فحسب. كانت بمثابة اقتحام عالم غريب؛ الضحكات العالية، والفتيات وهن يتصيدن الشباب في مجموعات من اثنتين، ونظرات التحدي الجريئة، والحوار الذي يبدو تافها لكنه لازم. بعد المرة الثانية قلت له: «نحن لا نتظاهر بالشعور بالمحبة. فهن لا يرقن لنا حتى؛ ومن المؤكد أننا لا نروق لهن أيضا؛ لذا إن كان كلا الطرفين لا يريد من الآخر إلا المضاجعة، فلماذا لا نصرح بذلك وندع كل تلك المقدمات المحرجة؟» «يبدو أنهن يحتجن إلى تلك المقدمات. النوع الوحيد من النساء الذي يمكنك التودد إليه بتلك الطريقة هو النساء اللاتي يجب أن تدفع لهن المال مقدما. قد يحالفنا الحظ في بول إن شاهدنا فيلما واحتسينا الخمر لبضع ساعات.» «لا أعتقد أني سأرافقك.» «ربما كنت محقا. عادة ما أشعر في الصباح التالي أن الأمر لم يكن يستحق العناء.»
Bilinmeyen sayfa
كان من عادته أن يجعل الأمر يبدو وكأن رفضي لم يكن نابعا من مزيج من الخجل والخوف من الفشل والخزي، كما كان يعلم على الأرجح. لا ألوم زان على أني فقدت عذريتي في ظروف غير مريحة في موقف سيارات ببول مع صهباء لم تخف علي، أثناء ملاطفاتي وبعدها، أنها قضت ليالي سبت أفضل من تلك بكثير. ولا أدعي أيضا أن تلك التجربة أثرت بالسلب على حياتي الجنسية؛ ففي النهاية، إن كانت تجاربنا الأولى أثناء الصبا هي التي تحدد مسار حياتنا الجنسية، لآل مصير معظم العالم إلى العزوبية. فذلك هو أكثر جانب من التجارب الإنسانية يؤمن البشر بأن المثابرة فيه ستقودهم لما هو أفضل.
بجانب الطاهية، بوسعي أن أتذكر بضعة خدم آخرين. كان يوجد بستاني يدعى هوبهاوس، وكان لديه كره بالغ للورود، خاصة عندما تزرع مع أنواع أخرى من الأزهار. كان يتذمر من أنها تنمو في كل مكان، كما لو كانت النباتات المتسلقة والشجيرات العادية، التي كان يقلمها بمهارة ممتعضا، قد نبتت من تلقاء نفسها بطريقة غامضة. وكان يوجد أيضا سكوفل الوسيم ذو الملامح المنمقة الذي لم أعلم له وظيفة محددة؛ فقد كان يؤدي دور السائق ومساعد البستاني وعامل الإصلاحات. كان زان إما يتجاهله أو يعامله بغلظة شديدة. لم أعهده يعامل أي خادم آخر بفظاظة، وكنت سأسأله عن السبب لولا شعوري، نتيجة لانتباهي كالعادة لأدق التغيرات في انفعالات ابن خالتي، أنه لم يكن من الحكمة أن أطرح ذلك السؤال.
لم أكره حقيقة أن زان كان هو الحفيد المفضل لدى جدينا؛ فقد بدا لي تفضيله علي أمرا طبيعيا للغاية. بوسعي أن أتذكر مقتطفات من حديث آل إلى مسامعي عرضا في أحد أعياد الميلاد المجيدة أثناء اجتماع كارثي للعائلة كلها في وولكوم. «أتساءل أحيانا إن كان ثيو سينجح في حياته أكثر من زان في نهاية المطاف.» «لا، فثيو ولد وسيم وذكي، أما زان فعبقري.»
تبارينا أنا وزان في ذلك الحكم. عندما ضمنت دخولي إلى جامعة أكسفورد، أسعدهم ذلك، ولكنه فاجأهم أيضا. وعندما قبل زان في كلية باليول، اعتبروا أن ذلك هو ما يستحقه. عندما حصلت على درجتي العلمية بمرتبة الشرف الأولى قالوا إن الحظ قد حالفني. وعندما لم يحقق زان إلا مرتبة الشرف الثانية العليا تذمروا، لكن برفق، من أنه لم يكلف نفسه عناء الاجتهاد.
لم يطلب مني زان أي طلبات، ولم يعاملني كابن خالته الفقير الذي يأتي كل عام ليحظى بطعام وشراب وعطلة بالمجان مقابل رفقته أو تبعيته. وإن أردت الاختلاء بنفسي، كان يسمح لي بذلك دون تذمر أو تعليق. كنت أنفرد بنفسي عادة في المكتبة، تلك الغرفة التي كانت تبعث في نفسي البهجة بأرففها المملوءة بالكتب ذات الأغلفة الجلدية، وأعمدتها الجدارية البارزة والأحرف الكبيرة المحفورة عليها، والمدفأة الحجرية الضخمة وشعار النبالة المحفور عليها، والتماثيل النصفية الرخامية في كواتها الجدارية، وطاولة الخرائط الضخمة التي كان بوسعي أن أفرش عليها كتبي وأوراق مهامي الصيفية، والمقاعد الجلدية الوثيرة ذات المسندين، والمشهد من نوافذها الطويلة الذي يمتد من المرج وحتى النهر والجسر. هنا اكتشفت، بينما كنت أتصفح كتب تاريخ المقاطعات، أن مناوشة وقعت على ذلك الجسر أثناء الحرب الأهلية، وأن خمسة من الخيالة الملكيين الشباب حموا الجسر ضد البرلمانيين حتى سقطوا جميعا. حتى إن أسماءهم كانت مذكورة، وكان لقائمة أسمائهم وقع شجاعة رومانسي: أورميرود، فريمانتل، كول، بايدر، فيرفاكس. ذهبت إلى زان بحماس شديد وجررته إلى المكتبة. «انظر، تاريخ المعركة الفعلي يوافق يوم الأربعاء القادم، 16 أغسطس. لا بد أن نحتفل.» «كيف؟ هل نلقي أزهارا في النهر؟»
لكنه قالها بنبرة لم تكن تحمل استنكافا ولا استخفافا، بل كان مستمتعا نوعا ما بحماسي. «لماذا لا نشرب نخبهم على أي حال؟ لنحتفل بالأمر.»
فعلنا الأمرين. ذهبنا إلى الجسر وقت الغروب ومعنا زجاجة من نبيذ أبيه الفرنسي الأحمر، والمسدسين، وأزهارا ملء ذراعي جمعتها من الحديقة المسورة. تقاسمنا شرب زجاجة النبيذ بيننا، ثم وقف زان موازنا نفسه فوق سور الجسر، مطلقا النار من كلا المسدسين في الهواء، بينما تلوت أنا أسماءهم بصوت عال. كانت تلك إحدى لحظات صباي التي ظلت محفورة في ذاكرتي، كانت أمسية من السعادة الخالصة، لا يعكر صفوها أو يشوبها أي إحساس بالذنب أو التخمة أو الندم، خلدتها في ذهني صورة زان معتليا السور وخلفه الغروب، وشعره الأحمر الناري، وبتلات الورود الفاتحة الطافية مع التيار تحت الجسر حتى غابت عن الأنظار.
الفصل الثالث
الاثنين 18 يناير 2021
بوسعي أن أتذكر أول عطلة قضيتها في وولكوم. تبعت زان صاعدين سلالم درج ثان في نهاية الممر حتى وصلنا إلى غرفة في أعلى طابق بالمنزل تطل على الشرفة والمرجة الممتدة تجاه النهر والجسر. تساءلت في بادئ الأمر، بحساسية ولأني كنت مشبعا بكراهية أمي، إن كنت سأودع في غرف الخدم.
Bilinmeyen sayfa
ثم ما لبث زان أن قال: «أنا أسكن في الغرفة المجاورة. لدينا حمامنا الخاص، ستجده في نهاية الممر.»
ما زلت أذكر كل تفصيلة في تلك الغرفة. كانت غرفتي التي قضيت فيها عطلة الصيف كل عام منذ أن كنت طالبا بالمدرسة وحتى تخرجت من أكسفورد. تغيرت أنا، لكنها لم تتغير قط، وفي مخيلتي أرى مجموعة متتابعة من الطلاب المدرسيين والجامعيين جميعهم يشبهونني بشدة، يفتحون ذلك الباب صيفا بعد صيف، ويدلفون إلى إرثهم المشروع. لم أذهب إلى وولكوم منذ توفيت والدتي قبل ثماني سنوات، ولا أنوي العودة إلى هناك مرة أخرى. أحيانا أتخيل أني سأعود إلى وولكوم عندما أصير كهلا لأموت في تلك الغرفة، وأفتح بابها لآخر مرة لأرى السرير ذا القوائم الأربع المنقوشة، والغطاء الباهت المصنوع من الحرير المرقع، والكرسي الهزاز المصنوع من الخشب المثني بوسادته التي طرزتها إحدى نساء عائلة ليبيات الراحلات منذ زمن بعيد، وسطح المكتب الجورجي البالي قليلا لكنه مع ذلك متين وثابت وصالح للاستعمال، وخزانة الكتب التي حوت طبعات القرن التاسع عشر والقرن العشرين من الكتب التي يحبها الصبيان: كتب لهنتي وفينيمور كوبر ورايدر هاجارد وكونان دويل وسابر وجون بوشان، والخزانة ذات الأدراج المقوسة التي تعلوها مرآة عليها وسخ، والصور القديمة لمشاهد معارك؛ خيول مذعورة تشب على قوائمها الخلفية أمام المدافع، وجنود خيالة بعيون محملقة، ومشهد احتضار نلسون. وعلى رأس كل ذلك أذكر اليوم الذي دخلتها فيه لأول مرة، ومشيت إلى النافذة ونظرت خلالها إلى الشرفة والمرجة المنحدرة وأشجار البلوط، وبريق صفحة النهر، والجسر الصغير المقوس.
وقف زان عند الباب، وقال لي: «بإمكاننا أن نخرج إلى مكان ما غدا بالدراجة، إن شئت. لقد اشترى لك البارونيت دراجة.»
عرفت بعدها أنه نادرا ما يذكر أباه بأي طريقة أخرى. قلت: «ذلك لطف منه.» «ليس حقا؛ فقد كان مضطرا إلى ذلك، إن كان يريدنا أن نقضي الوقت معا، أليس كذلك؟» «لدي دراجة؛ فأنا أذهب إلى المدرسة بالدراجة دائما، وكان يمكنني أن أحضرها معي.» «رأى البارونيت أنه من الأيسر الاحتفاظ بواحدة هنا. لست مجبرا على استخدامها. أنا أحب أن أخرج بالدراجة طوال النهار لكنك لست مجبرا على مرافقتي إن لم تود ذلك؛ فركوب الدراجات ليس إلزاميا. في الحقيقة لا يوجد شيء إلزامي في وولكوم سوى التعاسة.»
اكتشفت بعدها أنه يحب إبداء هذا النوع من الملاحظات التهكمية التي تسبق سنه بهدف إثارة إعجابي، وبالفعل نجح في ذلك. لكنني لم أصدقه؛ ففي زيارتي الأولى تلك، ولما انتابني من انبهار بريء، كان من المستحيل أن أتخيل أن أحدا يمكن أن يكون تعيسا في منزل كهذا. وأنه حتما لا يقصد ما قاله.
قلت: «أرغب في أخذ جولة بالمنزل في وقت ما.» ثم احمر وجهي خجلا، خشية أن أكون قد بدوت مثل مشتر محتمل أو سائح. «يمكننا القيام بذلك، بالطبع. إن كان بوسعك أن تنتظر حتى يوم السبت، فستقوم الآنسة ماسكل من الأبرشية بهذه المهمة. سيكلفك ذلك جنيها لكنه يشمل جولة بالحديقة. فالمنزل يفتح للزوار كل سبت لجمع التبرعات لصالح الكنيسة. ما تفتقر إليه مولي ماسكل من معرفة تاريخية وفنية تستعيض عنه بخيالها.» «أفضل أن تصحبني أنت في تلك الجولة.»
لم يجب، وإنما وقف يشاهدني وأنا أجاهد لرفع حقيبة سفري على السرير وأبدأ في إفراغها. كانت أمي قد اشترت لي حقيبة جديدة لهذه الزيارة الأولى. أدركت مغموما أنها كانت كبيرة وأنيقة وثقيلة أكثر من اللازم، وتمنيت لو أني أحضرت بدلا منها حقيبة يدي القماشية القديمة. كنت، بالطبع، قد أحضرت معي ملابس زائدة عن الحاجة وغير مناسبة لكنه لم يعلق، ولا أعرف إن كان ذلك من باب الكياسة أو الذوق، أم لأنه ببساطة لم يلاحظ. دسستها بسرعة في أحد الأدراج، ثم سألته: «ألا تجد العيش في هذا المنزل غريبا؟» «أجده غير مريح وفي بعض الأحيان مضجر، لكني لا أجده غريبا. فقد عاش أجدادي هنا لثلاثمائة سنة.» ثم أضاف قائلا: «إنه منزل صغير للغاية.»
بدا وكأنه يحاول ألا يشعرني بالحرج بتقليله من شأن إرثه، لكني عندما نظرت إليه رأيت، لأول مرة، نظرته التي ألفتها فيما بعد، نظرة استمتاع داخلي خفية بدت في عينيه وعلى شفتيه، لكنها لم تتحول قط لابتسامة صريحة. لم أعلم حينها وما زلت لا أعلم حتى يومنا هذا كم كان يعنيه قصر وولكوم. ما زال القصر يستخدم دارا للعجزة والمتقاعدين من النخبة القليلة؛ من أقرباء وأصدقاء المجلس، وأعضاء المجالس الإقليمية والمحلية ومجالس المقاطعات، الأشخاص الذين يعتبر أنهم خدموا الدولة بشكل أو بآخر. حتى وفاة والدتي، كنت أنا وهيلينا نذهب إلى هناك بانتظام لتأدية واجب الزيارة؛ ما زلت أذكر الأختين وهما تجلسان معا في الشرفة، وقد التحفتا بما يحميهما من البرد، إحداهما تعاني من السرطان في مراحله النهائية، والأخرى من الربو القلبي والتهاب المفاصل، وقد نسيتا الحقد والكراهية في مواجهة الموت المهيب الذي يساوي بين الجميع. عندما أتصور العالم وقد خلا من البشر، أتخيل - ومن منا لا يفعل؟ - الكاتدرائيات والمعابد العظيمة، والقصور والقلاع؛ والقرون غير المأهولة بالبشر تتوالى عليها، والمكتبة البريطانية التي افتتحت قبل أوميجا بفترة قصيرة، بمخطوطاتها وكتبها المحفوظة بعناية التي لن يفتحها أو يقرأها أحد مجددا. لكن وحدها صورة وولكوم هي التي تمس شغاف قلبي؛ عندما أتخيل رائحة العطن في غرفه المهجورة، وأرفف المكتبة المهترئة، واللبلاب وهو يتسلق جدرانه المتداعية، والحشائش والأعشاب البرية تغطي الممرات المفروشة بالحصى، وملعب التنس، والحديقة الرسمية، وذكرى حجرة النوم الخلفية الصغيرة تلك، وقد حرمت من الزوار وظلت على حالها حتى يتعفن مفرش سريرها أخيرا، وتتحول كتبها إلى تراب وتسقط آخر صورة على حائطها.
الفصل الرابع
الخميس 21 يناير 2021
Bilinmeyen sayfa
كانت لدى أمي طموحات فنية. لا، هذا ادعاء فيه تكبر وليس صحيحا حتى. فلم يكن لدى أمي طموحات لأي شيء سوى طموحها المستميت للوجاهة. لكنها كانت تملك موهبة فنية نوعا ما، مع أني لم أرها ترسم أي لوحات أصلية. كانت هوايتها إعادة رسم الصور القديمة، التي عادة ما تكون مشاهد فيكتورية مأخوذة من مجلدات الأعداد المجمعة البالية لمجلة «جيرلز أون بيبر» المصورة أو جريدة «إلستريتد لندن نيوز». لا أعتقد أن ذلك كان صعبا، لكنها كانت تفعله بدرجة من الحرفية، وتحرص، كما كانت تقول لي، على أن تستخدم ألوانا صحيحة تاريخيا، مع أني لا أعرف كيف كانت تتأكد من ذلك. أعتقد أنها كانت أقرب ما تكون للسعادة عندما كانت تجلس على طاولة المطبخ بعلبة ألوانها وبرطمانين مملوئين بالماء، ومصباح المكتب الذي كانت تسلطه بدقة على الصورة المبسوطة على ورقة جريدة أمامها. اعتدت أن أشاهدها وهي عاكفة على رسمها، وألحظ الرقة التي كانت تغمس بها الفرشاة الصغيرة في الماء، ودرجات الأزرق والأصفر والأبيض المتداخلة بينما كانت تمزجهم على لوحة ألوانها. لم تكن طاولة المطبخ كبيرة بما يكفي لأن أفرش عليها جميع واجباتي المنزلية، لكنها كانت كبيرة بما يكفي لأن أجلس إليها لكتابة مقالي الأسبوعي. كنت أحب أن أرفع عيني - فلم تكن تضايقها نظراتي المتفحصة الخاطفة - لأشاهد الألوان الزاهية وهي تتشكل تدريجيا على الرسم، والنقاط الرمادية الصغيرة الباهتة وهي تتحول إلى مشهد ينبض بالحياة؛ مشهد لمحطة قطارات نهائية تعج بسيدات يعتمرن القبعات يودعن رجالهن الذاهبين إلى حرب القرم، أو لعائلة فيكتورية ترتدي نساؤها الفراء والمنافج، تزين الكنيسة لاستقبال عيد الميلاد المجيد، أو للملكة فيكتوريا برفقة زوجها وحولهما فتيات صغار ترتدين فساتين منتفشة، أثناء افتتاحها للمعرض الكبير، أو لمناظر التجديف في نهر أيزيس وفي الخلفية مقرات نوادي التجديف الجامعية العائمة التي اندثرت منذ زمن طويل، يظهر فيها رجال ذوو شوارب مرتدين سترات رياضية وفتيات بنهود بارزة وخصور نحيلة ترتدين معاطف وقبعات من القش، أو لموكب متناثر من المصلين يتقدمهم إقطاعي القرية وزوجته يدخلون كنيسة قريتهم لحضور قداس عيد الفصح وفي الخلفية مقابر تكسوها زهور الربيع في مظهر احتفالي. ربما كان افتتاني المبكر بتلك المشاهد هو ما وجه اهتمامي للقرن التاسع عشر بعدما صرت عالم تاريخ، تلك الحقبة التي بدت حينها كما تبدو الآن، كما لو أنك تنظر إليها عبر مقراب، تراها شديدة القرب ولكنها في الوقت نفسه بعيدة للغاية، مبهرة في حيويتها، وتمسكها بالأخلاقيات، وعبقريتها ووسخها.
كانت هواية أمي تلك تدر عائدا ماديا. كانت تضع اللوحات بعد أن تنهيها في إطارات بمساعدة السيد جرينستريت، وكيل الكنيسة المحلية التي كانا يرتادانها بانتظام، والتي كنت أرتادها على مضض، ثم تبيعها لمتاجر التحف القديمة. لن أعرف قط الدور الذي لعبه السيد جرينستريت في حياتها بعيدا عن مهارته اليدوية في استخدم الخشب والغراء، أو الدور الذي كان ليلعبه لولا وجودي الدائم حولهما، كما أني لا أعرف كم كانت أمي تتقاضى مقابل لوحاتها، وما إذا كان ذلك الدخل الإضافي هو الذي كان يوفر ثمن رحلاتي المدرسية ومضارب الكريكيت والكتب الإضافية التي لم تتذمر بشأنها قط. أنا أيضا كان لي مساهمة في ذلك؛ فقد كنت أنا من أجد تلك الصور القديمة. كنت أفتش في صناديق محلات الخردوات المستعملة في بلدة كينجستون وفي مناطق أبعد منها عن المنزل في طريق عودتي من المدرسة أو في أيام السبت، وكنت أحيانا أقود دراجتي لمسافة خمسة عشر أو عشرين ميلا كي أصل إلى محل لديه أفضل الغنائم. كان معظمها بخس الثمن وكنت أشتريها بمصروفي. أما أفضلها فكنت أسرقها، فقد صرت بارعا في اقتصاص اللوحات الرئيسية من مجلدات الأعداد المجمعة دون أن تتضرر، وإخراج الصور من أطرها ودسها في كتاب الخرائط المدرسي. كانت حاجتي إلى القيام بتك الأعمال التخريبية، هي حاجة أي ولد صغير حسبما أظن إلى ارتكاب الجرائم البسيطة. لم يشك بي أحد يوما، فقد كنت أنا ذلك الطالب الوقور بزيه الموحد، طالب مدرسة القواعد الذي كان يأخذ مشترياته الأقل شأنا إلى الخزينة ليدفع ثمنها على مهل ودون أن يبدو عليه التوتر، والذي كان يشتري أحيانا الكتب المستعملة الرخيصة من صناديق المتفرقات الموضوعة خارج باب المحل. كنت أستمتع بتلك الرحلات المنفردة، وبالمخاطرة، ونشوة اكتشاف كنز، والعودة منتصرا بغنائمي. كانت أمي لا تسألني عن شيء إلا عن المبلغ الذي دفعته كي ترده إلي. ولو كانت قد شكت في أن بعض تلك الصور كانت تساوي أكثر من الثمن الذي أخبرتها أني دفعته، فإنها لم تستجوبني يوما، لكني كنت أعلم أنها كانت مسرورة. لم أكن أحبها لكني كنت أسرق من أجلها. تعلمت منذ صغري على طاولة المطبخ تلك أن ثمة طرقا للتملص من التزامات الحب دون الشعور بالذنب.
أعرف، أو أظن أني أعرف، متى بدأت رهبتي من تحمل المسئولية تجاه حياة الآخرين أو سعادتهم، مع أنني ربما أكون أخادع نفسي؛ فقد كنت دوما بارعا في اختلاق تبريرات لنواقصي الشخصية. تعود جذور ذلك إلى عام 1983، وهو العام الذي خسر والدي فيه معركته مع سرطان المعدة. هكذا كنت أسمع الكبار يصفون الأمر. كانوا يقولون: «خسر معركته.» وأرى الآن أنها كانت حقا معركة، خاضها بشيء من الشجاعة حتى وإن كان لم يملك خيارا. حاول والداي أن يعفياني من التفاصيل الصعبة. كانت عبارة «نحن نحاول أن نخفي الأمر عن الصبي.» إحدى العبارات المتكررة التي كنت أسمعها عرضا. لكن إخفاء الأمر عن الصبي كان يعني عدم إخباري بأي شيء سوى أن والدي مريض، أو أنه يجب أن يعرض على طبيب متخصص، أو أنه يجب أن يدخل إلى المستشفى لإجراء عملية جراحية، أو أنه سيعود إلى المنزل قريبا، أو أنه يجب أن يعود للمستشفى مرة أخرى. وأحيانا كانوا لا يخبرونني بتلك الأمور حتى؛ فكنت أعود إلى المنزل فلا أجده، وأجد أمي منهمكة في تنظيف المنزل، بوجه كأنما قد من الصخر. إخفاء الأمور عن الصبي كان يعني أنني عشت طفلا وحيدا دون إخوة في أجواء من الترقب لخطر غير مفهوم، خطر يعني أن ثلاثتنا كنا في طريقنا إلى كارثة حتمية تفوق تصوري، وعندما تحل سأكون أنا السبب فيها. لدى الأطفال دائما الاستعداد لتصديق أنهم السبب في أي كارثة تحل بالكبار. لم تنطق أمي قط كلمة «سرطان» أمامي، ولم تشر لمرضه إلا عرضا. «أبوك متعب قليلا اليوم.» «يجب أن يعود أبوك إلى المستشفى اليوم.» «اجمع تلك الكتب المدرسية من غرفة الجلوس واصعد إلى الأعلى قبل أن يأتي الطبيب. فهو يريد أن يتحدث معي.»
كان من شأنها أن تقول تلك العبارات وهي تشيح ببصرها عني، كما لو كان المرض أمرا مخجلا أو خادشا للحياء، يجب ألا يسمع عنه طفل. أم كان ذلك سرا أعمق، أو معاناة مشتركة بينهما، أصبحت جزءا لا يتجزأ من زواجهما ولهما الحق في استبعادي منها كما استبعدت من سريرهما؟ أتساءل الآن إن كان صمت والدي، الذي كان يبدو لي حينها رفضا متعمدا، أكان سبب ما بيننا من جفاء هو رغبته في ألا يصعب على نفسي ألم فراقه أكثر منه بسبب ألمه وإرهاقه أو فقدانه الأمل الذي كان المرض يستنزفه منه ببطء؟ لكن لا بد أنه لم يكن يحبني كثيرا. فقد كنت طفلا يصعب أن تحبه. وكيف كان لنا أن نتواصل؟ فأصحاب الأمراض التي لا شفاء منها لا ينتمون لعالم الأحياء ولا لعالم الأموات. قابلت منهم آخرين بعد والدي، وكنت في كل مرة أشعر بغربتهم عن عالمنا. فهم يجلسون بيننا، ويتحدثون إلى الناس ويتحدث الناس إليهم، ويسمعون ما يقال، بل يبتسمون، لكن أرواحهم تكون قد فارقتنا بالفعل ولا سبيل لدينا للدخول إلى عالمهم المجهول.
لا أستطيع أن أتذكر الآن من أحداث يوم وفاة والدي سوى أمي وهي تجلس إلى طاولة المطبخ، وتبكي أخيرا دموع الغضب والخيبة. وعندما حاولت أن أحوطها بذراعي بخجل واضطراب، قالت منتحبة: «لم حظي بائس دائما؟» بدا ذلك، في نظر الطفل ذي الاثني عشر عاما حينها كما يبدو لي الآن، ردا غير واف لفجيعة شخصية، وقد أثر ذلك الرد المبتذل على سلوكي تجاه أمي بقية فترة طفولتي. كنت غير منصف ومتسرع في حكمي ذلك، لكن الأطفال بطبيعتهم غير منصفين ومتسرعون في الحكم على والديهم.
على الرغم من أني نسيت أو ربما تناسيت جميع أحداث يوم وفاته إلا واحدا، فإنني أذكر جميع تفاصيل يوم إحراق جثته؛ أذكر المطر الخفيف الذي جعل حديقة المحرقة تبدو مثل لوحة تنقيطية، والانتظار في الرواق المسقوف حتى انتهاء إحراق جثة جاءت قبلنا ويحين دورنا لندخل ونجلس في مقاعد الكنيسة الخالية من الزخارف المصنوعة من خشب الصنوبر، ورائحة بذلتي الجديدة، وأكاليل الزهور المرصوصة بمحاذاة حائط الكنيسة، والتابوت الذي بدا صغيرا للغاية، حتى بدا مستحيلا تصديق أنه كان يحوي جثمان والدي. زادت خشية أمي من أن يحضر الجنازة زوج أختها البارونيت من قلقها على أن يتم كل شيء حسبما يجب. لم يحضر هو ولا زان، الذي كان حينها في مدرسته الإعدادية. لكن خالتي حضرت متأنقة أكثر من اللازم، وكانت السيدة الوحيدة التي لم تتشح كليا بالسواد، مما منح والدتي سببا مقبولا للتذمر. بعد انتهاء المأتم الذي أقيم بعد الجنازة، اتفقت الأختان على أنني يجب أن أقضي العطلة الصيفية القادمة في وولكوم، ومن هنا بدأ نمط كل إجازاتي الصيفية التي تلت ذلك.
لكن أكثر ما أذكره ذلك اليوم هي أجواء الإثارة المكبوتة والاستهجان الشديد الذي شعرت أنه كان منصبا على ذاتي. سمعت في ذلك الحين لأول مرة عبارة تكررت على لسان الأصدقاء والجيران الذين كدت لا أعرفهم وهم متشحون بذلك السواد غير المعهود: «أنت رب الأسرة الآن يا ثيو. والدتك مسئولة منك.» لم أستطع حينها أن أقول ما وقر في نفسي منذ حوالي أربعين سنة. وهو أنني لا أريد لأحد أن يلجأ إلي طلبا للحماية أو السعادة أو الحب أو أي شيء آخر.
أتمنى لو كنت أملك ذكريات أسعد لأبي، أتمنى لو استطعت أن أكون رؤية واضحة، أو على الأقل رؤية ما، لطبيعة ذلك الرجل أستطيع التشبث بها، أو جعلها جزءا من ذاتي. أتمنى لو أني أستطيع ذكر حتى ثلاثا من خصاله. الآن عندما أفكر فيه لأول مرة منذ سنوات طوال، لا ترد على ذهني أي صفات أستطيع وصفه بها، ولا حتى أنه كان لطيفا وطيبا وذكيا ومحبا. ربما كان يملك كل تلك الصفات، غير أني لا أعرف. كل ما أعرفه عنه أنه كان يحتضر. لم يكن السرطان سريعا أو رحيما به - ومتي كان السرطان رحيما؟ - وظل يعاني ما يقرب من ثلاث سنوات حتى مات. يبدو أن معظم طفولتي قد اختزل خلال تلك السنوات في شكل احتضاره وصوته ورائحته. كان السرطان هويته. لم يكن بوسعي أن أرى فيه أكثر من ذلك حينها ولا الآن. ولسنوات ظلت ذكراه لدي، بل هو تجسد أكثر منه ذكرى، مقترنة بالرعب. قبل موته ببضعة أسابيع، جرح سبابته اليسرى وهو يفتح علبة من القصدير وتلوث الجرح. وكان الدم والقيح يتسربان من ضمادة الشاش والقطن الضخمة التي وضعتها له أمي. لم يبد أن ذلك كان يقلقه، فقد كان يأكل بيده اليمنى، واضعا يده الأخرى على الطاولة، ينظر إليها بهدوء، وبدهشة طفيفة كما لو كانت منفصلة عن باقي جسده ولا علاقة لها به. أما أنا فكنت لا أستطيع أن أرفع عيني عنها، وبداخلي يتصارع الجوع مع الغثيان. مثلت لي مصدر رعب مشين. ربما كنت أسقط على إصبعه المضمد ذاك جميع مخاوفي من مرضه المميت. لعدة شهور بعد وفاته، ظل يراودني كابوس متكرر أراه فيه واقفا عند نهاية سريري مشيرا نحوي بجدعة مصفرة دامية ليس لإصبعه بل لكفه كله. لم يتحدث قط؛ بل كان يقف صامتا مرتديا منامته المقلمة. كانت نظرته في بعض الأحيان نظرة استجداء لشيء لا أستطيع منحه إياه، لكن في معظم الوقت كانت نظرة اتهام شديد، وكذلك كانت إشارة يده. يبدو الآن أنه ليس من العدل ألا أذكره طوال ذلك الوقت إلا بالقيح والدم المتسرب وأن تكون ذكراه لدي مقترنة فقط بالرعب. شكل الكابوس أيضا يثير حيرتي الآن حتى إني أحاول أن أحلله بعد أن كبرت بمعرفتي غير المحترفة بعلم النفس. كان تفسيره ليكون أسهل لو كنت فتاة. كانت محاولتي لتحليله بالطبع تشبه محاولة طرد روح شريرة. لا بد أنها نجحت بدرجة ما. فبعد أن قتلت ناتالي كان يزورني في أحلامي كل أسبوع؛ أما الآن فلم يعد يأتي قط. أنا سعيد لأنه رحل أخيرا، آخذا معه ألمه ودمه وقيحه. لكني أتمنى لو كان ترك لي ذكرى مختلفة.
الفصل الخامس
الجمعة 22 يناير 2021
Bilinmeyen sayfa
اليوم هو عيد ميلاد ابنتي، أو كان سيكون عيد ميلاد ابنتي لو أنني لم أدهسها بالسيارة وأقتلها. حدث ذلك عام 1994، عندما كان عمرها خمسة عشر شهرا. حينئذ كنا نسكن أنا وهيلينا في منزل إدواردي شبه منفصل في شارع لاثبري، وكانت مساحته أكبر من حاجتنا وسعره يفوق قدرتنا المادية، لكن هيلينا، بمجرد أن علمت بحملها، أصرت على أن نبتاع منزلا بحديقة وغرفة أطفال تطل على الجانب الجنوبي. لا يمكنني الآن تذكر ملابسات الحادث بالتفصيل، وهل كان من المفترض أن أراقب أنا ناتالي أم أني ظننت أنها كانت مع والدتها. لا بد أن كل تلك التفاصيل كشفت أثناء التحقيق القضائي؛ لكن التحقيق القضائي، ذلك التوزيع الرسمي للمسئولية، قد انمحى من ذاكرتي. أذكر أنني كنت أغادر المنزل في طريقي إلى الكلية وكنت أرجع للخلف بالسيارة التي ركنتها هيلينا بإهمال قبلها بيوم، كي أستطيع الخروج بها بسهولة من بوابة الحديقة الضيقة. لم يكن لدينا مرأب في منزلنا بشارع لاثبري، لكن كان لدينا مساحة مخصصة لركن سيارتين أمام المنزل. لا بد أني تركت الباب الأمامي مفتوحا وأن ناتالي التي كانت قد بدأت تمشي منذ أن بلغت ثلاثة عشر شهرا، قد تبعتني حبوا. وحتما ذكر ذلك التقصير البسيط في التحقيق أيضا. لكن بوسعي أن أذكر بعض التفاصيل؛ النتوء اللين الذي مرت فوقه العجلة اليسرى مثل مطب لكنه أنعم وألين، وأكثر غضاضة من أي مطب، وإدراكي على الفور الذي جاء أكيدا ومطلقا ومرعبا لماهيته، والصمت التام الذي ساد لخمس ثوان قبل أن يبدأ الصراخ. كنت أعلم أنه صراخ هيلينا، ومع ذلك، أبى جزء من عقلي أن يصدق أن ما تسمعه أذناي كان صوتا بشريا. وأذكر شعور الخزي. أبى جسدي أن يتحرك، لم أستطع أن أخرج من السيارة ولا حتى أن أمد يدي إلى مقبض الباب. وأذكر بعد ذلك جورج هوكينز، جارنا، وهو يضرب بيديه على الزجاج ويصرخ: «اخرج أيها الوغد، اخرج!» وبوسعي أن أذكر الفكرة التي لا علاقة لها بالأمر التي راودتني وأنا أرى على الزجاج وجهه القبيح الذي شوه الغضب ملامحه: «لم يحبني قط.» ليس بوسعي التظاهر بأن ذلك لم يحدث. ليس بوسعي التظاهر بأنني دهست شخصا آخر. ليس بإمكاني التظاهر بأني معفى من المسئولية.
طغى الهلع والشعور بالذنب على الحزن. ربما لو كانت هيلينا قد وجدت في نفسها القدرة على أن تقول: «الأمر أصعب عليك، يا عزيزي.» أو «الأمر صعب على كلينا، يا عزيزي.» لاستطعنا إنقاذ شيء ما من حطام سفينة زواجنا التي لم تكن صالحة للإبحار منذ البداية. لكنها بطبيعة الحال لم تستطع ذلك؛ فلم يكن ذلك ما اعتقدته. اعتقدت أنني لم أهتم بالقدر الكافي، وقد كانت محقة. اعتقدت أنني لم أهتم بالقدر الكافي لأني لم أحب بالقدر الكافي، وكانت محقة في ذلك أيضا. كنت سعيدا بكوني أبا. عندما أخبرتني هيلينا أنها حبلى، شعرت بمشاعر أظنها معتادة وغير منطقية من فخر وحنو ودهشة. كنت أشعر بالمحبة تجاه طفلتي، وربما كانت تلك المحبة لتزداد إن كانت أجمل - فقد كانت صورة كاريكاتورية مصغرة من والد هيلينا - وأكثر حنوا، وأكثر تجاوبا، وأقل ميلا للنواح. أنا مسرور لأن أحدا غيري لن يقرأ تلك الكلمات؛ فقد ماتت طفلتي منذ سبع وعشرين سنة وما زلت أشعر بالامتعاض عندما أفكر بها. لكن هيلينا كانت مهووسة بها، وكانت هائمة بها حبا ومتيمة بها تماما، وأعرف أن ما كدر علاقتي بناتالي هو الغيرة. كنت سأتغلب عليها بمرور الوقت، أو على الأقل كنت سأتصالح معها. لكن الوقت لم يتح لي. لا أظن أن هيلينا اعتقدت يوما أني دهست ناتالي عمدا، على الأقل قبل أن تفقد صوابها؛ فحتى في أوج حزنها كانت تمنع نفسها من نطق تلك الكلمات التي لا تغتفر، ربما من باب الإيمان بالخرافات أو لاحتفاظها بشيء من الشفقة تجاهي، فامرأة ابتليت بزوج مريض وصعب العشرة مثلي كانت ستقول تلك الكلمات اللاذعة: «ليتك مت.» لكن لو كان بيدها الخيار، لاختارت أن أموت أنا بدلا من ناتالي. ولا ألومها على ذلك؛ فقد بدا لي ذلك حينها، ولا يزال يبدو لي الآن، منطقيا تماما.
كنت أرقد بعيدا عنها في سريرنا الكبير بانتظار أن تخلد إلى النوم، وأنا أعرف أن ذلك قد يستغرق ساعات، حاملا هم جدول أعمال اليوم التالي المكتظ على آخره، وكيف سأتأقلم مع الليالي الطويلة الحزينة التي بانتظاري، وأردد في الظلام قائمة تبريراتي الطويلة؛ «بحق المسيح، لقد كان حادثا. لم أقصد أن أفعل ذلك. لست الأب الوحيد الذي دهس طفلته. كان من المفترض أن تعتني هي بناتالي، فالطفلة مسئوليتها هي، وليست مسئوليتي كما أوضحت لي. أبسط ما كان بوسعها فعله أن ترعاها كما ينبغي.» لكن تبرير الذات الحانق كان تافها وغير موضوعي كعذر يقدمه طفل كسر زهرية.
علم كلانا أننا يجب أن نغادر لاثبري رود. قالت هيلينا: «لا يمكننا البقاء هنا. ينبغي أن نبحث عن منزل قريب من وسط المدينة. فهذا ما أردته أنت دائما على كل حال. أنت لم تحب يوما هذا المكان.»
كان الاتهام حاضرا لكنه لم يغادر شفتيها قط: أنت سعيد لأننا سننتقل من المنزل، سعيد لأن موتها جعل ذلك ممكنا.
بعد ستة أشهر من الجنازة انتقلنا إلى منزل جورجي مرتفع بشارع سانت جون، يطل بابه الأمامي على الشارع مباشرة حيث كان يصعب ركن السيارة. كان منزلنا بشارع لاثبري رود منزلا عائليا؛ أما ذلك المنزل فهو لغير المثقلين بالتزامات أو لكثيري التنقل. ناسبني الانتقال لأنني أحببت أن أكون قريبا من وسط المدينة، ولأن العمارة الجورجية، حتى تلك المباني التي بنيت بدافع الاستثمار وكانت تحتاج إلى صيانة مستمرة، لها وجاهة تفوق وجاهة العمارة الإدواردية. لم نتضاجع منذ وفاة ناتالي، لكن هيلينا انتقلت إلى غرفة منفصلة حينها. لم نناقش ذلك مطلقا فيما بيننا، لكني عرفت أن ذلك كان بمثابة تصريح منها لي أنه لن يكون ثمة فرصة ثانية، وأني لم أقتل ابنتها الحبيبة فحسب، بل قتلت كذلك أي أمل في أن نحظى بطفل آخر، بالصبي الذي كانت تشك أني أردت حقا أن أنجبه. لكن ذلك كان في أكتوبر من عام 1994، وبعد أن أصبحنا لا نملك ذلك الخيار. لم نظل متباعدين طوال الوقت بالطبع؛ فالجنس والزواج أعقد من ذلك بكثير. من وقت لآخر، كنت أقطع المسافة القصيرة المغطاة بالسجاد التي تفصل بين غرفتينا. لم تكن ترحب بي ولا تعرض عني. لكن الهوة بيننا صارت أوسع وأعمق، ولم أبذل أنا أي مجهود لسدها.
تفوق مساحة هذا المنزل الضيق ذي الخمسة الطوابق حاجتي بكثير، لكن بتعدادنا الآخذ في الانحدار، لن ينتقدني أحد على الأرجح لعدم مشاركتي تلك المساحة الزائدة. فلم يعد يوجد طلاب جامعيون يطالبون بغرف جلوس ونوم مشتركة، ولا أسر شابة بلا مأوى توخز الضمير الاجتماعي للطبقات الثرية. أستخدم المنزل كله، أصعد من طابق لآخر خلال روتيني اليومي، كما لو كنت أضع ختم ملكيتي بمنهجية على الأرضية المكسوة بالفينيل، وعلى السجاجيد والأبسطة وعلى الخشب المصقول. تقع غرفة الطعام والمطبخ في القبو، والأخير به قوس عريض من الدرجات الحجرية المؤدية إلى الحديقة. وفي الطابق الذي يعلوه، حولت غرفتي الجلوس الصغيرتين إلى غرفة جلوس واحدة أستخدمها كذلك مكتبة وغرفة تلفاز وموسيقى ومكانا ملائما لاستقبال طلابي. في الطابق الأول، حولت أيضا غرفتين صغيرتين إلى غرفة استقبال كبيرة على شكل ضلعين متعامدين، وتدل مدفأتاها غير المتناسقتين على استخدامها السابق. تطل نافذتها الخلفية على الحديقة الصغيرة المسيجة التي ليس بها إلا شجرة بتولا واحدة فضية اللون. أما في واجهتها، فتوجد نافذتان أنيقتان تمتدان حتى السقف، وبها شرفة في الخلف، وتطل جميعها على شارع جون ستريت.
لن يجد أي شخص يمر تحت النافذتين صعوبة في وصف مالك الغرفة. من الواضح أنه شخص أكاديمي؛ فثلاثة من حوائطها مغطاة بأرفف الكتب بالكامل من الأرض وحتى السقف. وهو عالم تاريخ، فالكتب نفسها تخبرك بذلك. كما أنه رجل مهتم بالأساس بالقرن التاسع عشر؛ وليست الكتب فحسب هي ما يدل على ولعه بتلك الحقبة، بل أيضا الصور والتحف؛ تماثيل ستافوردشاير التذكارية، واللوحات الزيتية الفيكتورية، وورق الحائط من تصميم ويليام موريس. وهي أيضا غرفة رجل يقدر الراحة ويعيش وحيدا. فلا يوجد بها أي صور عائلية، ولا ألعاب لوحية ولا أي فوضى أو غبار أو أغراض نسائية مبعثرة، وبالكاد يوجد ما يدل على أن أحدا يستخدمها. وقد يخمن الزائر أيضا أن لا شيء فيها موروث، فكل شيء فيها مكتسب؛ ليس بها أي تحف مميزة أو فريدة من نوعها، محفوظة كإرث عائلي، ولا أي صور عائلية، ولا لوحات زيتية غير مميزة معلقة للدلالة على الأصل. بل هي غرفة رجل ارتقى في العالم بجهده، وأحاط نفسه برموز لإنجازاته الشخصية وتلك الأشياء البسيطة التي لديه ولع بها. تأتي السيدة كافاناج، زوجة أحد عمال النظافة بالكلية، ثلاث مرات في الأسبوع كي تقوم بأعمال التنظيف، وتقوم بها على أكمل وجه؛ فأنا لا أرغب في توظيف العمال الوافدين الذين يحق لي توظيفهم باعتباري مستشارا سابقا لحاكم إنجلترا.
تقع غرفتي المفضلة في الطابق الأخير من المنزل، وهي غرفة علية بها مدفأة خلابة مصنوعة من الحديد المطاوع والقرميد المزخرف، وأثاثها الوحيد مكتب وكرسي وبها لوازم صنع القهوة. ولها نافذة بلا ستارة تطل على برج الجرس بكنيسة سانت بارناباس وترى المنظر خارجها حتى المنحدر الأخضر لغابة ويثام. هنا أكتب يومياتي، وأعد محاضراتي وندواتي، وأكتب أبحاثي التاريخية. يقع الباب الأمامي للمنزل تحتها بأربعة طوابق، وهو ما يجعل فتح الباب إن رن جرسه أمرا متعبا؛ لكني حرصت على ألا يأتيني زوار غير متوقعين في حياتي التي أكتفي فيها بذاتي.
في فبراير من العام الماضي، تركتني هيلينا من أجل روبرت كلافرينج الذي يصغرها بثلاث عشرة سنة، ويجمع بين مظهر لاعب رجبي شديد الحماسة ورهافة حس فنان، كما يحمل المرء على الاعتقاد. وهو يعمل بتصميم الملصقات وأغلفة الكتب الورقية ويجيد عمله للغاية. أذكر شيئا قالته خلال مناقشاتنا السابقة للطلاق، التي سعيت جاهدا أن أجعلها غير حادة أو انفعالية، وهو أني كنت أضاجعها على فترات حرصت أن تكون منتظمة لأني أردت لعلاقاتي مع طالباتي أن تكون مدفوعة بما هو أكثر من مجرد الحرمان الجسدي. لم تقل ذلك حرفيا بالطبع، لكن كلماتها حملت ذلك المعنى. أعتقد أنها فاجأت كلينا بنفاذ بصيرتها.
Bilinmeyen sayfa
الفصل السادس
أصبحت مهمة كتابة هذه اليوميات - فقد كان ثيو لا يفعلها بغرض المتعة بل يعتبرها مهمة يضطلع بها - جزءا من حياته محكمة التنظيم، وإضافة ليلية لروتينه الأسبوعي الذي فرضت عليه الظروف جزءا منه، وفرض هو على نفسه الجزء الآخر في محاولة لإضفاء النظام والمعنى على حياته الباهتة. كان مجلس إنجلترا قد أقر أن جميع المواطنين ملزمون بحضور جلستي تدريب لمدة أسبوعين، بجانب وظائفهم الأصلية، على مهارات من شأنها أن تساعدهم على البقاء على قيد الحياة إن ظلوا أحياء بعدما تفنى الحضارة. وكان الاختيار متروكا لهم. دوما كان لدى زان من الحكمة ما يجعله يترك الاختيارات غير المهمة للناس. اختار ثيو أن يقضي إحدى الجلستين في مستشفى جون رادكليف، ليس لأنه كان يشعر بالألفة وسط هيكلها الإداري المحكم، أو لأنه كان يتصور أن اعتناءه بالمرضى والمسنين، الذي كان يثير رعبه واشمئزازه، يبعث عليهم السرور أكثر مما يبعثه عليه، بل لأنه كان يعتقد أن المعرفة التي سيكتسبها قد تعود عليه بمنفعة شخصية، ولن يضيره أيضا أن يعرف من أين يمكنه أن يحصل على الأدوية بشيء من الدهاء إن دعت الحاجة. أما ساعتا التدريب الأخريان فقضاهما باستمتاع أكبر في التدرب على الصيانة المنزلية، ووجد في حس الدعابة لدى المهنيين الذين يدرسونها وتعليقاتهم المنتقدة الفظة متنفسا أراحه من إذلال الحياة الأكاديمية المهذبة. كانت وظيفته التي يتقاضى أجرا لقاءها هي التدريس للطلاب الراشدين المتفرغين وغير المتفرغين الذين اتخذتهم الجامعة مبررا لوجودها، هم وبضعة طلاب جامعيين سابقين ممن يقومون بأبحاث أو يسعون لنيل درجة علمية أعلى. وفي ليلتي الثلاثاء والخميس من كل أسبوع، كان يتناول العشاء في قاعة الطعام بالكلية. ويوم الأربعاء كان يحضر باستمرار الصلاة المسائية في كنيسة مجدالين في الساعة الثالثة. ظل عدد صغير من الكليات، التي تضم طلابا غريبي الأطوار أكثر من المعتاد أو التي أصرت بعناد على تجاهل الحقيقة، يستخدم كنائسه للعبادة، وبعضها عاد حتى لاستخدام كتاب الصلاة المشتركة القديم. لكن جوقة المرنمين في كنيسة كلية مجدالين كانت من أفضل الجوقات، وكان ثيو يذهب للاستماع إلى ترنيمهم، وليس للمشاركة في التعبد الذي كان يراه أمرا عفا عليه الزمن.
حدث ما يلي في رابع أربعاء من يناير. كان في طريقه إلى كنيسة كلية مجدالين سيرا على الأقدام كعادته، وكان قد انعطف من شارع سانت جونز إلى شارع بومونت، واقترب من متحف أشموليان عندما دنت منه امرأة تدفع عربة أطفال. كان المطر الخفيف قد توقف، وبينما هي تمر بجانبه توقفت قليلا كي ترفع الغطاء الواقي من المطر وتسدل غطاء عربة الأطفال. حينها انكشفت الدمية، التي استندت منتصبة إلى الوسائد، وقد استند ذراعاها، اللتان يغطي راحتيهما قفازان، على لحاف، في محاكاة هزلية مثيرة للشفقة وخبيثة للطفولة. شعر ثيو بالصدمة والاشمئزاز حتى إنه لم يستطع رفع عينيه عن تلك الدمية. كانت النظرة العمياء التي ترمقه بها بحدقتيها اللامعتين الواسعتين على نحو غير طبيعي، وبريق زرقتهما السماوية التي تفوق زرقة العين البشرية، نظرة غريبة وشنيعة وتنم عن ذكاء كامن. على وجنتيها الخزفيتين المصبوغتين بعناية تدلت رموش عينيها البنية الداكنة كالعناكب، وظهر من تحت القلنسوة الضيقة التي يزين طرفها الدانتيل شعر أصفر غزير كشعر البالغين.
لم ير دمية تنزه هكذا منذ سنوات، مع أن ذلك الأمر كان منتشرا منذ عشرين عاما، وتحول إلى صرعة. كانت صناعة الدمى هي القطاع الوحيد من مجال صناعة ألعاب الأطفال الذي ظل مزدهرا لمدة عقد من الزمان، هو وصناعة عربات الأطفال، وأنتج دمى تلبي جميع رغبات الأمومة المكبوتة، بعضها كان رخيصا ورديئا، لكن البعض الآخر كان مصنوعا بحرفية وجمال استثنائيين ولولا أوميجا، التي خلقت الحاجة إليها في الأصل، لأصبحت موروثات عائلية محببة. كانت الدمى الأغلى ثمنا - بعضها كان سعره يتعدى 2000 جنيه إسترليني حسبما كان يذكر - متوفرة بأحجام مختلفة؛ حجم حديث الولادة، وحجم رضيع بعمر ستة أشهر، وحجم رضيع بعمر سنة، وحجم طفل بعمر ثمانية عشر شهرا وتلك تستطيع الوقوف والمشي، وتعمل بطريقة معقدة. تذكر حينئذ أنها كانت تدعى «ذوات الستة الأشهر». في فترة ما كان من المستحيل أن تسير في شارع هاي ستريت دون أن تعيق طريقك عربات الأطفال التي تحملها، أو مجموعات النسوة المتشبهات بالأمهات اللاتي توقفن كي يبدين إعجابهن بها. بدا أنه تذكر أنه كان ثمة ولادات كاذبة، وأن الدمى التي كانت تعطب كان يقام لها مراسم دفن وتدفن في أماكن مخصصة لها. ألم يكن أحد الجدالات الكنسية الفرعية الدائرة في مطلع القرن الحادي والعشرين هو ما إذا كان من الممكن أن تقام تلك التمثيليات في الكنائس بصفة شرعية أو حتى أن يشارك فيها القساوسة المرسمون؟
لاحظت المرأة نظرته فابتسمت ابتسامة بلهاء فيها التماس لصرف الطرف، وللتهنئة. وعندما التقت عيناهما، أشاح بنظره كي لا ترى نظرته التي اعتراها القليل من الشفقة والكثير من الازدراء، فأرجعت العربة إلى الوراء وحجبتها بذراعها وكأنها تقي الدمية من لجاجته الذكورية. توقفت امرأة أكثر تجاوبا من المارة وتحدثت إليها. اقتربت امرأة في منتصف العمر، شعرها مهندم وترتدي حلة من قماش التويد مفصلة على مقاسها، من عربة الأطفال وابتسمت لمالكة الدمية وبدأت تتمتم بعبارات التهنئة. ابتسمت صاحبة الدمية ابتسامة بلهاء فرحة، وانحنت تسوي لحاف العربة الحريري، وتضبط قلنسوة الدمية، وتسرح خصلة شعر شاردة. دغدغت المرأة الأخرى الدمية أسفل ذقنها كما لو كانت تدغدغ قطة، مستمرة في حديثها الطفولي.
كاد ثيو، الذي أشعرته تلك التمثيلية بكآبة واشمئزاز ، أكثر مما يستدعيه حقا مثل ذلك السلوك المصطنع البريء، يدير ظهره لهما عندما حدث الأمر. فجأة أمسكت المرأة الأخرى بالدمية وسحبتها من تحت الأغطية دون أن تنطق بكلمة، ولوحت بها فوق رأسها مرتين وهي ممسكة بها من رجليها ثم رطمتها بالحائط الحجري بقوة هائلة. تحطم وجهها وتساقطت قطع الخزف ترن على الرصيف. لثانيتين، وقفت صاحبة الدمية صامتة تماما. ثم بدأت تصرخ. كان صوت صراخها مريعا، صراخ امرأة ملتاعة، امرأة ثكلى، عويل مرتاع حاد، تكاد تحسبه غير بشري لكنه بشري بكل ما تحمله الكلمة من معان، عويل لا يمكن إيقافه. وقفت في مكانها، وقد مالت قبعتها، ورفعت رأسها للسماء، وفغرت فمها الذي كان يتدفق منه صوت ألمها وحزنها وغضبها. للوهلة الأولى، بدا أنها غير مدركة لأن المرأة التي هاجمتها كانت لا تزال واقفة في مكانها، تنظر إليها بازدراء صامت. ثم ما لبثت أن استدارت ومشت بخطوات سريعة نحو البوابة المفتوحة التي عبرتها إلى الساحة ومنها إلى داخل متحف أشموليان. حينها أدركت صاحبة الدمية فجأة أن مهاجمتها تلوذ بالهرب، فتبعتها بخطى متعثرة وهي مستمرة في صراخها، ثم يبدو أنها أدركت عدم جدوى ذلك فعادت إلى عربة الأطفال. كانت حينها قد هدأت قليلا، وخرت على ركبتيها تلتقط قطع الخزف المكسورة وتحاول أن تطابقها كما لو كانت تطابق قطع أحجية صور مقطعة وهي تنتحب وتنوح بهدوء. تدحرجت عينان لامعتان، بدتا حقيقيتين بدرجة مخيفة، يربطهما زنبرك، تجاه ثيو. لثانية ألحت عليه نفسه أن يلتقطهما، أن يساعد المرأة أو على الأقل أن يواسيها ببضع كلمات. كان من الممكن أن يذكرها بأن بإمكانها أن تبتاع طفلا آخر. كانت تلك تعزية لم يقدر على أن يقولها لزوجته. لكن تردده ذلك لم يستمر إلا للحظة. وما لبث أن تابع سيره بخطوات سريعة. لم يقترب أي شخص آخر من تلك السيدة. كان من المعروف أن السيدات اللواتي وصلن إلى منتصف العمر، أولئك اللواتي وصلن إلى سن البلوغ في العام الذي وقعت فيه أوميجا، غير مستقرات نفسيا.
وصل إلى الكنيسة بينما كانت الصلاة على وشك البدء. اصطفت الجوقة المكونة من ثمانية رجال وثماني نساء، جالبة معها ذكريات الجوقات القديمة بصبيانها الذين كانوا يدخلون بوجوه ارتسم عليها الوقار، ومشية تكاد لا تلحظ فيها تهاديهم الطفولي، وقد عقدوا أذرعهم أمام صدورهم الصغيرة ممسكين بأوراق الترانيم، وقد استنارت وجوههم الناعمة، وكأنما بضوء شمعة داخلية، وصففت شعورهم تحت القبعات اللامعة، وبدت وجوههم جادة للغاية فوق ياقاتهم المنشاة. طرد ثيو تلك الصورة من ذهنه وهو يتساءل: لم ظلت تراوده بذلك الإلحاح وهو الذي لم يعبأ يوما بالأطفال. ثبت عينيه على القس، متذكرا تلك الحادثة التي وقعت منذ عدة أشهر عندما وصل قبل موعد الصلاة المسائية. بطريقة ما دخل غزال صغير من مرجة كلية مجدالين إلى الكنيسة ووقف بوداعة بجوار المذبح كما لو كان واقفا في بيئته الطبيعية. حينها اندفع القس نحوه وهو يصيح فيه بخشونة، وأمسك بكتب الصلاة وألقاها عليه فأصابت جانبيه الأملسين. تحمل الحيوان الوديع المرتبك ذلك الهجوم لوهلة، ثم تبختر برشاقة خارجا من الكنيسة.
بعدها نظر القس إلى ثيو وقد انهمرت دموعه على وجنتيه. وقال: «يا إلهي، لماذا لا تستطيع تلك الحيوانات البغيضة الانتظار؟ قريبا جدا سيرثون كل شيء. فلماذا لا تستطيع الانتظار؟»
بدت له تلك الصورة الآن وهو يطالع وجه القس الوقور المعتد بنفسه في ضوء الشموع الباعث على السكينة، كمشهد غريب من كابوس لا يذكر تفاصيله.
لم يتجاوز عدد جماعة المصلين الثلاثين كالعادة، وكان ثيو يعرف كثيرين منهم ممن كانوا يحضرون بانتظام مثله. لكن كان ثمة قادم جديد تلك المرة، امرأة شابة، كانت تجلس في المقعد المقابل له مباشرة وكان يصعب تفادي نظرتها من حين لآخر مع أنها لم تبد أي إشارة على أنها تعرفه. كانت إضاءة الكنيسة خافتة، وفي ضوء الشموع المتراقص، كان وجهها يشع بنور رقيق يكاد يكون شفافا، تراه يضوي بوضوح لوهلة ثم يهرب ويخبو كطيف. لكنه كان وجها مألوفا له، فقد رآها من قبل لسبب أو لآخر، ليس لمجرد لمحة عابرة، بل نظر إليها وجها لوجه لفترة طويلة . حاول أن يحمل ذاكرته ويخدعها لتذكرها، وقد ثبت نظره على رأسها المحني أثناء الاعتراف، فبدا كأنه ينظر إلى شيء وراءها بتركيز ورع أثناء قراءة العظة الأولى، دون أن يحيد بانتباهه عنها، ملقيا بشباك الذاكرة حول صورتها. بعد الانتهاء من قراءة العظة الثانية بدأ يشعر بالضيق من فشله، وعندما بدأت الجوقة، المكونة من رجال ونساء معظمهم في منتصف العمر، في ترتيب أوراقها الموسيقية ونظر أفرادها إلى قائدهم في انتظار أن يبدأ عازف الأرغن وأن يرفع القائد الضئيل الجسد ذو الرداء الأبيض كفيه اللذين يشبهان براثن الحيوانات ويلوحهما في الهواء، حينئذ تذكرها ثيو. كانت لفترة وجيزة إحدى الطالبات بدورة الأستاذ كولين سيبروك حول «الحياة الفيكتورية والعصر الفيكتوري»، والتي كان عنوانها الفرعي «المرأة في الرواية الفيكتورية»، والتي تولى تدريسها نيابة عن كولين منذ ثمانية عشر شهرا. كانت زوجة سيبروك قد أجرت جراحة لاستئصال ورم سرطاني، وكانت تلك فرصة كي يقضيا عطلة معا إن استطاع كولين أن يجد بديلا له لتدريس تلك الدورة ذات الأربع المحاضرات. تذكر حديثهما، واعتراضه الضجر. «أليس من المفترض أن تدع أحد أعضاء قسم اللغة الإنجليزية يدرسها بدلا منك؟» «لقد حاولت أيها العجوز. وجميعهم قدموا لي أعذارا. فهم إما لا يحبون العمل المسائي، أو مشغولون للغاية، أو ليسوا متخصصين في تلك الحقبة الزمنية؛ لا أعتقد أن علماء التاريخ فقط هم من يختارون دراسة ذلك الهراء. يمكنني أن أعطي محاضرة واحدة لكن لن أستطيع إعطاء المحاضرات الأربعة جميعها. مدة المحاضرات ساعة واحدة فقط، يوم الخميس، من الساعة السادسة إلى السابعة. ولن تضطر إلى التحضير لها، فقد حددت لهم أربعة كتب فقط تحفظهم ظهرا عن قلب على الأرجح: «ميدل مارش»، و«صورة سيدة»، و«سوق الأضاليل»، و«كرانفورد». ولا تضم الدورة إلا أربعة عشر طالبا، معظمهم سيدات في الخمسين من عمرهن. كان من المفترض أن يكن منهمكات في تدليل أحفادهن؛ لذا فلديهن وقت فراغ، أنت تعرف الحال. هن سيدات ظريفات، لكن ذوقهن تقليدي إلى حد ما. ستحبهن، وسيسعدهن للغاية أن تدرس لهن . فما يسعون خلفه حقا هو أن يلجأن إلى دفء الثقافة. وابن خالتك، حاكمنا الموقر، حريص جدا على ذلك. كل ما يردنه هو أن يجدن مهربا مؤقتا إلى عالم أكثر إرضاء واستمرارية. جميعنا نفعل ذلك يا عزيزي، غير أننا، أنا وأنت، نسميه منحة دراسية.»
Bilinmeyen sayfa
لكن عدد الحضور كان خمسة عشر طالبا وليس أربعة عشر. جاءت متأخرة دقيقتين وجلست بهدوء على مقعد في آخر الصف. حينها كان يرى رأسها كما يراها الآن في ضوء الشموع وخلفها الخشب المنقوش. بعد أن انخفضت أعداد الطلبة الجدد الملتحقين بالجامعة، فتحت أبواب فصول الجامعة الموقرة للطلاب الراشدين غير المتفرغين، وانعقدت تلك الدورة في غرفة محاضرات محببة ذات حوائط مكسوة بألواح خشبية في كلية كوينز كولدج. كان يبدو أنها تستمع إلى كلمته التقديمية عن هنري جايمز بتركيز، ولكنها لم تشارك في بادئ الأمر في المناقشة العامة حتى بدأت امرأة ضخمة تجلس في الصف الأول تبالغ في مدح أخلاق إيزابيل آرشر وترثي بانفعال مصيرها الذي لم تستحقه.
قالت الفتاة فجأة: «لا أفهم لماذا تشفقين إلى هذا الحد على امرأة أعطيت فرصا كثيرة فلم تحسن استغلالها. كان بإمكانها أن تتزوج من اللورد واربرتون وتساعد مستأجري أراضيه كثيرا، تساعد الفقراء. حسنا، هي لم تحبه، وهذا عذر مقبول، كما كان لديها طموحات أكبر من الزواج من اللورد واربرتون. لكن ماذا كانت تلك الطموحات؟ هي لم تمتلك أي موهبة إبداعية ولا وظيفة ولم تتلق أي تعليم مهني. وعندما جعلها ابن خالتها غنية ماذا فعلت؟ ذهبت تهيم على وجهها حول العالم مع السيدة ميرل دون غيرها. ثم تزوجت ذلك المنافق المغرور وصارت تذهب إلى حفلات الاستقبال يوم الخميس مرتدية أبهى الثياب. أين ذهبت تلك المثالية التي كانت تدعيها؟ أنا أتعاطف أكثر مع هنريتا ستاكبول.»
اعترضت السيدة قائلة: «أوه، لكنها فظة للغاية!» «هذا ما تراه السيدة توشيه، ويراه المؤلف. لكنها على الأقل تمتلك موهبة، عكس إيزابيل، وتستغلها في كسب عيشها، وتساعد أختها الأرملة.» ثم أضافت قائلة: «ترفض كل من إيزابيل آرشر ودوروثيا خطابا مناسبين ثم تتزوجان من أحمقين معتدين بنفسيهما، لكني أتعاطف أكثر مع دوروثيا. ربما لأن جورج إليوت تحترم بطلة روايتها، بينما يمقت هنري جيمز، في قرارة نفسه، بطلة روايته.»
اعتقد ثيو أنها ربما تكون قد تعمدت إثارة ذلك الجدل بدافع كسر الملل. لكن أيا كان دافعها، كانت المناقشة التي فتحتها صاخبة وحيوية، وانقضت الثلاثون دقيقة الباقية بسرعة وبطريقة ممتعة. شعر بالأسف والقليل من الحزن عندما انتظر قدومها يوم الخميس التالي فلم تأت.
بعد أن تذكرها وأرضى فضوله، استطاع أن يسترخي في سلام ويستمع إلى الترنيمة الثانية. كان من المعتاد في كنيسة مجدالين في السنوات العشر الأخيرة تشغيل ترنيمة مسجلة أثناء الصلاة المسائية. عرف ثيو من ورقة القداس المطبوعة أن تلك الأمسية ستكون هي الأولى في سلسلة أمسيات سيستمعون فيها إلى ترانيم إنجليزية تعود للقرن الخامس عشر، تبدأ بترنيمتين كتبهما وليام بيارد: «علمني يا ربي»، و«ابتهج يا إلهي». مرت فترة قصيرة من الصمت المترقب بينما انحنى قائد الجوقة لتشغيل الشريط. تدفق صوت الصبيان العذب النقي الذي لا يثير الغرائز، والذي افتقدوه منذ أن وصل آخر صبي جوقة إلى سن البلوغ وتغير صوته، وعم أرجاء الكنيسة. نظر أمامه إلى الفتاة، فوجدها جالسة لا تحرك ساكنا وقد رفعت رأسها لأعلى وثبتت عينيها على السقف ذي العقود فلم ير سوى انحناءة رقبتها تحت ضوء الشموع. لكنه رأى في آخر صف الجالسين أمامه شخصا ميزه فجأة: مارتنديل العجوز الذي كان عضوا على أعتاب التقاعد في هيئة التدريس بقسم اللغة الإنجليزية أثناء سنته الأولى. كان يجلس حينئذ في سكون تام ورأسه العجوز مرفوع، وتلمع في ضوء الشموع دموعه التي كانت تنسال بغزارة على وجنتيه، فبدت كأنها لآلئ تزين تجاعيد وجهه العميقة. أحب مارتي العجوز، الذي ظل أعزب ولم يتزوج، جمال الصبية. تساءل ثيو لماذا يأتي هو ومن هم على شاكلته كل أسبوع كي يتلذذوا بتعذيب ذواتهم بتلك الطريقة؟ بإمكانهم أن يستمعوا لأصوات الأطفال المسجلة في بيوتهم، فلماذا يأتون كي يستمعوا إليها هنا في ذلك المكان الذي ينصهر فيه الماضي والحاضر وسط الجمال وضوء الشموع فيتعزز الشعور بالحسرة؟ لماذا يأتي هو نفسه إلى هنا؟ لكنه كان يعرف إجابة ذلك السؤال. كي يشعر، هذا ما كان يقوله لنفسه، كي يشعر، كي يشعر، كي يشعر. حتى وإن كان ما سيشعر به هو الألم، لكنه كان يدع المشاعر تجتاحه.
غادرت السيدة الكنيسة قبله بخفة، وكأنما تحاول أن تنسل خلسة. وتفاجأ عندما خرج إلى الهواء البارد فوجدها واقفة تنتظره كما بدا واضحا.
دنت منه وقالت: «من فضلك، هل يمكنني أن أتحدث إليك بخصوص أمر مهم؟»
في الضوء الساطع الذي كان ينساب من رواق الكنيسة إلى عتمة المساء خارجها، رأى وجهها بوضوح لأول مرة. كان شعرها داكنا غزيرا ذا لون بني زاه وتتخلله خصلات ذهبية، وكان مصففا في جديلة قصيرة سميكة. وسقطت قصة تنساب على جبينها العالي الذي يغطيه النمش. كانت بشرتها فاتحة بالنسبة إلى شخص داكن الشعر؛ كانت امرأة بلون الشهد، رقبتها طويلة، وعظمتا وجنتيها بارزتان، وعيناها، اللتان لم يستطع تحديد لونهما، متباعدتان، يعلوهما حاجبان مستقيمان محددان، وأنفها طويل ونحيف وفيه حدبة طفيفة، وفمها واسع جميل. كان وجها يشبه وجوه نساء اللوحات ما قبل الرفائيلية. كان روسيتي سيحب أن يرسمها. كانت ملابسها تساير الأزياء العصرية التي ترتديها النساء جميعا ما عدا نساء الأوميجيين؛ سترة ضيقة قصيرة تحتها تنورة من الصوف تصل إلى منتصف ربلتيها، يظهر من تحتها زوجان من تلك الجوارب ذات الألوان الزاهية التي كانت صيحة أزياء تلك السنة. كان لونه أصفر فاقع. وكانت تحمل حقيبة كتف جلدية علقتها على كتفها اليسرى. لم تكن ترتدي قفازا فرأى أن يدها اليسرى مشوهة. كانت سبابتها ووسطاها ملتصقتين وتبدوان مثل جدعة بدون أظافر، وكان في ظهر كفها ورم كبير. أمسكتها بيمناها وكأنما تريحها أو تسندها. لكنها لم تبذل أي جهد لإخفائها. بل بدا كأنها تجهر بتشوهها ذلك في عالم لا ينفك يزداد تعصبا يوما بعد يوم ضد العيوب الجسدية. لكن على الأقل، كان لذلك العيب ميزة واحدة تعوضه؛ فأي امرأة تعاني تشوها جسديا، أو مرضا نفسيا أو جسديا من أي نوع لم تكن موجودة على قوائم النساء اللاتي سيولد من أرحامهن الجنس الجديد إن اكتشف رجل غير عقيم؛ لذا، كانت، على الأقل، معفاة من إجراءات إعادة الفحص نصف السنوية المهينة المستنفدة للوقت، التي كانت تخضع لها جميع النساء الصحيحات تحت سن الخامسة والأربعين.
قالت مرة أخرى بصوت أخفت: «لن آخذ من وقتك الكثير. لكن أرجوك يا دكتور فارون، يجب أن أتحدث معك في أمر.» «حسنا، إن كان ذلك ضروريا.» أثارت حب استطلاعه، لكنه لم يستطع إضفاء الحفاوة على صوته. «ربما يمكننا أن نتمشى في تلك الأروقة المسقوفة الجديدة.» اتجها إليها في صمت. ثم قالت: «أنت لا تعرفني.» «لا، ولكني أتذكرك. حضرت المحاضرة الثانية من المحاضرات التي ألقيتها نيابة عن الدكتور سيبروك. وقد أضفت حيوية على النقاش.» «أخشى أن أسلوبي كان حادا للغاية.» ثم أضافت قائلة، وكأنه كان يهمها للغاية أن تفسر لي ذلك: «أنا معجبة كثيرا برواية «صورة سيدة».» «لكن أظن أنك لم ترتبي لتلك المقابلة كي تناقشيني في ذوقك الأدبي.»
ما إن خرجت تلك الكلمات من بين شفتيه، حتى شعر بالندم عليها. احمرت وجنتاها، وشعر بإعراض غريزي من جانبها، وانخفاضا لثقتها في نفسها، وربما فيه. أزعجته ملاحظتها الساذجة، لكن لم يكن ثمة داع لأن يرد ذلك الرد التهكمي الموجع. كان توترها معديا. وكان يأمل ألا تكون تنوي إحراجه ببوحها بأسرار شخصية أو مطالب عاطفية. كان من الصعب أن يوفق في ذهنه بين المحاورة اللبقة الواثقة من نفسها التي رآها من قبل والمراهقة المرتبكة التي يراها الآن. لم يكن ثمة جدوى من محاولة إصلاح ما أفسده، فسارا في صمت لنصف دقيقة.
Bilinmeyen sayfa
ثم قال: «لقد أسفت لأنك لم تعاودي المجيء. كانت المحاضرة كئيبة للغاية في الأسبوع التالي.» «كنت سآتي مرة أخرى، لولا أن مناوبتي في العمل أصبحت صباحية. كنت مضطرة إلى أن أعمل.» لم تفصح عن طبيعة ولا مكان عملها، وإنما أضافت قائلة: «اسمي جوليان. أنا أعرف اسمك بالطبع.» «جوليان! هذا اسم غير معتاد لامرأة . هل سميت تيمنا بالكاتبة جوليان النورويتشية؟» «لا، لا أظن أن والدي سمعا بها. عندما ذهب أبي لتسجيل ولادتي أعطى لأمين السجلات اسم جولي آن. كان ذلك هو الاسم الذي اختاره لي والدي في الأصل. لا بد أن أمين السجلات لم يسمعه بوضوح، أو ربما لم ينطقه أبي بوضوح. لم تكتشف أمي ذلك الخطأ إلا بعد ثلاثة أسابيع، وظنت أن الأوان قد فات لتغييره. على كل حال، أعتقد أن الاسم أعجبها؛ لذا عمدت باسم جوليان.» «لكن أعتقد أن الناس ينادونك جولي.» «أي ناس؟» «أصدقاؤك وعائلتك.» «ليس لي عائلة. فوالداي قتلا في أعمال الشغب العنصرية عام 2002. لكن لم سينادونني جولي؟ فاسمي ليس جولي.»
قالت ذلك بأدب جم لا يحمل أي عدوانية. ربما افترض أن تعليقه ذلك أربكها، لكنه لم يكن ثمة ما يدعو للارتباك. ربما كانت ملاحظته تلك خرقاء ووليدة اللحظة وفيها شيء من التلطف المصطنع، إلا أنها لم تكن سخيفة. وإذا كان لقاؤهما ذلك خطوة تمهيدية لأن تطلب منه إلقاء خطاب عن التاريخ الاجتماعي للقرن التاسع عشر، فهو لقاء غير اعتيادي.
سألها: «لماذا تريدين أن تتحدثي معي؟»
الآن وقد حانت اللحظة الحاسمة، شعر بترددها في البدء، لكنه استشعر أن ترددها ذلك لم يكن نابعا من خجلها أو ندمها على ترتيب ذلك اللقاء، بل من أهمية ما ستقوله واحتياجها لأن تتخير كلماتها بعناية.
سكتت لبرهة ونظرت إليه. ثم قالت: «تحدث أشياء في إنجلترا - في بريطانيا - أشياء ليست عادلة. أنا أنتمي إلى جماعة صغيرة من الرفقاء الذين يؤمنون أننا يجب أن نحاول التصدي لها. لقد كنت في السابق أحد أعضاء مجلس إنجلترا. كما أنك ابن خالة الحاكم. فكرنا في أن بإمكانك أن تتحدث معه نيابة عنا قبل أن نتخذ خطوات فعلية. لسنا متأكدين تماما من أن بإمكانك مساعدتنا، لكن اثنين منا، هما أنا ولوك - لوك قس - اعتقدنا أنه ربما بوسعك مساعدتنا. قائد تلك الجماعة هو زوجي رولف، وقد وافق على أن أتحدث إليك.» «لماذا أنت؟ لماذا لم يأت بنفسه؟» «أظن أنه اعتقد - لقد اعتقدوا - أنني أنا التي سأستطيع إقناعك.» «إقناعي بماذا؟» «بأن توافق فقط على لقائنا، كي نشرح لك ما يتعين علينا القيام به.» «ولماذا لا تشرحينه الآن، وبعدها أقرر ما إذا كنت مستعدا لمقابلتكم أم لا؟ وما تلك الجماعة التي تتحدثين عنها؟» «هي جماعة مكونة من خمسة أفراد فقط. لم نبدأ نشاطنا الفعلي بعد. وقد لا نضطر لذلك إن كان ثمة أمل في إقناع الحاكم بالتصرف.»
قال بحذر: «أنا لم أكن يوما عضو كامل العضوية في المجلس، كنت مجرد مستشار شخصي لحاكم إنجلترا. ولم أحضر جلسات المجلس منذ أكثر من ثلاث سنوات، ولم أعد أقابل الحاكم. وقرابتنا لا تعني شيئا لي ولا له؛ لذا على الأغلب لن يكون تأثيري عليه أكبر من تأثيركم.» «لكنك على الأقل تستطيع مقابلته. أما نحن فلا نستطيع ذلك.» «يمكنكم أن تحاولوا. فهو ليس شخصا يتعذر الوصول إليه تماما. يمكن للناس مهاتفته أحيانا للتحدث إليه. بطبيعة الحال يجب أن يحمي نفسه.» «من شعبه؟ ثم إن مقابلته أو حتى مجرد التحدث إليه، سيؤديان إلى أن تعرف شرطة الأمن الوطني بوجودنا، وربما حتى أن تعرف هوياتنا. ليس من الآمن أن نحاول نحن ذلك.» «هل تعتقدين ذلك حقا؟»
قالت بأسى: «أجل، ألا تظن أنت ذلك؟» «كلا، لا أظن ذلك. لكن إن صح ما تقولين، فما تفعلينه الآن فيه مخاطرة كبيرة. فما الذي يجعلك تظنين أن بإمكانك الوثوق بي؟ أتقولين لي إنك تضعين سلامتك بين يدي استنادا إلى محاضرة واحدة عن الأدب الفيكتوري؟ هل قابلني من قبل حتى أي عضو آخر من تلك الجماعة؟» «كلا. لكن أنا ولوك قرأنا بعض كتبك.»
قال بنبرة جادة: «ليس من الحكمة أن تحكما على نزاهة أي شخص أكاديمي من أعماله المكتوبة.» «لم يكن أمامنا سوى تلك الطريقة. نحن نعلم أن الأمر ينطوي على مخاطرة لكنها مخاطرة لا بد منها. أرجوك وافق على لقائنا. أرجوك، على الأقل استمع لما نود أن نقوله لك.»
كانت في صوتها نبرة استجداء واضحة، وصريحة ومباشرة، وفجأة ظن أنه أدرك سببها. كان التحدث معه فكرتها هي. وقد أتت إليه بإذعان متردد من باقي أفراد الجماعة، وربما حتى دون موافقة قائدها. كانت هي من تخاطر بنفسها. إن رفض طلبها، فسترجع إليهم خاوية الوفاض وذليلة. وأحس أنه لا يستطيع أن يكون سببا في ذلك.
قال، وهو يعلم أنها ستكون غلطة: «حسنا. سأتحدث معكم. متي وأين تودين أن يكون لقاؤنا القادم؟» «يوم الأحد في الساعة العاشرة مساء في كنيسة سانت مارجريت في بينسي. هل تعرفها؟» «أجل، أعرف بينسي.» «إذن موعدنا الساعة العاشرة، في الكنيسة.»
Bilinmeyen sayfa
حصلت على ما جاءت من أجله فلم تطل البقاء. بالكاد سمعها تتمتم: «شكرا لك، شكرا لك.» ثم انسلت من جانبه بسرعة وبهدوء شديدين كما لو كانت أحد ظلال الرواق الكثيرة المتحركة.
تلكأ قليلا حتى لا تكون ثمة فرصة لأن يلحق بها، ثم مشى وحيدا صامتا إلى منزله.
الفصل السابع
السبت 30 يناير 2021
في الساعة السابعة من صباح اليوم، هاتفني جاسبر بالمر سميث وطلب مني زيارته بخصوص أمر عاجل. لم يقدم لي أي تفسير، لكن تلك هي عادته. قلت له إنني أستطيع موافاته بعد الغداء مباشرة. في الآونة الأخيرة، أصبحت استدعاءاته التي تزداد حسما أكثر تكررا. كان من قبل لا يطلب لقائي إلا مرة تقريبا كل ثلاثة أشهر؛ أما الآن فصارت مرة كل شهر. كان يدرس لي التاريخ عندما كنت طالبا، وقد كان مدرسا رائعا، على الأقل للطلبة النجباء. عندما كنت طالبا جامعيا، لم أصرح قط بأني معجب به، بل كنت أقول بسماحة عرضية: «لا بأس بجاسبر؛ فأنا منسجم معه إلى حد كبير.» وقد كنت أنسجم معه لسبب مفهوم وإن لم يكن ذا وجاهة؛ فقد كنت الطالب المفضل لديه في دفعتي. كان دائما لديه طالب مفضل. وكانت العلاقة بينه وبين طالبه المفضل تكاد تكون علاقة أكاديمية بحتة؛ فلم يكن مثليا ولا محبا للصبية على الخصوص، وفي الواقع لا يخفى على أحد كرهه الشديد للأطفال، وعادة كان مضيفوه يخفونهم عن نظره في المرات النادرة التي كان يمن عليهم فيها بقبول دعوة عشاء خاصة. لكن كل عام كان يختار طالبا جامعيا، دائما ما يكون ذكرا، ليخصه باستحسانه ورعايته. كنا نفترض أن المعايير التي يختاره بناء عليها هي الذكاء في المقام الأول، ثم حسن المظهر ثانيا والفطنة ثالثا. كان يتمهل في اختياره، لكن بمجرد أن يختار كان اختياره ذلك نهائيا لا رجعة فيه. لم تكن تلك العلاقة تفرض أي ضغط على الطالب المفضل؛ فبمجرد أن يقع الاختيار عليه، كان يتغاضى عن أخطائه. ولم تكن كذلك تثير الضغينة أو الحقد بينه وبين زملائه، فلم تكن لجاسبر شعبية كبيرة للغاية كي يحاول الطلاب كسب وده، وكان يقر من باب الإنصاف أن الطالب المفضل لم يكن له دخل في اختياره. لا أنكر أنني توقعت أن أحصل على درجتي العلمية مع مرتبة الشرف الأولى، فجميع طلابه المفضلين حصلوا على تلك الدرجة. حينما اختارني كنت أملك من الغرور والثقة ما جعلني واثقا من أن ذلك احتمال وارد، لكنه كان احتمالا لم أكن سأضطر لأن أفكر به إلا بعد عامين على الأقل. لكني اجتهدت لأجله، وأردت أن أرضيه، وأن أبرهن على حسن اختياره. أن يقع الاختيار عليك دون غيرك هو دوما أمر مرض لتقدير الذات، ويشعر المرء بأن من واجبه أن يرد ذلك المعروف، وهي حقيقة تقف وراء زيجات كثيرة لم تكن متوقعة لولا ذلك. ربما كان ذلك أيضا أساس زواجه من زميلة أستاذة رياضيات بكلية نيو كوليدج تكبره بخمسة أعوام. بدا أنهما منسجمان معا، على الأقل وسط رفقائهما، لكن في العموم، كانت النساء تنفر منه بشدة. في مطلع التسعينيات، عندما تزايدت ادعاءات التحرش الجنسي، بدأ حملة باءت بالفشل تكفل وجود مرافقة مراقبة في جميع الدروس الخصوصية التي تقام داخل الجامعة وتضم طالبات استنادا إلى أنه وزملاءه الذكور كانوا عرضة لادعاءات مجحفة. لم يكن أحد يفوقه في قدرته على تحطيم ثقة النساء في أنفسهن، بينما يعاملهن بأدب جم وكياسة تكاد تصل إلى حد الإهانة.
كان صورة هزلية للفكرة الشائعة عن الأستاذ الجامعي بجامعة أكسفورد؛ بجبهته العالية، وشعره المنحسر عن مقدمة رأسه، ونحوله ، وأنفه المعقوف قليلا، وشفتيه المزمومتين. كان يمشي وذقنه ممدود للأمام وكأنما يواجه عاصفة قوية، وكتفاه محدودبتان، وعباءته الباهتة ترفرف في الهواء. توقع المرء أن يرى صورته في مجلة «فانيتي فير» مرتديا قميصا بياقة عالية وممسكا واحدا من كتبه بأصابعه النحيلة النيقة.
أحيانا كان يركن إلي ويعاملني كأنما يعدني لأكون خليفة له. لكن ذلك بالطبع كان محض هراء؛ فقد كان يمنحني الكثير، لكن بعض الأشياء لم تكن مشمولة في منحته. لكن الانطباع الذي يعطيه طالبه المفضل الحالي بأنه ولي عهده جعلني أتساءل بالتبعية عما إذا كانت تلك هي الطريقة التي يواجه بها التقدم في السن، ومرور الزمن، والتبلد الآتي لا محالة لذهنه الحاد الذكاء، وربما كان ذلك مدفوعا بوهم شخصي لديه بالخلود.
دائما ما كان يجهر برأيه في أوميجا، الذي أصبح بمثابة ابتهال تعزية يردده عدد من زملائه، بخاصة أولئك الذين كانوا يختزنون كميات كبيرة من النبيذ أو كان مسموحا لهم باستخدام قبو النبيذ في كلياتهم. «ذلك الأمر لا يقلقني كثيرا. لا أعني بذلك أنني لم أشعر بالندم لوهلة عندما عرفت لأول مرة أن هيلدا عقيمة؛ ففي ظني أن الجينات تحافظ على ضروراتها التأسلية. لكني في المجمل سعيد به؛ فلا يمكن أن تحزن على أن أحفادك لن يولدوا عندما يكون لا أمل في ذلك. هذا الكوكب محكوم عليه بالدمار على أي حال. في نهاية المطاف ستنفجر الشمس أو تتجمد وستختفي ذرة لا قيمة لها في ذلك الكون الهائل دون أي أثر سوى رجة خفيفة. وإن كان محكوما على الجنس البشري بالفناء، فالعقم العالمي وسيلة ليست أكثر إيلاما من غيرها. كما أنه يوجد منافع شخصية في الأمر؛ فطوال الستين عاما الأخيرة كنا نسعى متملقين لاسترضاء أكثر فئات المجتمع جهلا وإجراما وأنانية. والآن ولما تبقى من حياتنا سنعفى من همجية الشباب الفجة ومن ضوضائهم، ومن ذلك القرع المتكرر، المولد بالحاسوب، الذي يدعونه موسيقى، ومن غرورهم المستتر وراء المثالية. يا إلهي، قد نتخلص حتى من عيد الميلاد المجيد، ذلك الاحتفال السنوي الذي يعني شعور الأبوين بالذنب وشعور صغارهم بالطمع. أعتزم أن أصنع لنفسي حياة مريحة، وعندما لا تصبح كذلك، عندئذ سأبتلع حبة الدواء التي ستنهي حياتي بزجاجة من النبيذ الفرنسي الأحمر.»
كانت خطته للبقاء على قيد الحياة ناعما بالراحة حتى آخر لحظة خطة تبناها آلاف الناس في تلك الأعوام الأولى التي سبقت وصول زان للحكم، عندما سادت المخاوف من تفشي الفوضى التامة. كانت تلك الخطة عبارة عن الخروج من المدينة - في حالته من كلاريندون سكوير - إلى منزل ريفي صغير أو كوخ في الريف المشجر له حديقة لإنتاج الغذاء، قريب من جدول ماء عذب، مياهه صالحة للشرب بعد غليها، وموقد حطب مفتوح، ومخزون يكفي لأعوام من الحطب وعلب الطعام المختارة بعناية وأعواد الثقاب، وخزينة أدوية مليئة بالعقاقير والحقن الطبية، والأهم من ذلك كله أبواب وأقفال متينة تحسبا لأن تلتفت يوما ما إلى تدابيرهم تلك أنظار الحاقدين ممن كانوا أقل حذرا. لكن في الأعوام الأخيرة أصبح جاسبر مهووسا. استبدل بالمخزن الخشبي في حديقته بناء من الطوب له باب معدني يتحكم به عن طريق جهاز تحكم عن بعد. وأحاط الحديقة بسور عال، ووضع قفلا حديديا على باب القبو.
عندما أزوره عادة ما أجد البوابة الخارجية المصنوعة من الحديد المطاوع غير موصدة في انتظار قدومي، وأستطيع أن أفتحها وأترك سيارتي في مدخل السيارات القصير المؤدي إلى منزله. لكن عصر ذلك اليوم، كانت مغلقة واضطررت لأن أضغط الجرس. عندما جاء جاسبر ليفتحها لي، صعقت من التغير الذي طرأ على مظهره خلال شهر واحد فقط. كان لا يزال منتصب القامة، ثابت الخطى، لكن عندما اقترب مني رأيت أن جلده المشدود بشدة حول عظام وجهه القوية قد صار أكثر شحوبا، وأن توترا أشد، يكاد يرقى إلى درجة الارتياب، كان باديا في عينيه الغائرتين، وهو ما لم ألاحظه عليه من قبل. التقدم في العمر أمر لا مناص منه، لكنه لا يسير على وتيرة واحدة. ثمة فترات، تمتد لأعوام، يتوقف فيها الزمن وتبدو فيها ملامح الأصدقاء والمعارف كأنما لا تتغير. ثم يتسارع الزمن وخلال أسبوع يحدث التحول. بدا لي كأن ستة أعوام قد أضيفت إلى عمر جاسبر خلال ما يزيد قليلا عن ستة أسابيع.
Bilinmeyen sayfa