[الزهري حديثه وسيرته]

الز هري

أحاديثه وسيرته

تأليف السيد العلامة المجتهد

بدر الدين بن أمير الدين الحوثي

حفظه الله

أعده للطبع وقدم له

عبد الله بن حمود العزي

Page 1

e الحمدلله رب العالمين، القائل في آيات الذكر الحكيم: {فمن أظلم ممن كذب على الله وكذب بالصدق إذ جاءه أليس في جهنم مثوى للكافرين، والذي جاء بالصدق وصدق به أولئك هم المتقون}[الزمر:32-33].

والقائل جل شأنه: {ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون}[آل عمران:104].

Page 1

والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين سيدنا محمد الأمين القائل: ((من قال علي ما لم أقل فليتبوأ مقعده من النار))(1)، والقائل: ((يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله، ينفون عنه تحريف الغالين، وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين))(2) وعلى آله الطيبين الطاهرين، الذين قال الله فيهم: {إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا}[الأحزاب:33] والقائل فيهم رسوله الأمين: ((إني تارك فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا من بعدي أبدا، كتاب الله وعترتي أهل بيتي إن اللطيف الخبير نبأني أنهما لن يفترقا حتى يردا علي الحوض))(3).

وبعد..

Page 2

فإن علم الحديث ينقسم إلى قسمين، قسم يتعلق بالسند، وقسم يتعلق بالمتن، فأما ما يتعلق بالسند فالضبط والعدالة، واتصال السند عند من يشترطه.

وأما يتعلق بالمتن فعدم الشذوذ والعلة، ولها تفاصيل ليس هذا موضعها.

ويعتبر علم الجرح والتعديل من أهم مواضيع علوم الحديث المتعلقة بالسند، والكاشفة عن صحته من سقمه، ومقبوله من مردوده، ويستمد شرعيته من القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة، قال الله تعالى: {ياأيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبإ فتبينوا...}[الحجرات:6] وقال الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم: ((اذكروا الفاسق بما فيه، لكي يحذره الناس)).

وفي الوقت الذي أوجب فيه الإسلام ضرورة التبين عند سماع الخبر، وذكر الفاسق المستمر على فسقه بما فيه، لكي يحذره الناس حذر من مغبة التسرع في ذم المؤمنين، أو الوقوع في أعراضهم لمجرد الشك والتخمين، فقال وفي نفس السورة: {ياأيها الذين آمنوا لا يسخر قوم من قوم عسى أن يكونوا خيرا منهم ولا نساء من نساء عسى أن يكن خيرا منهن ولا تلمزوا أنفسكم ولا تنابزوا بالألقاب بئس الاسم الفسوق بعد الإيمان ومن لم يتب فأولئك هم الظالمون* يا أيها الذين آمنوا اجتنبوا كثيرا من الظن إن بعض الظن إثم ولا تجسسوا ولا يغتب بعضكم بعضا أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتا فكرهتموه واتقوا الله إن الله تواب رحيم}[الحجرات:11-12].

Page 3

ومن هنا ندرك أهمية الجرح والتعديل، وأنه مسلك خطير، ومزلق سحيق، لذا لا بد أن يكون المشتغل به أو الباحث فيه عارفا مطلعا، وورعا منصفا، لأن أعراض الناس حفرة من حفر النار، والباحث بإنصاف في ذلك له من الله أجر كبير وثواب عظيم، وهو ممن جعله الله من عدول الأمة، الذين يحملون العلم فينفون عنه تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين.

علماء الجرح والتعديل:

ولو فتشنا عن أصناف المشتغلين بالجرح والتعديل، لوجدناهم صنفين، أحدهما التزم بضوابط الإسلام في الجرح والتعديل، فلم يقدح إلا ببيان وبرهان، ولم يعدل إلا على ثقة واطمئنان، والآخر اتخذه فرصة لبث نفثات سمومه، وتوزيع أوهامه واتهاماته وظنونه، فعدل ذا وقدح ذاك على غير أساس متين، أو مستند سليم، فجرح كثيرا من العدول، ووثق كثيرا من المجروحين، وملأ كتبه بالأهواء والنزعات النفسية، ومن طالع كتب الجرح والتعديل وجد ذلك واضحا وضوح الشمس.

فكم من صالح ورع جرحوه بأسباب هي في الحقيقة أساس من أسس العدالة والإيمان، وكم من فاسق مارق عدلوه وهو مجروح كذوب اللسان.

وصار كل من يأتي بعدهم يأخذ بأقوالهم، ويعتمد عليها، تقليدا لأسلافه، واتباعا لأشياخه، وانقيادا لنزعاته وأهوائه، غير فاحص لما قالوه أو متثبت فيما نقلوه، فضل وأضل.

ومن أقرب الأمثلة وأشدها منزلة قاعدتهم المعروفة (جرح الشيعي مطلقا وتوثيق الناصبي غالبا) .

هذه القاعدة التي لا يمكن تجاوزها أو التخلي عنها لديهم، ومن خلالها جرحوا كثيرا من الأئمة، وفضلاء الأمة كجعفر الصادق عليه السلام، والحسن بن زيد، وأويس القرني، وابن عقدة الكوفي، وأبي خالد الواسطي، وأبي حنيفة بن النعمان ، وإبراهيم بن الحكم الكوفي، وأحمد النيسابوري، وعبدالرزاق الصنعاني، وغيرهم من خيرة الأمة وصفوة الشيعة.

Page 4

ووثقوا كثيرا من شرار الأمة كخوارجها، وموارقها، ونواصبها، أمثال عكرمة البربري، وحريز بن عثمان الحمصي، وإبراهيم الجوزجاني، وعنبسة بن سعيد بن العاص، وغيرهم من الأشرار، كقتلة عمار، والدعاة إلى النار.

ورووا عن عمران بن حطان مادح قاتل أمير المؤمنين عليه السلام، بقوله قبحه الله:

ياضربة من تقي ما أراد بها .... إلا ليبلغ من ذي العرش رضوانا

إني لأذكره يوما فأحسبه ... أوفى البرية عند الله ميزانا

قال الذهبي: (فإن عمران صدوق في نفسه، وقال العجلي تابعي ثقة)(1) ، ورووا كذلك عن مروان بن الحكم الأموي، الذي حكى الذهبي عنه أنه كان يسب عليا كل جمعة(2) ، وقال ابن حجر: (مروان بن الحكم بن أبي العاص بن أمية يقال له رؤية، فإن ثبتت فلا يعرج على من تكلم فيه)(3) ، كما رووا عن سعد بن عمرو بن أبي وقاص، قاتل الإمام الحسين عليه السلام ، قال عنه الذهبي: (هو في نفسه ثقة غير متهم، لكنه باشر قتل الحسين وفعل الأفاعيل)(4) ، وقال أيضا: (صدوق ولكن مقته الناس، لكونه أميرا على الجيش الذي قتل الحسين)(5) .

أليس من العيب أن يكون هؤلاء من العدول الثقات، ويكون أهل البيت عليهم السلام وشيعتهم من المجروحين غير الأثبات، {كبرت كلمة تخرج من أفواههم إن يقولون إلا كذبا}[الكهف:5].

Page 5

تساؤل!

وفي هذه الحالة لا بد أن يكون أصحاب الجرح والتعديل بين أمرين لا ثالث لهما: إما إن يلتزموا بحب أمير المؤمنين عليه السلام كما أمر الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم، وما جرى على الشيعة جرى عليهم، وإما أن يبغضوه، فينطبق عليهم قول الرسول صلى الله عليه وآله وسلم: ((لا يحبك إلا مؤمن، ولا يبغضك إلا منافق))(1) والمنافق كاذب بشهادة رب العالمين، إذ يقول تعالى: {والله يشهد إن المنافقين لكاذبون}[المنافقون:1].

هذا الكتاب:

ولما أدرك سماحة السيد العلامة المجتهد الولي بدر الدين بن أمير الدين الحوثي حفظه الله تعالى هذه الصنائع المذمومة، والقواعد المشؤومة؛ قام بتأليف هذا الكتاب الذي بين يديك الكريمتين، متناولا فيه سيرة وأحاديث (محمد بن مسلم بن شهاب الزهري) الذي يعتبر أبرز رجالهم في صحاحهم، والمعتمد لديهم في مروياتهم، وقد أوجدوا حوله هالة من القداسة، وشحنوا كتبهم وأسانيدهم بمروياته، وتجنبوا الرواية عن معاصرية من أهل بيت النبوة ومعدن الرسالة، كالإمام جعفر الصادق، والإمام الحسن بن زيد عليهما السلام، بل تخطوا ذلك وتعدوه، فحاولوا توهينهما وتضعيفهما تبعا للأهواء، وإملاءات الأمراء.

Page 6

ويريد المؤلف حفظه الله تعالى من خلال هذا الكتاب أن يرشد أصحاب العقول إلى كيفية التعامل الصحيح مع قضية الجرح والتعديل، فالمشتغل به لا يكفيه أن يقول فيمن يريد جرحه: (رافضي جلد، شيعي جلد، كوفي، مبتدع، قدري) بل لا بد أن يبرهن على قوله، ويبين على دعواه، لأن هذه الألقاب أحدثتها الأهواء، ومصطلحات صنعتها السياسة، فإذا أراد الكلام في شخص ما، فلا بد أن يورد الحقائق والوثائق، الدالة على جرحه أو تعديله، وما هذه الرسالة التي بين يديك إلا أحد الأمثلة الصحيحة، التي ينبغي أن يسير عليها كل باحث منصف، إذ أنها تعتبر منهجا علميا دقيقا، ونموذجا حديثيا فريدا في مسألة الجرح والتعديل.

وقد اشتمل هذا الكتاب على فصلين، وخاتمة:

تناول في الفصل الأول روايات الزهري، وتقرير تهمته فيما يرويه.

وتناول في الفصل الثاني سيرة الزهري مع بني أمية، وموالاته لهم.

وتناول في الخاتمة إيراد بعض ما يتعلق بالفصلين، وجعله على شكل فوائد لا يمكن الإستغناء عنها.

والخلاصة: إن هذا الكتاب هام جدا، يحتاجه كل باحث منصف، غرضه الحق، جزى الله مؤلفه خير الجزاء، وحفظه من كل سوء ومكروه، إنه على كل شيء قدير وبالإجابة جدير, وإليك نبذة مختصرة عن المؤلف حفظه الله تعالى وأبقاه، وهو أشهر من نار على علم.

وصلى الله وسلم على سيدنا محمد الأمين، وعلى آله الطاهرين.

Page 7

المؤلف في سطور

نسبه:

السيد العلامة المجتهد الولي الورع الزاهد المجاهد الصابر المفسر: بدر الدين بن أمير الدين بن الحسين بن محمد بن الحسين بن أحمد بن زيد بن يحيى بن عبدالله بن أمير الدين بن عبدالله بن نهشل بن المطهر بن أحمد بن عبدالله بن محمد بن إبراهيم بن الإمام المتوكل على الله المطهر بن يحيى بن المرتضى بن المطهر بن القاسم بن المطهر بن محمد بن المطهر بن علي بن الإمام الناصر أحمد ابن الإمام الهادي إلى الحق يحيى بن الحسين سلام الله عليهم.

مولده ونشأته:

ولد 17 جماد الأولى سنة 1345ه بمدينة ضحيان، ونشأ في صعدة، في ظل أسرة علوية كريمة تحب العلم، وتشغف مكارم الأخلاق، ربته على الفضائل، وغذته بأحسن الشمائل، ومنذ نعومة أظفاره بكر إلى طلب العلم، فحصله بهمة عالية، وعزيمة سامية، ومن مشائخه حفظه الله تعالى والده السيد العلامة المحقق التقي أمير الدين الحوثي المتوفى سنة 1394ه، وعمه العلامة الكبير الولي الحسن بن الحسين الحوثي المتوفى سنة 1388ه، وجل قراءته عليهما، وأجازه عدد من العلماء ذكرهم في كتابه (أسانيد الزيدية) وفي مقدمة كتابه (شرح أمالي الإمام أحمد بن عيسى) عليه السلام وهو أشهر من أن يعرف أو يترجم له، حيث يعتبر إماما في العلم ، عكف على التدريس والتأليف ، وتتلمذ على يديه عشرات من العلماء وطلاب العلم ، وله اليد الطولى في الرد على المخالفين لعترة سيد المرسلين صلى الله عليه آله الطاهرين، وله العديد من المؤلفات المطبوعة والمخطوطة، يعمل حاليا في تفسير القرآن الكريم وقد أنجز ما يقارب نصفه، وله اجتهادات صائبة، وآراء ثاقبة، يسكن آل الصيفي بصعدة، وسكن خولان عامر، وصنعاء، ورحل إلى بعض البلدان العربية والإسلامية.

Page 7

ثناء العلماء عليه:

أثنى عليه علماء عصره، وعلى رأسهم السيد العلامة المجتهد الولي مجد الدين بن محمد بن منصور أيده الله وقال في ترجمته له: (هو السيد العلامة رضيع العلم والدراسة، وربيب العلم والهداية وهو من العلم والعمل بالمحل الأعلى، وله من الفكر الثاقب والنظر الصائب الحظ الأوفر والقدح المعلى)(1).

وقال عنه في قصيدة له :

نجم الكرام الفذ بدر الدين .... نجل أئمة للمهتدين نجوم

لا غرو إن حاز السيادة ناشئا .... فهو الكريم ومن نماه كريم

أهدى إلينا من فرائد فكره .... صافي عقودا زانها التنظيم

أهلا بنشر من شذاها طيب .... أرج يفوح عبيرها المختوم

فإليك يا بدر الهداية هذه .... عذرا فأنت بما تراه عليم

لا زلت في الألطاف يكلأك الذي .... أفضاله للعالمين عميم

يحيي رسوم العلم بعد دروسها .... يجني لك المنطوق والمفهوم

Page 8

وعليك ما ابتسم الصباح بضوئه .... من ربنا التكريم والتسليم(1) وقال السيد العلامة حسين حسن الحوثي رحمه الله تعالى: (السيد العالم الكامل منبع العلم، وخيرة الخيرة، وبقية البقية من أهل بيت النبوة الدافعين لكل بدعة وضلالة، الذي امتاز بالورع والزهد وكل فضيلة)(2).

وقد امتاز حفظه الله تعالى بالورع التام، والزهد والعبادة، والتواضع، وبذل نفسه ونفيسه في سبيل الله تعالى مجاهدا بماله ولسانه وقلمه، ومدافعا عن منهج أهل البيت الصحيح عليهم السلام على كل المستويات.

مؤلفاته:

وله حفظه الله تعالى مؤلفات كثيرة تدل على غزارة علمه وسعة اطلاعه، ودقة نظره، وعظيم إنصافه، ومنها:

تفسير القرآن الكريم طبع منه جزء تبارك وجزء عم.

تحرير الأفكار عن تقليد الأشرار ، طبع سنة 1414ه وهو في الرد على شبهات الوهابيين المتمسلفين، وضمنه مباحث هامة في الأصول والحديث.

الإيجاز في الرد على فتاوى الحجاز -ط .

شرح أمالي الإمام أحمد بن عيسى -خ .

طرق تفسير القرآن الكريم .

كشف الغمة في مسألة اختلاف الأمة -خ.

المجموعة الوافية في الفئة الباغية -خ .

الحسام القاضب الخافض لهامات النواصب -خ.

التحذير من الفرقة -ط .

أحاديث مختارة في فضائل أهل البيت عليهم السلام .

وله عشرات الرسائل والكتيبات منها:

إرشاد الطالب إلى أحسن المذاهب.

إيضاح المعالم في الرقي والتمائم.

بيان البرهان من القرآن على تخليد أولياء الشيطان في النيران.

التبيين في الضم والتأمين .

آل محمد ليسوا كل الأمة .

الجواب على الحكمي.

الزيدية في اليمن .

الفرق بين السب والقول الحق.

من هم الرافضة.

من هم الوهابية .

المطرفية.

النصيحة المفيدة وغيرها .

Page 9

وله أشعار كثيرة نقتطف منها ما أجاب به على رسالة حافظ الحكمي في تحريم التتن والقات حيث قال فيها:

وبعض ما قال في ذا الباب جعجعة .... بلا طحين وتضييع لأوقات

ولو تشاغل عن ذا الباب يبحث في .... باب العقائد عن اهدى الطريقات

لكان أولى حذارا أن يدين بما ... يردي ويهدي إلى نار وآفات

ومنها:

وقولكم: كم قباب شيدت ولها .... أوقاف تجري وكم من نصب رايات

ماذا على من بنى بيتا يريد به .... ظلا يرغب من جا للزيارات

وعين الوقف قصدا للصلاح وتر .... غيبا لذاكر جبار السموات

لم يقصد الشرك في ورد ولا صدر .... ولا أتوه وأنى منهم يأتي

وليس يرجى من الأجساد بالية .... خلق المنافع أو دفع المضرات

أنى وقد عجزت عن نشر أنفسها .... وعن اغاثة أطفال وطفلات

لا في ذمار ولا صنعاء يعرف ذا .... ولا بصعدة أن تقبل رواياتي

ما كان أشنع هذا القول تنسبه .... إلى الزيود وهم أهدى البريات

وغير ذلك من الأشعار المفيدة منها ما هو موجود في ديوان الحكمة والإيمان، على شكل مراسلات بينه وبين السيد العلامة الولي مجد الدين بن محمد المؤيدي حفظه الله تعالى.

ولا زال حفظه الله تعالى ومتعنا بحياته، مواصلا حيات العلمية تأليفا وتدريسا .

،،، وصلى الله وسلم على سيدنا محمد الأمين وعلى آله الطاهرين ،،،

وكتب

عبدالله بن حمود العزي

9/5/1422ه الموافق: 29/7/2001م

Page 10

[مقدمة المؤلف]

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم على عبده ورسوله سيدنا محمد الأمين وعلى آله الطاهرين.

وبعد، فإن من الواجب النصيحة لله ولكتابه ولرسوله ومن أهم النصيحة لله ولرسوله ولكتابه التحذير من علماء السوء المضلين، وترك التسامح في أمرهم، وإن أدى ذلك إلى سقوط رواياتهم التي ليس لها شاهد يشهد بصحتها؛ لأن الله سبحانه لا بد أنه سيحفظ دينه بغيرهم؛ لأنه غني عنهم لا يحتاج أن يتخذهم عونا لدينه وقد قال تعالى: {وما كنت متخذ المضلين عضدا}[الكهف:51].

هذا، وقد جرت عادة المحدثين بمعرفة الرواة بانتقاد حديثهم، فإذا وجدوا حديث الراوي معروفا موافقا للحق -في اعتقادهم- وثقوه وإذا وجدوا حديثه منكرا اتهموه وجرحوه.

وقد نظرت في حديث بعض القوم فأنكرت بعضه، واتهمت الراوي بوضع بعض الروايات لنصرة مذهب يتعصب له، أو حكومة يتقرب إليها.

Page 10

منهم: الزهري محمد بن مسلم، ويقال له: ابن شهاب.

ومنهم: ابن أبي مليكة، وعروة بن الزبير، وعكرمة مولى ابن عباس، وعكرمة بن عمار، وحماد بن سلمة.

ولما كان الزهري إمام أهل الأمهات الست -التي تسمى الصحاح- ومن كان على طريقتهم، وكان الجرح فيه أمرا عظيما عندهم، خصصت هذه الورقات لتحقيق ضعفه، واعتنيت فيها بتقرير ذلك في فصلين:

الأول: في الروايات التي نوردها وهي من رواية الزهري، وتهمته فيها ظاهرة عند من يحرر فكره، والغرض هو تقرير: أنه متهم فيما تجر إليه عصبية المذهب، أو هوى النفس، لا القطع بكفره أو فسقه.

فلا يعترض ما نورده بأنه لا يدل دلالة قاطعة، والتكفير والتفسيق يحتاج إلى ذلك؛ إذ ليس الغرض التكفير ولا التفسيق، إنما الغرض تقرير أنه متهم، ليتوقف الناظر في حديثه، ولا يتكل على روايته حتى يكون لها شاهد يشهد بصحتها، وأكثر الجرح والتعديل إنما هو بالقرائن والأمارات المفيدة للظن والرجحان؛ لأن الغرض البناء على ذلك في طرح الرواية أو العمل بها، لا الحكم بأن الراوي من أهل الجنة أو من أهل النار، ولا معاقبته في الدنيا أو إثابته.

Page 11

فليعتبر الناظر في هذه الورقات هذه المقدمة، ولا يجادل عن الزهري مجادلته عمن يحكم عليه بعقوبة عاجلة أو آجلة -هذا- ولعل بعض الناظرين المفكرين المحررين لأفكارهم يحكم على الزهري بالكفر أو الفسق ولسنا نبرؤه عن ذلك، ولكن ليس الغرض تقريره ولا نفيه.

والفصل الثاني: في الزهري مع بني أمية.

واستلزم ذلك إيراد خاتمة خارجة عن الموضوع، ولكن جر إليها الكلام في الفصل الأول، كما يعرف ذلك عند المطالعة لهذه الورقات.

والله المستعان وعليه التكلان.

Page 12

الفصل الأول في عدد من روايات الزهري التي يتهم فيها

وأحاديثه التي يعرف الناظر المنصف أنها دليل على أنه لا يوثق به

الحديث الأول

أخرج البخاري ومسلم في كتابيهما المسميان الصحيحين واللفظ لمسلم(1)، أخرج عن مالك عن الزهري أن مالك بن أوس حدثه، قال: أرسل إلي عمر بن الخطاب فجئته حين تعالى النهار، قال: فوجدته في بيته جالسا على سرير مفضيا إلى رماله، متكئا على وسادة من أدم فقال لي: يا مال، إنه قد دف أهل أبيات من قومك، وقد أمرت فيهم برضخ فخذه فاقسمه بينهم قال: قلت: لو أمرت بهذا غيري، قال: خذه يا مال، قال: فجاء يرفا، فقال: هل لك يا أمير المؤمنين في عثمان وعبد الرحمن بن عوف والزبير وسعد، فقال عمر: نعم، فأذن لهم، فدخلوا، ثم جاء فقال: هل لك في عباس وعلي، قال: نعم، فأذن لهما، فقال عباس: يا أمير المؤمنين، اقض بيني وبين هذا الكاذب الآثم الغادر الخائن.

فقال القوم: أجل يا أمير المؤمنين، فاقض بينهم (كذا) وأرحهم (كذا).

فقال عمر: اتئدا، أنشدكم بالله الذي بإذنه تقوم السماء والأرض، أتعلمون أن رسول الله قال: ((لا نورث، ما تركنا صدقة))؟

قالوا: نعم، ثم أقبل على العباس وعلي، فقال: أنشدكما بالله الذي بإذنه تقوم السماء والأرض، أتعلمان أن رسول الله قال: ((لا نورث، ما تركناه صدقة))؟.

Page 12

قالا: نعم، فقال عمر: إن الله جل وعز كان خص رسوله بخاصة لم يخصص بها أحدا غيره، قال: {ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى فلله وللرسول}[الحشر:7] [ما أدري هل قرأ الآية التي قبلها أم لا؟!] قال: فقسم رسول الله بينكم أموال بني النضير فوالله ما استأثر عليكم ولا أخذها دونكم، حتى بقي هذا المال فكان رسول الله يأخذ منه نفقة سنة، ثم يجعل ما بقي أسوة المال (كذا).

ثم قال: أنشدكم بالله الذي بإذنه تقوم السماء والأرض، أتعلمون ذلك؟

قالوا: نعم، ثم نشد عباسا وعليا بمثل ما نشد به القوم: أتعلمان ذلك؟ قالا: نعم.

قال: فلما توفي رسول الله قال أبو بكر: أنا ولي رسول الله، فجئتما تطلب ميراثك من ابن أخيك، ويطلب هذا ميراث امرأته من أبيها، فقال أبو بكر: قال رسول الله: ((ما نورث، ما تركنا صدقة))، فرأيتماه كاذبا آثما غادرا خائنا، والله يعلم إنه لصادق بار راشد تابع للحق.

ثم توفي أبو بكر وأنا ولي رسول الله وولي أبي بكر، فرأيتماني كاذبا آثما غادرا خائنا، والله يعلم إني لصادق بار راشد تابع للحق، فوليتها، ثم جئتني أنت وهذا وأنتما جميع وأمركما واحد، فقلتما: ادفعها إلينا، فقلت: إن شئتم دفعتها إليكما على أن عليكما عهد الله أن تعملا فيها بالذي كان يعمل رسول الله فأخذتماها بذلك.

قال: أكذلك؟ قالا: نعم.

قال: ثم جئتماني لأقضي بينكما، ولا والله لا أقضي بينكما بغير ذلك حتى تقوم الساعة، فإن عجزتما فرداها إلي. انتهى.

وأما البخاري فأخرجه في مواضع من صحيحه(1).

Page 13

وتفرد الزهري بهذا واضح، وقد روى تلميذه أيوب السختياني نحوه مختصرا من غير طريق الزهري، ولكنه متهم فيه بقصد رفع التهمة عن الزهري، كما أن أيوب متهم برواية: ((ما تركناه فهو صدقة)) تفرد بهذا اللفظ لتعصبه لمذهبه ليدفع الاحتمال، وأيوب متشدد في مذهبه.

نكارة هذه الرواية

هي نكارة مكشوفة عند من أنصف، وقد اعترف بعض المخالفين بها، ففي شرح النووي على مسلم(1): وقال القاضي عياض: قال المازري: هذا اللفظ الذي وقع -يعني السب المنسوب إلى العباس- لا يليق ظاهره بالعباس، وحاش لعلي أن يكون فيه بعض هذه الأصاف.

إلى أن قال: وإذا انسدت طرق تأويلها نسبنا الكذب إلى رواتها.

قلت: التأويل تعسف ومكابرة للعقول، وتكذيب الراوي أقرب من اللجوء إلى التعسفات التي يكذبها الضمير، ولو نطق بها اللسان؛ لأن الراوي غير معصوم عن الكذب، ولا قام دليل على وجوب إجرائه مجرى المعصوم.

فلماذا نكذب أفهامنا؟ ونقيد أفكارنا؟ ونلجم أفواهنا عن جرح الراوي بدون ملجئ؟ وهو يروي ما يشهد الذوق السليم والفكر المحرر: أنه منكر؟!

وإليك التفاصيل لبيان النكارة في هذه الرواية:

أما أولا: فإن مالك بن أوس في هذه الرواية أمره عمر بأخذ المال وقسمته بين قومه، وأفاده أنهم قد دفوا إليه، ليشعره بشدة حاجتهم، ومقتضى ذلك أن يبادر إلى أخذ المال وقسمته، ولا يتصور مع شدة هيبة عمر أن يتراخى مالك ليبقى متفرجا على علي والعباس ومستمعا لما يجري من كلامهما وكلام الحاضرين وكلام عمر حتى تنتهي القضية ليرويها للزهري بتمامها.

Page 14

وأما ثانيا: ففي الرواية حضور عثمان وعبدالرحمن والزبير وسعد، فلماذا لم يرو القصة أحد منهم، ولم تنقل عنهم، وهم أشهر من مالك بن أوس، والجمهور أحرص على النقل عنهم، وهي قضية -بزعمكم- تحقق حكما شرعيا في هذا المال المتنازع، وتشتمل على رواية الحديث من سبع طرق، وفي ذلك إظهار الحق وإعلان كلمة الصدق -بزعم المخالفين- وإظهار براءة الحكومة، وبراءة أبي بكر من الظلم، وذلك مما تتوفر إليه دواعي الجمهور في ذلك الوقت، وإلى يومنا هذا.

وأما ثالثا: فلماذا لم يروه مالك بن أوس، وقد كان مظنة إشاعته في الناس، لتبرئة الشيخين عن مخالفة كتاب الله والسنة المشهورة بين الأمة عن التوريث.

فكيف لم يروه بهذه الصفة إلا الزهري؟

وكيف لم يروه بطوله إلا الزهري؟

مع شدة توفر الدواعي إلى نقل مثله؟! ألا ترى أنه لما رواه الزهري رواه عنه عدد من الرواة، ثم روي عنهم من طرق كثيرة لتوفر دواعيهم إلى نقله؟!

فإن قيل: قد أخرج أحمد بن حنبل في المسند(1) عن أيوب، عن عكرمة بن خالد، عن مالك بن أوس بن الحدثان، قال: جاء العباس وعلي عليهما السلام إلى عمر رضي الله عنه فقال: اقض بيني وبين هذا الكذا كذا.

فقال الناس: افصل بينهما، افصل بينهما، فقال: لا أفصل بينهما، قد علما أن رسول الله قال: ((لا نورث ما تركناه صدقة)) انتهى.

ومثله في سنن النسائي(2):وليس فيه: ((الكذا كذا)) وهو عن أيوب، عن عكرمة بن خالد، عن مالك بن أوس بن الحدثان. انتهى.

وحاصل السؤال: كيف تتهمون الزهري بالرواية، وهذه متابعة عن أيوب عن عكرمة بن خالد؟

قلنا: هذه، إن صحت عن مالك بن أوس، تكون بذرة ألقاها إلى الزهري فصارت شجرة، والمراد بذرة القصة المذكورة.

فأما مجرد الحديث ((....لا نورث)) فأظن بذرته من أبي هريرة.

Page 15

ففي رواية الزهري زيادات هامة ليست في هذه الرواية، ولا يبعد أن مالك بن أوس أسر إلى الزهري بذرته، لثقته به أنه يتقبلها منه، وأسرها كذلك إلى عكرمة، ولم يجرؤ على روايتها لغيرهما ممن يخشى منه أن يزجره عن الكذب على العباس وعلى عمر، فلم يروها عنه غيرهما.

واعلم أن عكرمة بن خالد مظنة النصب، فهو متهم في هذه الرواية، ولا يبعد أنه ساعد الزهري أو ساعده الزهري، وزاد، فإن عكرمة هو عكرمة بن خالد بن العاص بن أبي جهل.

وكذلك الراوي عنه أيوب: بصري بالغ القوم في مدحه، عكس عادتهم في الشيعة، وروى ابن حجر في ترجمته في (تهذيب التهذيب) عن حماد بن زيد: كان أيوب عندي أفضل من جالسته وأشده اتباعا للسنة، ومن معنى هذا أنه كان عثمانيا.

وذكر في (تهذيب التهذيب) في ترجمة حماد بن زيد: إنه كان عثمانيا.

هذا، ولنفرض أن رواية أيوب عن عكرمة متابعة للزهري فيما اشتركا فيهن فإنه لا يصح أن تكون متابعة فيما اختصت به رواية الزهري، فالانتقاد الذي ذكرناه أولا وثانيا وثالثا كله مستقيم في رواية الزهري بخصوصها وطولها وعرضها.

ونزيد فيما يخصها فنقول:

رابعا: إن عمر لا يحتاج إلى مناشدة عثمان وعبد الرحمن بن عوف والزبير وسعد؛ لأنه لا يخشى منهم كتمان الحديث الذي سألهم عنه، إن كانوا علموه، وكان يكفي أن يقول: ألم تعلموا، أو نحو ذلك. وخصوصا إذا كان الحديث ظاهرا من عهد أبي بكر قد جرى مجرى العمل به والاحتجاج من عهد أبي بكر، كما يزعم القوم، فلا يتوقع كتمانه من عثمان ومن معه، فلا حاجة إلى مناشدتهم، وذلك من قرائن كذب الرواية.

خامسا: لو كان المذكورون يروون الحديث هذا لنقل عنهم على الأقل مجرد الحديث دون القصة بأن يكونوا قد رووه قبلها أو بعدها لحدوث سبب الرواية في عهد أبي بكر ثم في عهد عمر، فإن ذلك يستدعي ذكر الحديث.

Page 16