النثر:
ظهرت «أسواق الذهب» طبعة الهلال سنة 1932 - قبل موت شوقي فيما أعتقد - وأعيد طبعها سنة 1951، وأكثرها على أسلوب المقامات، بعضها قديم يرجع إلى أوائل هذا القرن، وبعضها جديد كتبه شوقي في المنفى.
وللأستاذ كامل الشناوي الحق أن يسأم أسلوب المقامات، ولكن وسط هذا الحصى المتراكم والصدف المبعثر نجد الدر اليتيم الذي يتألق بعبقرية أحمد شوقي!
الفنان الذي قال كلمته ولم يمش
كان المفكر الألماني نيتشه، يصرخ في الناس أن يقولوا كلمتهم ويتمزقوا دونها، وهناك مفكر عربي - لعله أمين الريحاني - همس في كل أذن بهذه النصيحة الوديعة: قل كلمتك وامش!
والفنان الصادق، هو الذي يستطيع أن يقول كلمته، ثم يتمزق، أو يقولها ويمشي في سلام!
وشوقي شاعر فنان، شق طريقه إلى الخلود؛ لأنه عرف كيف يقول كلمته، وهو لم يقلها ثم تمزق ولم يقلها ومشى، ولكن قالها وظل صامدا لها!
إن الظروف التي أحاطت بشوقي منذ فجر حياته، كانت كفيلة أن تطبق شفتيه في بعض المناسبات، وبرغم ذلك تحدى ظروفه وعبر عن خواطره وانفعالاته بقوة وطلاقة. لقد ربط مصيره بمصر، وطنه الذي ولد فيه، وآمن بمصر العربية، ومصر الإسلامية، ومصر القوية الفرعونية ذات الحضارة التي تتحدى الزمن، وتنحني لها هامة التاريخ.
ومصر التي عرفها، كانت تتنازعها سلطتان، إحداهما سلطة الاحتلال البريطاني والأخرى سلطة الخديو، وكان يعادي المحتلين؛ لأنهم يمثلون الغدر والعدوان، ويقف إلى جانب الخديو بوصفه الممثل الشرعي لخليفة آل عثمان، وكان شوقي يؤمن بالخلافة، ويراها رمزا للوحدة الإسلامية، واندفع في تأييدها برغم ما ارتكبه من خطايا في حق مصر، والعرب، والإسلام، وكان اتجاه شوقي متمشيا مع اتجاه الحزب الوطني وزعيمه مصطفى كامل، وتطورت نظرة الشعب المصري إلى التبعية العثمانية والاحتلال البريطاني، واختلف رجال الحزب الوطني مع الخديو عباس الثاني، بعدما تبينوا أنه لا يؤمن بالمبادئ الوطنية، ولكن يلعب بها ليستأثر باستغلال ثروات البلاد، ويستنزف دماء الفلاحين والكادحين، وقامت ثورة 1919، وتغير لقب الخديو فصار سلطانا، ثم ملكا، وطالب الشعب بجلاء القوات البريطانية، وكانت القوة الشعبية بطبيعتها تنفر من العرش، وكان العرش يفزع منها ويخشاها.
لم يعش شوقي فترة الثورة في مصر، فبعدما تم خلع الخديو عباس من منصبه، نظم شوقي قصيدة استقبل بها السلطان حسين، ورأت السلطات البريطانية في هذه القصيدة حضا على كراهيتها، وتمجيدا للخديو المخلوع، فقررت الحكومة البريطانية أن تنفي شوقي خارج البلاد، وظل بضع سنوات في إسبانيا، وفي أواخر عام 1920 عاد إلى مصر، فمجد الثورة وانفعل بها، وكان يتعقب الإنجليز في كل مناسبة بتجريحهم، وتأليب الرأي العام عليهم، وحرص على ألا يتوجه بقصائده إلى الملك فؤاد، الذي حل مكان السلطان حسين كامل، ولكنه لم يلبث أن أشاد به في بعض القصائد العامة، مثل قصيدة توت عنخ آمون، التي يشير فيها إلى سرقة جثة الملك الفرعوني، ويتهم الإنجليز بأنهم هم الذين سرقوا الجثة، ولا ينسى أن يبكي على الخليفة الذي خلعته بريطانيا من تركيا فيقول:
Unknown page