كانت مخنوقة وجثتها ملقاة على كرسي كبير من الخوص على يمين المدفأة. كانت راقدة هناك ممددة، وساقاها غير مستقيمتين، وذراعاها تتدليان من طرفي الكرسي، ورأسها مائلا للخلف والحبل مغروسا في جلدها حتى كاد يختفي فيه. فور أن لمحتها عيناه، انتابه هلع شديد فترنح حتى الحوض الحجري تحت النافذة وتقيأ بشدة لكن دون جدوى. كان يريد أن يقترب منها، ويغلق عينيها، ويلمس يدها، أن يقوم بأي لفتة تجاهها؛ فقد كان مدينا لها بأكثر من أن يشيح بوجهه عن مشهد موتها المريع ويتقيأ اشمئزازا. لكنه كان يعلم أنه لن يقوى على لمسها أو حتى النظر إليها مرة أخرى. مستندا بجبهته على الحوض الحجري البارد، مد يده ليفتح الصنبور فتدفق الماء البارد على رأسه. تركه يتدفق وكأنما سيغسل عنه الهلع والأسف والخزي. أراد أن يرجع رأسه للوراء ويصرخ منفسا عن غضبه. وقف عاجزا لبضع ثوان، أسيرا لمشاعر جعلته غير قادر على الحركة. ثم أغلق الصنبور، ومسح الماء عن عينيه وعاد إلى أرض الواقع. كان عليه أن يعود إلى جوليان بأسرع ما يمكن. رأى على الطاولة ثمرة بحث ميريام الهزيلة. كانت قد وجدت سلة كبيرة من الخوص ووضعت بها ثلاث علب طعام، وفتاحة علب وزجاجة مياه.
لكنه لم يستطع ترك ميريام على حالها. يجب ألا يراها لآخر مرة على تلك الحال. مهما كانت الحاجة للعودة إلى جوليان والطفل، كان مدينا لها بمراسم بسيطة. نهض محاربا خوفه واشمئزازه وحمل نفسه على النظر إليها. ثم انحنى وحل الحبل من حول رقبتها، وأراح خطوط وجهها وأغلق عينيها. شعر بالحاجة لأن يخرجها من ذلك المكان المريع، فحملها بين ذراعيه وأخرجها من المنزل إلى ضوء النهار، ثم وضعها بحرص على الأرض تحت شجرة دردار. ألقت أوراقها، التي بدت كألسنة من اللهب، بوهج على بشرتها السمراء الشاحبة فجعلت عروقها تبدو كأنها لا تزال تنبض بالحياة. كان وجهها يبدو ساكنا. عقد ذراعيها أمام صدرها، وخيل إليه أن جسدها الجامد ما زال قادرا على التواصل معه، على إخباره أن الموت ليس هو أسوأ مصير للإنسان، وأنها باقية على عهدها مع أخيها، وأنها فعلت ما عزمت على فعله. لقد ماتت هي لكن حياة جديدة ولدت. تخيل ميتتها المريعة القاسية، فقال في نفسه إن جوليان بلا شك ستقول إنه حتى ذلك الفعل الهمجي يمكن أن يغتفر. لكن ذلك لم يكن معتقده. وقف متسمرا لبرهة ينظر للجثة، وأقسم على نفسه أن يأخذ بثأر ميريام. ثم التقط السلة المصنوعة من الخوص ودون أن يلتفت للخلف، انطلق يعدو من الحديقة عابرا الجسر، ثم دخل إلى الغابة.
كانوا بلا شك قريبين. وكانوا حتما يراقبونه. كان متأكدا من ذلك. لكنه الآن كان يفكر بوضوح، وكأنما نشط الهلع عقله. ماذا ينتظرون؟ لم تركوه يذهب؟ لم يكونوا بحاجة لأن يتبعوه. إذ لا بد أنهم كانوا يدركون أنهم أوشكوا على الوصول إلى نهاية رحلة بحثهم. كان متيقنا من أمرين؛ أن فرقة البحث ستكون صغيرة، وأن زان سيكون ضمنها. لم يكن قتلة ميريام ضمن فرقة بحث استطلاعية منفصلة لديها تعليمات بالعثور على الهاربين، مع عدم التعرض لهم، وإبلاغ الفرقة الرئيسية بمكانهم. لن يخاطر زان قط بأن يعثر أحد سواه، أو شخص يثق فيه ثقة عمياء، على امرأة حبلى. لن يطلق حملة بحث عامة لتقفي أثر ذلك الصيد الثمين. كان متيقنا من أن زان لم يحصل على أي معلومات من ميريام. فقد كان يتوقع أن يجد امرأة في مراحل الحمل الأخيرة لا يزال أمامها بضعة أسابيع حتى تضع مولودها وليس أما وطفلها. وحتما لم يكن يريد أن يثير خوفها، أو أن يتسبب في بدء المخاض مبكرا. ألهذا السبب خنقت ميريام ولم ترد بالرصاص؟ حتى من تلك المسافة لم يرد أن يخاطر بسماع صوت إطلاق الرصاص.
لكن ذلك الاستدلال لم يكن منطقيا. إن كان ما يريده زان هو حماية جوليان، وضمان احتفاظها بهدوئها من أجل الولادة التي يظن أنها وشيكة، فلم يقتل القابلة التي تثق فيها بتلك الطريقة المريعة؟ لا بد أنه كان يعلم أن أحدهما، وربما كليهما، سيأتي للبحث عنها. كان محض صدفة أنه هو، ثيو، وليس جوليان، هو من واجه مشهد لسانها المنتفخ المتدلي من فمها، وعينيها الجاحظتين الخاويتين، وباقي المشهد المرعب داخل ذلك المطبخ المريع. أكان زان مقتنعا أن الطفل قد أوشك أن يولد فلن يؤذيه أي شيء الآن مهما كان صادما؟ أم كانت لديه حاجة ملحة لأن يتخلص من ميريام، أيا كانت تبعات ذلك؟ لم يأخذها أسيرة ويكلف نفسه عناء التعقيدات التي ستنجم عن ذلك إن كان بإمكانه التخلص من تلك المشكلة بخنقها سريعا بحبل؟ بل ربما كانت تلك الفعلة الشنيعة متعمدة. هل أراد بها أن يعلن لهما أن «هذا ما أنا قادر على فعله، هذا ما فعلته. لم يبق سواكما في مؤامرة جماعة «السمكات الخمس »، ولا أحد سواكما يعرف حقيقة والدي الطفل. وقد صرتما تحت سلطتي وستظلان خاضعين لها إلى الأبد»؟
أم أن خطته كانت أكثر جرأة من ذلك؟ بمجرد أن يولد الطفل، لم يكن عليه سوى أن يقتل ثيو وجوليان ويصير بإمكانه أن يدعي أن الطفل من صلبه. أمن الممكن حقا أن تصور له أنانيته المتعجرفة أن ذلك ممكن؟ وحينئذ تذكر كلمات زان: «سأفعل ما يلزم، أيا كان.»
في السقيفة كانت جوليان مستلقية دون حراك حتى ظن لأول وهلة أنها نائمة. لكن عينيها كانتا مفتوحتين وكانتا لا تزال مثبتتين على طفلها. كان الهواء معبقا برائحة دخان الخشب النفاذة الشجية، لكن النار كانت قد خبت. وضع ثيو السلة على الأرض وأخرج منها زجاجة المياه وفتح غطاءها. ثم جثا بجوارها.
نظرت في عينيه وقالت: «لقد ماتت ميريام، أليس كذلك؟» عندما لم يجبها ثيو، قالت: «ماتت وهي تحضر لي تلك.»
قرب الزجاجة إلى شفتيها. «إذن، كوني شاكرة لها واشربي منها.»
لكنها أشاحت بوجهها، وتركت طفلها فكاد يسقط عن جسدها لولا أن ثيو أمسك به. ظلت مستلقية دون حراك وكأنما أنهكت فلم تستطع تحمل نوبات الحزن، لكنه رأى دموعها تنهمر على وجهها وسمع أنينها المنخفض، الذي كاد يكون له وقع موسيقي، فكان كنواح العالم المفجوع. كانت تبكي فقد ميريام ولم تكن قد بكت بعد على فقد والد طفلها.
انحنى وضمها إليه بصعوبة بسبب وجود الطفل بينهما، محاولا أن يكتنف كليهما بذراعيه. وقال: «تذكري الطفل. الطفل بحاجة إليك. تذكري ما كانت ميريام ستريده.»
Bilinmeyen sayfa