نطقت الست أم حسين بهذه العبارة وهي ماضية إلى مسكن السيد رضوان الحسيني .. كانت تسأل الله العفو والرحمة في يأس وغيظ وحنق مما تعانيه. أعياها إصلاح زوجها وعجزت عن ردعه، فلم تر بدا في النهاية من مقابلة السيد رضوان، لعله أن يفلح هو - بصلاحه وهيبته - فيما أخفقت هي فيه. ولم يكن سبق أن فاتحت السيد في مثل هذا الأمر الفظيع؛ ولكن يأسها من ناحية، وإشفاقها من شماتة الأعداء إذا جاهرت بالخصومة والطعان من ناحية أخرى، دفعاها إلى طرق هذا الباب الصالح الآمن لعل وعسى! وفي البيت استقبلتها حرم السيد رضوان، فجلسا معا بعض الوقت. وحرم السيد في منتصف الحلقة الخامسة من عمرها، وهي حلقة يعتز بها نساء كثيرات، ويعتبرنها الغاية من النضج الأنثوي، ولكن المرأة كانت مهزولة مهدمة، تلوح في جسمها وروحها آثار السهام التي سددها إليها الدهر حين انتزع من بين ذراعيها أطفالها طفلا بعد طفل. وكانت لذلك تضفي على بيتها الساكن روحا من الحزن والكآبة، ولم يجد إيمان السيد العميق في تبديد غشاوته. وكانت تبدو، في هزالها وحزنها، صورة مناقضة لصورة زوجها القوي المشرق المطمئن البسام. كانت امرأة ضعيفة فلم يقلها إيمانها - على رسوخه - من عثرتها المضنية. وكانت أم حسين تعلم بأمرها، فأقبلت تشكو بثها وهمها بقلب مطمئن إلى أنه سيجد أذنا صاغية تستميلها الشكوى والأحزان. ثم استأذنت في مقابلة السيد رضوان، فغابت المرأة لحظات ثم رجعت تدعوها إلى لقائه، وقادتها إلى حجرته.
وكان السيد يجلس على فروة مسبحا، المجمرة أمامه، وإبريق الشاي على يمينه. كانت حجرته الخاصة صغيرة أنيقة، تحدق بأركانها الكنبات، ويغطي أرضها سجاد شيرازي، تقوم في وسطها مائدة مستديرة رصت عليها الكتب الصفر، ويتدلى فوقها من السقف مصباح غازي كبير. وكان السيد يرتدي جلبابا رماديا فضفاضا، وطاقية صوفية سوداء يضيء تحتها وجهه الأبيض المشرب بالحمرة كالبدر المنير. في هذه الحجرة كان يخلو إلى نفسه كثيرا، قارئا أو مسبحا أو متأملا. وفيها كان يجتمع بأصدقائه من العلماء والصوفيين وأئمة الأذكار؛ يتذاكرون الأخبار ويروون الأحاديث ويناقشون ما يعرض لهم من الآراء، ولم يكن السيد رضوان معدودا من العلماء المتفقهين في الدين، ولا من الأذكياء الأفذاذ، ولا من أولئك الذين يجهلون أقدارهم فيضعونها من حيث يريدون أن يرفعوها فوق طاقاتها، ولكنه كان مؤمنا صادقا، وورعا تقيا، يستأسر نفوس العلماء بقلبه الكبير وصدره المسماح وخلقه القويم، وعطفه وحنانه ورحمته، فكان بحق من أولياء الله الصالحين.
وقد استقبل أم حسين واقفا، غاضا بصره، فأقبلت عليه في ملاءتها مبرقعة، وسلمت عليه بيد ملتفة بطرف الملاءة كيلا تنقض وضوءه، ورحب بها الرجل قائلا: أهلا وسهلا بجارتنا الفاضلة.
ودعاها إلى الجلوس فجلست على الكنبة قبالته، وتربع الرجل على الفروة، وراحت أم حسين تدعو له: الله يكرمك يا حضرة السيد، ويطيل عمرك بحق جاه المصطفى.
وكان يحدس ما حملها على مقابلته، فلم يسألها عن صحة المعلم زوجها كما تقضي بذلك آداب الضيافة! وكان يعلم كالآخرين بسيرة المعلم كرشة، وتناهى إليه ما قام بين الرجل وزوجه من شقاق وشجار في ظروف سابقة مماثلة .. فأيقن أنه أقحم في هذا النزاع المتجدد على غير إرادة. وسلم للأمر الواقع، وتلقاه بصدره الرحب كما يتلقى غيره مما يكره، وابتسم ابتسامة لطيفة وقال يشجعها على الكلام: خير إن شاء الله.
لم تكن المرأة تعرف التردد، ولا كان الحياء من أسباب ضعفها في يوم من الأيام، بل هي امرأة على قدر كبير من الشراسة والوقاحة، ولم تكن امرأة تفوقها مراسا في الزقاق كله إلا حسنية الفرانة، لذلك قالت للسيد بصوتها الغليظ: يا سيد رضوان، أنت الخير والبركة، وأنت رجل زقاقنا الفاضل، لذلك قصدتك أسألك المعونة في شدتي، وأشكو إليك الرجل الفاجر زوجي.
وعلا صوتها في آخر كلامها واخشوشن، فابتسم السيد مرة أخرى، وقال بصوت لا يخلو من رنة الأسف: هاتي ما عندك يا ست أم حسين، إني مصغ إليك.
فتنهدت المرأة وقالت: الله يرفع قدرك يا زين الرجال، الرجل يا سي السيد لا يحتشم ولا يرعوي، وكلما حسبت أنه قد تاب عن غيه طلع علي بفضيحة جديدة، إنه رجل فاجر لا يرده عن شهوة لا سن ولا زوجة ولا أبناء، ولعلك علمت بأمر هذا الشاب الرقيع الذي يوافيه كل ليلة إلى القهوة؟! هذه هي فضيحتنا الجديدة.
ولاحت في العينين الصافيتين سيماء الكدر، وأطرق متفكرا مغتما. اغتم الرجل الذي عجز ألم الثكل المبرح عن أن ينال من صفاء نفسه، لبث صامتا ساكنا، يتعوذ قلبه من الشيطان وعبثه. واتخذت المرأة من حزنه مبررا قويا لغضبها فانفعلت، وهدرت قائلة بنبرات فظيعة: فضحنا الرجل المتهتك، ووالله لولا عشرة العمر والأبناء لهجرت بيته لغير رجعة أبدا. أيرضيك هذا العار يا سي السيد؟! أيرضيك هذا السلوك الشائن؟! لقد نصحته فلم ينتصح، وأنذرته فلم يرعو، فلم أجد سبيلا إلاك. وما كنت أحب أن ألقي على سمعك الطاهر هذه الأنباء المخجلة، ولكن لا حيلة لي، وأنت سيد الحي جميعا، ورجله الفاضل، وأمرك مطاع، فلعلك بالغ منه ما لم يبلغه كلامي ولا كلام الناس جميعا، حتى إذا تبين لي أن نصحك لا يجدي كان لي معه شأن آخر! أجل إني أداري اليوم غضبي، ولكني إذا يئست من صلاحه فسأشب النار في الزقاق جميعا، وأجعل من جسده النجس حطاما لها.
فحدجها السيد بنظرة عتاب، وقال لها بهدوئه المألوف: أفرخي روعك يا ست أم حسين، ووحدي الله، ولا تغلبي الغضب على نفسك. أنت ست طيبة! والكل يشهد لك بالفضل! فلا تجعلي من نفسك وزوجك نادرة تلوكها الألسن. الزوجة الطيبة غطاء محكم يستر ما أمر الله به أن يستر، عودي إلى دارك آمنة مطمئنة، ودعي لي هذا الأمر، والله المستعان.
Unknown page