فتأفف آخر قائلا: «ولكنك تخلط، يا صاحبي، بين احتفالات الأندية وبين أحزاب الإصلاح ولجان التقرير. ليس قصدنا سن قوانين جديدة للبلاد، وتعديل ميزانيتها، وإلقاء الدروس على ولاة الأمور، وإبدال برامج التعليم بسواها. إن نحن إلا أعضاء ناد اجتماعي من رجال ونساء يحيون ليلة أنس وطرب، فأرى أن تترجم مقالا أو قصيدة عن كاتب أو شاعر غربي؛ لأن الغربيين سبقونا إلى الابتكار الذهني، فتتحفنا بأفكار جديدة نبتهج لها بلا إجهاد.»
فصاح آخر قائلا: «فلتسقط الترجمة إلى الحضيض، وليهبط التعريب إلى قعر الهاوية! حرام على من كان ذكيا أن يفني وقته في عمل جدير بمعشر الببغاوات البشرية. أما ونحن في هذا الاجتماع شرقيون لا أجنبي بيننا؛ فلتتكلم إذن، ولتتكلم بحماسة عن وجوب تعلق القوم بلغتهم؛ ليفهم المتفرنجون كم هم ضالون وخليقون بالسخرية والاحتقار!»
فقال آخر: «وما ذنب النادي إليك، يا عزيزي، لتقترح اقتراحا يعود عليه بالتداعي؟ إن جل الأعضاء متفرنجون ومتفرنجات؛ أتريد أن يسخط هؤلاء تاركين قاعاتنا بلاقع؟ دع الناس يتكلمون بما شاءوا من لغات أنزلها الله . أما خطيبتنا فلتصدق جنسها النسائي في حكاية غرامية تصف فيها بعض طبقات الناس، وبعض عادات البلدان، وتشرح عواطف المرأة ونزعاتها المتنافرة؛ فالرواية اليوم، مسهبة كانت أم موجزة، غدت آلة فريدة لنشر الآراء التاريخية، والنظريات العلمية والفلسفية، فضلا عن وصف أحوال الشعوب، وتسيير الإصلاح الاجتماعي والديني في وجهة معينة.»
فقال آخر: «لا أرى الرواية مناسبة لهذا الموقف، ولا يجعل للرواية هذه الأهمية إلا ذوو الأذهان الكليلة الذين يأنفون الأبحاث الجادة مجردة من الأوهام والتلفيق، بل فلترم هي إلى الإفادة المباشرة وتحدثنا بما نكبره في فتاة؛ كالطبيعيات والفلك، فأنا لا أحتمل من الكتاب والخطباء إلا الذين تنالني منهم فائدة علمية ما.»
فقال آخر: «وهل الإفادة محصورة في العلوم الطبيعية والرياضية؟ وهل هي قائمة في التلقين الأبله كما يلقن المعلم صغار المتعلمين؟ أرى أن الكاتب الأمثل هو الذي لا يتصور نفسه فوق الآخرين علما وذكاء، بل يسترسل في أبحاثه واثقا من أن الجميع يفهمونه، ولكل منهم أن يحتضن من آرائه الخاصة ما يتفق مع ميوله وحاجاته. هذا هو الكاتب الفنان الذي أعزه وأحبه وأهوى مجالسته عند صفحات الأوراق؛ لأنه يعرف كيف يثير مني الشجون والرغبات، وكيف يفتح أمامي جديد الآفاق. أما الذي ينصب نفسه معلما لي، فهو الجاهل المركب، هو الدعي المغرور الذي ألقي على تنطعه وتفيقه نظرة واحدة لأزداد وثوقا مما أعلمه، وهو أنه يخيفني من ماء غيره، وأنه ليس عنده أكثر مما يعطيني متعاظما ...»
فتنهد آخر قائلا: «رباه! هل جفت مناهل العواطف في قلوب الناس حتى صاروا لا هم لهم سوى العلوم والأبحاث؟ ألا فلتسمعنا قصيدة منها منظومة أو منثورة، فهي شاعرة قبل كل شيء، ونحن في حاجة إلى أجنحة المثل الأعلى تساعدنا على النهوض من حمأة المادة لنعيش، ولو لحظة، في أبدية الجمال.»
فاحتج قوم على الشعر المنظوم والمنثور قائلين إنه آفة هذا الجيل، وانبرى آخرون يدافعون عنه قائلين إنه سلوى الحياة ووحيها ورونقها، واشتبك الفريقان في المناقشة والجدال.
فاختليت أنا بنفسي أبحث عن الموضوع، فوجدت في أخلاطا نفيسة من معارف ومدركات وقدرات كانت وستظل دواما إرث بني الإنسان؛ فهناك الأبحاث الفلسفية والتاريخية، وهناك الاكتشافات والاختراعات، وهناك الآداب واللغات، وهناك العلوم الطبيعية والرياضية، وهناك المذاهب اللاهوتية والباطنية، وهناك الفنون الجملية على اختلافها، وهناك الروايات والأشعار، وعلوم البيان، ووصف الأسفار، وهناك الموضوعات الخفيفة الرشيقة المفكهة، والأخرى الوجيعة الرثائية المحزنة. وعلى مقربة منها أساليب النقد، واقتراحات الإصلاح، وخرائط المشروعات المتنوعة.
وبينا جلبة وفد النادي تصطخب حولي، جعلت أنا أخلق لذاتي الجماهير المتعددة - كما تمثل أحيانا رواية مصغرة خلال تمثيل الرواية الكبيرة - وصرت أخطب في كل جمهور بما يحب ويتطلب، فاقتضب الكلام هنا، وهناك أطيله. أتكلم مرة بتحمس الشاعر، وبتدقيق الباحث أخرى. حينا بصرامة العلم الطبيعي، وحينا بسيطرة الفكر الفلسفي. هنا بعذوبة الحب وأنينه، وهناك بقسوة الإصلاح واستئثاره.
خلقت لذاتي الجماهير لا لأعلم بل لأتعلم، لا لأفيد بل لأستفيد، لا لأوقف الآخرين على أسرارهم وممكناتهم، بل لأهتدي إلى أسراري وممكناتي. تكلمت ودرست وكتبت وخطبت لأهذب نفسي وأدللها، لأعزيها وأنميها. فعلت ذلك لأطير ونفسي فوق الشواهق، ونحسو ماء الغدران، ونكتنه غور الأعماق، ونمتص عصير الأزهار، فأعيش وإياها تلك الحياة الداخلية الرائعة التي يشرف منها وحدها على بدائع الكون.
Unknown page