فقال الشاب بصوت رقيق حزين: ربما امتدت خدمتي عاما أو عامين؛ ولكن لن تفوتني فرصة مناسبة للحضور.
فغمغمت قائلة، وكانت تجد نحوه في تلك اللحظة ودا عميقا: يا له من زمن!
فابتهج قلبه - على أساه - لهذه العبارة التي تنم عن الجزع، وقال منفعلا: هذا آخر لقاء قبل السفر، والله وحده يدري متى يكون اللقاء التالي، وإني لفي حيرة يا حميدة ما بين الحزن والسرور؛ أجدني محزونا لأني مبتعد عنك، ثم أجدني مسرورا لأن هذا الطريق الطويل الذي اخترت هو الطريق الوحيد المفضي إليك . ولكني سأترك قلبي ورائي في الزقاق، فتصوري رجلا مهاجرا بلا قلب، رمى به السفر إلى بلد ناء، وأبى قلبه أن يسافر معه. وغدا في التل الكبير، وعند مطلع كل صباح، سأفتقد النافذة المحبوبة التي كنت أراك تكنسين حافتها، أو تمشطين شعرك وراء فرجة مصراعيها، وهيهات أن أجد لها أثرا. ولقاؤنا في الموسكي والأزهر ماذا يبقى لي منه؟ أواه يا حميدة، هذا ما يتقطع له قلبي. دعيني آخذ منك كل ما أستطيع أخذه. ضعي راحتك في يدي، وشدي على يدي كما أشد على يدك. لله ما أطيب مسك، إنه يرعش قلبي، إنه قلب كبير بين يديك، يا عزيزة، يا حبيبة، يا روح قلبي يا حميدة. ما أجمل اسمك، كأني إذا نطقت به أستحلب سكرا!
واستنامت الفتاة إلى كلامه المتدفق الحار، فلانت نظرة عينيها، وغمغمت قائلة: أنت الذي اخترت السفر.
فقال بصوت كالنواح: أنت السبب يا حميدة .. أنت أنت السبب .. أنا والله أحب زقاقنا، وأحمد الله على ما يرزقني به من كفاف. وما أحب أن أنأى عن الحسين الذي أقوم وأقعد باسمه؛ ولكني وا أسفاه لا أستطيع أن أهيئ لك الحياة التي ترضينها، فلم أجد عن السفر مذهبا. وربنا يأخذ بيدي، ويجمعنا على أهنأ حال.
فقالت حميدة بتأثر شديد: سأدعو لك بالتوفيق، وسأزور سيدنا الحسين وأسأله أن يرعاك ويكتب لك النجاح، والصبر طيب، والحركة بركة.
فتنهد من الأعماق وقال: أجل الحركة بركة، ولكن يا ويلي من بلد لا أجد لك فيه ظلا!
فغمغمت برقة: لن تكون هكذا وحدك.
فالتفت نحوها وقد سكر بقولها، ورفع يدها حتى مست قلبه، وهمس: حقا؟!
فابتسمت ابتسامة عذبة لاحت لعينيه الغائمتين على الضوء المنبعث من بعض الدكاكين. وغاب في تلك اللحظة عن كل شيء ما عدا وجهها المحبوب، وسالت هذه الكلمات من بين شفتيه: ما أجملك! ما أرقك! ما أعذبك! هذا هو الحب .. إنه عذب جميل يا حميدة، الدنيا من غيره لا تساوي مليما واحدا.
Unknown page