مقدمة‏

الزير سالم‏

الملك التبع حسان اليماني‏

استرداد الحبيبة ... الوطن‏

كليب الفلسطيني ملك العرب‏

مكائد الجليلة ضد الزير سالم‏

الزير سالم إله مهلهل ممزق‏

الزير سالم أهي ملحمة فلسطينية؟‏

البسوس وحربها المضرمة 40 عاما‏

مصرع ناقة البسوس سراب‏

اغتيال كليب ملك العرب‏

مأساة الجليلة بنت مرة‏

الزير سالم ملكا على عرش كليب بالشام وفلسطين‏

عبدة السلف‏

هروب جساس وقومه إلى الحبشة والسودان‏

الضباع تلقي بتابوت جثمان المهلهل في اليم‏

هذه الحضارة الكلبية الحميرية وطواطمها‏

الجرو بن كليب المسمى بالفارس الهجرس‏

اغتيال الزير سالم في صعيد مصر‏

القسمات الطوطمية لسيرة الزير سالم‏

صراع الماء والكلأ في هذه السيرة‏

مقدمة‏

الزير سالم‏

الملك التبع حسان اليماني‏

استرداد الحبيبة ... الوطن‏

كليب الفلسطيني ملك العرب‏

مكائد الجليلة ضد الزير سالم‏

الزير سالم إله مهلهل ممزق‏

الزير سالم أهي ملحمة فلسطينية؟‏

البسوس وحربها المضرمة 40 عاما‏

مصرع ناقة البسوس سراب‏

اغتيال كليب ملك العرب‏

مأساة الجليلة بنت مرة‏

الزير سالم ملكا على عرش كليب بالشام وفلسطين‏

عبدة السلف‏

هروب جساس وقومه إلى الحبشة والسودان‏

الضباع تلقي بتابوت جثمان المهلهل في اليم‏

هذه الحضارة الكلبية الحميرية وطواطمها‏

الجرو بن كليب المسمى بالفارس الهجرس‏

اغتيال الزير سالم في صعيد مصر‏

القسمات الطوطمية لسيرة الزير سالم‏

صراع الماء والكلأ في هذه السيرة‏

الزير سالم

الزير سالم

أبو ليلى المهلهل

تأليف

شوقي عبد الحكيم

مقدمة

اخترت واحدة من أهم وأخصب سيرنا وملاحمنا العربية «الزير سالم أبو ليلى المهلهل» كفاتحة طريق لإعادة دراسة موروثاتنا العربية هذه من السير والملاحم العربية.

فالزير سالم التي ما تزال تعيش - أشلاء ممزقة أو مهلهلة - على الشفاه على طول البلدان العربية متواترة بالحفظ والحكي، سواء كنصوص وأشعار ومأثورات شفهية فولكلورية، أم مدونة في الطبعات الشعبية المتعاقبة ربما منذ أول معرفة بالنساخ والمطبعة.

وقد تجيء معرفتنا بها عن طريق الأدب العربي الفصيح أو الكلاسيكي متناثرة مأثوراتها ومعلقاتها وأناشيدها ومراثيها وموثباتها - أي شعرها النضالي والطبقي التحريضي - تنسب لأبطالها «البسوس»، وحربها التي امتدت أربعين عاما، أو «كليب» ملك العرب المغتال ما بين دمشق وفلسطين، أو الجليلة وابنتها اليمامة، والضباع وجساس بن مرة، ثم بطلها ذاته الزير سالم أبو ليلى المهلهل صياد السباع البري، الذي صاحبت طفولته إنشاء مدينة بيرشبا

1

أو سبأ، التي تواترت إلى بئر سبع قبل تواجدها التاريخي، فأصبح إلهها المحلي حين اتخذها موطنا ومنفى، إلى أن جاءه خبر اغتيال أخيه الملك كليب إمبراطور العالم القديم على مشارف دمشق عاصمة ملكه المترامي، فقال قولته الشهيرة: «آه ما أقرب اليوم من غد»، ومراثيه الكبرى:

كليب لا خير في الدنيا وما فيها

إن أنت خليتها فيمن يخليها

ذلك المقاتل العربي الفلسطيني الشاعر، قال:

ليس مثلي يخبر الناس عن

آبائهم قتلوا وينسى القتالا

ونسوق هنا افتراضا إثنوجرافيا، نجري التيقن منه عبر صفحات هذا المدخل الدراسي لسيرة الزير سالم هذه، بأن الزير سالم هو بذاته ما أعطى المدينة المقدسة - القدس أو أورشاليم، ساليم، سالم - نفسه؛ أي: مدينة سالم أو ساليم.

في محاولة لإعادة الاعتبار لهذه السيرة الملحمية العربية الفلسطينية التي صيغت عبر العصور التي تصل إلى أربعين قرنا ما بين تاريخ الأدب العربي السلفي المغلوط، وبين السطو الإسرائيلي وتغيير المعالم التي لا تقف عند الأرض والوطن بقدر ما تستبيح التراث.

ولعله من المفيد لبحثنا هذا التخلص من كل محظورات وتابوات أو محرمات الأبحاث التاريخية التراثية والإنيزيمية الروحية المتصلة بمنتجات العقل الغيبي، وكذا القدري والدهري والوعيدي ومعطياته أو منزلاته السماوية وغيرها.

نحن هنا بإزاء البحث التراثي التاريخي الذي يجري تطبيقاته على نماذجه العينية الميدانية، والمستهدف إعادة التبصير بالتراث - وصنوه التاريخ - من منطلقات أثنوجرافية لعلم الثقافة.

مع الأخذ في الاعتبار أن تخلصنا هذا من براثن المناهج السحرية والخرافية أو المثالية التي ترى في الإنسان أنه حقق فوزه سلفا أو مقدما بشكل أبدي، ومن هنا تجيء معطياته الروحية ممثلة في أساطيره وملاحمه وشعائره وتمائمه المحجبة، والمجهزة على الدوام بسلطة المنع والتحريم، كمناطق محرمة أو تابو لا يجوز اجتياجها.

ويصل هذا المنع والتحريم إلى حد علاقات الانتساب أو سلسلة القرابة التي تضفي الهالات الروحية والمقدسة على عائلاتها الحاكمة والمتسلطة، وهم لا يعرفون بالمنسبين، والذين هم بذاتهم موضوع كل هذه السير والملاحم العربية بلا استثناء، بدءا من سيره وملاحمه العربية العراقية، جلجاميش - 5 آلاف عام - وأترياجيس، وسيرة ذي اليمنين، والتباعنة ملوك اليمن، وآخرهم التبع حسان اليماني، الذي اغتاله في الشام - مع مطلع سيرتنا هذه - كليب آخر الملوك اليمنيين سيف ابن ذي يزن الحميري، وعنترة، والسيرة الهلالية، والأخيرة ليست بأكثر من تراجم قحطانية يمنية وقيسية نجدية حجازية لأبطالها وشخصياتها من شخصيات أساسية وهامشية.

ولا مفر لأي باحث أدبي أو فولكلوري أنثروبولوجي متقدم الفكر والمنهج - حين تعرضه بالدراسة والبحث لهذا التراث - من الغوص في متاهات الأنساب والعائلات الضاربة الجذور على مدى يصل بنا حقا إلى ما قبل الألف الثانية قبل الميلاد؛ أي بتقدير معتدل ما يربو على الأربعين قرنا بالنسبة لمجتمعاتنا وكياناتنا العربية.

إننا بإزاء سير وملاحم القبائل والعائلات المستغلة الضاربة الجذور في المجتمع العبودي الإقطاعي بعلاقاته وتوجيديا قصوره، والتراجم الذاتية لأبطاله وخوارقهم التي تتوازى كل التوازي والتوافق مع منتجات مثل هذه المجتمعات الروحية في احتوائها وفي تمثلاتهم الاجتماعية السالفة والآنية ذات الأصول المتعالية، وينتهي الأمر بأحبولة سياسية تحفظ للبنى الاجتماعية الطبقية دوامها وحفظ سلطتها وتسلطها.

وعلى هذا فنحن بإزاء سيرة أنساب ملحمية قبائلية عربية موغلة القدم، وبالتالي ضاربة الجذور الطوطمية، يتبدى فيها الإمبراطور التبع والملك والأمير كتجسيد مباشر للطوطم والأجداد المقدسين أو الآلهة الطواطم من حمير لنوق - تنتسب إلى ناقة صالح - وكلاب وماعز وضباع ولبؤات وحمام ويمام، وهكذا كما سيتضح لنا عبر أحداث سيرتنا «الزير سالم».

وهي مرحلة معاصرة مع عصور ما قبل الأسرات في مصر الفرعونية 3600ق.م، بل إن اللقب الملكي «زير» الذي اتخذه بطل سيرتنا الزير سالم لم يعثر عليه إلا في عصر ما قبل الأسرات البداري، الذي تسمى به أول

2

الفراعنة زير وزيت، اللذين دفن معهما حريمهما وكافة الإداريين والموظفين بحيث بلغ العدد 68 شخصا في قبر «زير»، و123 في قبر «زيت»، فلعل زير كان لقبا لذلك البطل الفلسطيني الزير سالم الذي موطنه «بئر سبع»، كما هو بالنسبة لفراعنة ما قبل الأسرات في مصر، كما يلاحظ أن هناك معالم فلسطينية - إلى أيامنا - ما تزال تحمل اسم «زير» و«زيت»؛ حيث جامعة بيرزيت الفلسطينية الحالية بالأرض المحتلة، وحيث دولة «بنو الزيري» الفلسطينية في شبه جزيرة أيبريا أو الأندلس فيما بعد.

وهو افتراض متعجل أسوقه مع التحفظ، ويحتاج الأمر إلى بحث ما إذا كانت «مسميات» «زير» و«زيت» تنتسب إلى أماكن أم معالم أو أشخاص.

ذلك أنني أسوق هنا افتراضا تاليا حول تسمية الزير سالم - أو سلم - البطل الإلهي المحلي الذي نشأ واستقدم من وادي بئر سبع مدينة بئر سبع الحالية بفلسطين، وبين تسمية القدس أو «أور» سالم انتسابا إليه.

وعادة ما يتوارى التاريخ في ثنايا مثل هذه السير والملاحم الأسطورية العربية؛ ذلك أنه تاريخ أسطوري أو طوطمي، تخالط الخرافة فيه التاريخ العيني أو الإركيولوجي ...

بل والغريب أن مخالطة الأساطير للتاريخ - والعكس - كانت على الدوام إحدى سمات حضارات شرقنا الأدنى القديم أو الأوسط المعاصر؛ من ذلك تاريخ ما بين النهرين في كلدة وبابل وآشور، الذي تعرف عليه الباحثون من مدونات «ستيزياس»، وكان طبيب إغريقي يعمل في بلاط أحد ملوك بابل واسمه نيمون الثاني، وكذلك كاهن كلداني

3

اسمه بيروز

Berose ، دونه على هيئة سير أسطورية قد لا تبعد بنا كثيرا عن سيرتنا هذه؛ حيث يكثر الإفراط في نظم الأشعار الملحمية والمعلقات التي غالبا ما تدور حول الإغارات والحروب القبائلية، وهذا ما أفضى إلى ظهور ملاحم البطولة والمعلقات في العصور الجاهلية، ومن هنا دلفت هذه الملاحم وسير الأنساب العائلية والمعلقات إلى معظم المؤرخات التاريخية الأولى.

بل وعلى هذا النحو ذاته تعرف المؤرخون على تاريخ منطقتنا؛ من ذلك قائمة جمعها أيضا كاتب مجهول في سنة 2000 قبل الميلاد، بادئا تاريخه هذا بقصة الخليفة وأسماء الأسر الملكية، ثم الطوفان وأسماء الملوك الذين أسماهم

4

بملوك العرب، والذين حكموا العراق الأسفل (بابل فيما بعد).

وكما يذكر جوردون تشايلد؛ فقد اعتبرت الأشعار الهومرية ذاتها فصولا تاريخية برغم إغراقها في الخوارق وعوالم الآلهة، واتخذها الكتاب المتأخرون نموذجا لهم؛ «إذ اعتقدوا أن التاريخ رواية مترابطة تتم داخل إطار فني.»

بل وعلى هذا النحو أيضا نهج تاريخ «توكتيدس» أعظم مؤرخي الرومان للحروب البلوبونزية بين أثينا وإسبرطة عام 431ق.م.

وعلى هذا فالبحث في إطار سيرتنا الملحمية هذه - الزير سالم - حول كلا الملامح التاريخية والتراثية ليس بالأمر الجديد، كذلك لا جديد في استخلاص حقائق التاريخ من ثنايا هذا التاريخ الأسطوري الخرافي المهمل إلى حد الاندثار من جانب الباحثين العرب، إلى حد الاندثار.

بل الجديد الطريف هو أن تظل سيرة عالية الهامة - كالزير سالم - مهدرة تعاني الافتقاد والاندثار إلى أيامنا، مضافا إليه عدم الفهم والتقدير لدرة قد تصمد لأي سيرة أو ملحمة في كل ما جاء به العالم القديم، بدءا من السيرة الهرمونية - الإلياذة - ومرورا بالملحمة الهندية الآرية الماهابهاراتا، التي تسمى بها الهنود والفرس الآريون، والتي تتلاقى مع ملحمتنا هذه - الزير سالم - في أن كلا منهما تؤرخ لحروب وهجرات قبائلية موغلة في القدم.

كما أن ملحمتنا العربية هذه تتفوق كثيرا على الملحمة الإسكندنافية الفنلندية - كاليفالا - التي عندما احتفلت فنلندا عام 1935م على مرور قرون على أول جمع لنصوصها الشفهية الفولكلورية؛ اكتشف أن ما جمع منها وصل إلى 130 ألف نص مختلف لذات الملحمة الكاليفالا، ناهيك عن الآلاف المؤلفة من الدراسات والمعارك المنهجية التي شاركت فيها جيوش من العلماء والباحثين الذين تعاقبوا على دراستها على مدى القرنين الأخيرين.

ونفس الشيء بالنسبة للقصص الشعرية - البالاد - الروسية الموطن، المعروفة بالبلينات، بدءا من أقدمها «بلينا كييف»

Byline

وهي أشلاء سير وملاحم وحكايات الشعوب والكيانات السوفيتية اليوم، تلك التي كانت تنشدها المداحات الروسيات، ويتضح فيها مدى المؤثرات الشرقية - خاصة السامية العربية الإسلامية، والآرية الهندية الفارسية - بالإضافة - طبعا - للمؤثرات التركية والمغولية، شارك في جمع ودراسة هذه المدائح أو البيلينات أجيال من الباحثين الفولكلوريين؛ منهم: ستاسوف

Stasov

بسلاييف، ميللر، شفنر، بيسونوف، فسيلوفسكي، سوكولو، زدانوف، والعشرات غيرهم.

فيذكر رائد المدرسة التاريخية الروسية - ف. ميللر - في «الخطوط العامة للأدب الشعبي الروسي» أن البحث العلمي المعاصر في ملاحم البيلينا لم يرض بعد جميع متطلبات العلم؛ إذ تختفي أسس اتصال الملاحم نتيجة الحجاب الكثيف الذي صنعته القرون الطويلة؛ ذلك رغم ما أنجز بالنسبة لعشرات المناهج والتفسيرات؛ من تاريخية وميثولوجية وتاريخية جغرافية وشرقية وأوروبية سلافية تعود بأصول هذه البيلينات إلى ما قبل التاريخ، بالإضافة إلى ما أحرز من تقويمات وقواميس موسوعية حول هذه الملاحم - القاسم المشترك للشعوب والكيانات السوفيتية - اليوم.

فما بالنا ونحن بإزاء أرض قاحلة لسيرنا وملاحمنا العربية بعامة، وسيرتنا هذه - الزير سالم - بخاصة، وإن حدث ووجدت دراسات فهي أدبية مغلوطة إن لم تكن ملفقة، بعيدة كل البعد عن العلمية، والمدى الذي قطعته هذه العلوم الأثنوجرافية.

وإذا ما قصرنا بحثنا هذا على قضية بسيطة جانبية مثلا حول الأصول الفلسطينية الواضحة لهذه السيرة.

فحتى أيامنا لم يخبرنا باحث أو دارس أو مهتم عربي إلى أننا بإزاء سيرتين شبه مختلفتين للزير سالم أبو ليلى المهلهل؛ إحداهما متناثرات فصحى أو عربية كلاسيكية، والأخرى شعبية فولكلورية لطبعات متعددة متواترة - ربما منذ دخول المطبعة بلادنا مع جحافل الاستعمار الفرنسي - يجري تداولاها، ولا تعارض بينها - أي الطبعات الشعبية - وبين المأثورات الشفاهية الفولكلورية المبددة على طول الكيانات العربية مشوقا ومغريا.

بل إنه إلى أيامنا لم نتمكن بعد من حصر جسد هذه السيرة ونصوصها المتعددة من فصحى لعامية، وما داخلها من سير أسبق، وأخرى لاحقة أو تالية، وكذا كل ما يتصل بشخصياتها: التبع حسان اليماني الذي غزا سوريا ولبنان والأردن وفلسطين بألف سفينة حربية ومائة ألف مقاتل، إلى أن اغتاله بمؤامرة كليب بن ربيعة الذي اغتاله بدوره جساس بن مرة، فكانت حرب البسوس الشهيرة التي قادها البطل - الفلسطيني المنشأ بوادي بئر سبع الفلسطينية - الزير سالم أبو ليلى المهلهل، والذي ستشغل حروبه - المعروفة بحرب البسوس التي امتدت أربعين سنة - الجسد الأعظم لهذه السيرة الملحمية الأسطورية الطوطمية.

والغريب أن الزير سالم - كتجسيد للبطل الشعبي المقاتل الخارق - يتبدى على طول السيرة متحليا بكل فضائل وقيم البطل الشعبي الذي يرفض أن يطعن من الظهر أو يتآمر، أو يغتصب أو يتسلط، حتى ولو كان الأمر متصلا بتصرف أو موقف أخلاقي بإزاء حيوان، أسد جائع صادفه في بئر سبع، أو إنسان ذليل بعث به عدوه ومغتال أخيه كليب ليرقد في قبره، حتى إذا ما جاءه المهلهل ليستشير جثمان أخيه، يتصنع صوت أخيه الملك كليب ويطالبه بالاكتفاء ووقف القتال، وعندما يكتشف المهلهل خدعته، ويصارحه الرجل الواجف بالخدعة، وبحاجته لأكل العيش، يضحك ويعفو عنه، ويعطيه حصانا ومائة دينار مطمئنا.

ناهيك عن أشعاره ومعلقاته ومواجعه التي وجدت صداها على طول العصور لمستمعي السير والملاحم في الأسواق والموالد والمنتديات الشعبية، في عصور ما قبل المعرفة بالتليفزيون ومسلسلاته الملفقة إياها.

حين ينشد راوي السيرة - متوجعا - مربعاته:

ما تجيش بلا طب

لو وصل درهمي دينار

5

إياك تلوم المبالي يا خلي

دي نار

قوم شد على بكر شامي

في دجى الأسحار

اسعى وهاتلي دوا

يقطب عليه جرحي

دا أنا جرحي حير

جميع الطب والأسحار

والملفت أن المهلهل أو الزير سالم لم يتبد أبدا في موقف سلطوي أو متسلط باستثناء حروبه ومنازلاته وتجبره القبلي الانتقامي، وتعشقه الدموي بالحرب وأخذ الثأر، حتى إن الزير سالم قطع على نفسه أن «لا يهم بصلح، ولا يشرب خمرا ولا يلهو بلهو ولا يحل لأمته - أي ما يربط أو يلأم درعه الحديدي - ولا يغتسل بماء» حتى كان جليسه يتأذى منه من رائحة صدأ الحديد.

كل هذه المحرمات واللاءات إلى أن يحقق انتقامه من مغتالي أخيه كليب وقبيلته.

فكان لا ينسى القتال لومضه، حتى أنه عندما انكسر الكلبيون - أو التغلبيون - بقيادته ذات غزو، وأحاط بالمهلهل عقب عودته من الحرب النساء والأبناء يسألونه عن آبائهم، قال مترفعا قولته المأثورة:

ليس مثلي يخبر الناس عن

آبائهم قتلوا وينسى القتالا

وإذا ما تجاوزنا دوره القتالي القبلي، نجد مواقف الزير سالم وعلاقاته - عادة - أقرب إلى بسطاء الناس في كلا منبته ومنفاه الاختياري بوادي بير سبع بفلسطين، فحتى عندما توسع إليه أخوه الملك كليب حين زاره ببير سبع وطالبه بالعودة معه إلى دمشق عاصمة ملكه المتناهي «من مكة لأرض الروم» لينصبه ملكا على العرب؛ رفض الزير سالم الملك، وحتى بعد مصرع كليب ظل طويلا يبكيه وينعيه في واديه الانعزالي الموحش، يسكر عن أحزانه إلى أن هاجمه قومه وبنات كليب بريادة اليمامة، وانتزعوه انتزاعا من منفاه ببئر سبع، وعادوا به إلى عاصمة ملكه الجديد: دمشق.

بل وحتى عندما أجبروه على قبول الملك والجلوس على عرش الإمبراطور اليماني التبع حسان الذي ورثه أخوه كليب بالمؤامرة والمكيدة الطروادية، ظل الزير كما هو فلم يغيره ملك، بل هو ظل أقرب في كل حالاته إلى بسطاء الناس من مهانين ومضطهدين.

حقا ما أشبه هذا البطل الشعبي الفلسطيني المقاتل المهلهل بشعبه الذي نبت من صفوفه، في افتقاده لكلا أرضه وتراثه.

وتتضح ذروة مواقفه التي يخالط فيها الزهد الثوري قيم الفارس المقاتل رمحا وكلمة حين أسلم من فوره عرش الملك كليب إلى ابنه «الجرو» حالما التقى به في ساحة القتال وتعرفه سمحا راضيا منزويا عن ساحة القصور ومؤامرات المضاجع، ومضى من فوره فقيرا جوالا كأوديب عقب عقابه وعمائه، إلى أن اغتاله خادمه غريبا معوزا في صعيد مصر؛ حيث دفن هناك كأوزوريس، وجاء مدفنه بالعرابة المدفونة.

6

وتختلف النصوص حول موت المهلهل واندثاره على عادة الأبطال الآلهة أو المؤلهين؛ فالنصوص العامية ترى أنه اغتيل في صعيد مصر، والنصوص الكلاسيكية ترى بأن حدوث موته وقع بالبحرين، وأخرى باليمامة، ورابعة بفلسطين موطنه.

كما أنه لم يعرف له قبر ولا مدفن مهيب صيغت قبابه من الذهب الخالص والفضة كأخيه كليب ملك العرب.

ولعل الغموض والاختلاف حول موت المهلهل واختفائه أن يمتد ليشمل مجيئه ومولده، الذي لا نعرف عنه كثيرا في أي من منظومات هذه السيرة الملحمية ونصوصها المتعددة من شعبية لفصحى.

والمفترض هنا بالتالي أن نكون بإزاء أكثر من شخصية للمهلهل أو الزير سالم؛ إحداها عربية فصحى كلاسيكية تتبدى في تراث الأدب العربي مجهلة للزير باهتة، وفي معظم الأحيان بغضية إن لم تكن سالبة شريرة حتى أن العرب لقبوه ب «الداهية»، يمارس الحرب على أنها خدعة، وكثيرا ما يقع في أسر أعدائه، مثلما حدث له في حرب «الحرث»

7

الذي حاربه مرة انتقاما لابنه «البجير» الذي قتله المهلهل غيلة،

أسيرا، وسأله: «دلني على المهلهل.» - «ولي دمي؟» - «ولك دمك.» - «أنا المهلهل، خدعتك والحرب خدعة.»

ولما أطلقه الحرث، طالبه بأن يدله على فارس مهيب يقتله انتقاما لولده البجير، فكان أن دله على أعز أصدقائه المقربين؛ «امرئ القيس».

فجز الحرث ناصية

8

المهلهل وأطلقه، وقصد الحرث امرأ القيس فشد عليه وقتله.

على هذا النحو من الخسة يتبدى المهلهل في أدبنا العربي الرسمي كشخصية ميكيافيلية داهية، كثيرا ما يقع في الأسر والإهانة، وما الحرب سوى جزء من جلده الأقرع، بل تفسير النصوص والمأثورات العربية الفصحى الوسطوية تسمية المهلهل بأنه كان أول من «هلهل» الشعر العربي، وهو أبعد ما يكون عن شعره التراجيدي الرصين الذي حرصنا على إيراد معظم نماذجه من هذه الدراسة عنه وعن سيرته.

وهو بالطبع ما يتعارض بالكامل مع اختفاء النصوص الشعبية الفولكلورية بشخصية الزير سالم كبطل شعبي خارق مكتمل الفضائل، بل هو أبدع «أنموذج» للفارس المقاتل المتسق مع ما تهفو إليه وتتمثله بسطاء الناس من مهانين ومضطهدين وواجفين، كما سيطالعنا في سيرته هذه التي حرصت على الحفاظ في سردها على كل سمة وخصيصة موضوعية لذاتها، ترد في مختلف النصوص - الطبعات الشعبية والفصحى - ومأثوراتها وموتيفاتها، وبخاصة الشعر الملحمي والمواويل والمعلقات والمراثي أو البكائيات قدر الجهد.

مع التبصير باستخدامي لمنهج بنائي تطوري، يمكن أن يعفينا مزالق الوقوع في براثن اتجاه بدوره، من أسطوري لتاريخي، لتاريخي جغرافي، لأثنوجرافي للغوي لكوني أو طقسي.

9

ودون عزلة عما أسدته هذه الاتجاهات النظرية لحقول البحث الفولكلوري الأثنوجرافي، ودون عزلة أيضا عن جدلية الربط بين الماضي العربي الطوطمي الآفل ذاك، والذي يتبدى كل التبدي طافحا على الحاضر العربي الماثل، وعلى اعتبار أن «الماضي يفسر الحاضر الذي ما هو سوى صورة متطورة منه» كما يشير آرثر تيلور.

10

فلعل ما يعوزني رصده وتسجيله هو في المقام الأول توصلي المضني إلى التعارض الكبير بين النصوص الفولكلورية للزير سالم، ونظيرتها من مأثورات الأدب العرب على طول تاريخه المغلوط، بما يشير إلى أننا بإزاء اكتشاف أكثر من سيرة أو ملحمة للزير سالم أبو ليلى المهلهل؛ إحداها عربية أدبية كلاسيكية، والثانية شعبية فولكلورية.

ومما يعمق هذا الانقسام والتعارض بالنسبة لشخصية المهلهل أو الزير سالم خاصة والمتبدي واضحا في النصوص الأم

Version

العربي الفصيح والعامي الفولكلوري، هو أولا وقبل كل شيء يجيء من اختلاف موطن وجغرافية هذه السيرة الملحمية الزير سالم - أي مجرى الأحداث ومسرحها - حيث تجري في النصوص العربية الكلاسيكية في مكة وما حولها، وبشكل محدود متقوقع بدوي قبائلي هزيل.

بينما تتخذ النصوص الفولكلورية من بئر سبع بفلسطين موطنا ومنفى للزير سالم، يتسع ليشمل سهول سوريا ولبنان والأردن وفلسطين ومكة، أما مركز أحداث هذه السيرة وعاصمتها فهي دمشق؛ حيث تجري حروب قبائلية قارية لمئات الألوف من المتقاتلين، وحصار بحري قوامه ألف سفينة، يتقدمها تبع أو إمبراطور يمني غازي.

ومن هنا يمكن طرح التساؤلات على النحو التالي: هل نحن بإزاء سيرة واحدة، أم سيرتين إحداهما للمهلهل - نرجح أنها الفصحى - تجري أحداثها بين عرب الشمال الجاهليين، والثانية فولكلورية للبطل البئر سبعي الفلسطيني المنتقم لمصرع أخيه الملك كليب، تجري أحداثها ما بين الشام ولبنان وفلسطين؟ ولا بأس من أن تمتد الأحداث الرافدية الجانبية لتشمل مكة وما حولها.

وإذا ما عرفنا أن «المبكى» أو ضريح الملك المغتال كليب، يشير مباشرة إلى أنه سلف أو إشارة سلفية للقبائل «الكلبية»

11

التي عرفت منذ ما قبل الألف الثانية قبل الميلاد

12

بشعوب البحر أو الشعوب البحرية الذين تعرف عليهم الأنثروبولوجيون، حين وصلت هجراتهم وغزواتهم إلى إنجلترا وأيرلندا ومعظم دول الشمال الأوروبي منذ مطلع الألف الثانية قبل الميلاد 4 آلاف عام، وهم ما لقبهم اليونان - فيما بعد - بالفينيقيين أقدم شعوب العالم القديم البحرية اقتحاما للبحار والمحيطات، من سوريين ولبنانيين وفلسطينيين، والأخيرون كما يقول جريفز

13 - وهم الفلسطينيون - هم بذاتهم الذين أسروا القبائل الإسرائيلية في عبرون

14

وجودا أو اليهودية بالضفة الغربية، وكانوا يضمون داخل تحالفهم القبلي عشائر أدومية

15

من أردنيين وسوريين، المعروفين بالكلبيين.

وظل الإسرائيليون في أسرهم لمدة مائتي عام، وهو ما يعرفه التراث العربي بالأسر الفلسطيني الأول، إلى أن تحرر الإسرائيليون بعد أن اكتسبوا الجانب الأعظم من الدين والتراث الفلسطيني، ومنه بالقطع هذه السيرة الملحمية التي تشير بعض حلقاتها إلى فابيولات شمشون ودليلة، والكثير من الفابيولات والمأثورات العبرية المغتصبة مثلها مثل الوطن، الأموية الكلبية.

16

ويلاحظ أن هذه القبائل العربية المتحالفة - منذ 4 آلاف عام - تحت اسم أو شعار طوطمي «كالب»

Caleb ، ظلوا يحتفظون بتسميتهم هذه الكلبية حتى أواخر الدولة الأموية التي كانت تسمى بالدولة الأموية الكلبية.

أخيرا ... فلعلنا بإزاء ملحمة فلسطينية موغلة في القدم، بطلها الزير سالم أو سلم، الذي يشير إلى تسمية القدس أو أورشاليم سالم أو مدينة سالم، كما أنه نبت وتربى في وادي بئر سبع - أو بئر سبع - قبل تواجدها التاريخي الفلسطيني الحالية، واتخذها - كما ستخبرنا السيرة - موطنا ومنفى.

ولعلها دراسة يجيء توقيتها من مواجهة الادعاءات الصهيونية الملفقة حول التهويد، وتغيير المعالم الفلسطينية العربية داخل الأرض المحتلة، تضفيها وتضيفها هذه السيرة الفلسطينية شديدة القدم والعراقة، والتي لم تسلم أيضا من عبث وتلفيق النساخ اليهود من القرون الوسطى بها، كما سنتناوله بتفصيل من هذه المحاولة الدراسية.

الزير سالم

بادئ ذي بدء يتحسر المرء كثيرا على أننا نصل متأخرين اليوم في إعادة الالتفات العلمي العقلي لتراثنا العربي المهدر؛ من تقليدي مدون، وشعبي فولكلوري شفهي في مجمله، يعاني اليوم والآن سكرات الاحتضار المحقق.

وأخصه هنا مخلفات العصور المتعاقبة على بلداننا العربية، والتي خلفت أحداثها وبصماتها على إبداعاته التي يخالط التاريخ فيها الأساطير، وهي محصلة السير والملاحم، المترامية الأشلاء والمقاطع والأحداث ما بين وطن عربي وآخر.

من ذلك السيرة الهلالية التي لن يتحقق لها التكامل من جمع وبحث إلا على المستوى القومي؛ أي بدءا من جميع مواطن الجزيرة العربية والشام مرورا بمصر وانتهاء بالمشرق العربي في ليبيا وتونس والمغرب والجزائر حتى الأندلس ومداخل أوروبا الجنوبية بعامة.

ونفس الشيء يسري وينطبق على سيرتنا هذه - الزير سالم أبو ليلى المهلهل - والتي تشمل رقعة أحداثها المركزية فلسطين والأردن وسوريا ولبنان، بالإضافة إلى الجزيرة العربية بكامل أوطانها وكياناتها، بدءا من عدن وحضرموت والبحرين، وانتهاء بمكة والطائف.

بالإضافة إلى أن هذه السيرة أو الملحمة - الزير سالم - والتي حفظت بالتدوين ربما للمرة الأولى بإحدى طبعات الصنادقية الشعبية بالقاهرة في القرن الماضي بعد أن اندثر وتلاشى الجسد الشفهي الإنشادي الموسيقي الأعظم منها، هذه السيرة تؤرخ لهجرات وحروب ومنازعات قبائلية عربية حقيقية، مركزها الجوهري هنا هو أرض فلسطين وشعبها العربي منذ عصور موغلة في القدم، فالزير سالم ذلك البطل العربي الفاتح قد يكون هو منشئ مدينته التي أعطاها اسمه أورشاليم أو ساليم - سالم - كما ذكرنا.

برغم أنه كان قد اتخذ من دمشق عاصمة لدولته، بل إمبراطوريته العربية المتوحدة، أو تلك التي كان يجاهد في توحيدها بحد السيف والحرب منذ حوالي 4 آلاف عام كما سيتضح.

فساحة أحداث هذه السيرة الكبرى إذن تبدأ من اليمن بمجيء التبع حسان اليماني أو الملك حسان ويكنى بالتبع اليماني، وتصفه الملحمة بأنه كان أول اليمنيين القحطانيين، وهم ملوك دول حمير وسبأ وذي ريدان وكهلان وقتبان وحضرموت ومعين، والدولة الأخيرة امتد سلطانها حتى شواطئ البحر المتوسط والخليج الفارسي وبحر العرب، بالإضافة إلى الجزيرة العربية بكاملها.

وترجع أولى ممالك وحضارات العرب الجنوبيين القحطانيين اليمنيين إلى منتصف القرن الرابع والعشرين قبل الميلاد، وبالتحديد 2350ق.م.

وفي سلسلة

1

النسب السامي يتبدى قحطان أخا لعابر «ولعابر ولد ابنان»،

2

اسم الواحد فالح؛ لأن في أيامه قسمت الأرض، واسم أخيه يقطان.

ويقطان هو قحطان أبو القحطانيين، ومنه جاء العرب القحطانيون الجنوبيون سكان اليمن، كما أنه أبو العرب العاربة،

3

وابنه يعرب بن قحطان «أول من تكلم العربية»، ومن نسله جاء ملوك سبأ، وكان أولهم الملك عبد شمس بن سبأ الذي سمي سبأ لأنه كان يسبي أعداءه، وبحسب ما يشير به نسابة العرب، فإن من نسل سبأ انحدر ملوك حمير وكهلان.

فمن حمير ملوك بني قضاعة وبني كلب بن وبرة وهم الكلبيون أو التغلبيون سكان الثغور الفلسطينيون، والذين ينتمي إليهم بطلا سيرتنا: كليب وأخوه المنتقم لاغتياله الزير سالم.

أما من كهلان انحدرت سبعة بطون، تضخموا إلى قبائل وحضارات كبيرة فيما بعد، وهم: طيء ومذحج وهمدان وكندة ومراد وأنمار والأزد، ومن الأزد انحدر الغساسنة ملوك الشام عقب خراب سد مأرب، وكذلك انحدرت منهم قبيلتا: الأوس والخزرج ملوك يثرب، ومنهم أيضا انحدرت قبائل خزاعة سدنة أو كهنة الكعبة فيما قبل الإسلام.

فقبل أن نستطرد في التعرف بهذه السيرة العربية التي تؤرخ لحروب وهجرات قبائلية قادها التبع حسان اليماني، من المفيد التعرض بالتعريف للصراع الأزلي القبلي بين كلا عرب الجنوب القحطانيين اليمنيين ومنازعيهم العدنانيين القيسيين، ومنزلهم الشام والحجاز ونجد والعراق، وهم - بدورهم - ينقسمون إلى فرعين عظيمين؛ هما: بنو ربيعة، وفارسهم هنا هو بطل سيرتنا هذه الزير سالم «أبو ليلى المهلهل بن ربيعة»، ويعرفون أيضا بالتغلبيين أو بني تغلب، أما الفرع الثاني فهم بني مرة أو بني بكر، وكلاهما يمتد نسبه إلى وائل، فهم إذن أبناء عم، أو أن الملك ربيعة كان أخا للأمير مرة كما يذكر رواي السيرة، وتحفظ لنا السيرة بدورها.

قال الراوي: «وكان ربيعة في ذلك الزمان من كبار أمراء العربان، وكان أخوه مرة من الأمراء والأعيان، وكانا يحكمان على قبيلتين من العرب؛ وهما: بكر وتغلب، وولد لربيعة خمسة أولاد مثل الأقمار، وهم: كليب الأسد الكرار، وسالم البطل الشهير الملقب بالزير، وعدي ودرعان وغيرهم من الشجعان.»

كما كان لربيعة «بنت جميلة الطباع تعارك الأسود والسباع، اسمها أسمى وتلقب بضباع.»

وأما أخوه الأمير مرة فله - بدوره - عدة أبناء شجعان منهم: همام وسلطان وجساس وبنت نبيلة يقال لها: «الجليلة»، وكعادة الزواج القبائل المتبادل بين أبناء العمومة، تزوج الأمير كليب الجليلة، وتزوج الأمير همام بأخته الضباع.

وإذا ما انتهينا من البنية القرابية القبائلية - التي ستطالعنا كثيرا من سيرة الأنساب هذه - نعود إلى الملك التبع المغير حسان اليماني.

الملك التبع حسان اليماني

ولن يقدر لنا ويحق تفهم أبعاد هذه السيرة الملحمة دون إلمامة لتراث الشق الثاني المهاجر الفاتح للشام وفلسطين، وهم العرب القحطانيون اليمنيون بقيادة ملكهم المتجبر «حسان اليماني»، وفي إطار هذا التاريخ الأسطوري أو الذي يزاوج التاريخ فيه الأساطير والخرافات، والذي يلقي عدم تحققه اليقيني الحفري كثيرا من غموض الظلال على أحداثه وسيره وتراثه الضارب في القدم والعراقة لملوكه الذين جابوا العالم القديم، وخلفوا آثارهم وهجراتهم القارية في الهند وفارس والصين والتبت، والذين كان يحلو للواحد منهم القول: «قد دعتني نفسي أن أنطح الصين»، وهكذا يمضي مفتتحا الصين ومجاهل إفريقيا، ومنهم هذا الملك التبع الذي أفنى قبائل وحضارات بأكملها، والذي يظل يتمثل فيه أقصى تمثل لأنموذج شخصية «المستبد العادل» أو الطاغية المنصف على المستوى الاجتماعي السياسي لليوتوبيا العربية والإسلامية بخاصة، المتواترة على طول التاريخ السياسي والاجتماعي ربما إلى أيامنا.

ويلاحظ جيدا أنه - أي هذا التبع حسان اليماني - يجيئنا في نفس هذه الملحمة الزير سالم مهاجرا من ملحمة أو سيرة سابقة قائمة بذاتها تحمل اسمه «التبع حسان اليماني»، أشار إليها الكثيرون من الكتاب الكلاسيكيين العرب، وصادفتني موتيفاتها ومأثوراتها خلال سنوات جمعي الشفهي لهذا التراث، بل إن الكثير من موتيفاتها ومأثوراتها ومواقفها أو أشعارها الإنشادية ومواويلها، الذي ينسب الكثير منه لحسان اليماني - أو تبع حسان اليماني - ما يزال يواصل تواتره في ثنايا الشعر والفابيولات الفولكلورية، خاصة تلك المأثورات التي تدور حول أبيه «تبع أسعد» أو أخته «البسوس» أو ابنته تدمر أو ملكة تدمر التي أصبحت - بدورها - مدنا وحضارات، ونسب له

1

الهمداني الكثير من النصوص والقبوريات.

كما تنسب له الملحمة أنه كان شديد البأس مهيب القامة، لا يعرف الحلال من الحرام، لا يحفظ العهد والزمام، وكان يحب النساء الملاح والمزاح، وفي كل ليلة يتزوج بصبية من أبناء الملوك، ويشرب المدام في الليل والنهار.

وذات يوم سأل وزيره «نبهان»: هل يوجد من هو أعظم مني في الأرض؟ فأجابه الوزير: «يوجد خارج البحار عرب من أهل الشجاعة، يقال لهم: بنو قيس، وهم من أولاد مضر.»

وكان أن صرخ مقررا الحرب وتملك ديارهم في الشام وفلسطين منشدا:

يقول التبع اليمني المسمى

بحسان فما للقول زورا

ملكت الأرض غصبا واقتدارا

وصرت على ملوك الأرض سورا

وطاعتني الممالك والقبائل

وفرسان المعامع والنمورا

وقد أخبرت عن بطل عنيد

شديد البأس جبارا جسورا

وقالوا: إنه يدعى ربيعة

أمير قد حوى مدنا ودورا

تولى الأرض في طول وعرض

فكم أخرب وكم شيد قصورا

فقصدي اليوم أغزوه بجيشي

وأترك أرضه قفرا وبورا

أسير بهم إلى تلك الأراضي

وأملك للقلاع والقصورا

ويغنم عسكري منهم مكاسب

وأعطيهم بنات كالبدورا

ويبقى الحكم لي برا وبحرا

ويصفى خاطري بعد الكدورا

وأمر التبع بدق الطبل النحاس «الرجوح» وهو من أعظم الطبول، وكان يدقه عشرة من العبيد الفحول، وهو من صنعة ملوك التباعنة العظام.

واجتمع تحت إمرته - كأجاممنون وهو في طريقه إلى حرب طروادة - عشرة ملوك أو «قياقل» بجيوشهم الجرارة، ونصب الملك حسان - ملك اليمن وما يتبعها - إلى الملك «الصحصاح بن حسان» مكانه، وقصد هو بجيوشه - البرية والبحرية هذه - إلى «بلاد الحبش والسودان»، وما إن وصلوها حتى أرسل وزيرا بألف فارس ليعلم واليه وابن أخته الملك الرعيني بقدومه ويطالبه بإمداد الجيش؛ حيث إنه في طريقه إلى الشام، آمرا ملوكه العشرة أن «ينقسموا إلى قسمين: ميمنة وميسرة، متملكين ما يقابلهم من مدن بحد السيف المهند، حتى ملكوا أكثر البلاد وأطاعتهم العباد.»

إلى أن تملك بلاد الشام، فأحاط بها من جميع الجوانب بالمواكب والكتائب.

وواضح أن تملك دمشق - الذي كان واليها من قبل الملك ربيعة سيد عرب الشمال العدنانيين القيسيين ويدعى زيد بن علام - قد تم برا، بمعنى أن الغزوة لسوريا عامة - كانت بحرية - ألف سفينة، إلا أن اقتحام عاصمة القيسيين - دمشق - جاء برا.

2

وأقول هذا ردا على الدكتور لويس عوض الذي خلال تعرضه بالدراسة لهذه الملحمة أو السيرة العربية العريقة التي خلفتها الحضارات العربية اليمنية في عدن وسبأ وحضرموت.

والذي افترض أنها سيرة أو ملحمة مترجمة مستندا إلى مغالطة الحصار البحري لدمشق قائلا: «وبالتالي فحديث الملحمة عن «ألف مركب» يجهزها الوزير نبهان - أو نهبان - لغزو الشام ضرب في المحال، ولا تفسير لها إلا أن يكون النص مقتبسا محرفا بما يناسب ضرورات التعريب، وهذا ما يضع الملك حسان في وضع أجا ممنون غازي طروادة.»

وهو - كما يتضح - رأي متسرع انفعالي، يستدعي التوقف للتعرف على مجاهل كلا التراث الأسطوري التاريخي للحضارة البحرية اليمنية خاصة في عدن وحضرموت، والذين اقتحموا البحار والمحيطات منذ أقدم العصور مطلع الألف الثانية ق.م، حتى أطلق عليهم بحق «فينيقيو البحر الجنوبي».

صحيح أنه تاريخ أسطوري قائم على أشلاء سير وملاحم مندثرة مثله مثل هذه السيرة «المهلهل أو الزير سالم» والتي وصلتنا كحلقة من رحم سيرة أم هي - بدورها - مندثرة لهذا الملك التبع حسان وأبيه التبع أسعد، كما سيجيء ذكر تباعنة اليمن في هذه السيرة التاريخية الأسطورية التي تبدأ أحداثها بفتوحات بحرية لمعظم غرب آسيا أو الشرق الأدنى القديم، عاصمته دمشق. •••

المهم أنه لم يهدأ للتبع الغازي حسان اليماني بال إلا عندما استولت جيوشه البحرية الجرارة على الشام والحجاز وفلسطين، واستقدم الملك عرب الشمال القيسيين العدنانيين «ربيعة المعظم» والد كليب والزير سالم الذي كان قد رفض المثول بين يديه، وأمر حراسه بإلقاء القبض عليه «ومن معه من بني قيس الطناجير وقيدوهم في الجنازير»، وشنقه وصلبه على بوابات دمشق.

وابتدأ بتقسيم الإمبراطورية إلى عدة فرق، ولى عليها من استسلم له من أمراء القيسيين، وأولهم الأمير «مرة» والد جساس مغتال كليب الذي جعله على الفرقة الأولى «يسكن مع قومه في نواحي بيروت وبعلبك والبقاع.» وجعل الأمير عبس واليه على فلسطين وبلاد السرو وعباد وهي مملكة النبطيين أو العرب الأنباط الأردنيين.

ويلاحظ أن الأردن بالفعل يكثر بها أشجار السرو إلى أيامنا، كما يلاحظ أن الأنباط العرب ما تزال تتواتر حولهم عديد من المأثورات والأمثلة الفولكلورية حول النبط أو النبطة، والقول بأن فلان نبطي أو مثل النبطة، بمعنى أنه إنسان صلب قوي لا يقهر ولا يلين أو ينكسر، كما أن من خصائصهم المأثورية الفولكلورية: الحنكة والشطارة.

كما أقام التبع الغازي حسان واليه الأمير المسمى عدنان على الفرقة الثالثة «وأن يقيم في العراق بتلك المنازل والآفاق.»

وهكذا استتب للتبع اليماني المقام بعد أن شتت بني قيس وقادتهم في البراري والتلال، ودام له الحال ثلاثين سنة «تهاديه الملوك الأكاسرة وتهابه الملوك القياصرة.»

فبنى قصرا مرتفع البنيان وجعل أبوابه من الفضة والذهب، بناه له بناء فرعون مصر الشهير الذي تحتفظ الملحمة باسمه «الريان»، الذي تجمع معظم المصادر العربية الكلاسيكية على الاحتفاظ باسمه هذا، وهو فرعون إبراهيم في مصر، بما يشير إلى افتراض أن هذه الأحداث وقعت متعاصرة على وجه التقريب مع مطلع الألف الثانية ق.م؛ أي منذ حوالي 38 قرنا كما سيتضح.

وتكتمل مأساة هذا التبع المتجبر الذي يربط البعض بينه وبين ملك الملوك «أجا ممنون»؛ نتيجة لمصرعه واغتياله على يد عروسته المغتصبة الجليلة بنت مرة - ليلة عرسه الدامي - وعشيقها أو خطيبها أو زوجها الأمير كليب، وما نتج عن هذا الاغتيال الدامي من اندلاع ألسنة لهب حرب البسوس الشهيرة التي ستطالعنا، والتي امتدت تحت تأثير النزعات القبلية والثأرية لمدة أربعين عاما، كما تذكر نصوص هذه السيرة من فولكلورية وتقليدية.

والتي هي - بالتحديد هذه الحروب - الموضوع الجوهري لسيرة الزير سالم، وإحدى حلقات هذه السيرة المهمشة التي اندثر جزؤها الأسبق عن حياة وحروب ذلك التبع اليمني القحطاني حسان اليماني؛ حروبه ومآثره وشعره عالي الهامة، وتجبره كطاغية قبائلي، وزير نساء يتزوج كل ليلة بعذراء كشهريار.

فما إن سمع الملك حسان أن للأمير مرة - واليه على بيروت والبقاع - بنتا فاضلة جميلة تدعى جليلة، مخطوبة لابن عمها كليب بن ربيعة الذي سبق له - أي الملك حسان - قتل والده الملك ربيعة حتى رغب في الزواج منها.

وهنا أسقط في يد الحبيب أو الخطيب القيسي «كليب»، إلى أن نصحه أحد الكهان «العابد نعمان» أن يلجأ إلى الحيلة والاغتيال فيتظاهر بالرضا متخفيا في زي مهرج أو بهلول الأميرة جليلة، حتى ينفذ إلى القصر برفقة مائة فارس مختبئين داخل صناديق جهازها وكنوزها، فجعل بكل صندوق طابقين، طابق يحتوي كنوز الجليلة أو الزوجة المخطوفة أو المغتصبة، وطابق اختفى فيه فارس شجاع بكامل سلاحه وعدته.

3

ونفذ كليب بن مرة كل هذا باتفاق الجليلة وقبيلتها وأبيها بالطبع، بما يعني استعدادهم المتآمر لاغتيال وقتال التبع - على المستوى القومي - في كل من سوريا ولبنان والأردن وفلسطين.

وهكذا أعطى الكاهن نعمان - أو عمران - سيفا خشبيا لكليب، وتقلد هو بسيفه الفعلي تحت ملابسه، وأرخى له سوالف طوالا من أذناب الكبش والبغال، وركب قطعة قصب، وحمل دبوسا من خشب، ولبس فروا من جلود الثعالب والذئاب، ومضى يقود زمام قافلة الجليلة أمام فرسان القبيلة، وعندما تساءل وزير الملك حسان - المسمى نبهان - عنه أجابوه بأنه مهرج الجليلة بنت مرة، واسمه «قشمر بن غرة».

وهكذا تنكر الأمير «كليب» الذي يشير اسمه - وكذا موطنه - إلى أنه كان كلبيا، أي منتميا - طوطميا - إلى قبائل كالب.

وكالب كانت خليطا قبائليا ساميا تسكن فلسطين والبوادي الأدومية منذ مطلع الألف الثانية قبل الميلاد كما ذكرنا، ومنهم ملوك أدمة أو أدماء ما بين الأردن وبادية الشام، ومن أسمائها: كالب وكليب وبنو كلب وبنو كلاب، وكلاب بن وبرة بن صعصعة ... إلخ، وجريا على عادة الملاحم والسير العربية في احتفاظها بموروثات العقل القدري الغيبي، لجأ التبع حسان وحاشيته إلى الرمل وضاربيه لمعرفة أمر صناديق الجليلة المئة قبيل دخولها باحة قصر الملك، وأشار أول رمال إلى الخديعة، أما ثاني ضاربة ودع أو رمل - وكان اسمها «حجلان» - فقد تمكن القيسيون من رشوها «بثلاث بدلات حرير»، فقررت مساعدتهم على اغتيال التبع الطاغية، فدخلت على الملك والرمل بين يديها واصفة محاسن الجليلة وفتنتها:

تقول العجوز التي شاهدت

مليحة تريح العنا والصدود

يا مير تبع يهنيك فيها السعد

واقبل الخير لك والسعود

أتوك بنو قيس أهل السماح

وجابوا لك الخيل ثم النقود

وجابوا الجليلة لشخصك حليلة

بخدين حمر وعينين سود

وقامة طويلة كعود القنا

فوق الكتاف ترخي الجعود

بشعر طويل وشعر كحيل

بلا جر ميل تصيد السود

حواجب كما قوس ترمي الهموم

وذات خزام الذهب على النهود

وذات شفاف رقاق نظاف

عقايل طرايف تزيل النكود

ولها وجه كبدر بليلة قدر

ووجنات حمر كما الورود

وجسم رقيق وريق رحيق

وسنان لولو سبت الورود

لها عنق كعنق الغزال

وطوق الذهب يوقد وقود

كتاف كالعاج مثل الزجاج

والنقش مواج فوق الزنود

وكفين أطرى من الياسمين

من قد حواها ينال السعود

وصدر كاللوح خلقه الإله

وقد زين الصدر زوج النهود

قد زينوا بنو قيس لك عروسا

تجلي لأجلك كل هم وقود

للملك حقا قد أحضروا

مليحة خلالها يزيل النقود

فأرسل وراءها وخلي المحال

واسمع كلامي وأجلي الصدود

وادخل على بنت مرة وكن

لطيفا بقطف ثمار النهود»

4

وما إن ألهبت الساحرة العجوز قلب الملك حتى استقبل الجليلة، منبهرا من حسن جمالها وفصاحتها حين حادثته عن كيف أن اتصالها به شرف لقبيلتها، فأمر الملك بدخولهم وأجلسها إلى جواره على عرش التباعنة وألبسها تاجه وقرب قومها وامتلأت الكئوس، وهنا ألحت الجليلة في إدخالها بهلولها أو مهرجها قشمر بن غرة قائلة: «لي نديم اسمه قشمر، لا يوجد مثله بين البشر، حلو الصفات سريع الحركات، يضحك الأحجار بفعاله، ويزيل الهموم بغرائب أعماله»، فأذن التبع بدخول كليب في زي المهرج تحت جلد الكبش والبغال، أقرب في هيئته - وهو البدوي الوبري الفلسطيني الأدومي - إلى العيص أبو العرب الأدوميين والأردنيين حين خدعه شقيقه وتوءمه يعقوب،

5

حين تنكر متخذا هيئة عيسو أو العيص وكان يعرف بالرجل الأحمر أو المشعر، أي كثيف الشعر كالخواتيم، عن أبيهما إسحق - عقب عماه - ليأخذ منه البركة والميراث بدلا من أخيه الأكبر العربي، وبمساعدة أمهما «رفقة» وبهدف خداع أبيه، وحرمان «العيص» - كما تسميه العرب - من حقه في الميراث.

فتنكر كليب باستخدام جلود الحيوان خاصة الكبش، وبذا يحق له عبر هذه الشعيرة أن يصبح خليفة شرعيا للتبع المغتال وهو ما حدث بالفعل كما ستبصرنا الملحمة.

ويبدو أنها عادة سامية راسخة؛ عادة - أو شعائر - التمثل أو التنكر بجلود الحيوانات، خاصة طبعا إذا ما كانت طواطم؛ ذلك أنها ستطالعنا كثيرا عبر أحداث هذه السيرة الملحمية، وهي منتشرة بكثرة بين قبائل إفريقيا الشرقية، وكما يذكر فريزر أنها «لعبت دورا مهما في الحياة الاجتماعية والدينية عند قبيلة «أكيكويو» التي تسكن إفريقيا الشرقية، والتي ترجع - فيما يبدو - إلى أصل عربي، إن لم تكن ترجع إلى أصل سامي.

فالمعتقد هنا بالنسبة لشعيرة التنكر تحت جلد الحيوان هو اكتساب صفاته وقواه الخارقة.

فالشخص بارتدائه جلد الحيوان يطابق بين شخصه والحيوان الضحية، والذي يكون بمثابة الحاجز بينه وبين إيذاء القوى الشريرة بتخليصه من هذه القوى الغريبة التي تتملكه عبر شعائر التحول، والتمثل بالمولود الجديد من الجدي أو النعجة أو الكبش والذئاب في حالة كليب المتنكر باكتساب خصائصها من وداعة وافتراس.

أما عن جزئية اصطناعه للمهرج أو البهلول المخبول غريب الأطوار، فهي جزئية أو عبارة جوهرية لا تخلو منها ملحمة أو سيرة عربية، خاصة تحولات أبو زيد الهلالي عبر أحداث الريادة والسير وكذا الجازية وبقية الأمراء: مرعي ويحيى ويونس، وأيضا سيد البطال

6

من السير الفلسطينية ذات الهمة.

وعلى هذا النحو واصل كليب تحولاته أمام التبع ليلة عرسه، مظهرا فزعه أول الأمر من تلك السلسلة النحاسية - الطلسم - الذي كان قد حذره منها كاهنه العابد نعمان كما في مأثورات سحر الاتصال والمشاركة وتابواته، فكأن هذه السلسلة هي بمثابة حاجز كهربي سيصعقه فور دخوله مخدع الملك التبع، فتظاهر بالفزع الطفولي منها، وأخذ يتكلم بكلام مجهول يقول: ما هذه الحيلة التي أراها وأنا خايف من شرها.

وحين أمر الملك برفع السلسلة اندفع كليب مازحا راقصا بسيفه الخشبي، فكان تارة يبحلق عينيه، ويرفص الأرض بيديه ورجليه، وتارة يقول: أين الفرسان الفحول؟ وأين ابن عطبول؟ وأحيانا يرقص ويضحك بلا سبب، وهو راكب الفرس القصب ويسوقها بذلك الدبوس الخشب، فاندهش تبع من أعماله، واستغرب أحواله وأقواله.

وحين ابتهج الملك التبع من الخلبوص، عاجله قشمر قائلا: إن كنت تريد الطرب الآن، فمر سيدتي الجليلة تغنيك؛ فإن صوتها مليح ولفظها فصيح.

وما إن طالبها التبع أن تغني حتى طلبت - بدورها - إغلاق الأبواب حتى لا يسمع صوتها حياء وتدللا.

وحين تطوع قشمر بهذه المهمة في إغلاق باب المخدع، غنت الجليلة أغنيتها المطلسمة الملغزة:

ما قالات الجليلة بنت مرة

شربت الخمر ما بين الإمارة

شربنا الخمر في كاسات جوهر

فزال العقل وصبحنا سكارى

بحضرة تبع الملك المسمى

بحسان إذا ما شن غارة

وقد أمسيت في قبضة يديه

ومن حبي شعل قلبي بناره

ألا يا حارس البستان صنه

7

وإن فرطت في الطير طاره.

ويلاحظ في أغنية الجليلة مدى الحسن النسائي، الذي هو سمة من سمات الأصالية الفولكلورية، كما يلاحظ بقايا اللغة السحرية والقدرة العقلية خاصة في شطرته الأخيرة: «وإن فرطت في الطير طاره» وكأنها تستفز كليبا من جانب أن يحذر فرارها وطيرها من يده، ثم العلاقة الاشتقاقية بين الطير والثأر أو التارة والتار، على اعتبار أن التبع قتل أباه «ربيعة المعظم»، ومن هنا فهي تختتم أغنيتها ب «طاره» أو ثأره، بما يعني أنها نقطة أو لفظة اتفاق بينهما عبر هذه الخطة - للعرس الدامي - بالغة الدقة.

وحين طرب تبع زاد به الوجد والغرام قائلا: «مثلك من تكون من النساء؟ فقد زاد سرورنا هذا المساء.»

وواصل كليب لعبه ومزاحه بسيفه الخشبي إلى أن داعبه تبع: عيب عليك يا قشمر أن ترقص بهذا السيف أمام الملك الأكبر. - أعطني إذن حسامك وأنا ألعب به أمامك.

وهنا توسلت الجليلة: بحياتي عليك.

وحين وافق الملك، اندفع كليب إلى داخل المدخل، حيث أودعت صناديق جوهر الجليلة المئة ففتحها مسرعا متقلدا درع التبع حسان وسيفه، ويبدو أن التناسق بين الجليلة وكليب كان في أشده؛ ذلك أن الجليلة لا بد وأن تكون قد أوصلت التبع إلى أقصى حالات شبقه وتوقده الجنسي المتوتر إلى حد الرغبة في إبعاد المهرج قشمر بما أتاح له فرصة خروج فرسانه من الطابق الثاني لصناديقهم وتقلده هو لخوذته ودروع التبع، ومفاجأته حين دخل على الملك، وقد احمرت عيناه متذكرا أباه الملك ربيعة فصال وجال، ثم تقدم من تبع وهجم عليه، فعرفه التبع وأيقن بالهلاك، والوقوع في شرك

8

العقال، وأمهله قليلا منشدا مرثيته الكبرى هذه:

يقول التبع الملك اليماني

لهيب النار تشعل في فؤادي

أمير كليب يا فارس ربيعة

ويا حامي النسا يوم الطراد

أريد اليوم أن أعلمك شيئا

لتعرف حال أخبار العباد

فموسى كان في الدنيا نبيا

له التوراة أعطت للرشاد

وداود النبي قد جاء بعده

يبشر بالزبور أهل الفساد

وعيسى بن مريم جاء أيضا

بإنجيل الخلاص لكي ينادي

وعندي قد تبين بالملاحم

بأنك قاتلي دون العبادي

وبعده شاعرة تنزل عليكم

وعبدي يذبحك بين الجماد

وأنت برمح جساس ستطعن

وتفتن بين قيس في البلاد

وتكتب في دماك على البلاطة

لمن بعد لتشتيت الأعادي

ويأتي الزير أبو ليلى المهلهل

فيصلي الحرب في كل البلاد

ويقهر كل جبار عنيد

يضرب السيف في يوم الجلاد

وتأخذ الجليلة لك قرينة

وتحظى بالمسرة والمراد

ويظهر لك غلام بعد موتك

يسمى «الجرو» قهار الأعادي

يقتل إلى جساس خاله

وأما الزير تقتله الأعادي

وسيف ذي يزن بعدك يظهر

وتصحبه السعادة في العباد

ويبقى ملكه سبعين عاما

وبعد ذلك يطوى في الوهاد

ويظهر له ولد يدعوه دمر

شديد البأس مرفوع العماد

فيملك في بلاد الشام بعده

يجيب الماء من أقصى البلاد

وبعده يظهر المدعو بعنتر

يهين الضد في يوم الطراد

وبعده يظهر الهادي محمد

يقيم الدين ما بين العباد

وأصحابه معه عشرة كوامل

كرام الناس سادات البلاد

أبو بكر وسعد مع سعيد

وطلحة والزبير ابن الجياد

وعثمان مع عمر وعلي

وعامر مع حسين أهل الرشاد

يموت الهاشمي ويصير خلف

على الحكام بعده بالعباد

أبو بكر يموت بلسع حية

وبعده عمر يقتل بالطراد

علي بالسيف يرديه ابن ملجم

يتيما انتشى بين الولاد

وبعده بنو أمية سوف تحكم

سنين كثيرة ما بين العباد

ويتضح من مرثية التبع الإمبراطور المغتال انفتاحها التنبؤي، الذي ترك الباب مفتوحا بدوره لإضافاة الرواة والمنشدين المجهتدين عبر العصور، وبما يعرف بالإضافات الاستطرادية أو التراكم الملحمي.

فالتنبؤ هنا خصيصة أو شعيرة مصاحبة لأبطال هذه السير والملاحم من ملوك وتباعنة وشيوخ قبائل وقياقل كهنة، أو هم من العادة يجمعون بين كلتا السلطتين؛ الدنيوية السلطوية، الكهنوتية، التي تملك قدرات التنبؤ السياسي، كما يتضح من مرثية تبع حسان، التي يتضح فيها ظهور حكام على مدى عشرات القرون، فهكذا جاء ذكرهم في الملاحم كما يذكر التبع «وعندي قد تبين بالملاحم»، كما لا تنسى المرثية ذكر الملك الجرو ابن كليب - قاتل خاله جساس - وسيف بن ذي يزن وعنترة وأبا بكر الذي «يموت بلسعة حية»، واسم قاتل علي ابن أبي طالب «ابن ملجم».

فمثل هذا التنبؤ المتعارف عليه بالتراكم الملحمي - أي ما يلحق عادة بالسير والملاحم - يضيفه الرواة والنساخ عبر العصور التي فيها تواصل السير والملاحم تواترها.

والملفت هنا أنها خصيصة عربية من تراثنا السيري والملحمي تلازم الأبطال ساعة موتهم أو اغتيالهم أو انقضاء أجلهم؛ ذلك أن الأمير كليب - بدوره - سينشد مرثيته أمام مغتاله من الخلف؛ جساس بن مرة، وكذا جساس في مواجهة الابن المنتقم لأبيه «الجرو بن كليب».

استرداد الحبيبة ... الوطن

وما إن انتهى التبع من مرثيته الدامية هذه الملفقة الدخيلة بالضرورة تبعا لما يعرف بالتراكم السيري والملحمي؛ أي في إضافات الرواة عبر العصور التي يوصلها الراوي هنا - على لسان التبع المتنبئ بإزاء مواجهته لموته ومصرعه - إلى العثمانيين.

وما إن انتهى الملك حسان من مرثيته حتى هجم كليب عليه قائلا: «لا بد من قتلك كما قتلت أبي، وأكون قد أخذت ثأري.» وقطع رأسه شاهرا.

وباغتيال الملك حسان، ليلة عرسه داخل مخدعه، تكون قد انقضت الحلقة التمهيدية لملحمتنا، والتي هي في موقع ملحمة أو سيرة مستقلة، نلحقها هنا في نهايتها مجسدة في مصرع الملك التبع المتجبر مختطف الزوجة أو الخطيبة - والحما أو الوطن - حسان اليماني.

بما يوحده من جانب بجو أو مناخ شبيه بالإلياذة الهومرية واغتصاب باريس الطروادي هيلانة الإغريقية زوجة منيلاوس، كذلك يتوحد بأجا ممنون عقب عودته منتصرا من حرب طروادة، لتتلقاه زوجته كليتمنستر

Clytemnesttra

وعشيقها إيجست

Aegistus

بغزوة أخرى داخل مخدعه، ويصرعانه داخل حمامه عبر احتفالات العرس الدامي بعودة ملك الملوك الفاتح المنتصر.

كما أن الأمر لا يبعد بنا كثيرا عن محصلة الأساطير الفلسطينية والعبرية للإله الشمسي شمشون

Samson

الذي خدعته دليلة الفلسطينية داخل مخدعها ليلة عرسه بمساعدة شيوخ قبيلتها، وعرفت سره وصرعته.

والاشتقاق اللغوي بين اسم دليلة وجليلة أو الجليلة قد يسهم في الإيضاح، بالإضافة طبعا للتوحد المكاني؛ حيث إن كلتيهما عربية فلسطينية.

بل إن الملك التبع حسان يمكن توحده مع فرعون إبراهيم مختطف سارة زوجته «وابنة عمه وأخته في الرضاعة»،

1

حين دخل الخليل إبراهيم مصر ووشي بحسن سارة امرأته إلى فرعون، فسأل إبراهيم عنها فقال: هي أختي من أبي لا من أمي، ولم يكذب في قوله، فاختارها فرعون لنفسه مختليا حتى تحقق أنها زوجته، فاستبشع كبيرة الكبائر هذه - اختطاف الزوجة - التي أدانها العالم القديم وردها إليه مع هدايا كثيرة؛ من جملتها: هاجر المصرية جارية «سارة» التي من رحمها جاء إسماعيل، وابنه قيدرا أبو العرب.

ويبدو أن رذيلة خطف الزوجة واغتصابها - كالأرض والوطن - كانت كبيرة الكبائر فيما أدانها العالم القديم، فكانت السبب الرئيسي لحرب طروادة التي استمرت عشر سنوات متصلة، حين أقدم باريس الطروادي على اختطاف هلينا زوجة البطل الإغريقي منيلاوس كما ذكرنا منذ سطور.

كذلك يلاحظ أنه في حالة ملحمتنا حين اختطف الملك التبع حسان اليماني، أو هو اغتصب الجليلة بنت مرة، من خطيبها القيسي الأمير كليب، تمهيدا لاندلاع حرب البسوس التي هي موضوع هذه الملحمة، والتي امتدت أربعين عاما كما تذكر هذه الملحمة التي يرجح أنها فلسطينية عربية، من حيث إن ساحات أحداثها ومعاركها الحربية الكبرى تدور في «بير السباع» أو «بير سبع»؛ أي بيت شيبا أو بيت سبأ

Bethseba (2 صموئيل 12 / 24)، بالإضافة إلى يافا وحيفا والكثير من المدن والمعالم الفلسطينية، مثل: «النهى» والذنيب أو «الذنائب»، كما يذكر الزير سالم في شعره:

ولقد شفيت النفس من سرواتهم

بالسيف في يوم الذنيب الأغبس

كما أن من هذه المعالم والأماكن الفلسطينية ما يعرف برملات «خزازي» و«الرغام» و«ماء فضة» و«التحالق» ووادي الشعاب، بالإضافة إلى أحداثها المركزية المصاحبة لبطلها الزير سالم أو ساليم أو سلم، وعلاقته بالمدينة المقدسة من جانب.

ومن جانب مكمل لجغرافية مركز أحداثها المركزية المصاحبة لبطلها المحوري الزير سالم أو المهلهل، ما بين دمشق الشام إلى بير سبع فلسطين وحيفا، بل والقدس ذاتها، حين حارب الزير سالم معتليا أسوارها دفاعا عنها.

بل تحتفظ هذه الملحمة - السيرة - للزير سالم بأنه هو الذي أنشأ أو عمر مدينة بئر سبع أو بير سبع، حين اتخذها موطنه ومنفاه عبر صراعاته مع زوجة أخيه الجليلة بنت مرة كما سيرد. •••

فابنتهاء هذه الحلقة الافتتاحية المهاجرة الدخيلة على ملحمتنا هذه عن الزير سالم - أبو ليلى المهلهل - سيد ربيعة.

وأقصد بهذه الحلقة الدخيلة «التبع حسان اليماني» وفتوحاته للشام وفلسطين وغرب آسيا بعامة.

ولحين مصرعه على يد الأمير الفلسطيني كليب وخطيبته الجليلة بنت مرة، تبدأ أولى أحداث ملحمة أو سيرة «الزير سالم» على أرض فلسطين العربية بالنسبة لكل متنوعات هذا النص الشعبية، أو التي جاءت بها الطبعات الشعبية التي تحفظ لمجرى أحداث هذه السيرة الزير سالم موطنا جغرافيا - مكملا لمنبتها التاريخي الافترضي - هو ما بين سهول الشام دمشق وفلسطين.

بينما يختفي هذا الموطن الجغرافي في مأثورات ومعلقات الأدب العربي الكلاسيكي، ليحل محله موطن آخر هو شمال الجزيرة العربية فيما حول مكة والحجاز، بل وامتدادا إلى جنوب الجزيرة في اليمنين والجنوب العربي بعامة.

وفي معظم الحالات يرجح بالطبع ما تشير به النصوص الفولكلورية عن نظيرتها الفصحى أو الرسمية.

ويجدر بنا إعادة الاستشهاد بمعالم سيرتنا الملحمية هذه عن طريق الالتزام السردي بنصوصها قدر الإمكان، بما يشرك قارئ هذه السطور معنا في الترجيح الأخير بموطن وزمن وخصائص هذه السيرة العربية الكبرى.

كليب الفلسطيني ملك العرب

وتبدأ سيرتنا - الزير سالم - عقب مصرع الملك التبع الطاغية الغازي حسان اليماني للشام وفلسطين، فما إن جز الأمير كليب رأسه، وانضم إليه فرسانه المائة خارجين من الصناديق مندفعين في ساحات قصر التبع المغتال إلى ساحات دمشق وباحاتها، مشرعا كليب رأس التبع حتى أعلن نفسه ملكا مكانه.

فاجتمعت بنو مرة وأكابر العشائر وأعيان الشام وقواد العساكر وألبسوه تاجا مرصعا بالجواهر، وأجلسوه على كرسي المملكة، وحكم كليب معاملا الناس بالجود والكرم، منصفا المظلوم ممن ظلم.

وفي الليلة التالية اجتمع شيوخ القبيلة، وزفوا عليه ابنة عمه الجليلة.

ومرة ثانية يجيء اسم فرعون مصر المسمى بالريان، وبنائه الشهير «معمر» حين طلبت منه الجليلة أن ينشئ لها قصرا من أجمل القصور وبستانا

1

يحوي من كل الزهور.

فاستقدم الملك كليب البناء المصري الشهير، وشاد قصر الجليلة الذي استغرق بناؤه عشرة شهور لا غير ، وكان بديعا، خاصة بستانه الذي تطرح أشجاره في غير أوانها، كمثل جنة غاصت بالنوافير والمياه الغزيرة، فأنعم كليب على بانيه، وفرشه بالأثاث الفاخر، وجعل شبابيكه وأبوابه من الذهب والجوهر، ثم نقل ابنة عمه الجليلة بنت مرة إليه، وقد ولدت له سبع بنات أميرات، أشهرهن: «اليمامة» التي تسمى بها الملك كليب «أبو اليمامة»،

2

والتي ستلعب دور كاهنة قمرية - أم - لها الكلمة العليا في كلا الحرب والسلم والهجرة على طول هذا النص، ككساندرا بالنسبة للقبائل الطروادية، وأثينا في حالة الإغريق الهلينيين، وسارة مع القبائل العبرية، والجازية

3

مع العرب الهلالية المشرقية الغازية، المهاجرة للمغرب، وهو تقليد ظل مصاحبا - بالتحديد - للهجرات الغازية من المشرق العربي لمغربه، بدءا من الممالك القرطجانية 1250ق.م التي أنشأتها هذه القبائل البحرية الفينيقية الكلبية الفلسطينية بخاصة، وحتى ممالك ودويلات الأندلس التي وصلت إلى 23 دولة عربية في الأندلس، منها بنو عباد في إشبيلية، وبنو زيري في غرناطة، بما يذكرنا أولا ببطل سيرتنا الزير سالم؛ فالزير - أو الزيري - لقب ملكي قبائلي، وبنو الأفطس في بطليوس، وبنو صمادح في مديية، وبنو جهور في قرطبة، وبنو ذي النون في طليطلة، وبنو عامر وهي أيضا قبائل فلسطينية ينتسب إليها الزير سالم عقب إحدى رحلاته العبورية، فكان أول من نزل ميناء حيفا بفلسطين إلى حلفائه أو عشائره أو أقاربه «قبائل بني عامر» بالقرب من حيفا.

كذلك ملوك قبائل دان الفلسطينية التي لجأ إليها شمشون كما يذكر سفر قضاة، وممالكهم المتعددة بالأندلس، وعرفوا بملوك دانية أو الدانيين، وكانت آلهتهم القمرية الأم: الآلهة

Dannans Danae . •••

وهكذا لم ترزق الجليلة من كليب بولد سوى بسبع بنات، أشهرهن الإلهة القمرية اليمامة، لكنها لم ترزق بابن يرث ملك كليب المترامي.

وذات يوم زاره عمه وحموه أبو الجليلة - الأمير مرة - وطلب منه الرحيل بقومه ورجاله وماشيته ونوقه وجماله، ونزل في وادي مخصب لم تذكر الملحمة اسمه، برغم ما أخبرتنا به سلفا من أن مرة وابنه الأمير جساس كان قد ولاهما التبع حسان اليماني «نواحي بيروت وبعلبك والبقاع»؛ أي لبنان وتخومها، أي العراق وما بين النهرين، فالمرجح هنا أن مرة عاد فارتحل إلى غور الأردن وفلسطين، وأنه أقام ابنه الأمير جساس بدلا منه حاكما على بني بكر، فامتد سلطانه وكانت تقصده الشعراء والفرسان.

أما أخوه الأصغر - صاحب هذه السيرة - المهلهل - الذي لقب بالزير - فكان ابن عشرة أعوام، وكان شجاعا فصيحا منعكفا على شرب المدام وسماع الأصوات والأنغام، ينشد الأشعار البديعة، ويأتي بالمعاني النفسية الرفيعة. •••

ولا تغفل الملحمة هنا ذكر معركة حربية كبيرة، شنها اليمنيون الحميريون التباعنة

4

انتقاما لمقتل واغتيال تبعهم الملك حسان، الذي يعرف فعلا بآخر التباعنة، فما إن وصل مقتله إلى اليمن «بصنعاء وعدن» حتى هاجت الرجال وكثر القيل والقال.

فصمم ابن عمه «عمران القصير» على غزو بني قيس بمائة ألف مقاتل ركب فيهم وجد الطريق إلى بلاد الشام.

واستعد كليب للحرب والقتال، وخرج للقائه والتقى الجيشان واشتعلت لهيب الحرب حتى عظمت الأهوال، وظل كليب يفتك بأقيالهم إلى أن صرع قائد اليمنية «عمران القصير»، فعاد راجعا إلى الشام ودخلها كالبازي حورس أو - كما تشير الملحمة - «كالصقر بالعز والنصر»،

5

واجتمع إلى ابنة عمه الجليلة وسادات القبيلة.

ويلاحظ هنا تحيز هذه السيرة العائلية في الالتجاء إلى العرب القيسيين الشماليين في مواجهة عرب الجنوب - الجزيرة - اليمنيين منذ مصرع تبعهم المغتال، التبع حسان اليماني، وفي الحروب التي أعقبت موته بمائة ألف جندي، وألف سفينة مدججة لاستعادة ممالكه المترامية في سوريا ولبنان والعراق والأردن، وشمال الجزيرة السعودية اليوم وفلسطين، بالإضافة إلى الحبشة والسودان، مضافا بقية إمبراطوريته التي شملت آسيا الصغرى إيران وتركيا وكذا أواسط آسيا، كما سبق أن أخبرتنا سيرته، التي كما قلنا: إننا لم نلحقها هنا سوى في المقتل.

أي إن كل ما تبقى من سيرة التبع حسان اليماني المندثرة - الذي يقال بأنه آخر التباعنة ملوك اليمن الغابرة - هو ما يتصل بسيرتنا هذه - الزير سالم - فهو مجرد فتوحاته الأخيرة في غرب آسيا التي مركزها دمشق، والتي اكتملت بمصرعه ليلة عرسه، على يد زوجته الجليلة أو جليلة الفلسطينية وابن عمها الأمير كليب، باستخدام خدعة الجند داخل الصناديق، بما يذكرنا بحصان طروادة، وخديعة ملكها بريام وبيته، سوى من فارق أساسي بين كلتا الخدعتين الحربيتين؛ إذ بينما لجأ التحالف القبلي الهليني الأثيني إلى إحداث غزو خارجي لأعدائهم الطرواديين الأناضوليين.

جاء غزو التحالف الكالبي «السوري الفلسطيني» أقرب إلى الطرد والتحرر من اغتصاب الملك التبع اليمني لكلتا الزوجة المغتصبة والأرض أو الوطن، فاغتيال الملك التبع حسان اليماني كان بمثابة التحرر ونقل السلطة إلى التحالف القيسي الكلبي الفينيقي لشعوب الثغور منذ مطلع الألف الثانية ق.م.

6

بما يشير إلى أننا بإزاء ملحمتين أو سيرتين التقتا وتزواجتا بشكل متعسف أولاهما: «ملحمة حسان اليماني» الحميرية القحطانية، وثانيتهما «الزير سالم» أو المهلهل سيد بني ربيعة، ملوك شمال الجزيرة والشام وفلسطين في ذلك الوقت، اندثرت أولاهما - «حسان اليماني» - ولم يتبق منها سوى آخر حلقاتها: مصرع تبع حسان في دمشق على يد أبطال سيرتنا هذه.

ويمكن تأكيد هذا الرأي، إذ ما عرفنا أنها خصيصة سامية عربية تتضح أكثر في السيرة الهلالية، وفي صراعي قحطان وعدنان داخل التحالف، على طول أحداث السيرة وهجراتها وحروبها على طول الشام والمغرب العربي ومداخل أوربا الجنوبية.

ومن هنا فنحن بإزاء سير نثرية بأكثر ما نحن بإزاء ملاحم، من حيث الاهتمام الأقصى للسيرة بالأنساب والبناءات والصراعات القبائلية العائلية، وكذا التحالفات العشائرية السياسية والاجتماعية الطبقية دون إغفال للشعر الملحمي المأثوري من أصيل وخسيس أو دخيل بحسب اجتهادات الرواة، والتكامل الجسدي المتوالي - الذي يعرف بالتراكم الملحمي - داخل مختلف مجتمعاتنا وكياناتنا العربية، وإغراقها في الأمية إلى حد التمجيد الشعائري لها؛ لذا فالمجتمع الأمي يعتمد على عقوله

7

المعدة والمدربة على عادات وشعائر الحفظ والتحفيظ لمنتجاته الروحية والطقسية والتاريخية والتقويمية الشعائرية؛ كعاشوراء - أول شهور السنة الإسلامية القمرية - وأربعاء أيوب، وخميس العهد، والجمعة الكبيرة، وسبت النور، وأحد السعفة، وأول رمضان، وأعياد الضحية واللحم، وانتصاف شعبان.

كل هذا بالإضافة للأحداث التاريخية والهجرات والأنساب وغيرها مجالها الذاكرة والتواتر بالحفظ، وكل هذا أدى إلى توحد الملك بالكاهن بالمداح أو الشاعر والساجع على طول تراثنا العربي، كما أدى إلى توحد الكاهن ورجل الدين بقدرته على الحفظ للنصوص الدينية ومأثوراتها بمراكز السلطة المتعاقبة حتى أيامنا الماثلة.

بما يفترض في مثل هذه الحالة لغة شعرية أو سجعية أسطورية إيقاعية، ميسرة الحفظ، تمتلك قدرات البقاء والتواتر الشفهي داخل مجتمعات السير والملاحم والبالاد في عمومها التي من خصائصها: تفشي الأمية وعبادة الأسلاف، وحيث تكون الأغاني القصصية ملحمية في نبراتها ومقسمة إلى حلقات، فنجد أن الأمير/الملك فيها يشبه أشد الشبه الملك الملحمي في أغاني شارلمان أو آرثر؛ فهو شخصية رياسية يتسيد مجموعة من الأبطال، لكل منهم شهرته التقليدية وحكاياته الخاصة كما يذكر كراب.

وكما سيتضح هنا عبر توالي هذه السيرة التي تولي اهتمامها الأقصى لمطامح الأرستقراطية السياسية والقبلية العربية الحاكمة وصراعات بلاطها التي ستنحسر أحداثه التالية عقب اغتيال الملك التبع اليماني في الشام، بما سيركز ساحة أحداثها ما بين دمشق وبيروت والأردن وفلسطين، خاصة مدينة «بئر السبع» أو بيت سبع الحالية في الأرض المحتلة، والتي واصل فيها بطل السيرة وشخصيتها المحورية - الفلسطيني سالم الملقب بالزير

8 - نموه الأسطوري المدهش كطفل قدري موعود، إلى أن اشتد ساعده، فواصل بطولاته وخوارقه ضد الأسود أو السباع، ومن هنا اكتسب خصائص الآلهة الشمسيين.

ومن المعروف أن اللقب «زير» الذي يتسمى به يلازمه منذ طفولته - عشر سنوات - ويصاحبه، وسنتعرض له لاحقا خاصة أنه يبدو لقبا ملكيا؛ حيث تسمى به ملوك ما قبل التاريخ أو الأسرات المصرية ما قبل الألف الرابع قبل الميلاد في تاسا والبداري كما ذكرنا في مقدمة هذه الدراسة.

مكائد الجليلة ضد الزير سالم

فما إن استتب الأمر للأمير كليب وزوجته وابنة عمه الجليلة بنت مرة، فترامى سلطانه على معظم بلدان الشرق الأدنى القديم - فيما عدا مصر والمغرب العربي - حتى أخذت هذه الملحمة - السيرة - تجمع أطرافها كسيرة عائلية قبلية، قوامها هنا الملحمة - السيرة - تجمع الرمل والأسلاف وعبادتهم.

وهكذا سرعان ما اجتمع فرع بني مرة داخل التحالف القيسي، فاجتمعوا

1 «وضربوا تختا من الرمل؛ ليروا ما هو مخبأ لهم، فأظهر لهم الرمل أن أميرهم «جساس» مقدر له أن يقتل الأمير كليب، ويظهر الزير ويأخذ ثأره»، وهكذا تمهد الملحمة لظهور الزير سالم ونموه العجيب كطفل قدري أسطوري، فهو سوف يظهر ليفني بني مرة بالحرب لمدة أربعين عاما.

وعلى هذا اتفق أولاد مرة - وكان عددهم ثلاثة وأربعين ولدا - على اغتيال الزير سالم منذ المهد، وقبل أن يشتد ساعده ويفنيهم ويبيدهم عن آخرهم بحسب ما كشف عنه «تخت» الرمل.

فركبوا قاصدين أختهم الجليلة - زوجة الأمير كليب - وهي في موقع مزار أو كاهنة أو إلهة قمرية بالنسبة لقبائل بني مرة تستشار وقت الشدة وفي كبريات المهام، كالهجرة والثأر والحروب، ومن هنا فهي - كإلهة قمرية

2 - تدين ولاءها لقبيلتها، وليس لقبيلة زوجها وبعلها كما سنرى وتكشفه الأحداث.

فأشارت الجليلة بعدم قتل الزير سالم أو المهلهل وهو ابن عشرة أعوام وإلا انكشف الأمر، وأخذ كليب - زوجها - بثأره منهم، واقترحت عليهم أن تجعل كليبا ذاته يلقيه في المهالك، وأنشدت تقول:

مقالات الجليلة بنت مرة

تعالوا إخوتي أصغوا لقولي

تريدوا قتل أبو ليلى المهلهل

أخوه كليب خلفه مثل غول

ومن خلفه عدير (هدير؟) زيرقان

سباع الغاب في اليوم المهول

وست وأربعون

3

بنو أبيه

يجركم راكبين على الخيول

وتركب خلفهم كل الفوارس

فوارس تغلب مثل الفحول

ولكن سوف أرميه بحيلة

تحير كل أصحاب العقول

ويبقى كليب يقتله بيده

ويجعله طريحا على السهول

فاقتنعت قبيلتها برأيها السديد، ورحلوا بعد أن أسلموا لها قيادة الأمر.

حيث بدأت هي حبك سلسلة متوالية من المكائد والشرور ضد الزير، بدأتها متوحدة بزليخة؛ حيث «شقت جميع ما عليها من الثياب، وأظهرت الهم والاكتئاب» في مواجهة كليب عبر ردهات قصرها، وكان يحبها محبة عظيمة «لحسنها وجمالها وغنجها ودلالها.»

وما إن سألها كليب عما بها حتى بكت «من فؤاد متبول»

4

منشدة:

مقالات الجليلة بنت مرة

كليب أنت قيدوم السرايا

وتحكم في القبائل والعشائر

وفي كل المدائن والقرايا

وحكمك نافذ في كل أرض

وتخدمك الملوك مع الرعايا

وإني بنت عمك يا مسمى

ومثلي ليس يوجد في البرايا

أتأبى

5

الزير أخوك في غيابك

يريد فضيحتي بين الصبايا

قبضت عليه من عنقه فولى

وراح بسرعة وسط الخلايا

ألا يا مير قول لي كيف تعمل

فاقتله وأرديه المنايا

وإن لم تقتله حالا فإني

أروح اليوم في وسط الخبايا

وتبقى الناس تشتم في قفانا

ونبلى بالدواهي والرزايا

وهذا الأمر لا يصلح لمثلك

كريم الأصل عكار المطايا

6

فاقتله واخلص من بلاه

ولا تخش آثاما ولا خطايا

فقتل الزير أصوب من حياته

لأنه خائن دون البرايا

والجليلة في شعرها تتهم الزير سالم باغتصابها، مثلما فعلت فيدرا

ضد ابن زوجها هيبولت ابن ثيسيوس

Thessens ؛ فكلاهما - الزير وهيبولت - كان صيادا بريا، وكلاهما أقرب - بدورهما - من «أنكيدوا» البري الحيواني من مواجهة جلجاميش الزراعي ساكن المدن المتحضر.

ولما سمع كليب شعرها وكلامها، غضب وأرسل من يحضره، وحين ذهب رسول الملك إليه امتنع عن المثول أمام أخيه الأكبر؛ لأنه كان يعاقر الخمر من جلسائه، وعاد الرسول إلى كليب وأخبره بما رأى، وبرفض الزير للمثول والمجيء، فأرسله ثانية فما حضر، فعند ذلك سار كليب إليه وقد عظم الأمر لديه، ودخل عليه خلوته ونهره وضربه حتى آلمه، «ثم نزع عنه ثياب الحرير حتى صار معيرة للكبير والصغير، وأرسله مع الرعيان ليرعى النوق والجمال.»

وحين عاد إلى الجليلة، وأخبرها ما فعل مع المهلهل؛ ازدادت كدرا واندفعت تدبر حيلة جديدة لشحن كليب ودفعه دفعا لإهلاكه، فقالت له: إنها بلغها من بعض الرعيان مروق أخيه وتهتكه إلى حد اللواط مع البدو والصعاليك، منشدة:

تقول الجليلة يا محفوظ

7

أتاني العلم بحال أخوك

وصار الناس بقيل وقال

وكل البدو عليك ضحوك

أنت أمير كبير القوم

وقيس وحمير قد هابوك

وتمعن الجليلة منشدة، معبرة عن تهتك الزير وفضائحه مع الرعيان البدو والصعاليك بما أصبح مسيئا للأرستقراطية الإقطاعية القبلية.

ومرة تالية نجحت في إلهاب قلب الملك كليب ضد أخيه، «فأخذته الحمية وعصفت في رأسه نخوة الجاهلية» كما يذكر النص.

وهنا أشارت عليه بنفي الزير إلى وادي الأسود والنمور، فركب إليه واقتاده كليب - قاطعين البراري والقفار - إلى الوادي المهجور، وما إن وطأه حتى «شخر جواد كليب ونخر، وإذا بسبع من بطن الوادي ظهر» فقاتله كليب ، وأخطأه بحربته، وهجم عليه السبع لافتراسه إلى أن تقدم الزير فخلصه منه، وشق السبع بخنجره نصفين، ثم أخرج قلبه فأكله، وودع أخاه مطمئنا، وهذه أول إشارة إلى توحد الزير بالآلهة الشمسيين؛ جلجاميش وهرقل وشمشون وبيولف، فجميعهم قتلوا الأسد بأيديهم العارية، أو هراوة كتلك المرتبطة بهرقل، وبعضهم أيضا أكل بعض أحشائه كشمشون وألغازه.

ورجع كليب متعجبا، فأخبر زوجته الجليلة بما رآه، فأشارت من فورها بخدعة جديدة، مهاجرة كما يتضح من بالاد وفابولات يوسف

8

وزليخة وإخوته أبناء يعقوب، من زوجته «الحورانية» «ليئة» ابنة خاله لابان بن ناحور الحوراني، حين تآمروا عليه وألقوه في البئر.

9

والأمر ليس ببعيد طالما أن أحداثنا تجري ما بين دمشق وأرض فلسطين كما أشرنا، وعلى أقل تقدير فإن بطلنا الممزق - أو المهلهل هنا الزير سالم - إنما هو بطل فلسطيني قلبا وقالبا، أو لنقل: موطنا وخصائص.

فالمكيدة الجديدة التي تضاف إلى ما سبق من مكائد تدبرها الجليلة وتشير بها - من فورها - على الملك كليب: أن يأخذ الزير فيلقي به «على نية أن ينشل الماء في «بير صندل السباع» - وهي بير سبع الحالية بالأرض المحتلة - ثم يقطع الرعاة الحبل، فتغرقه مياه بئر سبع.»

وهكذا يذكرنا الصراع بين الأخوين بقصة الدولة الوسطى المصرية الفرعونية المعروفة بالأخوين أو باتا، والمكائد التي تلهبها شرور زوجة الأخ الأكبر ضد الأصغر.

وكالعادة استسلم الملك كليب لزوجته الجليلة منفذا، وركب جواده ومعه مائة فارس، فوصلوا إلى الزير، وأخذه معهم إلى «بئر صندل السباع»، وعند وصولهم قال كليب: سالم خيولنا عطشت الآن، انزل إلى البير واملأ لها.

فدلوه إلى عمق البئر في حبل، وأخذ يملأ وهم ينشلون ويسقون حتى ملئوا الأرض على باب البير، وجاءوا بالخيل ليسقوها فتزاحمت على بعضها البعض وأخذت بالصهيل والعنف والازدحام، وعجز كليب وجماعته عن ردها، إلى أن سمع الزير وهو في البير صهيلها وتمردها، فصرخ عليها الزير سالم صوتا مثل الرعد، فارتجت له الوديان والفرسان؛ فجفلت الخيل وتأخرت وانفصلت عن بعضها وهدأت واستكانت.

فتعجب كليب وأخرج أخاه سالما من «بير صندل السباع » وازدادت محبته له، ورجع به إلى الديار، وجليلة التي غابت عن الوجود من شدة الغيظ حين شاهدته راجعا فحدثها كليب بما رأى منشدا:

يقول كليب من شعر نفيس

قصيد ما نظمه قط قائل

جليلة اسمعي يا بنت عمي

أرى عقلك بهذا اليوم زائل

أأقتله ليشفى اليوم قلبك

ومنه قد ظهرت لنا فعايل

سباع الغاب هابت من لقاه

كذاك الخيل صيرها جفايك

ثلاث ألوف يلقاهم بصدره

من الشجعان فرسان القبايل

تقولي اقتله وارتاح منه

فقولك جهل ما هو قول عاقل

فإني لا أبيعه بألف مثلك

ولو مهما جرى منه فعايل

أراك تطلبي قتله سريعا

فقولك عنه ليس له دلائل

فقولك يا جليلة قول باطل

فحاش الزير أن يتبع رذايل

فقلي من كلامك لا تزيدي

أيا بنت الأماجد والأصايل

وفهمت الجليلة باطن كلامه، فأظهرت السرور ومازحته، وصبرت عليه أياما ثم عاودتها مكائدها، وفي هذه المرة ادعت المرض ورقدت في الفراش، وقالت لكليب: لي حاجة إليك لا يقدر عليها سوى أخيك الزير، أريد مقدار كأسين من حليب السباع؛ لأنه يقوي الأعصاب.

وادعت أن الدواء وصفته لها دايتها،

10

وأنه سيأتيها بولد لإحياء ذكرى الملك «كليب أبي اليمامة»، فيحكم شرقا وغربا «من أرض الروم للكعبة دواما»، وأنشدت الجليلة تقول:

مقالات الجليلة بنت مرة

كليب اسمع لي يا أبا اليماما

وأنت اليوم ملك في البوادي

يا ليت ألحق بك يا أمير داما

وتحكم يا ملك شرقا وغربا

من أرض الروم للكعبة دواما

وكم أبراج من ذهب وفضة

جواهر تشرق جناح الظلاما

ولا لك طفل تحيي فيه ذكرك

سوى سبع بنات مثل الحماما

أتاني منك سبع بنات أتاني

ولا جاني منك ذكر غلاما

وقالت دايتي لي يا جليلة

معي لك علم يبري السقاما

لبان لبوى بصوفه احمليها

تروحي في ذكر حامل قواما

فنادي الزير وأخبره سريعا

أدام الله عمرك بالسلاما

فلما فرغت الجليلة من شعرها، صدق كليب مقالها وأرسل في طلب الزير كما أشارت في آخر أنشودتها السالفة المهمة، التي يصح أن نتوقف عندها، خاصة بالنسبة لهذا الإمبراطور العربي الجاهل كليب، الذي أنجب منها سبع بنات، ولم يتسم إلا باسم صغراهن «اليمامة»: «أبا اليمامة».

فاليمامة - كما يتبادر إلى الذهن - رمز أو شعار طوطمي عربي إسلامي، تسمت بها عدة مدن عربية في شمال الجزيرة وجنوبها اليمني، ارتبطت بفابيولا زرقاء اليمامة المتنبئة بجيش الشجر الجرار الزاحف على مدينتها، ويلاحظ أن نفس الأمثولة استخدمها شكسبير في ماكبث الذي قد يتشابه من أحد جوانبه بالملك كليب، فكلاهما تسلطت عليه امرأته الدموية تسيره.

والملفت أن الجليلة لم تطلب «حليب لبؤة» بقدر ما هي طلبت في شعرها - وللتعجيز - «لبان لبوى

11

بصوفه احمليها»، بل «لبن» بمعنى المني أو السائل المنوي، ويبدو أنها لن تشربه بقدر ما هي ستستعمله عبر فرجها لتحمل، وتجيء كليبا بابن ذكر يحيي ذكرى الملك وريث التبع.

ويبدو أن الجليلة حضرت بنفسها طلب الأخ من أخيه إحضار حليب السباع؛ ذلك أن الزير الذي وافق ملبيا طلب سيفا يتسلح به، فطلب كليب - بدوره - من الجليلة أن تعطيه السيف فبادرته: ألا تستحي يا زير أن تطلب سيفا وأنت في هذه الشجاعة، فأطرق وخرج إلى غابة كبيرة الأشجار والصخور، وليس معه سوى سكين وعصا - كهرقل وشمشون - إلى أن توقف في مواجهة أسد غاضب ما إن بادره مهاجما حتى قبض عليه الزير من ذيله

12

ونشله بقوة ساعده وزنده، فضربه في الأرض وقتله بالعصا، وما إن هم بجز رأسه، حتى رأى لبؤته وأشباله السبعة من ورائها، فصعد شجرة إلى أن تأمل ثديها وألقى بنفسه عليها ونحرها بسكينه، وملأ الحق من حليبها، وساق أشبالها بعد أن ربطهم، وجز رأس الأسدين، وعاد إلى العمران محاطا بضجة الفرسان العرب من حوله، إلى أن دخل مدينة دمشق حاضرة ملك أخيه كليب.

وما إن سمعت الجليلة الضجة فأطلت برأسها من الشباك،

13

ورأت الزير سالم مقبلا على تلك الحالة؛ حتى التهب قلبها بنار الغضب، ثم دخل الزير على الجليلة وكان كليب معها، فسلم عليها ورمى الرءوس أمامها وأعطى الحق لامرأة أخيه.

وعندما تعجب كليب من بطولته وسأله، أنشد الزير:

يقول الزير قهار المواكب

رماني الدهر في كل المصائب

فلا تسمع أخي قول الأعادي

لأن الضد شوره ليس صائب

يشوروا عليك في رأي وخيم

ليسقوك يا أخي كأس المتاعب

فأهل العقل لا تسمع لأنثى

لأن كلامها لا شك كاذب

فاعلم يا أخي فيما جرى لي

بهذا اليوم في وادي التعالب

وجدت السبع وسط الغاب دائر

كأنه جائع للصيد طالب

فلما شافني حالا أتاني

وكشر عن أسنانه والمخالب

فصحت عليه صيحة جاهلية

فقدم يا أخي هاجم وطالب

حززت بخنجري رأسه فهوى

على وجه الثرى للأرض قالب

أتتني بعده لبوة مغيرة

فلما شفتها وليت هارب

رأيت أشبالها سبعة وراها

فداروا جهتي من كل جانب

فلما شفتهم جاءوا لنحوي

طلعت لشجرة ذات الشناغب

فداروا حولها فرميت نفسي

فصرت لظهرها بالحال راكب

حززت لرأسها وملأت حقي

حليبا بعد أن نلت المآرب

ورأس السبع واللبوة قطعته

علامة للأغارب والأقارب

وسقت أولادها السبعة أمامي

فلما صرت في وسط المضارب

فلاقتني جميع رجال قومي

وحياني الأباعد والأقارب

هذا ما جرى لي في نهاري

وما قاسيت من هول المصائب

وحين وصل الزير سالم إلى مقولة مأثورة: «فأهل العقل لا تسمع لأنثى» أدركت الجليلة ما يعنيه، وأنه إنما يلمح لها، وعادت فأضمرت له الشر الدفين، بل هي وصفته «بالقبيح»، ومن جديد واصلت مكائدها وإلحاحها، إلى أن استقرت على مكيدة أن يمرض كليب، ويزوره الزير في الفراش، ويطلب منه أن يشرب من بئر السباع أو بلدة «بئر السبع» الفلسطينية التي سيتخذها الزير سالم مأوى ومنفى له، حيث سيقيم له قصره فيها من جماجم سبوعه أو أعدائه.

فحين وافق الزير سالم على إحضار ماء بئر السباع، أخذ حمارا وقربة ماء، واندفع من جديد مخاطرا في وادي السباع الموحش.

مع ملاحظة أن الحمار والأتان من أخص خصائص الفولكلور الفلسطيني ومنها: حكايات

14 «بلعام» ومأثوراته الكثيرة التي تسربت إلى التراث العبري المدون.

بل إن في اتخاذ الزير سالم للحمار ومواجهة الأسد في بير السباع - أو بئر سبع - ما يوحده بالإله الشمس الفلسطيني شمشون، ذلك إذا ما أضفنا تآمر وإلحاح الجليلة - أو جليلة - المتوحد - إلى حد ملفت - مع إلحاح دليلة من شمشون، «ولما كانت تضايقه كل يوم بكلامها وألحت عليه ضاقت نفسه إلى الموت» (قضاة: 16).

وما إن وصل الزير سالم بير السباع حتى وجد سبعا نائما، وقد وضع يديه على فمه، فقال لنفسه: «هذا نائم وعيب أن أقتله غدرا»، لكنه ما إن فك قربته وربط حماره ونزل إلى البئر حتى نهق الحمار، فأيقظ الأسد النائم الذي هجم عليه من فوره وقتله وجعل يأكله، فلما خرج الزير تضايق وهجم على الأسد قائلا: «كيف تأكل حماري؟ وحق العرب لا بد من تحميلك القرب»، وصارعه بفك حماره بما يوحده أكثر من شمشون إلى أن ألجمه لجاما قويا، وأنهضه مثل السكران صارخا:

15 «يا قليل الأدب، الذي يأكل حمير العرب، عليه أن يحمل القرب.»

وهكذا ركبه الزير وساقه عائدا إلى العمران حتى دخل المدينة والناس في عجب، وما إن شاهداه من شرفة قصرهما كليب والجليلة في موكبه ذاك، حتى بكى كليب فرحا، أما هي فاشتعل قلبها واتقد، ولم يهدأ لها بال إلا حينما دبرت مكيدة أخيرة.

أما الزير سالم فإنه أنزل القربة عن ظهر أسده المستأنس المقهور، ثم ضربه ألقاه قتيلا، مغمغما: أخذنا بثأر الحمار.

وهنا أمر كليب خدمه أن يدخلوا الزير إلى الحمام، فدخل واغتسل ولبس «حلة من الأرجوان»، ومعروف أن الأرجوان الأحمر القاني كان الشعار الدامي لفينيقيا منذ أقدم العصور.

مع ملاحظة أن فينيقيا هنا تعني الطلائع البحرية من بين الكنعانيين؛ من لبنانيين وسوريين وفلسطينيين، سكان المدن البحرية الدول التي عرفت جوهر الهلينية كمجتمع ثقافي مستنير هدفه الأخير الإنسان حقوقه وواجباته، قبل أن يعرفها الهلينيون أنفسهم بأكثر من ألفي عام، كما يذكر شيخ المؤرخين أرنولد توينبي.

فما إن شاهد الملك كليب أخاه الأصغر - الزير سالم - في لباس من الأرجوان القاني كالإله تموز حتى قبله بين عينيه، وطالبه بأن يتمنى عليه، فلم يطلب الزير سوى أن يعطى «بير سبع» أو منطقة بئر سبع ويكون له فيها صيوان؛ فالانعزال أفضل للرجال الأحرار، وقال مازحا: «لا سيما ولي على السباع ثأر، ولا بد من قتل جميع الأسود، أو يرجع حماري

16

ويعود.»

فضحك كليب وتعجب وأعطاه ما طلب وودعه، وسار الزير سالم حتى وصل إلى بير السباع، ونصب صيوانه الذي أصبح قصرا من جماجم الأسود، والذي كان كلما قتل أسدا منهم يقول مازحا: يا لتارات الحمار.

واتخذ له صديقا وفيا - هو ابن عمه «همام» أخو الجليلة والأمير جساس - فانعزلا في بئر سبع هذه في فلسطين يشربان المدام ويسمعان الأنغام لمدة ثلاث سنوات.

الزير سالم إله مهلهل ممزق

ومما تقدم يتضح لنا أكثر أننا - كما أشرنا - بإزاء سيرتين قوامهما الشعر الإنشادي الملحمي؛ أولاهما حسان اليماني، تتحدث عن أمجاد وفضائل عرب الجنوب الحميريين القحطانيين، تنتهي - أو هي تشارف الانتهاء - باغتيال كبيرهم المستبد العادل الملك التبع حسان اليماني داخل مخدعه، لاحظ العلاقة اللغوية بين مخدع وخداع ويخدع الدمشقي، باستخدام أحد أشكال وتنويعات حصان طروادة، وهي «مائة صندوق» جهاز ومجوهرات عرس الجليلة - التي قد يشير اسمها إلى مناطق الجليل الفلسطينية، طالما أن النص الفولكلوري لا يخبرنا من أين جاءا بالتحديد - هي وابن عمها أو خطيبها الأمير كليب المختفي في زي مهرج الأمير تحت جلود «الثعالب والذئاب والكباش والبغال»، وهو مأثور تعرفنا على أقدم أنماطه من التراث الأردني الفلسطيني الذي دخل الجسد الأسطوري العبري من العصور المتأخرة، ويدعم فريزر هذا الرأي بأن سمة عربية بالتحديد - بأكثر منها سامية - واصلت انتشارها من أثيوبيا التي استوطنها العرب الحضرموتيون والعدونيون البحريون سكان الثغور الجنوبية منذ منتصف الألف الثانية قبل الميلاد، ونشروا فيها لغتهم الحضرموتية التي ما تزال محفوظة سارية إلى اليوم في لغة الطقوس الدينية الجعزية الحبشية إلى اليوم.

حتى إذا ما خبا ازدهار دولة عرب الجنوب اليمنيين بمصرع آخر التباعنة حسان اليماني ابن سالفه الإمبراطور التبع أسعد اليماني والأب السلف لتدمر الابنة وممالكها في الشام والجزيرة العربية وفابيولاتها التي توجدها مع زنوبيا أو الزباء.

وبانتقال الملك والسلطة لعرب الشمال «القيسيين»، ممثلا في التحالف الأكبر لهما: ربيعة ومرة، وهم حينئذ ملوك مكة ودمشق وبيروت وعمان والقدس أو بيت المقدس قبل إنشائه وتسميته أورشاليم أو مدينة سالم، ساليم، سلم، بطل سيرتنا، الذي ما زلنا - فيما تقدم من أحداث - نشهد تنشئته ونموه، المهلهل أو الممزق عقب تآمر زوجة أخيه الأكبر كليب - جليلة أو الجليلة بنت مرة - والتنكيل به وهلهلته بما كانت تدبر وتحيك له من مكائد وبلايا وتقولات جارحة ومهينة، منها الفسق والفجور مع الرعيان والصعاليك، ومنها محاولة اغتصابها، وهي زوجة أخيه الأكبر الملك كليب الذي تحول - بدوره - إلى مجرد ألعوبة في يدها؛ للتنكيل بالزير سالم وطرده ليرعى الجمال والنوق مع الرعيان في الوديان الموحشة.

ويلاحظ أنها خصيصة ملحمية عربية لا يخلو منها بطل ملحمي عربي تصاحب منفاه ورعيه النوق والجمال في البوادي الموحشة ونموه الخارق؛ مثل: أبو زيد الهلالي في السيرة الهلالية، وفي قصة أو موال أو البالاد الملحمي الغنائي: «عالية»، وعنترة، وسعد اليتيم التي تجري أحداثها في بادية الشام، وكذا تتردد بكثرة مفرطة في الملاحم العربية اليمنية للملوك التباعنة ومنهم «الملك سيف بن ذي يزن الحميري».

فأجدني أميل إلى أن التسمية هنا للزير سالم «بالمهلهل» إنما تعني مزيجا من فضائحه وآلامه، وهي هنا أقرب إلى ما يتواتر شفاهيا عندما يتوعد إنسان لآخر بأنه يهلهله، بما يعني أنه سيسبه ويفضحه ويمزقه ضربا أو إربا.

كما قد تعني التسمية فكرة أو شعيرة «هتك» تباعنة اليمن وملوكهم

1

الأسطوريين القدامى لملابسهم وحللهم الملكية وعروشهم، ومطالبة شعوبهم موسميا بإتيان هذا؛ أي بالتقدم لمثل عروشهم.

فالتسمية أو الصفة - المهلهل - الذي اكتسبه الزير سالم يصلح - بالإضافة إلى عذاباته - أن يوحد مع الآلهة الممزقة أو المهلهلة: أوزوريس، تموز، أودونيس، ديونزيوس، ديونزيوس زاجريوس الفريجي، وامتدادا حتى المسيح والحسين وبيته.

وكمصير محتم لمثل هذه الآلهة الزراعية، فالقتل الدموي العنيف هو خصيصتها الكبرى، وهو ما لم يحدث في حالة بطلنا هذا الصياد البري الذي هزم أسود وادي الثعالب أو بير سبع وحلب لبنها، سوى أن القتل العنيف - ولنقل: الاغتيال من الظهر - وقع لأخيه الأكبر «كليب» بدلا منه، بينما قدر للزير سالم أن يرتدي مسوخ الأخ المنتقم لأخيه.

كذلك يلاحظ أن من سمات آلهة الاخضرار - من زرع لضرع هذه - هو إشراك الأنثى من حبيبات وزوجات في دمها المراق.

كما في حالات الربة الزوجة؛ إيزيس وإيشار أو عشتار، مع كل من تموز وأدونيس، تضاف لهم دليله مع الإله - الشمس - الفلسطيني شمشون.

2

ويتبدى هذا بخاصة في نصوص أساطيرهم الأصلية أو الأم

Version ؛ ففي الأسطورة الأم لأوزويريس تتبدى إيزيس عقب اغتياله بكفن ست نادمة نادبة موته الموسمي السنوي على يد مغتاله ومغتصب عرشه ست، ونفس الشيء في النص الأصلي لهرقل، وإشراك زوجته دينييرا

Deianeira

خلال احتفالات موته الموسمي على يد أخيل

Achelous

أو نيسوس

Nessus .

وكذلك بالنسبة لإشراك الآلهة المحبة فريجا

Frigga

في مصرع بالدر

Balder

في الأسطورة - الملحمة - الاسكندنافية بالدر.

وبما أننا هنا بصدد التعرف على المنبت الممزق أو المهلهل المصاحب لعذابات النمو الخارق لبطل ملحمتنا هذه - الزير سالم - نذكر بأن الموت الدامي الممزق لم يلحقه - على الأقل - حتى هذه الأحداث، بل إن الموت الدامي سيلحق أخاه كليب بدلا منه على يد الأمير جساس - سيد بني مرة على بيروت والبقاع وأخ زوجته الجليلة - بدلا من الزير سالم الذي سيواصل حروبه الانتقامية التي ستمتد أربعين عاما، والمعروفة بحرب البسوس.

فالزير سالم الذي تسلطت عليه زوجة أخيه «جليلة» (دليلة) ملقية به إلى المهالك بإلقائه في «بير صندل السباع»، وبطلب «حليب السباع» لكي تحمل وتخلف ولدا يرث ملك أبيه الممتد المترامي «من مكة لأرض الروم».

يتوحد هنا مع سلفه «إسماعيل» حين نفته سارة وأمه هاجر بواد مقفر: «رب إني أسكنت من ذريتي بواد غير ذي زرع عند بيتك المقدس»، تذكر المصادر العربية - سفر التكوين - أنه نفس برية بئر سبع بالنسبة لإسماعيل أبو العرب، حيث كان منفاه هو وأمه هاجر قبل الإسراء إلى مكة أو برية فاران.

ومن طرف مقابل تتوحد كلتا: «سارة» و«جليلة» في أن كلتاهما عاقر، أو تعاني من الخلف والإنجاب، سارة العاقر التي حرمت من الخلف والإنجاب حتى إنها هي التي دفعت بإبراهيم إلى الزواج والدخول على جاريتها وأمتها «هاجر».

والجليلة التي رزقت من الملك كليب سبع بنات في مجتمع يئد البنات، فمأساتها تكمن في أنها لم ترزق ولدا ذكرا يرث الملك كليب «قيدوم السرايا» الذي يحكم كملك وإمبراطور ذلك العالم القديم «شرقا وغربا من أرض الروم للكعبة دواما.»

فمن هنا يمكن تمثل تراجيديا شخصية «الجليلة» في اضطهادها وتنكيلها للزير سالم منذ طفولته ومطلع شبابه بما يتقارب مع مولد وشباب إسماعيل، دافعة إياه لخوض كل أهوال؛ للحصول لها على ما وصفته لها دايتها لكي تحمل ولدا وليا للعهد، قائلة: «لبان لبوى بصوفه»، وكأنها إنما تطلب لا لبن العصفور - لكي تحمل - بل لبن اللبؤة الأسد.

كما أن كلاهما: الزير سالم وإسماعيل أبو العرب العدنانيين نما كصياد أو رامي قوس في البرية.

أما منفى الزير سالم فهو - كما يذكر نص ملحمتنا عشرات المرات - ببير سبع، كما كانت مكة موطن ومنفى إسماعيل.

ومن هنا يجيء افتراضنا بأن الزير سالم هو الإله الشمس الفلسطيني المحلي لبئر سبع، وأنه هو البطل الأسطوري الفلسطيني الذي ينسب إنشاء القدس أو أورشاليم له كما ذكرنا.

على اعتبار أن «أور» كلمة سامية عربية أكثر منها عبرية مثل: أورورو - أو الوركاء - الحالية بالعراق، وأور الكلدانيين التي اكتشفها قنصل إنجلترا بالبصرة عام 1854م، وعرفت بمدينة إبراهيم.

بل إن الزير سالم ذاته كان دائم التفضيل لأن يظل يعاشر الحيوانات وينمو معها كصياد أسود، فهو كأنكيدو - صديق جلجاميش وخصمه الحيواني - الذي تربى مع الحيوانات، يستقي معها عند منابع الماء.

إلا أن توحده الأعظم بإسماعيل يجيء من أن كليهما؛ الزير سالم وإسماعيل، يرتبط اسمه بإنشاء مدينة إسماعيل، الذي كبر في برية فاران التي أصبحت مكة، وأصبح أمة، ونبعت له بئر زمزم، والزير سالم، مع بئر سبع الذي فضل عقب انتصاراته على سباعها سواء أكانوا أعداء حيوانيين أم بشريين أن يتخذها مأواه أو منفاه، حين طالبه الملك كليب أن يتمنى عليه فيعطى، فلطب منه سكنى بير سبع، خاصة وأن له فيها ثأرا، وقال متهكما: «يا لثارات حماري»، وكان أن بنى فيها قصره الذي شاده من جماجم السباع واستوطنها .

فأورشليم

Ure Salem - ومعناها مدينة ساليم أو السلام - هي المدينة التي سقط اسمها من نصوص هذه الملحمة، والتي دفاعا عنها حارب الزير سالم معتليا في البداية حائطا يذكرنا بالمبكى، ثم حروبا حقيقية متصلة ضد من أسماهم النص بالروم المغيرين على فلسطين، مع الأخذ في الاعتبار أن هذا الجزء من الملحمة تعرض للكثير من عبث وإضافات بعض النساخ اليهود، وهو ما سنتناوله في حينه.

الزير سالم أهي ملحمة فلسطينية؟

وواضح إذن أننا بإزاء «أشلاء» ملحمة فلسطينية موغلة في القدم، قد يرجع العمر التخميني لها إلى ما قبل الأسطورة المصاحبة لإبراهيم وابنه إسماعيل وبناء الكعبة؛ ذلك أن بلدة بئر السبع الفلسطينية ترتبط - للمرة الأولى - بنزول هذه القبائل العبرية إلى فلسطين، وزيارة إبراهيم لأهلها وحفره لبئرها، حين أشهد «أبيمالك الفلسطيني على أنه هو الذي حفرها» سبع نعاج تأخذ من يدي لكي تكون لي شهادة بأني حفرت هذه البئر، ودعا الموضع بئر سبع، بل - وكما ذكرنا - فإن بئر سبع هذه كانت منفى إسماعيل وأمه هاجر وليست مكة حين أعطاها إبراهيم قربة ماء، فمضت وتاهت في برية بئر سبع إلى أن كبر إسماعيل وسكن في برية فاران أي مكة.

بينما يستشف من هذه الملحمة أن بئر سبع وواديها كانت موحشة مهجورة غير مأهولة بالسكان حين نزلها الخليل إبراهيم وحفر بئرها، كمكة قبل أن ينزلها إسماعيل ويتخذها مأوى ومسكنا، ويصبح أمة، وتنبع له بئر زمزم بالمقابل.

وإذا ما عرفنا أن هجرة قبائل إبراهيم إلى فلسطين - وارتباطه بزيارة بئر سبع - ترجع إلى مطلع الألف الثانية قبل الميلاد، يصبح عمر ملحمتنا هذه - «الزير سالم» - ما قبل أربعة آلاف عام، وعلى أقل افتراض عمر بطلها الزير سالم ذاته الإله المحلي لبئر سبع.

يرجح هذا أن لقب «الزير» الملكي لا يرد بكثرة إلا في حالتين على طول التاريخ العربي - سواء العلمي الأركيولوجي الحفري أو الأسطوري الفولكلوري - الحالة الأولى باكتشاف ملوك ما قبل التاريخ المصري الفرعوني، الذين تسموا ب «زير» في تاسا والبداري، أي ما قبل الألف الرابعة ق.م، كما يذكر عالم ما قبل التاريخ الماركسي: جوردن تشايلد.

والحالة الثانية في السير والملاحم والفولكلور العربي بعامة، هي حالة بطلنا هذا الفلسطيني سالم، الذي لقب «بالزير» سالم، يضاف إلى هذا أن «ملوك» بني الزيري بالأندلس يرجح أنهم فلسطينيون بأكثر منهم أنباطا أردنيين أو فينيقيين لبنانيين.

بالإضافة إلى سند أو استشهاد أخير يتصل بتسمية «كليب» الملقب الأخ - الملك - الأكبر، الذي رزق إلى جانب بناته السبع - ومنهن يمامة أو اليمامة التي أصبحت مدنا ومأثورات بدورها كما سيرد - بابن ذكر من زوجته الجليلة أسماه «الجرو» أو المجرس، أي كلب الصيد. فكليب هذا يشير اسمه الطوطمي إلى العشائر الفلسطينية الموغلة في القدم التي غزت إنجلترا وأيرلندا مهاجرة منذ مطلع الألف الثانية قبل الميلاد كشعوب بحرية، واستوطنتها وخلفت فيها تراثها هذا الأسطوري الذي يستدل به على أيامنا.

وأسوق هذا الاستناد للشاعر الأنثروبولوجي عالم الأساطير المقارنة الذي يعيش اليوم بجزيرة مايوركا الإسبانية عن كتابه «الآلهة القمرية»

1

حيث يقول: «أنا لست إسرائيليا إنجليزيا، بل إن قراءاتي وأبحاثي أوصلتني إلى أن ما يعرف بشعوب البحر هذه وصلت إنجلترا وأيرلندا في الألف الثانية قبل الميلاد، فأنشئوا قنوات بحرية وتجارية، وبعضهم وصل عن طريق غرب أفريقيا وإسبانيا، وهم الفينيقيون البحريون من سوريين ولبنانيين وفلسطينيين، والبحارة الفلسطينيون هم الذين أسروا القبائل الإسرائيلية في عبرون

2

وجودا - الضفة الغربية - من العشائر الأدومية، من أردنيين وسوريين، وكان أولئك الفلسطينيون يعرفون بالكلبيين، وظل الإسرائيليون في أسرها إلى أن تحرروا بعد أن اكتسبوا من آسريهم الفلسطينيين الجانب الأعظم من الدين والتراث الفلسطيني.»

3

مع ملاحظة أننا هنا بإزاء محاولة البحث في افتراض عمر تخميني لهذه السيرة الملحمية العربية الفلسطينية الذي يصاحب بطلها إنشاء مدينة بير سبع، كما هو الحال مع جلجاميش ومدينة أو مديريته بالعراق، وإسماعيل ومكة، وكذا الملوك الآلهة الشمسيين الأسد

Lion

مثل هرقل،

Lion-Leyden-Lyons ،

Lug .

وليولياو معناها ابن الأسد، وكان يصور على هيئة أسد شاهر الذراع، ممسكا في حالات أخرى بالسيف، تطالعنا صوره في الرسوم الحفائرية والوشم، وتشير يده الممدودة - كإله شمسي - إلى أنه ذو يد أو ذراع طولى بإزاء أعدائه.

ويلاحظ في الفصول القادمة لملحمتنا - هذه - أنه حين يجيء الرسل للزير سالم بقصره ومنفاه في بئر سبع - وهو ثمل - بخبر اغتيال الأمير جساس بن مرة لأخيه الأكبر كليب، هو أنه لن يصدق قائلا: «يد جساس أقصر من أن تطول كليب»، بما يشير إلى أننا بإزاء آلهة شمسيين ذوي يد طولى.

فما من إله شمسي - رغم أن حيوانه المقدس هو الأسد - لم يقتل الأسد، هرقل قتل الأسد، وجلجاميش وإله الشمس الأشوري سامسون أو شمشون الفلسطيني قتل الأسد، يضاف إليهم الزير سالم.

فكما يشير جريفن، فإن شمشون كان - في منشئه المبكر - إله الشمس الفلسطيني، لكنه دخل وأسطورته الجسد الديني الأسطوري العبري في العصور المتأخرة - «القضاة» - وهي أسفار دونت متأخرا جدا، فتبدى فيها كبطل إسرائيلي في مواجهة دليلة الفلسطينية،

4

بل هو ظل منتميا إلى قبيلة دليلة الفلسطينية بعد الزواج، و«دان» هو اسم قبيلته الفلسطينية، ويلاحظ أن قبيلة «دان» هذه الفلسطينية هي ما انحدر منها ملوك دانية أو الدانيون بالأندلس منذ ما قبل الفتح العربي للأندلس وحتى القرن الحادي عشر الميلادي.

والملفت أن «فابيولات» شمشون المدونة بسفر القضاة ترد أيضا في فترة أسر الفلسطينيين للإسرائيليين حين عملوا الشر، فدفعهم «الرب ليد الفلسطينيين أربعين سنة» (قضاة: 13)، فولد شمشون لامرأة عاقر وأب اسمه منوح، زارها - كالعادة - ملاك الرب فولدت ابنا ودعت اسمه شمشون، وابتدأ ملاك الرب يحركه في محلة «دان» الفلسطينية بين صرعة واشتاول، إلى أن نزل تمنة ورأى امرأة في تمنة من بنات الفلسطينيين، فأراد أن يتزوجها «وفي ذلك الوقت كان الفلسطينيون متسلطين على إسرائيل.»

ومع ملاحظة أن الحزورة والأحجية - التي كان شمشون يطلقها - خصيصة فولكلورية عربية بأكثر منها عبرية، ولعل أهمها حزر أو فزورة قتل شمشون للأسد حين شقه كشق الجدي وليس في يده شيء، بنفس ما فعل الزير سالم حين قتل الأسد بيديه العاريتين، وذلك حين طالبته الجليلة بإحضار «لبن السباع»، فكان أن طلب سيفا ينازل به الأسد، فطلب الملك كليب - بدوره - من زوجته إعطاءه سيفه، فكان أن سخرت منه الجليلة، فكان أن اندفع الزير سالم منازلا الأسد بيديه العاريتين إلى أن صرعه.

بل إن في «أحبولة» قتاله مع الأسد وأسرته، وتعرفه على اللبؤة وحلب لبنها في حق رجع به إلى زوجة أخيه الجليلة لكي تحبل، ما يقرب بنا من فزورة شمشون.

وكيف وجد شمشون عسل النحل داخل جيفة الأسد، فأكل منه (من الأكل خرج آكل، ومن الحافي خرجت حلاوة).

فتوحد الزير سالم بشمشون، ويرجح أن الزير سالم هو الأصل المبكر جدا الذي عدل أو حور في سفر قضاة (13، 14، 15، 16، 17) لفابيولات شمشون ودليلة.

من ذلك أن كلا منهما تسلطت عليه امرأة فلسطينية، شمشون دليلة الفلسطينية التي التقى بها عقب سلسلة من المغامرات الغرامية مع عدة نساء فلسطينيات في تمنة ووادي سورق وغزة.

بما يشير إلى أنه كان «زير» نساء بدوره، مثل زيرنا، ومن أحد جوانبه وزواياه.

كما أن كليهما تسلطت عليه وطاردته امرأة بهدف استنزافه وهدمه وقتله؛ دليلة الفلسطينية مع شمشون، وجليلة العربية مع الزير سالم.

يضاف إلى هذا ارتباط كليهما - شمشون والزير سالم - بهزيمة أعدائه بفك حمار، وهو ما حدث لشمشون حين هزم أعداءه بلحى الحمار الذي حين فرغ رمى به، فسمي المكان «رمت لحى»، والزير سالم مع سبوعه الصريعة في بير سبع الذي حين نزل إلى بئرها تاركا حماره على بابها، وما إن نهق الحمار حتى استيقظ سبع كان نائما، ورفض الزير قتله، فقتل حماره فكان أن صرع الأسد المعتدي بلحى الحمار، وظل يحارب الأسود طلبا لثأر حماره، وكان كلما قتل واحدا صرخ متهكما: «يا لثارات الحمار.»

من هنا يرجح أن بطللنا الأسطوري الفلسطيني هذا - الزير سالم - هو الأنموذج الأمثل الذي استعارته الأساطير العبرية زمن الأسر الفلسطيني الثاني الإسرائيليين، ودون نصه متأخرا جدا في عصر القضاة أو شيوخ القبائل، ومنه تواترت فابيولات شمشون ودليلة والعديد من الموتيفات الأسطورية العبرية.

كذلك يلاحظ - بالنسبة للعلاقة بين تسمية الزير سالم أو سلم وبين تسمية القدس أور سالم - أن التسمية تشمل أهم الوديان والمعالم الطبيعية المحيطة بالقدس، وترد في تاريخ المؤرخ اليهودي «يوسيفوس» باسم «سلوام»

Siloam ،

وذلك عقب اعتكافه ببئر سبع، بل إن الزير انتسب إلى هذه القبائل ومرجها القريب نسبيا من مدينة حيفا الساحلية التي نزلها عقب أسره أو حروبه الغامضة مع حكمون اليهودي.

خلاصة القول: إننا بصدد سيرة ملحمية لمقاتل، شاعر، فلسطيني المنبت والمنفى - بئر سبع - تتسم أجواؤها وأحداثها بطابع فينيقي بحري؛ حيث نرى القيسيين - بني مرة - والكلبيين الحميريين - بني ربيعة - يقيمون ويتريضون ويتجسسون على شاطئ البحر المتوسط، حيث المدن الفلسطينية حيفا ويافا وبئر سبع.

وحيث أمضى الزير سالم رحلة موته وعبوره التي امتدت لثمانية أعوام في عرض البحار، حين كفنته أخته الضباع وألقته في البحر، وهو ما سيطالعنا في الفصول المستجدة.

البسوس وحربها المضرمة 40 عاما

ويذكر راوي هذه السيرة الملحمية - التي يتعاقب فيها النثر والشعر الإنشادي - أن الزير سالم - أبو ليلى المهلهل - اختار الانعزال بنفسه بعيدا عن ملك أخيه - الملك كليب - المترامي في سوريا الكبرى وعاصمته دمشق، وطال به المقام في عزلته تلك بوادي بير سبع الموحش في فلسطين، فظل في منفاه الاختياري هذا يسمع الأنغام وينشد الأشعار ويشرب المدام، لمدة ثلاثة أعوام متصلة، هو وصديقه وصفيه الأمير «همام» بن مرة - زوج أخته «الضباع»، وأخ الجليلة زوجة أخيه.

إلى أن جدت أحداث أشعلتها العجوز الشاعرة أخت الملك اليمني المغتال «تبع حسان» الذي قتله كليب ليلة عرسه بقصره بدمشق، حين تسلل متنكرا تحت جلد الحيوانات الطواطم، وكذلك تسلل فرسانه المائة بحيلة تذكرنا بما فعله اليونان لاقتحام طروادة - أي بنفس طريقة مينلاوس في استرداد هيلانة - من أسر باريس بن بريام ملك الطروادنيين.

وما تتبع هذا من أحداث تنصيب كليب ملكا على عرش التبع المغتال بالشام وزواجه من ابنة عمه الجليلة بنت مرة، ورحيل أهلها البكريين - «بزعامة أميرهم » «جساس» عن الشام - إلى واد بعيد يبعد «تسع ساعات» عن العاصمة دمشق، رجحنا أنه وادي الأردن أو فلسطين، ويرجح الكثير أنه شمال الجزيرة العربية؛ أي وادي مكة وتخومها، ثم مكائد ضد أخي زوجها الأصغر الزير سالم الذي أحبطها جميعها بشجاعته، وانتهت بنزوله بير صندل السباع وإخضاعه لسباعها واتخاذها موطنا ومنفى، بل وانتقاما لحماره، وهي حكاية طوطمية جانبية، أصبحت ترد في النصوص المدونة لهذه السيرة على استحياء أو على اعتبار أنها مجرد نادرة أطلقها الزير؛ هربا من مكائد زوجة أخيه الجليلة، ذاكرا في أشعاره لأخيه كليب: «فأهل العقل لا تسمع لأنثى» بما يوحد بطلنا الزير سالما أكثر مع بقية الأبطال - الآلهة - الشمسيين، مثله مثل جلجاميش وعدم سماعه واستجابته لأنثاه المطاردة له عشتار، وشمشون مع نسائه الفلسطينيات، وآخرهن دليلة الغزاوية، وهرقل مع ديجنييرا، ونيسوس - ملك نيسا التي دمرها الطرواديون - مع زوجته، وأخيل مع زوجته بوليكسينا

،

والعشق.»

فالزير سالم دأب على تبرير منفاه ببئر سبع هربا من مطاردات ومكائد النساء، متحججا لأخيه كليب ومتهكما بأخذ ثأر حماره: يا لثارات الحمار.

وليس في الأمر تهكم إذا ما عرفنا أننا بإزاء سيرة موغلة في القدم، كما أنها موغلة في الطوطمية والتفكير الغيبي والبدائي الخرافي.

فالأمر في هذه السيرة - كما هو الحال في مجمل سيرنا وملاحمنا العربية - لا يعدو صراعا طوطميا - جلي المعالم - بين الحميريين

1

وخلفائهم الكلبيين «اليمنيين» من جانب، وبين عرب الشمال الإسماعيليين في الحجاز والشام وفلسطين، وهو ما سنتعرض له عقب الانتهاء من المعرفة بالجسد الشعبي الفولكلوري لهذه السيرة الملحمة، مع الاحتفاظ بخصائصها الفولكلورية الأنثروبولوجية قدر الإمكان.

وهنا تطل بقايا الملحمة اليمنية - المتزاوجة مع ملحمتنا أو سيرتنا هذه - بخروج الملكة الشاعرة الساحرة المتعددة الأسماء؛ كإيزيس وعشتار؛ فمن أسمائها: «سعاد

2

وتاج بخت وهند والبسوس»، بالإضافة إلى الاسم الذي يرد في الأدب العربي الكلاسيكي «الهيلة»، باحثة عن ثأر أخيها المغتال في أرض الشام وفلسطيني ، ملقية الفتنة بين التحالف العدناني القيسي: «ربيعة ومرة» أو تغلب وبكر، وتشفي غليلها بالتآمر لقتل الملك كليب قاتل أخيها التبع اليماني.

بالطبع تنسج الملحمة للبسوس فابيولاتها الغربية التي توحدها مع المتنبئة الشاعرة الطروادية «كاساندرا»، بل إن قصة حبها وزواجها مشابهة لما وقع بين أبولو وكاساندرا وصاحب زواجهما في النهاية.

فلقد كانت سعاد - أو البسوس - فاتنة جميلة فصيحة الكلام، شديدة البأس «تركب الخيل في الميدان وتبارز الفرسان»، واشترطت أن لا تتزوج إلا من يقهرها في ميدان القتال، وكان أن سمع بخبرها ملك عظيم اسمه «سعد اليماني» وكان ملك بلاد السرو،

3

فركب إليها وبارزها إلى أن اقتلعها من فوق سرجها فأقرت له بالغلبة، وتزوجها وأقام لها حفلة لمدة سبعة أيام، ثم عاد بها إلى بلاده التي يرجح أنها وادي الأردن، وظلت تحكم معه البلاد لمدة عشرة أعوام، إلى أن وصلها اغتيال كليب بن مرة لأخيها الملك التبع حسان، فكان أن ركبت هي وبيتها وبناتها وممتلكاتها وسارت تسأل عن «حلة بني مرة» فأرشدوها، فسألت من فورها عن الأمير جساس، وأنشدته - كما يذكر النص - مترجمة، سواء عن طريق استخدام مترجم أو أنها هي التي ترجمت أفكارها اللغوية المخالفة للغة هذه الشاعرة الساحرة، على عادة الآلهة الأنثى الأم لمجموع القبائل المتحالفة المهاجرة أو المغيرة، كما هو الحال بالنسبة للأمازونيات الليبيات المحاربات، وسارة الإلهة الأم لقبائل إبراهيم، والجازية بإزاء القبائل الهلالية في سيرة بني هلال، وكذا اليمامة ابنة كليب التي تسمى بها في سيرتنا هذه، كما سيرد فيما سيجد من أحداث وتكشفات هذه السيرة العربية الكبيرة، والتي ما هي سوى تراجم ذاتية لأنساب أبطالها، وصراعات بلاطهم وهجراتهم وحروبهم التي عادة ما تلعب فيها الإلهة الأنثى الأم دور القائد والكاهن والمزار القمري الطوطمي.

بل إن هناك جسدا لسيرة أو ملحمة تؤرخ لهجرة تقودها كاهنة محرضة يمنية قحطانية أيضا مثل البسوس هذه، لا بأس من التوقف عندها قليلا؛ للتعرف على مدى الخصائص والسمات لتلك القبائل التي تعبد الإلهة الأنثى الأم، وتولي بالتالي «الخال» تقديسها الأسمى.

وهي أسطورة قحطانية عريقة تستوجب التأني، تنسب أحداثها لهجرات حميرية مصيرية بالنسبة لمجرى وتاريخ أحداث الشرق الأدنى، ويؤرخ لها بما أعقب خراب سد مأرب؛ أي مع مطلع الألف الأولى قبل الميلاد.

فعندما وافت المنية الملك الكاهن عمران بن عامر، دعا أخاه عمرو بن مزيقيا وأنبأه بخراب البلاد، وبأهمية الزواج بالكاهنة طريفة ومات، وعامر سمي ميزيقيا؛ لأنه كانت تنسج له في كل سنة 360 حلة من الذهب الأحمر،

4

وكان يأذن للناس في الدخول، فإذا أرادوا الخروج خلعت حلته ومزقت؛ ولذلك سمي مزيقيا، ويقال: إنه أخذ سنته - أو شعيرته - هذه من ذي القرنين «يوم هتك عرشه ومزق حلته»، وهذا ويبدو أنها كانت بمثابة عيد أو شعيرة تتصل بالإلهة الزراعية الممزقة التي عادة ما تنقضي آجالها عبر موتة بشعة - كتموز، دونيس، أوزيريس، المسيح - مرة في كيفية تمزيق الملك لثيابه على مرأى من قومه، ومرة في طقوس هتك العرش التي يقوم بها جموع الشعب لعرش وملابس الملك أو التبع بطريقة موسمية محددة، وبشكل أكثر تحديدا؛ أي تبعا للدورة القمرية؛ حيث إن الرقم 360 يشير إلى السنة القمرية أو الهجرية فيما بعد.

ولعلني هنا أرجح أن تسمية الزير سالم بالمهلهل مرجعها هذه الشعيرة لهتك العرش والثياب أو هلهلتها، كشعيرة إحلالية لشعائر وطقوس قتل الملك الإلهي أو بديله - أي بديل الملك الممزق - في معظم المجتمعات خاصة الزراعية.

والملفت أن هذه التقليدة ما تزال سارية في الحواديت والبالاد الشفاهية المصرية والعربية عن هتك العرش أو الملابس وهلهلتها.

فما إن تزوج عمرو بن مزيقيا الكاهنة طريفة، وكان عمرو أعظم ملك بمأرب، وكان له تحت السد من الجنات ما لا يحاط به، فكانت المرأة تمشي وعلى رأسها مقطف فلا تصل إلى بيت جارتها إلا وهي تملؤه من كل فاكهة، من غير أن تمس منها شيئا، حتى إنهم دعوا على أنفسهم: «ربنا باعد بين أسفارنا.» إلى أن أرسل الله عليهم السيل؛ فخرب السد، وهو ما هتف به الهاتف أو الآتي وأخبر به طريفة في المنام حين زارها وقال لها: «ما تحبين يا طريفة: علم تطيب به نفسك؟ أو مولود تقر به عينك ؟ فقالت: بل علم تطيب به نفسي. فمر بيده على صدرها، ومسح بظاهر كفه على بطنها فعقمت، فكانت لا تلد، واتسعت في العلم وأعطيت منه حظا عظيما.»

وكان زوجها عمرو بن مزيقيا يكنى ب «ماء المزن» أو مأرب، أو «ماه رب»، وهي كلمة أشورية بمعنى البلد والسهل والوادي، كما أن «ماه» بالفارسية تعني القمر.

وكان ابن عمرو بن مزيقيا يدعى ثعلبة العنقاء

5

وهو «جد الأنصار من الأوس والخزرج».

وأمرت هذه الكاهنة طريفة - التي تذكرنا بكاهنة سيرتنا هذه البسوس - قومها من العرب الغساسنة بالنزول إلى الشام، فتملكوا عكاء بعد أن هادنوا ملكها «سملقة بن حباب العكي»، ونزلوا غربي عكاء.

ورفض ثعلبة العنقاء قتالهم متمثلا قول سلفه يعرب بن قحطان: «ويل للمنزول عليه من النازل.»

وتروي هذه الخرافة عن تدخل «جذع بن سنان وهو من الجن»: فأوقع بين الغساسنة وأبناء أعمامهم أهل عكا، إلى أن قتلهم الغساسنة ونفوهم من الشام، ثم أشارت عليهم الكاهنة بالمسير إلى همدان فتملكوها، وهكذا سارت بهم إلى نجران، تستحثهم على القتال وتخطب في المحاربين وترسم الخطط، وكانت تسكنهم قبيلة قبيلة، فملكت قبائل الأزد عمان، وملكت الأوس والخزرج

6 «يثرب ذات النخل» أو المدينة، وأنزلت همدان «نحو العراق بابل»، وأنزلت عليه علبة - أو جفنة بن عامر بن غسان - دمشق، وأنزلت قبائل السراة بن غسان تهامة.

وكانت في كل مرة تقول هذه الكاهنة كلاما مسجوعا، كأن تقول: «خذوا البعير الشدقم، فأنجزوه وخضبوه بالدم، حتى تأتوا أرض جرهم»، ثم حاربوا قبائل جرهم وبني إسماعيل، «فهزموهم حتى أدخلوهم مكة واستغاثوا بالحرم.»

وكانت مكة آخر مطاف تلك الهجرة القحطانية التي تزعمتهم هذه الإلهة الكاهنة الأم المدعوة طريفة، مثلما تزعمت سارة - الإلهة الأم - لقبيلة إبراهيم القبائل العبرية الرعوية، وضرتها هاجر قبيلة الهاجريين والإسماعيليين، ومثلما عبرت الأمازونيات المحاربات الليبيات بالقبائل الليبية ... إلخ.

وينسب لطريفة هذه أنها أول من سمعت العروبة قبل موتها:

إن ابنة الخير لها أعجوبة

وميتة تقضي لها مكتوبة

تودي بها في ليلة العروبة

كما ينسب لها تقديس ليلة الجمعة التي ماتت فيها طريفة ودفنت بعقبة الجحفة. •••

وإذا ما عدنا إلى سيرتنا هذه وكاهنتها البسوس حين زارت الأمير جساس، فأنشدته ما يفيد «بدوام أيام الأمير جساس بن مرة، ورفع على ملوك الأرض قدرك ومكانك، ونصرك على حسادك وأعدائك.»

وما إن تعجب جساس من فصاحتها وسألها عن حالها، حتى قالت بأنها: «شاعرة أطوف القبائل والعشائر، أمدح السادات والأكابر.»

ورحب بها جساس ودعاها للعيش في دياره وحمايتها من كل معتد عليها بقتله، وهنا كانت البسوس قد بلغت مرادها، فأقامت عنده شهرين تنشر الفتنة بين القبائل والقواد والأمراء، مثيرة الأحقاد بين البكريين على حكامهم التغلبيين أو بني ربيعة، وملكهم كليب مغتال أخيها التبع حسان اليماني.

وعندما وصلت ذروتها في تحريض القبائل، ووصل الأمر إلى أميرهم جساس، وملأته - بدوره - الشكوى من التغلبيين وتعديهم على قبيلته منذ أن تملك عليهم كليب بعد قتل التبع حسان.

واتخذ جساس قراره بضرورة الاجتماع بابن عمه - زوج أخته الجليلة الملك كليب - وإعلامه «بتعديات قومه وجورهم» ومعرفة رأيه وتصرفه، وعلى ضوء هذا التصرف يحق لجساس التصرف بدوره.

إلا أن فتنة البسوس كانت قد استفحلت إلى أن وصلت مسامع الملك كليب ذاته، وتبني بني مرة لها، فتضايق وأرسل بدوره إلى أميرهم جساس لتحذيره ومطالبته بإيقافها داخل «حركات البكريين وإخراج العجوز من القبيلة.»

وواضح أن كلتا السلطتين القبليتين لكلا البكريين والتغلبيين كانت تتوجس وتتجسس على الأخرى.

وهنا تأكد لجساس كلام قومه ومخاوفهم، فرفض الإذعان لمطالب الملك كليب وإبلاغه وكذا طرد العجوزة، وبدلا من هذا واصل تجميع الجموع وتفريق السلاح على قومه وتقويتهم بآلات الحرب والكفاح، وحرص جساس على أن يجري هذا الاستعداد سرا بعيدا عن عاصمة الملك كليب وعيونه، دمشق.

ولما أبلغ كليب أخذته الهواجس وازداد كدره وملأته الحيرة، فتذكر أخاه الزير سالم، وركب إليه في جماعة من فرسانه، وزاره في موطنه ومنفاه الموحش «بير السباع» أو بئر سبع بفلسطين.

فاستقبله الزير سالم مرحبا، وكان ثملا، وما إن أجلسه في مكانه اللائق حتى أخبره كليب أنه إنما جاء ليأخذه إلى القبيلة، «وأقيمك ملكا مكاني»، فكليب قد أضحى طاعنا في السن ولا قدرة له على الحكم والسلطان بعد أن تغيرت الأحوال ووقع النزاع بين القبيلتين، وأنشد كليب:

أخي سالم اسمع ما أقول لك

ففكرك ديره والذهن ليا

أراك اليوم في زهو ولهو

ولا تدري بما قد حل فيا

بنو قيس قد وقعوا بحلف

وجساس نوى يركب عليا

فقوم وشد عزمك يا مهلهل

لأنك أنت جبار عتيا

وإلا راحت البلدان مني

وصرنا مهزلة عند البقية

وكما يذكر الراوي لم تفلح استجارة كليب بأخيه الزير سالم سوى أن الزير ضحك مستهينا بتصورات أخيه الملك، مشيرا إلى قصره الذي شاده من جماجم أعدائه السباع التي قتلها أخذا بثأر حماره.

وأجاب الزير أخاه الملك كليب منشدا بدوره:

يقول الزير أبو ليلى المهلهل

أنا لي في الحرب عزما قويا

سباع الغاب خافت من قتالي

وتخشاني ولم تقدر عليا

فاذهب يا كليب ولا تبالي

واحكم في القبائل بالسويا

7

فإن جارت بنو بكر وخانت

فلن أترك منهم أخي بقية

ويلاحظ رفض الزير سالم للملك والسلطان، ونصيحته لأخيه الملك كليب: «احكم في القبائل بالسويا.»

وهنا تقدم الملك كليب عائدا متوجسا من تهاون أخيه الزير سالم، الذي رفض التخلي عن عزلته هذه في بئر سبع، والعودة معه لمشاركته الكارثة القادمة التي حلت بحكمه وإمبراطوريته، وهو الذي لم يخلف بعد وريثا لعرشه المترامي من زوجته الجليلة التي يناوئه قومها وأخوها جساس. •••

وعلى المستوى القصصي الروائي - والذي هو ليس موضوعنا - يمكن تذكر أن كليب بعد أن تحول إلى مجرد مخلب قط للبطش بأخيه الأصغر الزير سالم من جانب زوجته الجليلة المشحونة - بدورها - من أهلها ضد الزير، على اعتبار أنه الأخ الأصغر الذي يحق له الميراث، كما هي عادة مجتمعاتنا هذه السامية في وراثة الأخ الأصغر، أضف إلى هذا أن الجليلة كانت تنتمي في ولائها القبائلي إلى قبيلتها مرة بدلا من قبيلة زوجها الكلبية، فهي التي أشارت على إخوانها وبيت أبيها بعدم إقدامهم على قتل أي من الأخوين؛ زوجها الملك كليب أو أخيه الأصغر الزير سالم، على اعتبار أنها هي التي ستوقع الفتنة بين الأخوين بدفع زوجها الملك لقتله، سواء بتقمص دور زوجة الأخ الأكبر «أنبوا» في قصة الأخوين الفرعونية الأسرة 18، أو زليخة في يوسف وزليخة، حين ادعت اغتصاب الزير سالم لها، وما أعقب هذه من مطالبته بإحضار - المستحيل - لبن اللبؤة؛ لكي تحمل وتخلف ابنا يرث ملك التبع كليب - قيدوم السرايا - المترامي (من أرض الروم للكعبة دواما)، كما يذكر النص الفولكلوري.

ومن هنا فالجليلة في كل حالاتها تعمل - بكل حيل الأنثى الحقود - على سلب إرث الأخ الأصغر المهلهل، فسواء نجحت أحابيلها ومكائدها في التخلص من الزير سالم بقتله، أو بأن تلد ولدا ذكرا لكليب، فهي في كل حالاتها تتحرك لصالح قبيلتها وسلطتها وتسلطها بدلا من قبيلة الزوج كليب بن مرة.

حتى إذا ما فشلت أحابيلها هذه، سوى من هد كاهل زوجها الملك كليب، وإبعاد الزير سالم بوادي بئر سبع الموحش، مثلما فعلت سارة بإزاء الابن البكري إسماعيل حين أبعدته بوادي بئر سبع أولا، ثم مكة الموحش «غير ذي زرع».

هنا عاودت قبيلتها التدخل ومناوءة الملك المتصلب كليب الذي طعن في السن وحل قتله أو هتكه أو هلهلته، وسلب البكريين بأميرهم الشاب جساس لملكه وسلطته المترامية.

كما يلاحظ أن الجليلة - هي بدورها - قد كفت وتوقفت عن مكائدها ومطاردتها للزير الفتى بعد أن أحضر لها في آخر أحبولة أو مكيدة الوصفة أو الدواء الذي سبق أن أشارت به دايتها، والتي كانت في موقع طبيبتها بإحضار لبان لبؤة بصوفه تحملها الجليلة عبر فرجها لكي تحمل بابن ذكر يرث ملك أبيه كليب، بدلا من الأخ الأصغر الزير الذي كان من المقدر له أن يكون الوريث الطبيعي والشرعي الأصغر، كما هو المتبع عند معظم شعوب وحضارات وقبائل العالم القديم، وبحسب ما يسوقه سير جيمس فريزر في استطراداته في تقديم معلومات تكاد أن تصبح قانونية وشرعية، حين صادفته هذه الفكرة التي ترد بكثرة مفرطة مصاحبة للتراث العبري في ذات المكان على أرض فلسطين بئر سبع وما حولها مصاحبة لنسل إبراهيم وأبنائه، بدءا من إسحق الذي كان توءم أخيه الأكبر إسماعيل، وكان قد عزل أخاه إسماعيل من حقه في وراثة شيخ القبيلة

8

أبيهما إبراهيم بسلب أرضه وممتلكاته وبركاته، كذلك مع ابنيه؛ عيسو أو العيص، أبو العرب الأدوميين في بادية الشام بسوريا والأردن، ويعقوب الذي تسمى بيعقوب من جانب أمه «رفقة»، والتي كانت بدورها تسمى قبل الزواج ب «لبيبة»؛

9

لأنه تعقب أخاه التوءم - عيسو أو العيص - حين ولادتهما وتسمى فيما بعد بإسرائيل، وحيله ومكائده المتوصلة كأنموذج حق للتاجر السامي - كما يرد في التكوين - لاستلاب بركة أخيه الأكبر عيسو ويسلبه حقه في الإرث والبركة من أبيهما الشيخ إسحق الذي كل بصره، ومنها حيلة ارتدائه لملابس أخيه والتخفي تحت جلود الماعز؛ لتمثل أخيه العربي كثيف الشعر، وبذا اكتسب يعقوب - أو إسرائيل - ما ليس حقه من إرث وبركة في أرض فلسطين الموعودة أو المغتصبة.

وعاد يعقوب ذاته فكرر هذا الاستلاب مع أصغر أبنائه «يوسف»، الذي كان «ابن شيخوخته»، ففضله على أبنائه الكبار الأحد عشر، حين خصه بالرداء متعدد الألوان الذي ميزه عن إخوته، فكان أن حقدوا عليه ليميتوه بنفس ما حدث مع الزير سالم - أي داخل البئر - بإيعاز من الجليلة، وبتضامن خفي من جانب قبيلتها القيسية على أن يوكل بمهمة التنفيذ للأخ الأكبر الملك كليب ذاته، حتى إذا ما نجح الزير سالم من الإفلات من حبائل الجميع؛ القبيلة والزوجة المغتالة والأخ الأكبر الغافل، والعودة لهم بمطالبهم، وهو دواء الجليلة ومطمع إنجابها - لبن اللبؤة - وتحقق له الفوز؛ كفوا عنه، وأولهم الجليلة التي يبدو أنها شفيت وأنجبت الابن الذكر الأصغر الوريث - وهو «الجرو» - سرا فأبعدته مخفية كإيزيس ووحيدها حورس.

ومن هنا يتضح أن زيارة الملك كليب لأخيه الأصغر المهلهل، ببئر سبع؛ ليهبه حقه الطبيعي في العرش والعودة به إلى القبيلة وتنصيبه ملكا بدلا منه، يحمل الكثير من التكفير، وهو ما لم يستجب له الزير سالم ويدركه إنقاذا لحق حفظ الميراث داخل القبيلة.

الذي لا بد وأنه كان الهدف الأقصى أو الأعلى لذلك العالم القبائلي الغابر ، ومطمح سيره وبطولاته وملاحمه؛ ذلك أن حفظ الميراث - وصنوه السلطة - هو الهدف الأقصى لكلا تراثنا وواقعنا العربي الماثل، فما بالنا ببؤرة العالم القديم؟

مصرع ناقة البسوس سراب

أما الساحرة اليمنية - متعددة الأسماء وأطوار العمر - البسوس والتي ما إن تتبدى في هذه السيرة مرة شابة جميلة فاتنة، حتى تتحول على الفور إلى عجوز شمطاء شريرة متآمرة، تزرع وتحصد بذور الانشقاق والفتنة بين أبناء العائلة الوطن الواحد.

وهي هنا أشبه بشخصيات الساحرة «كركة» التي تزخر بها الحكايات والفابيولات الخرافية، بدءا من الحكايات والفابيولات العثروتية السامية

1

حتى الهومرية الهلينية، مرورا بخرافات العصور الوسطى، وإلى ما يتواتر على أيامنا.

فما إن حسن كلام السارة البسوس ومدائحها الشعرية لدى أمير بني بكر جساس بن مرة، حتى أقامت لديه هي وقومها وعشيرتها وناقتها الطوطم سراب.

فأخذت «طاسة من الفضة وملأتها من المسك والزباد والعطر، وعمدت إلى ناقتها الجزنانة سراب فدهنتها جيدا بذلك الطيب، وأمرت أحد عبيدها أن يذهب بها ويجيء بالقرب من شرفة مجلس الأمير جساس، فلما استنشق جساس الرائحة، وعرف بأنها لناقة العجوز، فاستدعاها ليسألها عن الناقة، أخبرته البسوس بأنها من «سلالة ناقة صالح»، وفيها خصائص غريبة، فإن بعرها من المسك وعرقها من الزباد.»

ويلاحظ أن هذه الناقة المطلسمة - التي من سلالة ناقة صالح كما تذكر البسوس الساحرة - ستتوحد بالفعل كطوطم أو كناقة «سائبة» بناقة رجل الله صالح، التي عند موتها أو إيذائها أو ربطها

2

ستنزل الكوارث المتوحدة بدورها بالطوفان النوحي؛ كعقاب بالقبائل السامية العربية البائدة والمندثرة عاد وثمود، وتتبدى هذه الفابيولات كتفسير أسطوري وتاريخي لاندثار تلك القبائل البائدة أو العاربة.

فمصرع ناقة البسوس هذه بسهم الملك كليب - الذي سيرشقه معتدلا في ضرعها؛ ليشخب «اللبن والدم» - سيتسبب في إشعال حرب البسوس التي امتدت أربعين سنة بسببها.

كذلك يسري مصرعها متوحدا مع رأس الملك التبع المغتال حسان اليماني، ويطغى عليه إلى أن يفوقه على طول التواتر الروائي لهذه السيرة الموغلة في الطوطمية المصاحبة للتفكير البدائي، والذي هو اليوم بالنسبة للدراسات البنائية في موقع المانيفستو البنائي منه كما يذكر ليفي شتراوس.

وهو ما سنتعرض له في دراسات متأنية أكثر لاحقة في هذا الكتاب.

فحين أعجب جساس وطلب حيازة الناقة بأي ثمن، هنا لطمت العجوز وجهها، مشيرة إلى أن هذا ما توقعته، «فإني ما هجرت بلادي إلا لأجل هذه الناقة التي كلما نظرها ملك أو أمير طلبها مني.» ثم قررت الرحيل بقلب حزين.

فمضى جساس يستعطفها مطمئنا بإقامتها بسلام لديه هي وناقتها، وهنا طالبته العجوز بمرعى يليق بناقتها الطلسم هذه.

ويلاحظ أن البسوس هنا لا تطلب مرعى بقدر ما هي تطلب «حمى أو حمية» كحمى مكة وحمى الطائف؛ حيث ترتع النوق السائبة التي من «نسل ناقة صالح» رغم هزالها وجربها، فمن الواضح إذن أننا بإزاء ناقة مقدسة أو تابو، خاصة إذا ما كانت من نسل ناقة «النبي» صالح، الذي تتواتر أساطيره ومأثوراته حول ناقته أو طوطمه المقدس الممثل في الناقة، والذي كان قد أرسل هو وناقته إلى قوم ساحرتنا البسوس هذه الحميريين القحطانيين اليمنيين؛ عاد وثمود وطسم وجديس وبقية الاثني عشر سبطا أو قبيلة مندثرة، منها العماليق ورائش وعرفات وجرهم.

ومن هنا يلاحظ تواجد اتساق طوطمي بين البسوس وناقتها من جهة، وبين ناقة صالح من جهة مقابلة، الذي تخبرنا فابيولاته أنه كان قد أرسل إلى قوم عاد وثمود البائدة أو المندثرة، وإن دولة عاد هذه كانت دولتين، ويرى البعض أنها كانت متعاصرة في اليمن وعمان وحضرموت مع حكم الأسرة الثامنة عشرة في مصر الفرعونية، وفي فترة حكم الملك تحتمس الثالث.

بينما معاصرتها دولة ثمود كانت تحكم نجد والحجاز والشام بأسره، متضمنا لفلسطين والأردن، وكان منهم الأشداء أو الأشدوديون الفلسطينيون الذين تميزوا بنحت بيوتهم في الجبال.

3

ولهاتين الدولتين الساميتين المتعاصرتين - «عاد وثمود» - أرسل النبي صالح وطوطمه الناقة إلى البلاد اليمانية، مع ملاحظة أن تسمية اليمن كانت تطلق متضمنة الشام وفلسطين بأسرهما؛ لذا تواتر تسمية اليمنيين وذي اليمنين، على اعتبار أن إحدى اليمنين كانت متوحدة شمالا وجنوبا.

كذلك ينسب إلى قوم عاد بناء مدينة دمشق.

فالناقة - أنثى الجمل - من أقدم المعبودات - الآلهة الطواطم - العربية.

ويلاحظ أن العربي القديم كان يتبدى في الآثار الحفرية المصرية والأشورية والبابلية والفارسية القديمة جمالا،

4

فالجمل حيوان مهم جدا عند البدوي القديم، وكان وحدة قياس لمهر العروسة، ودية أو فداء القتيل، والميسر والتضحية، يشرب البدوي لبنه بدلا من الماء (سورة النحل).

وحفظ هذا الحيوان - الطوطم - في اللغة العربية؛ فمن اسمه اشتقت تعبيرات جمال والجمال والجميل والجامد والجيد، وكذا الجمائل والفضائل، وتحوي اللغة العربية للجمل نحو ألف اسم مختلف، ويرى البعض أنه كان من العوامل التي سهلت الفتوح العربية ثم الإسلامية؛ نظرا لجلده على تحمل العطش - شقاء - 25 يوما.

كذلك عرف العرب الجاهليون شعائر النوق والجمال السائبة التي تترك لترعى في حمى الأرض الحرام - مثل: مكة والطائف - منافعها للآلهة، فإذا ولدت الناقة خمسة بطون آخرها ذكر، شقوا أذنها وأخلوا سبيلها، فلا تركب ولا تحلب، وتصبح سائبة، فكانت تنذر للآلهة والأرض المقدسة أو المحرمة، فيقول العربي: «إذا شفيت فناقتي سائبة.» وهكذا تصبح الناقة محرمة، أو تحت التابو للآلهة الأصنام بدلا من الناس.

فما يهمنا هنا هو توحد كلتا الناقتين لصالح والبسوس؛ ذلك أن كلتيهما تسببت في كارثة قومية أسطورية: ناقة صالح - أو ناقة الله - التي كانت سائبة للآلهة فعقرها له قومه، فكان أن دمر رجل الله قبائل عاد وثمود، حين أرسل عليهم الرعاف - السيول - كعقاب، كما هو الحال مع قوم نوح والطوفان.

ويلاحظ أن «صالح» الذي أرسل إلى قوم أو قبائل «ثمود» الآرامية، وكانوا يسكنون اليمن إلى أن طردهم الحميريون القحطانيون وبالتحديد حمير بن عبد شمس، الملقب بسبأ؛ «لأنه كان يسبي أعداءه»، فنزلوا مدائن صالح بالحجاز، وأصبحوا مضرب الأمثال في التفريق، فقيل فيهم: «لعبت بهم أيدي سبأ.»

وعنهم أنشد المتنبي:

أنا من أمة تداركها الله

غريب كصالح في ثمود

كما قيل فيهم:

فأهلكوا ناقة كانت لربهم

5

قد أنذروها وكانوا غير إنذار

كما يلاحظ أن الكشوف الحفرية أثبتت وجود مدائن صالح المعروفة بهذا الاسم شمال غرب السعودية إلى اليوم، ومن معالمها الأثرية البارزة اليوم، وأورد اسم مدائن صالح المؤرخ «سترابون »، وذكر الطبري أن ثمود أقامت في الحجر وضواحيها بين الحجاز وسوريا، «وهي تفوق في ضخامتها مدينة البتراء

6

وآثارها المتبقية؛ فهي عبارة عن أضرحة ومدافن يبلغ عددها 130 مدفنا، عليها كتابات ثمودية ونبطية، ووجد رسم الجمل الطوطم كوحدة أساسية في هذه الحفائر الثمودية.»

فتوحد ناقة صالح مع ناقة البسوس يضيف بعدا جديدا لنسبهما؛ ذلك أن الساحرة سعاد نجحت بعد تزيينها ودهنها بالطيوب لأن تتركها سائبة ترعى في مراعي وحمى الملك كليب ذاته، ملفتة إليها الأنظار بالطيوب التي عنها يذكر هيرودوت أن بلاد العرب كانت تفوح بالعطر والطيوب؛ لأنها - كما يقول - البلاد الوحيدة التي تنتج المر واللبان والقرفة واللادن. أما الجغرافي «سترابون» فدعا جنوب الجزيرة العربية «بلاد الطيوب» كما ذكر «ديودورس الصقلي» أن أرض الجزيرة تثمر الطيوب؛ بحيث كانت تربتها نفسها تعبق بالأريج.

كما تصاحب هذه الطيوب الأسطورة القحطانية المصاحبة لأرض الميعاد العربية، حين أوصى قحطان - أبو العرب الجنوبيين اليمنيين - ابنه يعرب بأن يسير مهاجرا متبعا رائحة المسك والطيوب، إلى أرضه المقدرة أو الموعودة في الشام واليمن.

وحيث شملت تسمية اليمن «كل ما هو واقع على يمين القبلي.»

وهكذا اندفعت هذه الناقة السائبة ترتع، إلى أن دخلت «بستان أو حمى كليب»، الذي كان من «أحسن منتزهات الدنيا»، والذي يذكرنا ببساتين الزرع والضرع للآلهة الممزقة - المغتالة ككليب - بستان أويزيريس، والذي حفظت شعائره في زهرية أو قصرية زرع بذور جثمان الإله الممزق موسميا، تبعا لوالي الجدب والنماء والاخضرار، وحديقة أدونيس

Adonis

فيما بين النهرين، وأتيس

Attis

الفريجي أو الأناضولي، وكذا ديونزيوس، وديونزيوس زاجريوس في كريت وجزر البحر الإيجي.

فهو بستان أو حمى مقدس للملك كليب، مضت ناقة البسوس - سراب - تعبث به آكلة زهوره وأشجاره وثماره، وعندما حاول عبيد كليب إرجاع الناقة، اشتبك معهم رعاة البسوس، وكبرت المكيدة إلى أن وصلت مسامع الملك كليب الذي أمر رعاته بذبحها - سراب - وطرحها خارج البستان.

وما إن عاد عبيد البسوس إليها بالخبر وجثة ناقتها المضرجة بالدم حتى صاحت: الآن بلغت مرادي وأخذت ثأري من الأعادي.

وأمرت عبيدها بسلخ جلد الناقة الذبيحة وتلفحت بها وشقت ثيابها هي وبناتها وعبيدها ، ومضت تبكي وتندب إلى أن وصلت ديوان الأمير جساس، ملقية بجلد الناقة الذبيحة بين يديه. •••

ومرة ثانية تطل هذه الشعيرة العربية الأصل والمنشأ - كما يرى فريزر - المتصلة بالتوحد مع الحيوان الإله - أو الطوطم - عن طريق ارتداء جلده، كما فعل كليب ذاته - ليلة العرس الدامي - للملك التبع حسان اليماني مختطف زوجته الجليلة، حين تخفى متنكرا تحت جلد الكباش والثعالب

7

أنيوبيس، وكما فعلت سعاد الساحرة - البسوس - حين تلفحت بجلد ناقتها المقدسة الذبيحة، فهي هنا إنما تتوحد بالحيوان الإله الذبيح في استجارتها بجساس الأمير.

وحين أعلمت جساس بالأمر «عصفت برأسه نخوة الجاهلية.»

وقام إليها فصرفها مهتاجا مطمئنا متوعدا بالانتقام من الملك الجائر كليب.

فذهبت البسوس مستبشرة ببلوغ مرامها في الثأر لرأس أخيها الملك التبع من مغتاله كليب.

أما جساس فقد شكا إلى قومه، وما وقع من كليب، فهدأه أكابر عشيرته، وأشاروا بأن يرسل إليه جساس مكتوبا يعاتبه فيه، على أنه لم يرع حرمة ضيوفه.

فاستصوب جساس الأمر وكتب كتابا إلى الملك كليب يعلمه بما حدث، ويطلب منه ثمن الناقة تعبيرا عن حسن النية.

وأرسل المكتوب مع عبده «أبو يقظان» - الذي كثيرا ما يرد اسمه «أبو يقظان» - ولو أن الاسم الأخير - يقظان - هو الأصح، يصبح الأمر أكثر وضوحا.

فيقظان هي التسمية العبرية لقحطان - أبو العرب الجنوبيين اليمنيين - «وهؤلاء بنو يقظان، وكان مسكنهم من ميشا حينما تجيء نحو سفار جبل المشرق»، تكوين 10، فيقظان هنا في موقع آدم وسام وآرام وكنعان وإسماعيل بالنسبة للأقوام والحضارات السامية العربية وما يتبعها كرأس سلف لقوم أو شعب أو حضارة.

فالأب السلف - قحطان - يرد باسم «يقظان» في كوزمولوجي النسابة العرب، وهو أبو «يعرب» الذي ورث لغة العرب البائدة العربية، وكان بقية العرب «يتكلمون بلسان العراق - أي الكلدانية - ثم تعلموا العربية» كما تذكر المصادر العربية الكلاسيكية.

وينسب لحسان بن ثابت أنه كان يفخر على العرب العدنانيين في الحجاز ومكة بقومه اليمنيين القحطانيين:

تعلمتم من منطق الشيخ يعرب

أبينا، فصرتم معربين ذوي نفر

وكنتم جميعا ما لكم غير عجمة

كلام، وكنتم كالبهائم في الفقر

فيلاحظ أنه في حال صحة تسمية يقظان - الخادم المقرب أو رسول الأمير جساس - رأس العرب البكريين تكون العجوز البسوس قد نفذت إلى قصره وإلى بث عيونها وبني قومها في أقرب «أجهزة» جساس، وهذا هو الأرجح؛ ذلك أن الرسول أبو يقظان أو يقظان ما إن تسلم رسالة جساس إلى كليب حتى مر على العجوز البسوس وأخبرها بما حدث، فلاطفته بالكلام وقدمت له الطعام، ثم أخذت تسقيه المدام حتى سكر وغاب عن الصواب، ثم سرقت الخطاب وقرأته ومزقته لخلوه من التهديد والوعيد، وأضافت إليه كلاما مليئا بالشتائم والتهديد، ودسته في جيب الرسول بدلا من سابقه وهو ثمل نائم:

أمير كليب يا كلب الأعارب

أيا ابن العم لا تكبر عليه

فلازم أذبحك بحد سيفي

وأنت شبيه حرمة أجنبية

وواضح أنه شعر دخيل ملفق، إضافة راو - ويرجح راوية - دون مستوى الشعر الملحمي وشعر البطولة والمراثي والمعلقات عالية القيمة التي تتسم بها هذه السيرة الملحمة - التي يتعاقب فيها الشعر والنثر - العربية.

كما أن هذه المكيدة البسوسية الأخيرة تبدو دخيلة؛ ذلك أنها ترد بكثرة في الحكايات العائلية لقصص الحب والعشق والزواج الشعبية، وأقيمت إحدى فابيولات نصوص المسرح الفولكلوري المرتجل أو مسرح الفلاحين، كما سبق لي جمعه ونشره بأهرام عام 1964م، وهو نص «القائد الأعمى» الذي كانت تخونه زوجته، وحين تلقت منه خطابا موجها إلى الملك يفيد انتصاره في إحدى حروبه، أضافت إليه ما يفيد بأن زوجها الملك سيعود إليها منتصرا فيقتل ملك البلاد، ويصبح ملكا بدله، ودفعت بالخطاب إلى الملك الذي ما إن استقبله حتى «خزق» عيني قائده المخلص، وأحاله إلى أعمى، كما يذكرنا استبدال الخطاب بخطاب كلوديوس إلى ملك إنجلترا الذي يطالبه فيه بالتخلص من هاملت بقتله، وعبر البحر سرقه هاملت من حارسيه: «روزنكرانتز وجيلد لنستون» واستبدله بعكسه - أي بقتل الرسولين.

وبحسب نظرية التوالد الذاتي للموضوعات القصصية الأنثروبولوجية التي توصل إليها آثر تيلور وتلميذه «أندرو لانج»، فإن مثل هذا الأمر في اجتذاب جسد سيرة كهذه - الزير سالم - لعديد من التضمينات والمأثورات المهاجرة - ذاتيا وخارجيا - أمر ممكن وشائع بكثرة في هذه السيرة الملحمة، وبعامة سيرنا العربية.

المهم هنا أن العجوز الساحرة المنتقمة حققت خطتها في الإيقاع بين أبناء القبيلة أو البيت الواحد بمثل ما توعدت ساحرة طروادة - كاسانديرا - بيت آتريوس، بل وتنبؤها بوقوع حرب طروادة ذاتها قبل أن تقع.

فما إن أفاق الرسول أبو يقظان من سكره، حتى طار إلى قصر الملك كليب بدمشق، فدخل عليه وأعطاه المكتوب المسموم الذي سبق للبسوس استبداله.

وما إن قرأه كليب حتى مزقه غيظا وأمر بجلد الرسول الذي عاد بدوره فأخبر سيده جساس بما جرى وزاد عليه.

وهنا بدأ جساس من فوره الاستعداد للحرب، فجمع فرسانه وأخبرهم بما جرى من كليب ملكهم، قائلا: «استعدوا لقتال بني تغلب الأنذال.»

وحاول عقلاء قومه إرجاعه، فمن أجل ناقة جربانة نقاتل ابن عمنا الملك كليب، ونقسم وحدة العرب؟

وحين تردد جساس من منطق قومه، قصد العجوز الساحرة ليعطيها ما تطلب ثمنا لناقتها، إلا أنها أجابته: «أريد واحدة من ثلاثة أشياء: إما أن تملأ حجري بالنجوم، أو تضع جلد الناقة على جثتها لتقوم، أو رأس كليب بالدماء يعوم.»

ومرة ثالثة تبرز أهمية عنصر «الناقة المقدسة» بما يوحدها أكثر بناقة ولي الله صالح المقدسة التي أهانها قومه؛ فتسببت بمجيء العقاب أو طوفان - الرعاف - العطش، الذي دمر كلا عرب الشمال والجنوب أو ثمود وعاد. يرى البعض أنها هي بذاتها سلوم وعمورة مدينتا البحر الميت بالأردن وفلسطين التي ذكرت في نصوص البحر الميت الأركيولوجية، وأكدتها نصوص «رأس الشمرا» السورية التي اكتشفت عام 1929م بالقرب من اللاذقية، وفيها وردت الأصول الأولى لتراثنا العربي والسامي؛ من أساطير وملاحم وممالك ترجع إلى القرن الرابع عشر قبل الميلاد، مثل أسماء وممالك الحضارات والقبائل المندثرة، مثل سدوم وعمورة وتيرا أو طيرة

Tyre

والقبائل الحجازية والفلسطينية: عرفات وجرهم ... إلخ.

فحين طالبت العجوز جساس ثمنا لناقتها - الطوطم - المغتالة بأن يضع «جلد الناقة على جثتها لتقوم»، واختار هو بدوره أن يجيئها «برأس كليب في الدماء يعوم.»

اغتيال كليب ملك العرب

خرج الأمير جساس من عند الشاعرة البسوس قاصدا قصر الملك كليب بدمشق، وأطلقت العجوز - بدورها - عبدا في أثره خفية، إلى أن وصل ودخل قصر الملك وسأل عليه أخته الجليلة، فأخبرته بأنه ركب الآن ليطبع مهرة في «وادي الحصا والجندل»، وواضح أنه واد موحش ومهجور ملائم لواقعة اغتيال ملك مهيب ككليب.

ذلك أن جساس أطلق عنانه إليه قاصدا من فوره وادي الحصا والجندل ذاك متبوعا - دون أن يدري - بعبد البسوس المكلف منها بمراقبته، وبأن يأتيها برأس كليب حتى تشفي لهيبها بنار أخيها التبع حسان، وعلى أقل تقدير: رأس ناقتها!

ذلك أن كليب ما إن رأى جساسا مقدما عليه بكامل عدة حربه حتى تعرفه، لكن جساس راوغه مخبرا بأنه كان في طريقه للصيد، وما إن مر به حتى جاءه مسلما ومعاتبا لقتل رعيانه لناقة نزيلته «العجوز الشاعرة وبعلها الأعمى.»

وأجابه كليب بعدم معرفته للأمر، وعرض عليه عوضا «أربعمائة ناقة، فليس من داع للنزاع والخصام بيننا؛ فإننا أولاد عم وأصهار.»

وواصل جساس خداعه مغيرا الموضوع قائلا: «مرادي أن ألعب معك سباقين بالجريد.»

1

يا جساس أنت راكب ظهر القميرة وأنا راكب مهرا جاهلا.

أسوق أمامك والمهر يسبق الفرس.

وتبعه كليب حتى حكمه تحت يمينه وضربه بالجريدة فأصابت ظهره، فقلبته عن ظهر الفرس القميرة

2

فانحدر الدم من فمه ومناخيره.

وحاول كليب التخفيف عنه طالبا منه أن يضربه وينتهي الحال، إلى أن لحق به عبد العجوز بجساس خلسة، ومضى يشحنه دافعا إياه لاغتيال الملك من ظهره، وساعده العبد في أن يركب مستندا إلى أن باغت كليب «وهز في يده الرمح وطعنه في صدره حتى خرج يلمع من ظهره.»

فسقط كليب يتخبط في دمه، فندم جساس وتقدم إليه وقبله في ... وعارضيه وضمه إلى صدره ووضع رأسه على ركبتيه وقال: «سلامتك يا أبا اليمامة، فقد حلت بي الندامة.»

وطالبه كليب بشربة ماء وقال معاتبا متحسرا:

بيوم الضيق كان يزيل همك

أيا جساس قد أهرقت دمي

أيا غدار تطعنني برمح

ولست أنت في الميدان خصمي

وأشمت الأحاسد والأعادي

وباتت إخوتي تبكي وأمي

على ناقة أتقتل ابن عمك

أمير كريم من لحمك ودمك

بلوم الضيق كان يزيل همك

ويردي الضد في يوم النزال

وما إن فرغ الملك المغتال من شعره الدامي حتى ارتعد جساس وذبلت أطرافه وهو يبعده عنه ليسقيه مرتاعا.

وتركه هاربا مجندلا لعبد البسوس، الذي تقدم منه ليجز رأسه ويعود به إلى سيدته «الهايلة»، فاستمهله كليب حتى يكتب مرثيته الذاتية ووصيته إلى أخيه المهلهل، وأنشد من فؤاد متبول كما يذكر النص الفولكلوري:

يقول كليب من ربيعة

فدمعي فوق خدي كالقناة

جفاني الدهر

3

وأرماني سقيم

فهذا الدهر كم مثلي فناه

خرجت أنا على مهري أسير

فليس معي أنا إلا العصاه

فإذا ابن مرة جاء خلفي

يريد قتلي وإبليس طغاه

ضربته بعصاي فوق ظهره

تقنطر راح من فوق الوطاه

أتى من خلفه عبد غريب

سريعا أركبه وركب حداه

فاستعد وجاني في سرعة

وناره بالحشا زادت لظاه

قال لي دير وجهك يا ابن عمي

يريد الغدر مني بالقناه

فأحكم طعنة في سريعا

وراح جساس هارب بالفلاه

هديت لك هدية يا مهلهل

عشر أبيات تفهمها الذكاه

وأول بيت أقول أستغفر الله

إله العرش لا يعبد سواه

وثاني بيت أقول الملك لله

بسط الأرض ورفع السماء

وثالث بيت توصي باليتامى

واحفظ العهد ولا تنسى سواه

ورابع بيت أقول الله أكبر

على الغدار لا تنسى أذاه

وخامس بيت جساس غدرني

انظر الجرح يعطيك البناه

وسادس بيت قلت الزير أخي

شديد البأس قهار العداه

وسابع بيت سالم كون راجل

لأخذ الثأر لا تعطي وناه

وثامن بيت بالك لا تخلي

لا شيخ كبير ولا فتاه

وتاسع بيت بالك لا تصالح

وإن صالحت شكوتك للإله

وعاشر بيت إن خالفت قولي

أنا وإياك إلى قاضي القضاة

وما إن انتهى كليب حتى تقدم العبد منه، وذبحه من الوريد إلى الوريد، وحمل رأسه في المنديل، وعاد به إلى سيدته البسوس، التي فرحت واحتضنت الرأس، وجمعت لوازمها وبقية قبيلتها وسافرت ليلا سرا، عائدة إلى مواطنها اليمن.

وفي بعض النصوص الكلاسيكية التقليدية، يقال: إن عمرا - الملقب بجساس أصغر أبناء مرة بن ذهل بن شيبان عم كليب - رفض أن يسقيه حين طالبه كليب محتضرا مجندلا: «يا جساس، أغثني بشربة ماء.»

فأجابه جساس متشفيا: «هيهات، تجاوزت شبيثا والأحص»، ويبدو أنهما سبيلان كانا للماء، والمرجح أنهما كانا إلهين جاهليين طوطميين.

كما تحتفظ هذه النصوص أن مقتل كليب وقع بأرض يقال لها: «الذنائب عن يسار مكة إلى فلجة وفيها قبره» ومعلقاته ووصيته المنقوشة على الحجر.

وعلى هذا فهناك أكثر من نص مدون لهذه السيرة الملحمة، على اعتبار أن نصوصها الشعبية أو الفولكلورية لم تصلنا إلا مدونة، سوى من بعض الشذرات الشفهية الفولكلورية من مأثورات وشعر شعبي.

إلا أن الملاحظ أن الصيغة العربية أو التقليدية الأدبية تحرك مسرح أحداثها إلى مكة وتخومها، بينما تحفظ الصيغ الفولكلورية والطبعات الشعبية مكان الأحداث ومسرحها يجري ما بين الشام دمشق وفلسطين، حيث بئر سبع أو السباع منشأ وموطن بطلها الزير سالم أبو ليلى المهلهل، وحيث العاصمة دمشق.

وفي هذه الحالة طبعا ترجح كفة النصوص الشعبية الفولكلورية عن تلك التي وردت في المؤلفات العربية الكلاسيكية الوسطوية؛ مثل «كشف الظنون» لحاجي خليفة، وكتب الأغاني للأصفهاني

4

والحماسة، وجمهرة أشعار العرب وخزانة الكتب، وهكذا.

فمثلا يخبرنا «كشف الظنون»

5

أنه كان للمهلهل ديوان كامل من الشعر، بالإضافة لمعلقات كليب والجليلة، البسوس.

والملفت أيضا أن النصوص العربية الكلاسيكية لهذه السيرة لا تبدي تعاطفا يذكر نحو كليب والزير، بل هي تصوره في هيئة شيخ القبيلة الطاغية المعتدي أو المغتصب - كما أسماه

6

لويس عوض - للماء والكلأ.

فنسبت له هذه المصادر الأدبية الأسطورية العربية مصادرته لكلا مصدر الحياة في البادية، وهما: الماء والكلأ، فاتخذ جرو كلب، فلا ينزل مكانا به كلأ أو ماء إذا ما أطلق جروه فيعوي فيه، فلا يرعى أحد ذلك الكلأ إلا بإذنه، فضرب به المثل: «أعز من كليب وائل»، بل إن من نفس هذا المدخل، ويمكن القول - التحريض الطبقي - دلفت البسوس المنتقمة المحرضة منه، حين رمى كليب ناقتها بسهمه فأصاب ضرعها، فمضى يشخب دما ولبنا، وكان أن صرخت البسوس في قبائل بني مرة محرضة: «هذا الباغي الذي حمى عليكم الماء والكلأ.»

وراحت تنشد ما عرفه العرب بالموثبات:

لعمري

7

لو أصبحت في دار منقذ

لما ضيم سعد وهو جار لأبياتي!

ولكنني أصبحت في دار غريبة

متى يعد فيها الذئب يعد على شاتي

فيا سعد، لا تغرر بنفسك وارتحل

فإنك في قوم على الجار أموات

ودونك أذوادي إليك، فإنني

محاذرة أن يغدروا ببنياتي

وسر نحو جرم إن جرما أعزة

ولا تك فينا لاهيا بين نسوات

إلى أن طمأنها جساس بن مرة: «أقصري يا خلتاه، فسيقتل غدا جمل أعظم من ناقتك.»

وعلى هذا الحال قتل جساس كليبا ولم يسقه، بل إن وفود الرعاة كانوا يهربون من منظر احتضاره «وكليب يشير إليهم بيده أن يسقوه فلم يسقه أحد حتى مات.»

وعلى هذا فالاختلاف بين النصين - أو النصوص - من عربي أدبي تقليدي أو رسمي تتناثر مأثوراته في تراث الأدب العربي، ومن شعبي فولكلوري عامي من حيث اللغة يتبدى واضحا ليس فقط من حيث اللغة، من فصحى في الحالة الأولى، وعامية ولهجاتها بحسب كل موطن عربي، بل إن هذا الاختلاف يمتد مشتملا أبنية السيرة ذاتها، سواء القرابية القبائلية العشائرية وما يتبعها من تفريعات - أي من رأس لبطن لفخذ - أو حتى بالنسبة للشخصيات وفضائلها.

من ذلك تصوير الأدب العربي الرسمي وتاريخه لموت كليب الذي نفق عطشا، ورفض رعاة البهائم أن يسقوه، والنظر إليه كملك طاغية، ونفس هذا الرفض - ويمكن القول: التشويه - لحق أخاه الزير سالم، وهو على العكس الكامل من جانب المنظور الشعبي الجماعي الفولكلوري خاصة بالنسبة لبطله الشاعر المقاتل الزاهد - بل الأقرب للثورية - الزير سالم - أبو ليلى المهلهل - الذي سيقتلعه مصرع أخيه الملك كليب واغتياله من منفاه وعزلته الاختيارية ببئره بئر سبع بفلسطين.

وتفضح هذه السيرة الملحمية فصولها التالية الرئيسية للزير المحارب ومراثيه الشهيرة في كليب: «كليب لا خير في الدنيا ومن فيها.»

بل إن كليب ذاته حذره في وصاياه العشر أن «لا يصالح» أبدا، والذي تشير رأسه المنتزعة عن جسده المغتال من الظهر إلى توحده برأس «آدم» أبو البشر لدى تلك القبائل الأدومية التي كانت من أقدم عبدة «الجثمان» السلفي لكالب - الأب - المغتال، رأس تلك القبائل الكالبية التي تأكد وثبت تواجدها التاريخي منذ مطلع الألف الثانية ق.م.

مأساة الجليلة بنت مرة

فبينما يتبدى مصرع كليب كملك أو إله ذبيح ممزق أو معذب، طعن من الظهر غدرا في النصوص الشعبية، يتبدى موته كطاغية يحرم قومه من الماء والكلأ في الأدب العربي الكلاسيكي.

كذلك زوجته الجليلة بنت مرة التي تتبدى شريرة مطاردة منكلة ببطل السيرة وشخصيتها المحورية - الزير سالم - في النصوص الشعبية الفولكلورية مثلها مثل سارة مع إسماعيل، وزوجة الأخ الأكبر في قصة الأخوين الفرعونية، ودليلة مع شمشون الفلسطيني.

فبينما لا يحتفي ويذكر النص العربي الفصيح مكائدها واضطهاداتها للزير سالم، بل هو يصورها - أي الجليلة - وينسب لها أعنف وأصعب المواقف التراجيدية عالية القيمة، التي عرفها الشعر العربي ومعلقاته على الإطلاق.

فعندما ناحت النساء على كليب وخمشن الوجوه ونثرن الشعور وخرجت معهن الجليلة بنت مرة تبكي زوجها ورجلها معهن، فقلن لها: «ابعدي عنا فإنك شامتة، وقد حرضت أخاك على قتل سيدنا.» بكت الجليلة منشدة معبرة عن موقفها الأصعب على طول هذه السيرة:

يا ابنة الأقوام إن لمت فلا

تعجلي باللوم حتى تسألي

فإذا أنت تبينت الذي

يوجب اللوم فلومي واعذلي

وإذا أخت امرئ ليمت على

شفق منها عليه فافعلي •••

جل عندي فعل جساس بنا

غمة للدهر ليست تنجلي

فعل جساس على وجدي به

قاطع ظهري ومدن أجلي

لو بعين فقئت عين سوى

أختها فانفقأت لم أحفل

يا قتيلا قوض الدهر به

سقف بيتي جميعا من عل

هدم البيت الذي استحدثته

وانثنى في هدم بيتي الأول

خصني قتل كليب بلظى

من ورائي ولظى مستقبلي

ورماني قتله من كثب

رمية المصمى به المستأصل •••

يشتفي المدرك بالثأر، وفي

دركي ثأري ثكل مثكلي

إنني قاتلة مقتولة

1

ولعل الله أن يرتاح لي!

ثم خرجت حتى لحقت بأهلها.

لكن يستوي في كلا النصين - الفصيح والعامي - وصول خبر مقتل كليب للمهلهل في قصره ببئر سبع، وقولته المأثورة : «اليوم خمر وغدا أمر»، ثم انسحاب صديقه «همام» الأخ الأكبر لمغتال أخيه جساس، ثم تخلي الزير سالم عن كأسه وطاسه، قائلا:

دعيني فما في اليوم مصحى لشارب

ولا في غد آه ما أقرب اليوم من غد

ثم أنشد مرثيته الكبرى، في رثاء أخيه المغتال كليب:

كليب لا خير في الدنيا ومن فيها

إن أنت خليتها فيمن يخليها

وتتفق كلتا النصوص العربية الأدبية والشعبية الفولكلورية في أن المهلهل الزير سالم ظل لفترة كبيرة يعاني التحول أو التبدل من حالة لنقيضها، من الزير الغارق لأمة رأسه في الخمر والنغم والشعر، منعزلا في بئر سبع، للملك الفارس المنتقم لأخيه المغتال غيلة بوادي الحصا والجندل

2

بالشام، وهو يطوف أطراف ملكه وقبائله باكيا نادبا يرثي أخاه ولا يفعل شيئا سوى التحريض على القتال والوعيد، حتى سخرت منه بنو بكر قائلين: «إنما المهلهل نايحة ليس غير.»

وما إن انتبه تردده ذاك - الهاملتي - في حسم موقف الانتقام لأخيه الملك المغتال كليب، حتى توسط منتدى قومه،

3

فجز جدائله المنسدلة مثله مثل الأبطال البهيميين البريين الذين تربوا مع الحيوانات، مثل «أنكيدو» وصنوه المتوحد معه - رأسا لقدم - شمشون.

فحرم اللهو وشرب الخمر والتزين، وأن لا يدهن «حتى أقتل بكل عضو من كليب رجلا من بني بكر بن وائل.»

وهنا يحق لنا التريث أمام مقولة الزير سالم المثكل التي فيها يتوعد قبائل بني بكر بن وائل بأنه سيضربهم بكل عضو من كليب أو قبائل كليب أو الكلبيين أو بني كليب، بما يؤكد أن كالب وكليب قبائل تنتمي إلى التحالف الكنعاني الفينيقي أو البحري من لبنانيين وفلسطينيين وسوريين بأكثر من انتمائهم وسلفهم المغتال كالب إلى شمال الجزيرة العربية في نجد والحجاز، وهو الخلاف الجوهري لموطن وجغرافية هذه السيرة - الملحمة - ما بين معالم نجد والحجاز والمأثورات الفصحى، والشام وفلسطين من النصوص الفولكلورية.

فمما يؤكد العودة بمسرح أحداث هذه السيرة إلى ربوع الشام وفلسطين، وهو - كما أسلفنا القول - ما يتبدى جليا إلى حد وثوقي في نصوصها الشعبية الفولكلورية في مواجهة مأثوراتها المتناثرة العربية أو الفصحى، مع الأخذ في الاعتبار أن التحالف الكالبي الطوطمي البحري للفينيقيين من لبنانيين وفلسطينيين وسوريين، الذين وصلت هجراتهم وفتوحاتهم وشتاتاتهم منذ أقدم العصور مطلع الألف الثانية قبل الميلاد إلى إنجلترا وأيرلندا وبعض دول الشمال الأوروبي عامة، كذلك كان للكلبيين شتاتاتهم وقبائلهم في الجزيرة العربية نجد والحجاز، بالإضافة إلى تواجدهم في مصر حين التقى بهم المؤرخ بليني القرن الثاني ق.م حول بحيرة مريوط، ووصفهم بأنهم أغرب أقوام دينية صادفها.

وقبل العودة إلى أحداث ملحمتنا، أود أن أشير إلى أن مجرى الأحداث المركزية لها، سيعود بالسيرة - عقب مصرع كليب - سيعود بنا أكثر إلى ربوع الشام وفلسطين والأنباط الأردنيين.

فكان أول ضحايا الزير ابن أخته «الضباع»

4

زوجة صديقه الوفي الأمير همام بن مرة، الأخ الأكبر للأمير جساس مغتال الملك كليب.

ذلك أن هذا الشاب اليافع «شيبان» فضل البقاء مع خاله الزير سالم حين ساءت الأمور بين القبيلتين بكر وتغلب متخليا عن أبيه همام وقبيلته، مبقيا على قبيلة خاله، اتساقا مع هذه القبائل الأمومية في الانتماء إلى قبيلة الخال الكلبية أو تقديسها.

ففي محاولة من شيبان الصغير لشحذ قوى خاله الزير سالم في الانتقام من قبيلته - أعمامه - أغضبت الزير سالم، فأمسك بابن أخته وضرب به الأرض حتى مات، فقطع رأسه وأرسله إلى أهله وأخته ضباع على ظهر جواده، الذي سار به إلى أن أوصله إلى قبيلته وأهله، وما إن تلقته أمه الضباع حتى شقت ثيابها ورحلت إلى الزير سالم وقالت: أتقتل ابن أختك بثأر أخيك؟

وظلت منذ هذا الحادث الفاجع تضمر لأخيها الزير سالم كل حقد، بل لعل في موقف هذه الأخت الإلهة - الطوطم - ما يجيء سرطانيا مخالفا للنسيج القبائلي المشكل لمجمل هذه السيرة بعاداته وطقوسه، فكيف قدر لضباع - الأخت الثالثة لكليب والزير سالم - الانحياز لقبيلة زوجها القيسية بدلا من قبيلتها التغلبية أو الكلبية، خاصة بعد مصرع أخيها الملك كليب؟

وهو على العكس التام طبعا من موقف الجليلة التي عادت منتمية إلى قبيلتها بدلا من زوجها.

وهو تساؤل نرجئ الإجابة عنه مع توالي أحداث الضباع والزير سالم.

ذلك أن الضباع ما إن استخرجت رأس ابنها شيبون من خارج حصانه، حتى أنشدت تقول مفصحة عن فاجعتها بفقد الأخ والابن:

تقول ضباع يا سالم علامك

بجاه كليب ما سويت بابني

بثأر كليب تقتل ابن أختك

وتحرق مهجتي وتزيد حزني

حزنت على كليب وما جرى له

وحزني في صميم القلب مبني

ولكن قد حكم ربي مراده

وربي ما كتب لي هو يصبني

فأجابها الزير بهذه الأبيات:

يقول الزير من قلب حريق

بقتل كليب زاد اليوم حزني

ألا يا أخت قلي من بكاك

ولا تخشين من أمر يعبني

فوالله ثم والله ثم والله

إله العرش مذ أدعو يجبني

فلا بد لي من حرب الأعادي

وأقتل كل جبار طلبني

وهو - كما يتضح - شعر ركيك أو دخيل، إلا أنه يفصح عن توعد الزير سالم ومعاناته التي صاحبت تحوله المتردد في الانتقام.

والملفت حقا هنا هو ذلك الموقف الذي اتخذته الضباع - الأم - عقب سماعها للزير قاتل ابنها شيبان، وكيف أنها استبشرت بتوعده للحرب فكان أن «زالت عنها لوعتها وخفت الأحزان» عقب سماعها لشعره المتوعد بأخذ الثأر.

وعلى هذا عادت الأم إلى قبيلتها أو قبيلة زوجها همام المعادية، والمطلوب هنا هو بذل الجهد في تصور هذه المواقف القبلية من حيث الانتماء والولاء، ليس فقط على المستوى الجسدي، بل ما يمكن أن يشكل موقفا مع القبيلة وضد الأمومة كما في حالة الضباع هذه، وحالات أخرى مماثلة لها ذات الصعوبة ستطالعنا هنا ونحن بإزاء مقتل كليب الذي يبدع في نثره راوي السيرة، والذي يستشف من نصوصها الشعبية مدى المؤثرات اللهجية السورية والفلسطينية واللبنانية بأكثر من العربية الحجازية أو المصرية.

إن اغتيال كليب يوازي اغتيال سلف أب، مثل اغتيال إله.

وعليه فمن واجبنا هنا التذكير بأننا لسنا بإزاء تصرفات وممارسات ومواقف وعلاقات - بالمفهوم الأنثروبولوجي - بشرية، بقدر ما نحن بإزاء مواقف وعلاقات وممارسات طوطمية أو إلهية؛ ذلك أن معظم الأسماء التي توردها نصوص هذه السيرة المختلفة أسماء لآلهة وأصنام وطواطم عربية أو سامية أو جاهلية بحسب التسميات التلفيقية، سواء أكان كليب أو سالم أو ضباع أو البسوس سعاد مؤنث الإله سعد الصنم الجاهلي البعل سعد، وكذا الجرو، ثم اليمامة التي أصبحت مدنا وقبائل ومواطن.

فاليمامة - بشكل خاص - إذا ما عدنا إلى دورها وأشعارها التحريضية بالثأر لأبيها كليب أبي اليمامة من قبيلة أمها وخالها القاتل جساس؛ حيث تتبدى أنموذجا لإلهات الحرب الإناث القبائلية الأمومية أو القمرية.

5

فاليمامة هي التي اقتحمت على الزير عزلته وأوجاعه وملاطمه بموطنه ببئر سبع، ورجعت به إلى حيث جثة كليب

6

الغارق في دمائه بلا رأس، وذلك بعد أن ارتدى الزير عدة حربه وسار مع اليمامة وأخواتها يقطعون الأرض والفلوات، إلى أن وصلوا دمشق إلى حيث كليب أخوه القتيل، وهو يبكيه: «سلامتك يا أبو اليمامة» وأنشد مرثيته الشهيرة على مرأى من الأم والقبائل التي تبكي كليب، بعد أن أطلعته اليمامة على وصية كليب «المكتوبة على الصخر» فأنشد المهلهل:

كليب لا خير في الدنيا ومن فيها

إن أنت خليتها فيمن يخليها

نعى النعاة كليبا فقلت لهم:

مالت بنا الأرض أم مالت رواسيها

ليت السماء علي من تحتها وقعت

وحالت الأرض فاندكت أعاليها

الناحر النوق للضيفان يطعمها

والواهب المائة الحمر براعيها

الحلم والجود كانا من طبائعه

مآكل الطاقة يا قوم نحصيها

أضحت منازل بالخلان قد درست

تبكي كليبا نهارا مع لياليها

كليب أي فتى زين ومكرمة

تقود خيلا إلى خيل تلاقيها

تكون أولها في حين كرتها

وأنت بالكر يوم الكر حاميها

غدرك جساس يا عزي ويا سندي

وليس جساس من يحبو ثواليها

لا أصلح الله منا من يصالحهم

حتى يصالح ذئب المعز راعيها

وتولد البغلة الخضرا خدالجة

وأنت تحيا من الغبرا تلبيها

وتحلب الشاة من أسنانها لبنا

وتسرع النوق لا ترعى مراعيها

الزير سالم ملكا على عرش كليب بالشام وفلسطين

وبالطبع لا ينسى رواي السيرة الشعبي إخبارنا بالدفنة المهيبة لجثمان الملك كليب، التي بنوا عليها «قبة من أعظم القبب، طلوا حيطانها بالفضة والذهب»، وذبح الزير سالم على قبره النوق والأغنام، ثم اجتمع بالأكابر والفرسان، وعاهدهم على الاستعداد لأخذ ثأر كليب، فتحالفوا معه وعاهدوه وعلى كرسي المملكة بايعوه وأجلسوه.

وهكذا ما إن تملك الزير سالم ملكا وآل إليه - كأخ أصغر - ملك أخيه حتى طرد امرأة أخيه الجليلة، والملفت هنا أن الزير اكتفى بهذا الطرد للجليلة التي اضطهدته وسامته العذاب، بل هي عادت إلى قبيلتها المعادية مكرمة بأكثر منها مطرودة كما يخبرنا النص العامي الشعبي.

حيث إنها سارت إلى بيت أبيها مع أهلها وجواريها، سوى من تصدي بعض النسوة لها - في النص الفصيح - ومعايرتها وهو ما أشرنا إليه سابقا.

ويبدو أن الزير لم يقتلها مراعاة لأخيه كليب المغتال، ولأنه كان مشغولا بجمع القادة والفرسان للانتقام والثأر، التي تجمعت فملأت الروابي والتلال، وعددهم أربعمائة ألف مقاتل. (ويا له من رقم في إطاره التاريخي!)

وما إن وصل خبرهم إلى بني بكر حتى خافوا العواقب، فجمعوا نحو ثلاثمائة ألف مقاتل، ونزلوا بمكان يدعى «الذنائب» يبعد نحو ثلاثة أيام عن قبيلة الزير، وكان على رأسهم الأمير مرة رأس البكريين ووالده جساس، والذي راعه البطل الزير سالم وجيشه فقال مأثورته: «اليوم تباع الأرواح بيع السماح.»

وعندما تلاقى الجيشان كانت حربا فظيعة «يشيب منها رأس الغلام قبل الفطام» كما يذكر النص، وكان كلما قتل الزير فارسا يقول: «يا لثارات كليب ملك العرب.»

إلى أن أفنى بني مرة وعاد منتصرا، يذكر له النص الفولكلوري ما يفيد خصيصته الدفينة كنواة مبكرة لبطل فلسطيني

1

فينيقي بأكثر منه عربيا جاهليا أو حجازيا، حتى يصف النص المهلهل راجعا من حربه منتصرا قاهرا «كأنه أرجوان مما سال عليه من أدمية الفرسان.»

فالأرجوان هنا هو الشعار الدامي للبحارة الفلسطينيين واللبنانيين الفينيقيين.

حيث إن الفينيقيين الذين جابوا البحار والمحيطات - منذ أقدم العصور - ونشروا حضارتهم وتراثهم عبر العالم البحري، اتخذوا من الأرجوان الأحمر الدامي شعارا لهم، وهو اللون الذي تصبغ به هذه الملحمة بطلها الزير سالم عائدا منتصرا كأرجوان دام، كما أنه ذات اللون الذي ما يزال يطبع معالمنا المعاشة - وتسميتها بالحمراء - وشوارعها وأحياءها في بيروت، دمشق، عمان، فلسطين، بالإضافة إلى دول وممالك بني الأحمر بالأندلس.

ذلك على الرغم من إقحام النص بين حدث وما يتبعه لخصائص عربية جاهلية؛ من ذلك مصادقة المهلهل لشاعر يدعى امرؤ القيس، أصبح لا يفارق الزير في قتاله الذي دام ثلاثة شهور متصلة في بداية هذا النزال القبائلي الملحمي، فقتل فيها الزير آلاف الأبطال، «وغنم أموالا غزيرة» ساقها عائدا إلى قصر أخيه كليب، حيث استقبلته اليمامة مرحبة، وأطفأ هو لهيبها حين وعدها بقتل جساس والإتيان برأسه شاهرا.

إلى أن زاره «تريزياس» هذه الملحمة، وهو الكاهن العابد نعمان الذي سبق أن صمم لأخيه كليب مؤامرة قتل التبع، والذي أشار على الزير بغياب ملكه أو بغيابه عن ملكه سبع سنين منحوسة وأيامها عليك معكوسة، وعليه أن لا يحارب فيها، وهكذا عاد الزير إلى معاقرته لخمره مصطنعا لنفسه منفى اختياريا.

وعلى عادة تردد هذا الموتيف الذي يصادفنا بكثرة مفرطة - في الحكايات والفابيولات الشفاهية الفولكلورية - لملوك يزورهم متنبئهم وكهنتهم، ويخبرونهم بزوال ملكهم وجاههم لفترات محددة، أبرزهم هنا فرعون يوسف في مصر وسنواته السبع العجاف، والملك معروف في سيرته المهشمة التي سبق لي - شوقي عبد الحكيم - معالجتها للمسرح وتقديمها عام 67.

وهكذا وقعت الهدنة بين المتحاربين.

ولا يستنكف النص ذكر حلم أو رؤيا رآها الأمير جساس في السنة السادسة المنحوسة، رأى فيها جملا بثمانية أنياب اقتحم عليه حوض ماء بالقرب من صيوانه، فشرب وشق الحوض بأنيابه

2

فتبدد الماء وهلك قومه من العطش، ثم رأى النساء والأولاد بثياب السواد «والدم جاري مثل المجاري، والجمال تنهش بعضها البعض.»

بما يفسر ندم جساس ومخاوفه، واستحضاره الكابوس لناقة البسوس التي اقتحمت حماه، وتسببت في إقدامه على اغتيال الملك كليب، وما جر عليه وعلى قومه من حروب وبلايا وحمامات دم.

ويخبرنا النص - في آخر السنة السادسة - أن جساسا تمكن من سرقة مهر الزير سالم «الأدهم المدعو بعندم».

لكن ما إن عاد الزير سالم من رحلة صيده الخلوية وافتقد مهره ذاك، عبر حوار شعري يجري بينه وبين اليمامة ابنة أخيه كليب، التي أخبرته بسطو وسرقة خالها جساس للمهر حين غاب الزير في صيده وقنصه عشرين يوما، وكان أن عاود الزير نصب الكمائن، واستخدام الحيل، والتنكر؛ لاسترداد حصان أخيه كليب من مرابط خيل جساس، مصطنعا هيئة أنه يعمل سايسا للخيل التي ستلازمه على طول هذه السيرة: «أنا من بلاد الصعيد، ومهنتي سياسة خيل الأماجيد.»

ومهنة سياسة الخيل هذه دفعت بالدكتور لويس عوض إلى الربط بين اسم المهلهل وهاملت اسم

Hippolytus

والمعنى الكامل للاسم «مروض الخيل»، بالإضافة إلى مشابهة فابيولات هيبوليت وزوجة أبيه فيدرا مع قصة المهلهل مع الجليلة بنت مرة؛ من حيث مطاردتها له ورغبتها في تدميره لصالح قبيلتها بالطبع، وكذا تشابه شخصية هيبوليت وشخصية المهلهل من حيث الفروسية والاعتكاف والخلوص للصيد والطراد.

ومع اختلافنا مع هذا الرأي حول تسمية المهلهل وإحاطته بهالة من التغريب تبعد بنا كثيرا عن روح هذا النص العربي - إن لم نقل: الفلسطيني الفينيقي - استنادا إلى أصوله وأرحامه التراثية الأسطورية التي ولد من رحمها في الشام وفلسطين.

هو ما سنتعرض له في حينه عقب الانتهاء من سرد التتابع الروائي لفصول هذه السيرة، واضطلاع الزير لاسترداد حصانه، ولنقل أقصى معدات حربه، وهي حصان خاصة العربي، الذي تحدثت عنه الإلياذة، حين نادى هكتور جياده العربية قائلا: «تعالوا الآن يا أغر ويا محجل ويا شعلة

3

ويا سني، ولا تنسوا رعاية أندروماك الحسناء لكم.»

فما إن استرد الزير حصانه وقتل آلاف الأبطال ورجع إلى الديار بالعز والانتصار، واستقبلته النساء بالدفوف والمزاهر، إلى أن جاءته أمه التي لا يرد ذكرها كلية في هذا النص إلا في هذا الموقف الذي تطالبه فيه برفع سيفه البتار عن بني مرة؛ فغضب منها وتوعدها بالقتل، بل والملفت في شعره التالي أنه يدعوها - أي أمه أيضا - باليمامة، كما يدعوها في شعره ب «أمية»،

4

حيث سحب سيفه عليها منشدا:

يقول الزير أبو ليلى المهلهل

وقلب الزير قاسي ما يلينا

وإن لان الحديد ما لان قلبي

وقلبي من حديد القاسيينا

تريد أمية أن أصالح

وما تدري بما فعلوه فينا

فسبع سنين قد مرت علي

أبيت الليل مغموما حزينا

أبيت الليل أنعي في كليب

أقول: لعله يأتي إلينا

أتتني بناته تبكي وتنعي

تقول اليوم صرنا حائرينا

فقد غابت عيون أخيك عنا

وخلانا يتامى قاصرينا

وأنت اليوم يا عمي مكانه

وليس لنا بغيرك من معينا

سللت السيف في وجه اليمامة

وقلت لها أمام الحاضرينا

وقلت لها ما تقولي

أنا عمك حماة الخائفينا

كمثل السبع في صدمات قوم

أقلبهم شمالا مع يمينا

فدوسي يا يمامة فوق رأسي

على شاشي إذا كنا نسينا

فإن دارت رحانا مع رحاهم

طحناهم وكنا الطاحنينا

أقاتلهم على ظهر مهر

أبو حجلان مطلوق اليمينا

فشدي يا يمامة المهر شدي

واكسي ظهره السرح المتينا

وهاتي حربتي رطلين وأزود

وحطيها على عدد متينا

ونادي على «عدية» وكل قومي

صناديد الحروب المانعينا

ونادي إخوتي يأتوا سريعا

لنلقى جيش بكر أجمعينا

فنادتهم أتوا كأسود غاب

وقالوا: قد أتينا يا أخينا

وباتوا يحرسون الليل كله

وقضوا الليل كله شاهرينا

عبدة السلف

وهكذا تجددت الحروب بين القبيلتين سنتين كاملتين،

1

وكان الزير يحصد فيهم بالنهار والليل إلى أن قطع رءوس قتلاهم ووضعها في المخازن.

2

ولما اشتدت على جساس وقومه الأهوال والزير يرفض كل وساطاتهم وفدياتهم لإيقاف القتال أو حتى قبول الهدنة.

وكان أن لجأ جساس إلى حيلة تكشف - بوضوح - عن مدى سلفية تلك القبائل؛ ذلك أن الزير سالم دأب على المرور على زيارة قبر أخيه كليب وإعلامه بأخبار الحرب وعدد قتلى مغتاليه، سائلا إياه: هل اكتفيت يا أخي؟

وهنا توصل جساس إلى حيلة لإيقاف الحرب ونزيف الدم عن قومه؛ بأن وضع رجلا معدما داخل قبر كليب، حتى إذا سأله الزير سالم يجيبه: اكتفيت يا أخي، فأغمد سيفك عن قتال القوم.

وعليه فما إن مر الزير سالم بقبر كليب حسب عادته وناداه بصوت عال: «نعمت صباحا يا أخي كليب.»

حتى أجابه الرجل المختبئ داخل القبر: «وأنت نعمت صباحا يا أخي الحنون، يا ساقي الضد كأس المنون.»

ولما سمع الزير أخيه فرح ونزل عن فرسه متقدما نحو القبر قائلا: «أنت حي يا أخي ونحن نقاسي الضنك والضير »، ثم نزل إلى القبر قائلا: إن كنت بخير يا أبا اليمامة، فما هذه الإقامة؟

إلى أن واجه الزير رجل جساس المختبئ سأله مندهشا: من يكون؟ وهو يجذبه من لحيته تأهبا لقتله، لكن حين استجار الرجل بكليب أجاره الزير وعفا عنه.

ولما سمع منه حيلته صفح عنه وأعطاه جوادا وألف دينار من الذهب، وخرج من القبر ضاحكا مرحا قائلا: «يحمي اليوم كليب الخائف في مماته كما كان في حياته.»

فتتضح السلفية كسمة مفرطة في التبدي والتواجد في هذه السيرة ممثلة في رأس كليب الذي أصبح سلفا - في موقع آدم - عنده لدى تلك القبائل الكلبية، من عبدة بالفعل جثمان آدم

Adam

المشتق اسمه السامي من أرض أدوم

Edom

أو الرجل الأحمر.

فكانت قبائل كالب عشائر أدومية، ومنها جاءت تسمية آدم بمعنى الرجل الأحمر، وتوجد إشارات في التلمود إلى أن رأس العيص بن إسحاق - أبي الأدوميين - كانت من انتزاع عيسو أو العيص ودفنها في عبرون.

ويرى البعض أن ثمة علاقة بين القبة الحمراء التي كانت تتخذها قبائل قريش وتابعوهم من القبائل المعروفة بالأحامسة أو الحمس أو الأحامس أو بنو أحمس، بمعنى المتحمسين لآلهتهم وللكعبة، وتميزوا بتلك القباب الحمر حتى أطلق عليهم أهل القباب الحمر من الأدم.

3

وإذا ما كانت لفظة الأدم تعني أديم الأرض، فقد تشير هنا إلى علاقة بين تابوت العهد أو التابوت الذي به جثمان آدم، بالإضافة إلى رأس العيص بن إسحاق «الرجل الأحمر» - أبي الأدوميين - مما يؤكد أكثر أن تلك القبائل السالفة البائدة قد أورثت لاحقيهم من العرب الفينيقيين الجاهليين عبادة أسلافهم الأول: آدم عند الهاجريين والعبريين، وابنه شيت بن آدم أو أخنوخ أو إدريس

4

عند الصابئة، وإبراهيم عند الحنفاء، وحفيده العيص بن إسحاق عند الأدوميين، وكالب لدى هذه القبائل موضوع بحثنا.

بل إن أحداث الصراعات المتوالية - حول ما يعرف في أساطير الشرق الأدنى القديم بعصا شعيب

5

أو يثرون، يجعل من تلك العصا رمزا سلفيا مرادفا أو متطابقا مع جثمان آدم ورأس العيص بن إسحاق وقباب الخمس.

فيقال عن تلك العصا: «إنها هدية الرب لآدم عقب طرده من جنة عدن، وإنها توارثت من أب لابن، إلى أن وصلت إبراهيم فأورثها ابنه مدين.» •••

فيبدو أن ثمة صراعا قد نشب بين القبائل العربية البادية والباقية، أو بين قبائل جرهم وقبائل إسماعيل أو الهاجريين وبقاياهم إلى اليوم بالسعودية، بنفس ما حدث مع عرب الجنوب القحطانيين وأسلافهم من العرب البائدة: عاد وثمود وطسم، وما حدث مع الكنعانيين والعبريين والعمالقة أو العماليق في ربوع الشام وفلسطين، بمعنى حلول أحقاب تاريخية أو حضارية بحسب تفسير هذا التاريخ الأسطوري التخميني.

ويبدو أن ذاك النزاع بين القبائل البائدة والباقية الذي قد يكون على سبيل التخمين نزاعا ذا طابع حضاري مغرق في القدم، وأنه كان متبوعا بانقلاب أبوي - أي نقل السلطة من الأم إلى الأب - مع بدء المعرفة بالزراعة.

بل إن الصراع على التابوت - أو تابوت العهد - يشير أكثر إلى طبيعة ذلك الصراع، ومعناه أن تلك القبائل السلفية كانت من عبدة جثمان آدم، فيقال: إن الجثمان كان مخبئا في كهف ماكبيلا، وإن قبيلة كالب عبدته.

فيقال: إن قبائل كالب العربية والعبرية كانت تعبد جثمان آدم، وكالب اسم أو هو تحالف لقبائل عربية وعبرية وكنعانية، ومن أسمائها بن كلب بن وبرة، و«بني كلب» بن «ربيعة بن صعصعة» و«الكلبيين» و«كليب» ... إلخ.

كما يقال بأن الأشياء والممتلكات التي كانت قد سرقتها راحيل - أو راشيل أم النبي يوسف الإلهة القمرية الأم لقبيلة يعقوب عقب زواجهما - كان من بينها رأس آدم.

وراشيل - أو الكاهنة الحمامة

6 - هي الإلهة الأم التي من اسمها تواترت تسمية إسرائيل عقب زواج يعقوب برحيل، والتسمي برجل راشيل.

فالسلفية كما يعرفها شيخ المؤرخين أرنولد توينبي بأنها سباحة ضد تيار الزمن والتاريخ، فيبدو أن جدلية الحياة - أو حركة التاريخ اليومية - تدعو إلى تزيين السلفية ومن وجوه عدة، لعل أبسطها جاذبية الرخاء القديم الغابر عند العرب عامة، ممثلة في الإفراط بكاء على الأطلال والزمان المنقضي.

ومن جانب آخر تتمثل السلفية في سحر اللغة ورونقها، ولنقل: سحر عصور وأحقاب بعينها لأزهى عصور منقضية .

كما إن أقصى جاذبيتها تتبدى في الأساطير والتحليق في رومانتيكية العقل الغيبي المضاد والمعادي في ذات الوقت للعقل كهدف أخير للتاريخ.

ويا له من عالم رائع من حيث جمالياته البحتة - عالم الأساطير المكبل بسلطان العادة والتوارث - لدى تلك القبائل المتناحرة دفاعا عن وهم الأسلاف ورممهم!

منذ أساطير خلق العالم والإنسان الأول أو القديم أو الأديم، المصاغ من طين سيرتنا العمق ولازبه، في بؤرة العالم القديم أدوم، وحيث مجرى أحداث سيرتنا الملحمية هذه؛ الزير سالم.

فالسلفية هنا جزء من التصور القبلي، ذلك الذي لا يقف عند الأحياء، بل هو يمتد خلفا في أغوار الماضي التاريخي الأسطوري - خاصة تراثنا العربي السامي - شاملا الموتى قبل الأحياء، فالأرض هي أرض الأسلاف والأجداد، وهو ما لا يزال يشاع بكثرة في أغانينا المعاصرة خاصة في ربع القرن الأخير، كما أن مثل هذا التصور لا يبعد كثيرا عن التصور الطوطمي الإفريقي؛ حيث إن طوطم العشيرة البدائية كان رمزا وشعارا للعشيرة الخالدة، مشتملا على الطوطم السلف والخلف في وحدة شاملة تعبر عنها أساطير وأغاني وأمثولات القبائل البدائية.

ومن هنا فكلا الأحياء والأموات يوجدان الجماعة أو الأمة، مع ملاحظة الانتساب اللغوي إلى الأنثى الأم، بل إن أدنى الوحدات الاجتماعية للأمة أو القبيلة يطلق عليه البطن والفخذ والرحم، مثلما ذكر الزير في مأثوراته «أنه سيضرب بكل عضو من كليب أعداءه»، وكذا استشارته عقب كل غزوة مزار كليب السلف الميت.

ويمكن القول بأن حالة الانجذاب هذه نحو السلفية سماها الكثيرون - بحق - حالة الهستيريا، ومحاولة استحضار الماضي وطبعه على الحاضر، كما هو في حالة هذه القبائل في تعاملها مع رأس كليب، والتي ستتصوره دوما قائما عائدا منبعثا: «من وسط المقابر إلى وسط الحياة.» •••

أخيرا فلعلنا عن طريق استخدام افتراضات ونتائج الدراسات والمناهج المتزامنة من أثنوجرافية وأسطورية وطقسية وطوطمية وسلفية، نستطيع استجلاء غموض وانغلاقات تراثنا العربي هذا الضارب الجذور والعلاقة.

هروب جساس وقومه إلى الحبشة والسودان

وحين تجددت الحرب كسر الزير سالم أعداءه بني مرة أشد انكسار، وعقب كل غزوة تلقاه «اليمامة» مع كورس نسائها سائلة: «هل أتيت برأس خالي جساس؛ حتى نخلع السواد ويطيب الفؤاد؟»

أما جساس وقومه فوصل بهم الحصار والضيق إلى اجتماع شيوخ قبائلهم، وعقدوا العزم بالهجرة إلى «بلاد الحبشة والسودان»،

1

حيث لجئوا إلى ملك الحبشة الذي يدعى الرعيني، وحيث تشفعت الجليلة لقومها عنده، بعد أن كاد أن يقبض على أمرائهم ويفتك بهم؛ لأنهم من قوم قتلة خاله الملك التبع حسان اليماني.

ونجحت الجليلة التي تلعب الآن دورها ككاهنة أو إلهة قمرية تتقدم القبائل المهاجرة، وتحل مآزقهم.

كما هو بالنسبة لابنتها اليمامة مع الزير وقومه الكالبيين.

ذلك أنها ما إن واجهت الملك الرعيني - وهي في أبهى زينتها كالطاووس - لابسة أفخر الملبوس «حتى أقنعته باستبقاء قومها ومعاونتهم في حربهم المحتومة.» فنادى على أخيه غطاس ليجمع الجنود ويهيئ الرحيل للزحف والرحل.

فنجحت الجليلة على هذا النحو في حمل الملك الرعيني على تقدم فيالق جيشه، والزحف به إلى الشام، فخرجت بقية التحالف البكري لاستقبالهم بالترحاب والابتهاج.

كل هذا والزير سالم غائب في ملذاته وخلواته، إلى أن قصده في منفاه أحد إخوته، واسمه

2 «عدي»، فأعلمه بوصول الملك الجبار الرعيني، وانضمامه إلى جساس وأعدائهم، وهنا انقض الزير متبديا بحسب ما يذكر النص:

تبدى الزير حالا ثم قال

تخاف من العدا وأخوك سالم

أنا وحدي ألاقيهم بعزمي

أنا الدعاس في يوم الزخايم

ويبدو أن الرعيني وجيوشه نزلوا البصرة؛ ذلك أن الزير ما إن احتال متنكرا في زي شاعر عربي مداح جوال،

3

يطوي الأراضي وهو ماش على عكاز،

4

وظل يجوس في مضاربهم إلى أن وصل والتقى بالملك الرعيني ذاته وتعارفا، فأجابه الزير عن حاله: «أنا شاعر جوال أمدح الأمراء، علمت أنك في بني مرة، فأتيت أقصدك في مدينة البصرة.»

وأنشد حين طالبته «بدور» زوجة الرعيني من وراء خبائها:

قال الأديب الذي طالب إحسانك

جرحي بوسط الحشا والقلب نزاز

يا بو فهد يا رعيني استمع ما أقول

يا من قلوب العدى بالروع هزاز

قد كنت قبلا في خير وفي نعم

مستور بين أهلي ما أنا معتاز

فصرت شاعرا على الأجواد أقصدهم

أطوي الأراضي وأنا ماشي على عكاز

قالوا: فسر للرعيني مقصد الشعرا

فذاك جواد يعطي كل معتاز

فجئت طالبا إحسانك وإكرامك

يا من حويت المكارم في عطا المعتاز

وما إن انتهى حتى فاجأ الجميع واستل سيفه وقطع رأس الرعيني، ولحقت به جيوشه المتأهبة واشتعلت الحرب - من جديد - التي خرج منها الزير سالم مضيفا لقبا جديدا إلى ألقابه، فتسمى ب «المهلهل فارس العرب والعجم».

ولما عظم الأمر على جساس وضاقت به وقومه السبل؛ لجأ إلى الحيلة - كعادته - لإيقاف الحرب أو نيل هدنة قصيرة، يرفع فيها سيف المهلهل عن قومه، فزار العابد نعمان بالهدايا، واستعطفه وطالبه بالتدخل لدى الزير لإيقاف الحرب.

وحين رق قلب نعمان ذاك ذهب من فوره إلى المهلهل ورجاه وقف القتال.

لكن بعض الغموض الملحوظ يشوب النص عقب تدخل ذلك الكاهن وفرضه وقف الحرب إن لم يكن معظم النصوص من عامية لفصحى؛ حيث يمرض المهلهل خلال هذه الهدنة ويلزم فراشه، ويصل خبره هذا جواسيس جساس، فيدبر حيلة لاختطافه، نفذها أخوه الأمير سلطان بني مرة، حيث داهموا قصر الزير سالم ليلا بثلاثة آلاف فارس، وداهموه في الفراش فأثخنوه بالجراح، وأسالوا دمه كالمطر، ووضعوه في «جلد جاموس» بما يشير إلى مهانته وتوحده بجلد الجاموسة.

وذهبوا به ليلا إلى أخته «ضباع»

5

التي أظهرت لهم السرور صارخة: «إن جزاء الغدار الحرق بالنار» ووعدتهم بحرقه، وما إن تركوها وساروا - معلنين خبر القضاء على المهلهل - حتى داهمتها الحيرة، صحيح أنه قتل ولدها، لكن أخاها الزير «شيد للقبيلة ذكرا لا يبور مدى الدهور.»

وهنا يذكر النص صحوة المهلهل «وهو على آخر رمق»، وما إن علم بما أصبح فيه، حتى أنشد:

قال الزير أبو ليلى المهلهل

ونار الحزن توقد في حشاه

فكان كليب ملك للبرايا

أتى جساس فغدره بالفلاه

جلست مكانه أخذا لثأره

وكنت أنعيه صباحا مع مساه

فقال الشيخ: كف الحرب عاجل

ولا تنقل لسيف أو قناه

جلست بخيمتي والدن

6

جنبي

وعندي العبد ما عندي سواه

وقومي كلهم للصيد راحوا

فعرف القوم مع باقي العداه

أتوني والمقدر كان كائن

وحل بي كل ما أنت تراه

أتوا بي لعندك يا أخت حتى

تنالي الثأر يا غاية مناه

كليني يا ضباع أو اقتليني

أنا أخوك إذا احتبك القناه

فأنت تشبهي اللبوات حقا

وأنا مثل سبع للفلاه

فألقيني بصندوق مزفت

وارميني ببحر مياه

وهنا يلاحظ أن الزير سالم يبدأ إخبار أخته الضباع بما حدث واصفا أخاها المغتال كليب بأنه كان «ملك البرايا»، ثم يعرج على وصف «الضباع» بأنها «تشبه اللبؤات حقا.»

ويلاحظ أن اللبؤة على عكس الضبع في قائمة الحيوانات والطيور السامة تصنف مع الطيور الملكية، رغم أنها حيوان أو طائر نجس محرم

Taboo ، مثلها مثل البجعة والطائر أبيس - أبو قردان - والنسر والغراب، فهم جميعا ليسوا من أصول سامية، رغم أنهم كانوا مقدسين عند اليونان والرومان والفراعنة.

كذلك يلاحظ أن الزير هو الذي أشار إليها بإلقائه في البحر مثله مثل الآلهة الممزقة - خاصة أوزيريس - ذلك أن بكائيات الضباع هنا تتقارب مع ندب إيزيس، وهو ما لا يزال محفوظا داخل البكائيات الجنائزية، وتحفظه الندابات

7

المعاصرات:

تقول ضباع من قلب حزين

أيا عيني فزيدي من بكاها

فحطيته

8

بصندوق مقفل

من بني مرة ما يعلم حداها

وقلت له: روح يا جمل المحامل

أيا عامود بيتي انحناها

الضباع تلقي بتابوت جثمان المهلهل في اليم

ومرة ثانية يكتنف الغموض الثقيل هذا النص أو النصوص، فلا يخبرنا إذا ما كان المهلهل قد مات أو أنه ما يزال غارقا في جراحه حيا.

ذلك أن ضباع جاءت بصندوق أو كفن «زفتته وطلته بالقار»، ووضعت فيه جثمان المهلهل المثخن الجراح، بنفس ما فعلته الربة إيزيس وأم موسى، وحملته بمساعدة عبيدها ليلا، فطرحته في البحر «وتوقفت على شاطئه تبكيه وتندبه أحر بكاء.»

وفي ذات الوقت الذي عادت فيه إلى قومها، فأشاعت مبتهجة في بني قيس أنها أحرقته بالنار.

وعلى هذا النحو أيضا وصل الخبر وشاع في قبائل المهلهل ذاتها، فشق قومه ملابسهم حزنا وهلعا مما لحق بملكهم وفارسهم.

إلا أن الصندوق أو الكفن الذي حوى جثمان الزير سالم المسجى اندفع بهذا الإله الذبيح - كالأوزوريس - إلى أن قذفت به الأمواج على شاطئ بالقرب من مدينة نعتقد أنها مدينة حيفا الفلسطينية، حيث ستجري فيها وعبرها معظم أحداث غربة الزير في «بلاد اليهود»، أو بلاد الملك اليهودي حكمون.

ولا نعرف من أين جاءت وخالطت نصنا مؤثرات عبرية؛ ذلك أن الصندوق وصل بالزير إلى مقربة من قصر الملك أو الحكيم حكمون اليهودي وابنته «استير»، كما وصل صندوق أوزيريس إلى قصر ملك بيبلوص أو جبيل بلبنان، ووصل صندوق موسى إلى قصر فرعون وابنته البرصاء.

وتتوالى سلسلة من الأحداث الدخيلة

1

الملفقة بين الزير وملك اليهود، ذاك الذي أوكل إلى حكيم عنده يدعى «شمعون» بعلاج الزير حتى شفي، واستقدمه وسأله عن حاله وهو يلقبه «بالموحد»

2

قائلا:

قال اليوم حكمون الملك

يا موحد استمع مني المقال

هات لي أحكي ما صار فيك

ما عملت وما فعلت من الفعال

حتى طعنت يا موحد بالرماح

وجرحوك كثير بسيوف ثقال

وهنا أجابه الزير سالم منشدا:

قال أبو ليلى المهلهل في قصيد

يا ملك حكمون يا حلو الخصال

في بلادي إن سألت عن الجلوس

مجلس بأوسط فوق أعالي الجبال

وإن سألت عن الشور كل الشور لي

ما أحد يقدر يخالف لي مقال

وإن وقع الحرب وضرب السيوف

فالعذارى هللت فوق الجمال

والسيوف الحدب عاد لها مرير

والقتلى عادت تلولا كالرمال

فذاك اليوم أنا أعز الملاح

ما مثالي في اليمين وفي الشمال

وإن أتاني ضيف أنا عز الضيوف

أشبع الضيوف من لحم الجمال

والفتى المعروف منجد يا أمير

ابن وائل ذاك لي يا أمير خال

إن كنت تسأل يا ملك عن صنعتي

صنعتي حاصود في روس الرجال

أما أبي فكان ذو قدر عظيم

مال فيه الدهر يا حكمون مال

صار سايس بعد عزه للخيول

بالكرامة بعد عزه والدلال

وأنا قد صرت سايس بعده

أسوس الخيل ما مثلي مثال

وجروحاتي هي من عض الحصان

قد ضربني برجله أربع نعال

قمت من كدري ضربته في حشاه

راحت السكين تلعب للعزال

لأجل ذاك المهر سواها ال

فعال ورموني بالذل مع كثر الخيال

ويبدو تدهور جسد هذه السيرة - الملحمة - مع توالي أحداثها التالية بما يسمح لمؤثرات عبرية دخيلة على اقتحامها والمزاوجة بينها؛ من ذلك: إلحاق الزير بعمل سائس لخيول الملك حكمون، وتبنيه لفرس أسماه «أبو عجلان»،

3

وظل في عمله هذا أربعة أعوام، إلى أن وقعت الحرب بين حكمون الملك اليهوي حين غزاه الملقب ببرجيس الصليبي أحد ملوك الروم، فقاتل حكمون وأخاه الملقب ب «صهيون»، وكانت كلما اشتدت المعارك بين جيوش الروم الغازية والملك حكمون - الذي كثيرا ما يرد اسمه على أنه ملك النصارى - اعتلا الزير سالم ظهور سور لجدار؛ ليشهد المعارك الدائرة. رجح د. لويس عوض أنه ربما كان سور حائط المبكى في القدس أو أورشاليم مدينة سالم.

ومعنى هذا أن المعارك كانت تجري حول القدس، بالإضافة إلى إشارات وأسماء مثل: صهيون، وسمعان الذي يرجح فعلا أنه سمعان المكابي رأس الأسرة العبرية المكابية التي تصدت للغزو اليوناني البطلمي في القرن الثالث ق.م.

كما يسجل النص مقتل قائد هذه الأسرة: صهيون الذي شاهده الزير من أعلى جداره ذاك «يقع على الأرض قتيلا فضجت اليهود» الملاعين لما رأوا أميرهم مفقودا، واستعانوا بالتوراة والتلمود «كما لا يغفل النص ندبهم فقد صهيون.»

المهم أن «استير» الجميلة ابنة حكمون، والتي ترد موتيفاتها في الحكايات العبرية الفولكلورية وخوارق الجان والشطار، نائمة ملط على بطنها على حافة بستان أبيها حكمون، الذي كان من أزهى البساتين التي تفرط في وصفه هذه الحكايات والفابيولات التي تعرضنا لها في «الحكايات»

4

الشعبية العربية.

ومثلما وصل جثمان أوزيريس من النيل إلى شواطئ بيبلوص

Byblos

أو جبيل شمال بيروت، وشاهدته الإلهة الفينيقية مليكارت

Melqarte

التي عادة ما تطالعنا صورها وأساطيرها بصحبة الكلب المصري أنوبيس.

فيذكر النص أنه ما إن وصل جثمان الزير إلى مملكة حكمون اليهودي حتى عرفته استير أو عشتار

Ishtar

ابنته، وهي ربة الأخصاب السامية التي قد يشير اسمها إلى ال «ملل: إرث».

المهم أن الزير سالم أقام سنوات غربته عندهم إلى أن جدت وقائع الحرب، واعتاد هو اعتلاء «حائط» ومشاهدة المعارك، وكانت استير ترقب حماس الزير سالم وصرخاته في المقاتلين، فكان أن أخبرت أباها بأفعال هذا «الموحد» الملفتة الغريبة قائلة:

تقول ابنتك اسمع من كلامي

نظرت اليوم في عيني العجايب

رأيت اليوم من هذا الموحد

فعالا قد تعيد الرأس شايب

فلما دقت الطبل النصارى

وقد هجت عساكرها تحارب

والتقت العساكر بالعساكر

وراح السيف يعمل في المناكب

قد أبصرت أحوال الموحد

غرائب قد فعلها من عجائب

لقد ركب الجدار سواه حصانه

كأنه يا أبي قاصد يحارب

ويزعق ثم يلكز في كصابه

إلى أن جرى دمه سكايب

ويهدر مثل ليث غاب أروع

ترج الأرض منه والكتائب

يريد الحيط يطلع فيه يغزي

وقلبه للقا والحرب طالب

إذا ولت رجالك قال باطل

وإن ولت عداك قال طائب

ينحني الناس واحد بعد واحد

قتل روحه وهو للحيط

5

راكب

فهذا قد نظرته اليوم حقا

من الأول إلى وقت المغارب

فلا أدري أهو عاقل صميدع

ولا أدري أهو مجنون خائب

وحين سمع حكمون ما ذكرته ابنته استير استقدم الزير سالم ودفع إليه بعدة حربه، وأعطاه حصانا - أبو حجلان - وأبلى الزير بلاء حسنا في قتاله ضد جيوش الروم المغيرة، وكان كلما قتل منهم بطلا صرخ: «يا لثارات كليب من جساس.»

وتمكن المهلهل من صد الروم المغيرين، ودفعهم إلى الانسحاب وقبول الهدنة صاغرين مع الملك حكمون الذي عظمت منزلة الزير لديه، وطالبه بأن يتمنى عليه فيعطى، وهنا لم يطلب الزير سوى أن يجهز له سفينة تقله «إلى مدينة حيفا، ومن هناك يسير وحده إلى مرج بني عامر في فلسطين محل إقامته.»

وما إن وصل الزير سالم إلى حيفا، وعاد إلى قبيلته بني عامر في فلسطين، حتى تنكر عائدا إلى قومه، حيث استقبلته النساء باكيات ثاكلات إلى أن طالبته اليمامة بمعرفة قصته، فأنشد:

يقول الزير أبو ليلى المهلهل

عيوني دمعها جاري بكاها

بكت دما على ما صار فينا

ليالي السعد ما عدنا نراها

عدمنا فارس الهيجا كليب

عقاب الحرب أن دارت رحاها

دهتني آل مرة جنح ليل

لتقتلني وتشفي ما دهاها

فكنت بخيمتي ملقى طريحا

ثلاث آلاف دزتني قناها

وجاءوا بي لعند ضباع أختي

وألقوني طريحا في خباها

وقالوا: يا ضباع خذي شقيقك

أخذنا روحه قومي عزاها

فألقتني بصندوق مزفت

وأرمتني بوسط البحر ماها

وساقتني مياه البحر حالا

إلى بلد اليهود على رباها

وجابوني لحكمون الحكيم

أجل ملوك هذي الأرض جاها

6

فداواني وعالجني سريعا

فزالت كربتي مما دهاها

بقيت أنا ثمان سنين غائب

وزال الشر عني مع عناها

أسأل الله أن يحفظكم جميعا

على ما طالت الدنيا مداها

وهنا تعرفته فتيات قبيلته وأولهن اليمامة وبقية قومه.

وتستجد عدة أحداث استطرادية تتم كلها بالقرب من شاطئ البحر أو ميناء حيفا، منها استرداد لحصانه الجديد - أبو حجلان - الذي عاد به من عند حكمون، ومنها تلصص مرة - أو بني مرة - عليه بالقرب من ساحل البحر، ثم وصول خبر عودته إلى أميرهم جساس، وكيف أن الزير سافر ثانية سرا بحثا عن حصانه والتقى بالملك حكمون، ورد إليه حكمون الحصان، فأركبه معه من ميناء حيفا ونزل به ثانية عائدا إلى قبيلته بني عامر في فلسطين.

وعبر هذه الأحداث يستفحل دور اليمامة في التحريض على الحرب التي استعرت من جديد ضد جساس وقومه، ويبدو أنها هذه المرة أتت على معظم أبطال مرة، لدرجة أن أميرهم جساسا دفع بأخته الجليلة للذهاب إلى الزير سالم واستعطافه والتماس الكف عن الحرب وطلب الصلح.

وما إن التقت الجليلة على رأس قومها بالزير سالم زاحفين على عتباته، ملتمسين رفع سيفه البتار عنهم، واستعدادهم لدفع الجزية، وتنصيب الزير ملكا عليهم، حتى أحال الزير الأمر إلى اليمامة مجيبا في أشعاره بأنه ليس له ذنب، وكل ما جرى من اليمامة ابنة الجليلة.

وطالبهم بالتوجه إلى اليمامة وطلب الصفح منها؛ حيث إن لها الكلمة العليا في وقف القتال، وهكذا توجهت الجليلة إلى ابنتها اليمامة، تطلب منها الصفح وإيقاف الحرب «وبعد أن صرنا لمن اعتبر، ومثلا بين البشر.»

وكان أن رفضت اليمامة الصلح، وختمت كلامها لاستعدادها هي للحرب والقتال:

قالت يمامة من ضمير صادق

يا جليلة أقصري عنا عناكم

أنت وأخوالي وكل عشائري

لا تزيدوا لفظكم ولا لغاكم

قتلتم الماجد كليب والدي

غدرا وما له ذنب معاكم

جساس طعنه من قفاه بحربة

ودعاه على الغبرا حقير حداكم

أنا وإخوتي بقينا بذلة

نمسي ونصبح ولا ننسى بلاكم

أنا لا أصالح حتى يعيش أبونا

ونراه راكب يريد لقاكم

وكما يتضح من شعر اليمامة، فإنها «أصبحت في مواجهة أمها أقرب إلى أليكترا في اتهامها لأمها كليمنسترا؛ حيث إنها تشركها علنا في قتل أبيها الماجد كليب غدرا.»

وهكذا تواصل القتال كما أشارت اليمامة التي خذلت أمها وقبيلتها؛ حيث أفنى الزير زهرات وأبطال التغلبيين، ولم تنفع فيه حيل جساس بحفر حفر الإيقاع بالمهلهل، وهي الحيل التي لجأ إليها سلطان المكار حين حفر ثلاث حفر وغطاها بالقش ليوقع فيها المهلهل في مواجهة جساس فيقتله، إلا أن حصان المهلهل أبو حجلان أنقذه فقتل الزير في هذه الحرب عمه الأمير مرة، وفر أمامه جساس هاربا.

ويذكرنا مشهد القتال داخل الحفر بالأوريستا، وكذا وبقتال هاملت - داخل قبر أوفيليا - لأخيها لايرتس.

وهنا يستطرد نص الزير سالم في حكاية جانبية عن عودة الأمير «شيبون» ابن أخته الضباع من حروب الروم، ويفجعه من فوره قتل الزير لأخيه وفتكه بقومه.

فيستعد لحربه ويمضي يسخر منه «ككلبي» حميري، والسخرية المرة منه، بما يشير إلى أن الزير حميري، أو أن طوطمه الحمار، كأن يرسل له من يبيعه مهرا، ما إن يستحسنه الزير سالم حتى يستبدله ب «كر» حمار أو أتان يستعصي عليه ركوبه، فيمضي سابا الأتان والحمير: «الحمار يقتني الحمار.»

هذه الحضارة الكلبية الحميرية وطواطمها

وما إن انتهت الهدنة القصيرة حتى اندلعت تلك الحروب القبائلية المتوالية التي عادة ما تنتهي بانتصارات المهلهل وسبي وقتل وأسر القبائل البكرية أو القيسية.

إلى أن رجحت كفتهم لفترة بعودة الأمير شيبون ابن الأمير همام وابن الضباع الذي سبق للزير قطع رأس أخيه شيبان، وتخبرنا الملحمة أنه كان غائبا في حملة من الفرسان لغزو بلاد الروم، وعاد من فوره لقتال خاله الزير الذي حاول في البداية إثناءه عن منازلته عقب رسالة شيبون له التي فيها سخر من الزير سالم، وعايره بأنه من قوم يركبون الحمير ويقتنونها.

ويرجع هنا أن هذا هو النص المستحدث في العصور الوسيطة الإسلامية، أما التصور بالنسبة للنص الطوطمي الأم هو أن شيبون استخف وأهان الآلهة الطواطم لمجموع البطون والقبائل الحميرية الكلبية التي يتزعمها خاله الزير سالم، قائلا:

قد أخبروني يوم جئت بأنك

يا قليل العقل تركب الحمير

ما يقني الحمار إلا الحمار

ما أنا مثلك ولا عقلي صغير

وهنا أجابه الزير مهددا ومنكلا بدوره بآلهة وطواطم ابن أخته ضباع - شيبون - سابا آلهته من نوق وبعير:

قال أبو ليلى المهلهل ثم قال

أنت يا شيبون ما عاد لك مجير

هرجت يا شيبون في قولك كثير

الجحش لا يحمل كما يحمل بعير

ويتضح هنا - بل يمكن القول - ويستشف مدى ذلك التراشق الطوطمي بين الحميريين والجمالة، أو بين الآلهة الطواطم من حمير «أتان» راسخة لا تحمل بذات سهولة البعير أو النوق حديثة الولادة.

وإذا كنا قد تعرضنا في فصول سابقة لناقة البسوس التي من نسل ناقة صالح، وبالناقة - عامة - طوطم الإله هبل أو بعل، فلا بأس من الإلمام بالحمار والأتان ودورهما الطوطمي والأثنوجرافي في تراث الأقوام الشامية والأردنية والفلسطينية خاصة.

ويصف سفر التكوين - أو الإله يهوه - إسماعيل أبا العرب العدنانيين «كحمار وحشي بين الرجال.»

ولعل في الإمكان تصور أن ذلك الصراع القبلي الشوفيني الموغل في العصبية القبلية والقدم، والذي هو صراع بين أبناء العائلة - ولنقل: البطن القبائلية الواحدة - ذلك إذا ما اعتبرنا - بحسب الاستقراء المتوفر للنصوص التي تسمح بالمقارنة - أن كليهما - بكر وربيعة - قحطاني يمني.

يؤكد هذا الافتراض - أو الاعتبار - في القول بأن الكلبيين حميريون بحسب ما يتيح من اتساق كل من النسب والطوطم، فمن حمير ملوك بني قضاعة وبنو كلب بن وبرة وهم الكلبيون أو بنو كلاب.

وعلى هذا يمكن القول بأن «كل كلبي هو حميري»، أو أن حمير في موقع السلف الأكبر لهذه القبائل الكلبية، انتسابا إلى ملكهم المغتال كليب وأخيه بطل سيرتنا هذه - الزير سالم - الذي أسماه العرب الكلاسيكيون بالمهلهل، وفسروا هذه التسمية بأنه كان أول من هلهل الشعر، وهي تسمية لا تستقيم بالقطع مع شعره الإنشادي ومراثيه ومعلقاته التي تطالعنا، والتي لعبت أعمق الآثار غورا في بحار الشعر الفولكلوري - المصرية - العربية.

بما يرجح افتراضنا في أن تسمية المهلهل ترجع إلى جذوره القحطانية بأكثر من انتمائها لعرب الشمال العدنانيين، ذلك إذا ما تذكرنا انتسابه المتكرر - على طول السيرة - لقبائل بني عامر الهلالية بفلسطين، والتي ترجع بنسبها إلى عامر بن «مزيقيا» بن سبأ وبيتها بموطن الزير ذاته بئر سبع أو بيت شبأ

Sheba

سبأ.

وعامر الذي تسمى ب «مزيقيا» أو الممزق مرادف المهلهل؛ لأنه كان يطالب قومه موسميا بتمزيق وهتك هلهلة عرشه أو ملابسه وحلل عرشه بما يقرب بنا من المهلهل وزهده الذي سنتعرفه أكثر من انقضاء سيرته هذه.

فالزير سالم وأخوه كليب كلاهما كلبي حميري قحطاني يمني المنشأ، أو من أصول يمنية، استوطنت فلسطين والشام بعامة منذ ما قبل الألف الثانية قبل الميلاد.

والأمر هنا لا يبعد بنا كثيرا عما يورده النسابة الكلاسيكيون العرب في احتفاظهم وتأريخهم الأسطوري في أن قحطان - أبو العرب السبئيين الجنوبيين اليمنيين والعاربة أيضا أو البائدة - وابنه يعرب ابن قحطان - وأول من تكلم العربية - من نسله جاء سبأ أو ملوك سبأ، وكان رأسهم الملك عبد شمس بن سبأ الذي سمي سبأ؛ لأنه كان يسبي أعداءه. ومن نسل سبأ انحدر كل من ملوك حمير وكهلان.

فمن حمير انحدر الكلبيون، أما من الفرع الثاني «كهلان» فقد انحدرت سبعة بطون تضخموا إلى قبائل وحضارات كبيرة مع التوالي التاريخي وهم: طيء، ومذحج، وهمدان بالعراق، وكندة، ومراد وأنمار، والأزد أو الأسديين. فمن الأزد انحدر الغساسنة ملوك الشام عقب خراب سد مأرب، وكذلك انحدر منهم قبيلتا: الأوس والخزرج ملوك يثرب، ومنهم أيضا انحدرت قبائل خزاعة سدنة أو كهنة الكعبة فيما قبل الإسلام.

ولعل عودتي هنا إلى الغوص في بطون معضلات الأنساب هذه مرجعها أنها ستصادفنا فيما سيجد علينا من أحداث هذه السيرة المتناهية الأهمية، والتي تخالط فيها البنية القرابية القبائلية للأنساب من عائلات وفروعها بناء آخر موازيا، وله ذات الأهمية في علاقة جدلية وثقى مع سابقه، ذلك هو البناء العقائدي الطوطمي لهذه القبائل المتحالفة والمتحاربة عبر مسرح صراع بؤرته أرض فلسطين العربية، كما يتضح أطرافه هنا أقصى جنوب الجزيرة عدن وحضرموت، بالإضافة إلى مكة والحجاز والشام والعراق.

بل إن هذه القبائل هي ما ستطالعنا بأسمائها ومحال إقامتها أو أوطانها فيما سيجد علينا من أحداث سيرتنا هذه التي توقفنا في سردها عند قدوم الأمير شيبون، الابن الثاني لصديق الزير وصفيه همام، العائد بفرسانه من إحدى غزواته لبلاد الروم؛ لينتقم لقبيلته وأخيه شيبان من خاله الزير سالم، وإهانته للزير: «ما يقني الحمير إلا الحمير.»

وما يجق علينا ملاحظته هو امتهان «شيبون» لآلهة ذلك التحالف الطوطمي الحميري المنتسب إلى طوطمها مثلما انتسبت قبائل الكورنثيين إلى البقرة،

ionians, children of the Cow goddess

والمصريين القدماء كما لقبهم أخيلوس

Ogyias

أوجيجا، خلال حكم كاليبسو

Calypso

أو الكلبية ابنة أطلس في فاروس أو ما قبل الإسكندرية، وعممت تسمية فاروس فشملت تسمية «أوجيجا» كل مصر.

وعندما دفع البابليون بإلههم

Syrians Temmpest god

إلى مصر، فانتشر فيها تحت اسم الخنزير البري الذي قدر له أن يغتال سنويا أخاه أدونيس الذي وحدوه بأوزوريس، وكلاهما ولد تحت شجرة التنوب الشبيهة بالأرز

zir-tree ، كما وحدوا الخنزير البري بست إله الصحراء القديم، والذي كان شعاره هو الحمار الوحشي

Wildrass ، والذي عليه أن يهدم سنويا أخاه أوزوريس إله الخصب واخضرار النيل.

وهذا ما دعا المؤرخ الفينيقي السوري

Sanchthoniatho

الذي عاش وكتب تاريخه في القرن السادس قبل الميلاد، والذي عرفه المؤرخون العرب باسم سنكن يتن، وكان أول من أشار إلى تاريخه الأسطوري هو فيلو الجبلي، بقوله: إن التراث الأسطوري الفينيقي قد عرفه المصريون القدماء، قائلا: إن غرائب فينيقيا قد وصلت مصر، وأثرت في تراثها الأسطوري العقائدي.

ولعل أقدم اثنين

inventors

عرفتهما البشرية أو الجنس البشري، وهما

Upsouranios

وأخوه

Ousous

عوص أو عيسو أو العيص، كما تسميه العرب الرجل الأدومي الأحمر، فينسب لعوص قدرة السيطرة على النار والريح.

فهذان الأخوان: العوص وأخوه، ما هما سوى أدونيس إله الشمس، وطيفون أخوه إله الريح والعواصف والجدب بعامة.

وما إن دخل ملوك الهكسوس

1

حتى وحدوا إلههم

Tempest

طيفون بست، وأوزيريس أبدونيس أو ديونزيوس.

والملفت هنا أن التوحد التراثي للتحالف القبائلي لغرب آسيا من سوريين ولبنانيين وأردنيين وفلسطينيين حين دخلوا مصر تحت اسم الهكسوس، وجدوا ذات التوحد التراثي الشعائري في مصر، بما ساعد على إنجاز عمليات التوحد والتجانس التراثي التي جرت عبر قرنين في مصر.

ففيما قبل عصر الأسرات في مصر، كان الإله ست هو أعظم الآلهة المصرية وكبيرهم، وظل هكذا متواجدا على رأس مجمع الآلهة المصرية على طول مجرى تاريخ الأسرات، تعلو صوره وتماثيل رأسه التي تصور رأس حمار طويل الأذنين، إلا أنه سقط نهائيا من منظومة الآلهة المصرية بعد اجتياح الهكسوس لمصر، وحكمها لقرابة قرنين من الزمان، إلى أن تمكن ملوك الأسرة 18 من طردهم والدفع بهم بعيدا عن حدودها الغربية.

وهكذا نسبوا إلى ست - أو طيفون - «رياح السموم» أو الخماسين الصحراوية، والتي تهب على مصر وليبيا وجنوب أوربا موسميا.

فعبادة رأس الحمار كانت منتشرة بكثرة واضحة في الأردن وفلسطين، وحيث عثر على الكثير من أقنعة رأس الحمار الذهبية التي كانت بحوزة الملك السكندر جيناوس،

2

وعاد الأدوميون فاغتصبوها منه.

وينسب المؤرخ الهليني اليهودي «فلافوس جوزيفوس» أن الملك ألكسندر جيناوس كان يعبد إله دورا الفلسطينية الأدومي الحمار بالقرب من عبرون.

فمن «دورا» الأدومية

Edomite

دخلت عبادة رأس الحمار في الرسوم وأعمال النحت والصياغة والأيقونات بكثرة في التشكيل الفلسطيني والأردني والعبري بعامة.

فأول ملوك إسرائيل «صول» - أو شاول - اختير ملكا؛ لأنه جد في البحث عن الحمير الشاردة ممثلة في الحمار الذي كان لإبراهيم عندما كان يبغي التضحية بإسماعيل كما ينسب العرب، وإسحاق في حالة اليهود، وهي ذات فك الحمار التي هزم بها البطل الأسطوري الفلسطيني شمشون أعداءه، وكذلك حمار النبي بلعام بصوته البشري الحكيم.

وكذلك تصف التوراة أولاد أسباط إسماعيل ابن هاجر الاثنتي عشرة قبيلة: اثنا عشر حمارا وحشيا بين الأمم (تكوين 16).

بما يشير إلى أن ثمة تحالفا دينيا عقائديا أو طوطميا لحوالي 30 قبيلة وحضارة من حضارات الشرق الأدنى القديم منذ حوالي 4 آلاف عام تحت قيادة القبيلة المنتسبة إلى ست، والذي قد يكون هو بذاته إسماعيل أبو العرب، كما قد يكون حميره - ابن قحطان - الذي منه انحدر الكلبيون الذين تحدد أساطير أرض ميعادهم العربية أنهم نزلوا الثغور أو الموانئ البحرية، وسماهم المصريون القدماء ب «الشعوب البحرية»، وهم الذين وصلت طلائعهم البحرية إلى إنجلترا وأيرلندا منذ مطلع الألف الثانية قبل الميلاد، كما أسرت طلائعهم البحرية - وهم الفلسطينيون - القبائل العبرية في عبرون حوالي 800ق.م.

وتسموا بالكلبيين حين عممت إحدى تسميات عشائرهم الأدومية كالب

Caleb

أو

calebites

أو

Dog-men

فتسموا بالكالبيين، كما أنهم - خلال هجراتهم البحرية وفتوحاتهم لليونان وجزر بحر إيجة - أدخلوا ديانتهم وآلهتهم وتقويمهم ومنه الآلهة الأم القمرية

Leucathea

أو الإلهة الفضية «القمر»، وهي ما أسماها اليونانيون ب «إينو» أو فلسطين

ino or plastene ، وما تزال آثارها الحفرية باسمها الفلسطيني بمدينة

Tantalus ، وهي ما أصبحت أم هرقل مليكارت أو هرقل ابن الإلهة الفلسطينية

Melkarth .

ويلاحظ هنا أن تسمية الإلهة ملكارت هذه تشير إلى ذات الحمى الذي يحدده الكلب أو نباح الكلب، وهو كما هو معروف هدف العالم القديم برمته بل والحديث، وهو الدفاع عن الحمى والكلأ، أو الملك - بكسر الميم - والإرث «ملكارت» أو ملك: إرث، فاسم هذه الإلهة الفينيقية بعامة والفلسطينية بخاصة، والتي عادة ما تصور في ملايين الصور والتماثيل برفقة كلبها الحارس

Canis mojor ، والذي يشير إلى أنه يعني نجم الشعرى اليمانية، أو ما كان يطلقه العرب من مسميات على اسم القمر لإخفاء الاسم الحقيقي لرب الأرباب، ومن أسمائه عندهم: السلطيط والتغرور والساهور

Sihor .

وعلى هذا، فإن البنية القرابية القبائلية لهذه القبائل الحميرية يجيء متسقا مع بنيتها الطوطمية؛ بمعنى أن الكلبيين حميريون كما أوضحنا سلفا.

فمن حمير انحدر الكلبيون أو الشعوب البحيرية العربية بفلسطين وسوريا ولبنان، وظلت طلائعهم البحرية الفلسطينية ممثلة في تحالف قبائل بني كلاب وبني عامر التي ذكرنا مرارا معاودة الزير سالم لذكرها بالاسم والانتساب.

خاصة عقب حادث تغريبته أو موته الموسمي، حين كفنته أخته ضباع وألقت به في اليم لمدة ثمانية أعوام عبر رحلة «عبورية»، وأسر يخالطه حرب مع ملك يهودي يدعى حكمون.

لكن ما إن انتهى نفيه أو أسره ذاك، وأنزلته موكب حكمون في حيفا، حتى نزل من فوره إلى قبائل «بني عامر» التي عنهم يذكر القلقشندي موضحا الكثير، وفاكا بعض أحجية هذه السيرة - الملحمة العربية الزير سالم أبو ليلى المهلهل - التي ضيعت ملامحها الفلسطينية ما بين تاريخ الأدب العريق الغيبي السلفي المغلوط برمته، وبين السطو اليهودي وتغيير المعالم التي لا تقف عند الأرض والوطن بقدر ما تستبيح التراث.

يقول القلقشندي:

3 «ومن بني عامر بن صعصعة: بنو كلاب، وهم بنو كلاب بن عامر بن صعصعة، وكان لهم في الإسلام دولة باليمامة، وكانت ديارهم حمى ضربة، وهي حمى كليب وحمى الربذة في جهات المدينة النبوية وفدك والعوالي، ثم انتقلوا بعد ذلك إلى الشام، فكان لهم في الجزيرة الفراتية صيت، وملكوا حلب ونواحيها وكثيرا من مدن الشام»، ثم يذكر القلقشندي بعد ذلك أنهم ينتسبون إلى عبد الوهاب بن بخت، المذكورة في سيرة البطال،

4

وأنهم كانت لهم غارات عظيمة على بلاد الروم، وأن بنات الروم وأبناءهم كانوا يباعون في سباياهم.

ولعل هذه السيرة الملحمة - الزير سالم - أن تقودنا إلى فاتحة إعادة التعرف على الجسد الأهم للتراث الفولكلوري والأسطوري الفلسطيني، الذي يستحوذ جانبه الملحمي - خاصة - على عيون الأعمال الكبرى العربية من سير وملاحم، عممت فأصبحت مع توالي العصور تراثا عاما للأمة العربية.

ويلاحظ هنا دور ذلك التراث الفلسطيني الأبعد رؤيا كطليعة بحرية في التبصير بالأخطار الضاربة دوما والمحدقة بمنطقتنا الشرق الأدنى القديم أو الأوسط المعاصر، أو أمتنا العربية منذ أقدم العصور سواء في هذه السيرة - الزير سالم - أو في سيرة الأميرة ذات الهمة،

5

وهي أيضا الأميرة ذات الهمة من سلالة هذا الزير فلسطينية، بل ومن بني كلاب، فذات الهمة أميرة وهبت نفسها للدفاع عن الأمة العربية، فاختارت منطقة الثغور لكي تكون موطنها؛ ذلك أنها المنطقة التي يتحدد فيها موقف الدين الإسلامي والشعب العربي ضد الروم المغيرين، كما تذكر سيرتها.

فانتقلت ذات الهمة على رأس الجيش العربي المتطوع والممثل في قيادة التحالف القبلي لبني كلاب إلى منطقة الثغور، حيث اتخذت من ملطية عاصمة لها.

فلولا إشارة من القلقشندي عن هجرة ذلك التحالف الكلبي الفلسطيني لبني كلاب إلى منطقة الثغور، والدور الذي لعبوه في الحروب العربية البيزنطية لما تعرفنا على جذور ومنشأ هذه السيرة الفلسطينية للأميرة ذات الهمة.

وسيرتها التي تحفظ لهذا التحالف الكلبي الفلسطيني دوره الطليعي والمقوم للدولة العربية، من أموية لعباسية خارجيا وداخليا؛ فالسيرة مثلا تذكر أن نكبة البرامكة حلت بهم؛ لعلاقتهم ببني كلاب كطلائع غيورة على الأمة العربية. وإذا ما اكتفينا بهذا القدر، وعاودنا الالتزام بسرد سيرتنا - الزير سالم - حيث توقفنا عند عودة شيبون بن الضباع من حروبه من بلاد الروم، فعقب إهانات شيبون ذاك لم يجد الزير سالم بدا من منازلته وقتاله، وهكذا «ضربه على رأسه فشقه إلى تكة لباسه.»

ولما رآه المهلهل مجندلا ندم وتحسر، وأنشد أعظم مراثيه الطبقية الثورية التي كان لها أكبر التأثير وأرسخه في الشعر الشعبي الفولكلوري - خاصة الموال الأحمر - على امتداد الوطن العربي؛ حيث يقول: «المال يبني بيوتا لا عماد لها»، وإن «العز بالسيف ليس العز بالمال»، والتي فيها يواصل دوره كبطل شعبي ثوري حتى في تصديه للنسب والأنساب التي تصل في تلك الأيام وإلى أيامنا إلى حد التقديس حين يقول: «العم من أنت مغمور بنعمته، والخال من كنت من أضراره خالي»:

الزير أنشد شعرا من ضمايره

العز بالسيف ليس العز بالمال

شيبون أرسل نار الحرب يطلبني

يريد حربي وقتلي دون أبطالي

نصحته عن قتالي لم يطاوعني

بارزته فهوى للأرض بالحال

المال يبني بيوتا لا عماد لها

والفقر يهدم بيوتا سقفها عالي

دع المقادير تجري في أعنتها

ولا تبيتن إلا خالي البال

ما بين لحظة عين وانتفاضتها

يغير الله من حال إلى حال

فكن مع الناس كالميزان معتدلا

ولا تقولن ذا عمي وذا خالي

العم من أنت مغمور بنعمته

والخال من كنت من أضراره خالي

لا يقطع الرأس إلا من يركبه

ولا ترد المنايا كثرة المال

واكتملت فاجعة هذه الأسرة «الضباعية» نسبة إلى الضباع أخت الزير سالم التي سبق أن كفنته في تابوته، وألقت به في البحر بدلا من أن تحرقه بالنار كما ادعت على قومها - قبيلة زوجها - أنها أحرقته، فكانت رحلته العبورية الغامضة تلك إلى ميناء حيفا ومملكة حكمون.

وصلت مأساة هذه الأسرة إلى ذروتها بقتل الزير سالم لصديقه وصفيه وصهره الأمير همام، حين نازله انتقاما لولديه؛ شيبان وشيبون.

ولعلنا في فصلنا التالي بإزاء ما يعرف عادة في نهاية كل سيرة عربية أو ملحمة قوامها الهجرة والإغارات والحروب القبائلية لحضارات شرقنا العربي، لعلنا بإزاء ما يعرف ب «الأيتام»، أو عصر الأيتام للأجيال المنتقمة التي أودت بآبائها وأسلافها تلك الحروب الطاحنة القبلية.

وها نحن بإزاء الأمير جرو ابن الملك المغتال كليب، الذي سمته أمه الجليلة بالهجرس بعد أن أخفته عن العيون حتى إخوته البنات السبع ومنهن اليمامة.

الجرو بن كليب المسمى بالفارس الهجرس

ويمكن إعادة تذكر سلسلة المكائد التي لفقتها الجليلة زوجة الأخ الأكبر الملك كليب هي وقبيلتها ضد الزير سالم؛ لكي تهدمه وتقضي عليه، والتي اكتملت بإحضار الزير سالم لها بوصفه «لبان اللبؤة»؛ لكي تحمل وتجيء الملك كليب بابن ملكه المترامي.

يبدو أن الوصفة - الأحبولة الأخيرة - نجحت عقب مصرع كليب على يد أخيها المغتال الأمير جساس، وولدت الجليلة خفية عن العيون ابنا أسمته الهجرس، ولقبته قبيلتها التي عادت إليها وتربى في كنفها باسم «الجرو»، يذكر النص أن جساسا أحبه إلا أنه كان يخافه، ويخشى سطوته وشره، حيث إن جساس خاله هو قاتل أبيه كليب، وهو الوحيد - بعد الجليلة أمه - الذي يعرف حقيقته التي أخفيت عنه؛ ذلك أن الجرو ما إن اشتد ساعده وتبدت قدراته الخارقة حتى اصطدم بأبناء أخواله، فكان أن أخذته أمه الجليلة، وهاجرت به ذات ليلة قاطعة البراري والقفار، متخذة هيئة الأمهات النساء أو الجواري المضطهدات، كما لو كانت الربة إيزيس، تجاهد عبر أعشاب الدلتا في إخفاء طفلها - المنتقم بدوره لأبيه المغتال - حورس ، وكهاجر زوجة الخليل مع إسماعيل إلى أن حطت رحالها بابنها نواحي الحجاز ومكة عند أمير مهيب يدعى «منجد بن وائل»، الذي كرمه بين العرب الشماليين ونصبه أميرا، وزوجه ابنته الفاتنة «بدر»، ومنجد بن وائل هذا يتوحد مع أستروفيوس أمير فوكيس الذي عنده كليمنسترا وعشيقها إيجيست ابنها أوريست عقب رحيل «ملك الملوك» أجا ممنون إلى حرب طروادة لكي يخلو لها وعشيقها الجو في آرجوس.

بالإضافة إلى أن سيرتنا هذه تحفظ للجرو أو الهجرس أنه صد غزوا من بعض ملوك العرب المغيرين «في ثمانين ألف عنان» عن بلاد منجد بن وائل «وفعل فعالا تبقى وتذكر ما دام الشمس والقمر.»

وما إن ذاع صيت الجرو بعد أن كبر وأصبح قبيلة، حتى أرسل إليه خاله جساس، فصالحه هو وأمه الجليلة، وطالبه بعدم التخلي عن قبيلته في محنتها، مفهما إياه ومضللا أن له ثأرا عند الزير سالم الذي سبق له أن قتل أباه غيلة:

أنا أبكي على المرحوم أبيك

قتله الزير في ربعك وحيك

وعلى هذا نجح جساس - بموالسة الجليلة - من إخفاء الأمر على الجرو، وإعطائه حصانه «الأخرج»، ودفعه إلى الحرب والتصدي لقتل عمه المهلهل؛ دفاعا عن ثأر أبيه كليب الذي يحارب الزير بدوره من أجله.

بمعنى أن كليهما - الزير والجرو - يحارب الآخر؛ دفاعا وأخذا لذات الثأر - ولنقل: لذات الطوطم السلف كليب - الذي واصل - كما يذكر النص - البعث بأشعاره وموثباته ومواجعه من القبر إضراما لنيران الأخذ بثأره من جساس مغتاله، يقول كليب:

عظمي ذاب حتى صار كحلا

وجساس بن مرة في الحياة

تنام الليل كله يا مهلهل

وثأري ما قدرت على وفاه

فينشد الزير مجيبا على قبره:

أمير كليب ما قصرت يوما

بأخذ الثأر م القوم البغاه

فقم واسأل بناتك يا حبيبي

على طعني وفعلي في العداه

فتجيبه بناته كمثل كورس وأولهن اليمامة:

يقولون اليتامى يا مهلهل

أتانا كليب يستنجد أخاه

كليب قام من وسط المقابر

وصار كليب في وسط الحياة

فدفاعا عن ذات الجرو - أو السلف المغتال - التقى المحاربان؛ الزير والجرو بن كليب، ويبدو أن الجرو أو الهجرس كان عاتيا في منازلته لعمه الزير ، لدرجة جعلت كليهما في ساحة الحرب والنزال يتوجس من الآخر، فكان أن دقت طبول الانفصال، وعاد الزير مشتتا مثقلا يستفسر من اليمامة وبنات كليب عن هذا الغلام الذي له عزم كالصخر منشدا:

يقول الزير أبو ليلى المهلهل

مريع الخيل أن قصدت إلينا

يمامة اسمعي مني كلاما

أيا ست الملاح المحسنينا

برزت اليوم للميدان حتى

أقاتل آل مرة أجمعينا

فبارزني غلام غريب منهم

له عزم كما الصخر المتينا

كمثل أباكم وجها وحربا

فذكرني ليالي الماضيينا

فقد قاتلته في كل لطف

ويطعنني طعان القاتلينا

فحملاته وطعناته قوية

تقد الصخر والزرد المتينا

وكان أن أشارت اليمامة بمنازلته هي و«ملاعبته» بلعبة كانت تلاعب بها أباها كليبا - التفاحات والسهم - وذلك بأن تضربه بأربع تفاحات وترى كيف يتصرف.

وهكذا نازلته هذه القائدة الكاهنة القمرية اليمامة التي أصبحت مدنا، بل إليها وإلى مدنها انتسبت القبائل الكلبية، أو بنو كليب، الذين كان لهم - حتى مجيء الإسلام - دولة بمدينة أو مدن اليمامة تعرف باليمامة، كما يذكر القلقشندي.

وكانت وسيلة التعارف بالتفاحات والسهام عند اليونان، كما يوجد في «أوديسا» هوميروس، هي الوسيلة التي عرفت بها بنيولب عودة زوجها المتنكر الغائب أوليس (أوديسيوس) إلى قصره بإيثاكا في زي سائل، ولعلها موتيفة نقلت إلى ابنه تلمياك من بعده بخيال الرواة، وهذا ليس بعيدا كل البعد عما نحن فيه من أحداث، فقد كان أوديسوس المخاطر والبطل اليوناني في غزو طروادة، هو صاحب حيلة حصان طرواة الشهيرة التي تمكن عن طريقها الإغريق من التسلسل إلى داخل أسوارها بعد أن أعياهم حصارها عشر سنوات.

وكليب - كما رأينا - هو صاحب حيلة الخيل حاملة الرماة في الصناديق التي بها استطاع بنو قيس وكالب عرب للشمال أن يتسللوا داخل أسوار قلعة التبع حسان اليماني وحاضرة ملكه دمشق، التي جاءها التبع محاصرا وغازيا.

وهكذا نازلته في اليوم التالي اليمامة، قائلة: أنا أقاتلك اليوم دون المهلهل.

وحين تصرف الأمير هجرس مع تفاحاتها الأربع بنفس شارات أبيها، تعرفته وكفته عن مقاتلته واحتضنته، وأخبرته بأنه ابن أمها الجليلة وأبيها كليب، وأن عمه الزير سالم الذي ينوي مقاتلته «فارس الخيل من عجم وعربان.»

1

وهكذا رجع الهجرس متوجسا إلى أمه الجليلة - كمثل أوريست - ينوي قتلها إن هي كتمت عنه حقيقته، فأنشدت الجليلة باكية:

قالت الجليلة من أبيات

نار قلبي بالحشا زادت لظا

أنت روحي افهم مني الكلام

قول صادق ليس فيه من خفا

إن أبوك كليب صور المحصنات

قاهر الأبطال في يوم الوغى

وإخوته خمسون أعمامك جميعا

كلهم فرسان طعانة قنا

أربعة من الست يا ابني حقيقي

كل واحد سبع ربى بالفلا

منهم أبوك المسمى كليب كان

والفتى الزير المهلهل يا منى

والفتى المسمى عدي ودرعان

هذه الأربعة أتوا منها سوى

كلهم يا أمير أعمامك لهم

كل واحد ألف يطعن بالوا

وأبوك كليب ساد على الجميع

بالفروسية مع جود وسخا

جاء جساس خالك غدره

وتركني بعده مثل أما

وطردني

2

عمك الزير بعده

فرحت إلى أهلي دون الملا

قد كنت حامل فيك بعد أبيك

فولدتك في تلك الحما

رحت سميتك على اسم الكلاب

صرت كأنك سبع رابي بالفلا

وأنا والله من خوفي عليك

قلت أخي شاليش: إنه لك أبا

وأنا والله أفعل ما تريد

ما بقت أخاف يا فخر الملا

ولما أن فرغت الجليلة من شعرها واعترافها، حتى خرج الهجرس ومعه عبده أبو شهوان، فزار «قصر أبيه المصفح بالذهب» فبكى أباه وانتحب طويلا، ويلاحظ هنا أن قبر كليب كان ملحقا بقصره، وهي عادة - شعيرة - سلفية حميرية تتيح للخلق استشارة الموتى السلف، خاصة إذا ما كان المرحوم مهيبا كالملك كليب.

وبنفس السرية والحذر تسلل الجرو إلى قصر عمه المهلهل، فقبله طويلا ورحب بعودته، وعاهده الزير سالم على أن يكون هو الحاكم الملك بعد أبيه كليب وبعد قتل جساس، وأنشد المهلهل:

يقول الزير أبو ليلى المهلهل

صفا عيشي ووقتي ما تعكر

أتاني السعد من رب البرايا

وزال النحس لما السعد نور

فقبل ظهوره كنا حزانى

نقضي الليل في قلق ونسهر

على فقد الفتى الماجد كليبا

ثوى غدرا له جساس غندر

وفي دمه كتب بالبلاطة

وصايا عشر أبيات وأكثر

يوصيني بقوله: لا تصالح

فسالم أنت إن صالحت تخسر

واطرد

3

الجليلة من حمانا

فعندي كعبها ما كان أخضر

طردناها وهي بالجرو حامل

ومن يقدر على رد المقدر

أنا فيهم فتكت بحد سيفي

ونلت القصد منهم بالمشهر

وإني ما بكيت على كليب

أخذت بثأره بالسيف مجهر

فأبكي حيث ما خلف ذكورا

بنات الكل ما له طفل يذكر

صفا عيشي وقد نلت المقاصد

وزال النحس عنا ثم أدبر

وبعده يا بني اسمع كلامي

أنا عمك وأنت الليث قسور

فقم اجلس على كرسي أبيك

وفي حال أخواتك تبصر

واتفق الجرو مع عمه الزير على خطة مؤداها أن ينازلهم الجرو محققا عدة انتصارات وهمية، يعود في أثرها إلى خاله جساس بالأسلاب، إلى أن يوهمه بأنه سيأتي إليه برأس الزير، بينما يضع الزير سالم قربة دم تحت جواده يطعنه فيها الجور ليسيل دمه، حيث يتقدم جساس لقطع رأسه فيقتلانه.

وعندما تحقق تدبيرهما وطعن الجرو الزير على مرأى من خاله جساس، فنزل يتخبط بدمه، ونزل أو هو تدلى عن ظهر فرسه، عندئذ تقدم منه جساس ليجز رأسه، فهجم عليه الزير، ووضع الجرو الرمح بين كتفيه، فتهاوى جساس ومضى يستعطف الجرو أحر الاستعطاف:

قال جساس الذي شاهد وفاه

يا سياج البيض في طعن القنا

إنني بك يا ابن أختي مستجير

فأجرني يا ابن أختي من القنا

فأجابه الجرو ساخرا متهكما:

تقول أجرني يا ابن أختي

ألا يا جرو أعطنا زمامك

ثم تقدم الزير سالم فقطع رأس جساس «ثم وضع فمه على عنقه، وجعل يمصه حتى شرب جميع دمه.»

وشهر رأس أمير بني مرة - جساس - وأشبعوهم قتلا، إلى أن استسلموا على أن يكونوا مثل العبيد، وهذه هي شروط الاستسلام التي أملتها قبائل بني كلاب: «لا ينقلون سلاحا، ولا يحضرون حربا ولا كفاحا، ولا يوقدون نارا لا ليلا ولا نهارا، ولا يعرف لهم قبر ميت في جوار، لا في مقبرة ولا في دار، إلا مشتتين في البراري والقفار، يقضون حياتهم بضرب الطبل ونفخ المزمار، وإن غابت نساهم طول النهار لا يسألها أين كنت؟ بل يسألها إيش جبت؟ وليس لهم سوى الرقص والخلاعة.»

وتلك كانت شروط الاستسلام في تلك المجتمعات العبيدية الإقطاعية الموغلة في تجبرها القبائلي.

وهكذا نصب الجرو ملكا على فرش كليب، وتسلط على كل القبائل، وخلعت بنات كليب السواد، واستقبلنهن بالأناشيد البعثية:

صار كليب في وسط الحياة

كليب قام من وسط المقابر

ولا تكف هذه السيرة عن العودة بنا إلى متاهات الأنساب العربية؛

4

حيث إن الجرو تزوج بثلاثة، ولدن له ولدين، سمي الواحد تغلب، والثاني مالك، ما إن كبرا حتى زوجهما بشقيقتين من بنات «الأمير هلال حاكم حماه».

وهكذا تعرج بنا هذه السيرة إلى أخرى تالية لبني هلال وأنسابهم، فما إن أنجب مالك بن الجرو بنتا أسماها «مي»، حتى زوجها بالأوس ابن أخيه، إلى أن وضعت امرأة الأوس بدورها غلاما سموه «عامرا»، ربما انتسابا إلى قبائل بني عامر بفلسطين بالقرب من حيفا، التي ما كان يروق للزير سالم الانتساب لها.

5

كما إن هذه السيرة - ذات الجذور الضاربة العربية الفلسطينية - ما تفتأ تشير إلى شتاتاتهم حتى في خلفائها بني هلال وسيرتهم على النحو التالي:

فحين كبر عامر تزوج بامرأة من أشراف العرب، فولدت له غلاما في نفس الليلة التي مات فيها جده الجرو، فدعاه «هلال» وهو جد بني هلال، ولما كبر هلال تزوج وأنجب المنذر، واتفق أن الأمير هلال نزل مكة مع رجاله أيام ظهور النبي محمد، وتشرف بمقابلة النبي وقبله بين عينيه، وصار من أعوانه، فأمر النبي أن ينزل الأمير هلال في وادي العباس، فلما كان النبي يحارب بعض العشائر قاتل معه هلال ورجاله، ورأت فاطمة الزهراء هول المعركة فجنحت بجملها لتبتعد عن حومة القتال، فشرد بها في البراري والفلوات، فدعت على الذي كان السبب بالبلاء والشتات، فقال لها أبوها: «ادعي لهم بالانتصار؛ فإنهم بنو هلال الأخيار، وهم لنا في جملة الأحباب والأنصار، فنفذت فيهم دعوتها بالتشتيت والنصر على طول الدهر.»

ويلاحظ أن هذه الأسماء تشير إلى رءوس قبائل - خاصة الأوس - رأس الأنصار من «الأوس والخزرج »، كما يلاحظ عبر قصة استطرادية ترد في آخر هذه السيرة أنها فابيولا مهاجرة من بالاد، مفتقدة عن «الأوس ومي» التي اغتصبها أحد ملوك اليمن واسمه الصنديد، وكافح الأوس طويلا كما حدث مع جده كليب في استرداد الجليلة من التبع اليمني، إلى أن استرد مي الجميلة تلك.

وهكذا تستدرجنا السيرة في آخر فصولها حول فروعها وبطونها القبائلية دون ذكر يذكر لبطلها الزير سالم أبو ليلى المهلهل، الذي عاود منفاه ووحدته وعجزه، تمهيدا لاغتياله ودفنه في صعيد مصر، كأوزوريس المدفون بالعرابة المدفونة، مع ملاحظة تسمية «العرابة» والعرب ربما منذ مطلع الدولة القديمة في مصر العربية.

اغتيال الزير سالم في صعيد مصر

أما الزير سالم،

1

ذلك البطل الشعبي أبو ليلى المهلهل، فإنه ما إن انتهى من قتل جساس، وفرض ذلك الاستسلام المتجبر المهين على أعدائه البكريين؛ حتى أسلم عرش كليب لابنه الجرو، وظل وحيدا لم يتزوج، ولا نعرف له ذرية كما يخبرنا النص الشعبي الفولكلوري - برغم تسميته بأبو ليلى - وهو ما سنتناوله في هذا الباب الأخير.

فالزير سالم انتهى نهاية غريبة، منعكفا في منفاه الاختياري ببئر سبع يقيم «في الخيام، ويشرب المدام، وينام وهو لابس آلة الحرب والصدام»، وكما يصفه النص العامي: «أضناه الدهر وضعفت قواه، وظل على تلك الحال إلى أن برزت له أسنان، وصار عقله مثل عقل الولد.»

فالملفت أن المهلهل هو الشخصية الوحيدة التي تتبدى غريبة هائمة على طول هذه السيرة الملحمة، الذي هو بطلها المحجب، قاتل السباع الذي لا يقهر.

وعلى هذا النحو - أو التمثيل - تختفي النصوص الفولكلورية العامية به كبطل خارق مكتمل الصفات، يزخر بالمعاناة والأحاسيس الجياشة والإنشاد التراجيدي العميق، الذي لا يفصح عنه سوى المراثي والموال الأحمر:

إن في الصدر من كليب شجونا

هاجسات منه الجراحا

ولعلني أعني ما أقول؛ فإن ذلك الشاعر الفاجع المهلهل كان أكبر القوى الشعرية بالغة الأثر على مدى الأزمان التي مرت بلغتنا وفولكلورنا العربي، وبخاصة جانبه الشعري، ما تزال محفوظة تعيش متواترة إلى أيامنا، وقد جمعت له بذاتي (شوقي عبد الحكيم) - خاصة ما يتصل بمربعات ومثمنات الشعر الشفهي الفولكلوري - آلافا مؤلفة من مواويل المراثي وأشعار التوجع، والموثبات أو الأشعار التحريضية والبكائيات الذاتية.

يأمل مؤلف هذا المدخل البحثي - في إطار الأدب الأنثروبولوجي - أن تتاح له إمكانية نشرها، ومقارنتها بما ينسب إلى المهلهل من مراثي ومعلقات الشعر العربي الكلاسيكي.

فيبدو أن أبو ليلى المهلهل في آخر أيامه ضاق بعجزه ووحدته، فطلب من ابن أخيه الملك الجرو أو الهجرس أن «يسوح متنزها في البلاد»، فأعطاه الملك هودجا وعبدين يحرسانه ولوازم سفره، فخرج سائحا، وما زال يجول في البلاد إلى أن هد كاهل عبديه، وكان قد وصل بهما تجواله - كما يذكر النص العامي - بلاد الصعيد، فصمما على قتله ودفنه ثم يعودان إلى أهله، ويخبرانهما بأن أبا ليلى المهلهل أدركته المنية.

ويبدو أن الزير أدرك غرضهما وما ينويان، فطلب منهما الحرص على إبلاغ أمنيته الوحيدة ووصيته إلى أهله، وعاهدهما فأقسما، فأنشد عليهما بيتا وحيدا من الشعر:

من مبلغ الأقوام أن مهلهلا

لله دركما ودر أبيكما

وكرره عليهما إلى أن دخل الليل فذبحاه ودفناه ورجعا إلى ديارهما، ودخلا على سيدهما الجرو فأبلغاه بموت عمه أبي ليلى المهلهل، فبكى وطالبهما بوصيته.

وما إن أنشد العبدان وصيته أو بيت شعره الوحيد على مشهد من الملك الجرو واليمامة وعلية القوم؛ لطمت اليمامة ومزقت ثيابها صارخة بأن عمها لا يقول أبياتا ناقصة أو مهلهلة، وأنه قتيل مغتال، أراد أن يقول:

من مبلغ الأقوام أن مهلهلا

أضحى قتيلا في الفلاة مجندلا

لله دركما ودر أبيكما

لا يبرح العبدان حتى يقتلا

ثم أنهما قبضوا على العبدين، ووضعوهما تحت العذاب إلى أن أقرا بما أشارت به اليمامة التي رجحنا - فيما سبق - قدرتها الخارقة على البصيرة والتنبؤ - ككاسندرا - وعلاقتها الطوطمية بأبيها كليب؛ حيث إنه تسمى بها، وظلت على طول هذا النص في موقع كاهنة أو إلهة قبلية أم تتصدر المحاربين وتقودهم على طول حرب البسوس، ويستشيرها الزير سالم في الحرب والهدنة، وحين تخالفه يخضع لإرادتها بصرامة لا يغفلها النص مثلما مر بنا حينما زارتها أمها الجليلة وتوسلت إليها بطلب هدنة، فوافق الزير ورفضت اليمامة، فكان أن تجددت الحرب لسنوات طويلة.

إلا أن ما بقي علينا مغلقا - لم يقاربه البحث - هو تسمية الزير سالم بأبي ليلى المهلهل، وهي تسمية لم ترد لصاحبتها ليلى ذكر على طول مختلف نصوص السيرة ومأثوراتها المتعددة من فصحى لعامية، صحيح أن النصوص والفابيولات الكلاسيكية تحفظ له اسم ابنة وحيدة تدعى «سليمى» لم يخبرنا أي نص من أين جاء بها المهلهل، سوى أنه سافر أو هاجر بها يوما ملتجئا أو مستجيرا بقبائل بني مذحج باليمن، وأقام لديهم فخطبوا - أو هم زوجوا سلمى أو سليمى ابنته الدخيلة هذه - ابنة المهلهل لأحد أبناء مذحج قسرا، إلا أن أعداءه قبائل بكر غضبوا وقتلوا زوجها، بل والغريب أنهم هم أعداؤه الذين أرجعوا له ابنته.

وهي بالقطع حكايات ومأثورات جانبية - ولنقل: جاهلية فصحى - دخيلة لم تخبرنا بها أي من النصوص الفولكلورية الشعبية، التي إن حفظت للمهلهل ابنة أو تسمية أو شعارا فهو تسميته على طول السيرة ب «الزير سالم أبو ليلى المهلهل»، ومن هنا يرد اسم الإلهة ليلى هذه في الأشعار الشفاهية الفولكلورية ذات الطابع الشعائري الديني؛ من مربعات قصيرة تتصل بالأوراد والإنشاد الصوفي الديني وأغاني التخمير والزار، بل هم يطلقون على «ليلى» هذه مسميات طقسية متعددة؛ كأن يسموها بابنة الزار، أو عروسة السهران، وينسبون لها خوارق ومعجزات إلى أيامنا؛ ذلك أني تنبهت لدورها الأسطوري هذا فجمعت بها بضع مئات من أغانيها وأهازيجها الشعائرية منذ عام 1953م، وهي مقطوعات شعرية أقرب إلى المربعات وأغاني الحنين والبكائيات الذاتية أو الندب:

ليلى عجبها النغم صارت مغنية

عرجة وتمشي على قبقاب محنية

عوجة وتنسج محارم للأوندية

أنا مشيت وراها أعقد النية

صحت صلاتي وصارت قبلتي هية

وفي المقطع السابق يلاحظ أنها تأتي الأعاجيب، وأن المدله في تعشقها الصوفي اتخذها في النهاية «قبلة» أو معبودة يتجه إليها في صلاته التي صحت:

السيد اللي من الشباك مد إيده

قرا الهجاية جاب الأسير

من بلاد الكفر بحديده

في أول الليل يقرأ الورد ويعيده

وفي آخر الليل يسلم على ليلى بإيده •••

ليلى تقول للنقيب زود لنا الراتب

للي لهم عندنا سجاجيد ومراتب

بكره يجينا النبي على البراق راكب

نبقى نعدي البحور ولا نحتاج لمراكب •••

ليلى عزمتني بعيش حافي وأسماك

ضحكت وقالت لي كلي ياللي الإله صافاك

اوعي تميلي في الطريق يعجبك وسماك

سيف الطريقة طويل من حصله أسماك

2

وفي المربع السابق تتبدى «ليلى» كإلهة، استضافت أو عزمت مريدتها أو قائلة هذا النص على خبز جاف وسمك، ضاحكة معنية أن الإله اصطفاها، مهددة في ذات الوقت محذرة من الميل والمروق أو الخروج على الطريقة الصوفية الليلية، وإلا فسيف الطريقة الطويل يقسم من لامسه وحصله.

ليلى تقول للمريد:

دخل العريس على العروسة

استعجم يا ناس

حملت العروسة من العريس

استعجم يا ناس

لقوا العروسة الجلالة

والعريس كلمة الخلاص

3 •••

ست البحور يا عوامة

تمشي على البحر بلا علامة

وهي في المقطع السابق تتبدى واضحة كإلهة بحرية عوامة سيدة البحار، حيث إنها تمشي على الأرض والبحور بلا علامة:

ليلى الحلوة جيه جيه

وبتلعب على وش الميه

فهذه «الليلى» ذات الخصائص البحرية التي تسمى بها الزير سالم «أبو ليلى»، والذي هو بدوره محمل بالكثير من سمات الآلهة البحرية الفينيقية الفلسطينية؛ حيث إن أخته الضباع كفنته في تابوته وألقت به في مياه حيفا، فظل يضرب في عرض البحار، إلى أن وصل مملكة حكمون اليهودي محاربا كمقاتل عربي، وخوطب باسم الموحد ضد الروم المعتدين على فلسطين.

فيخبرنا النص الفولكلوري أن الزير سالم - أبو ليلى - أمضى ثماني سنوات وسط البحار غائبا، حين أنشد في قبائل «بني عامر الفلسطينية» التي لجأ إليها بالقرب من حيفا وفي قومه البكريين يخبرهم بغربته أو موته الاسمي - كأوزير وتموز وأودونيس وديونزيوس - عقب رحلته العبورية الغامضة تلك:

ثماني سنين وسط البحر غائب

وبالي عندكم مما دهاكم

فمن خصائص هذه الإلهة الأنثى البحرية «ليلى» العوامة - التي تسمى بها الزير سالم - أن تمشي على الماء والبحار، والمقدرة الفائقة على العوم.

فأشعارها الشعائرية ما تزال تعيش على الشفاه داخل رقعة التصوف وجلسات «التخمير » المصاحبة لبطلنا الزير سالم بمنفاه وعزلته ببئر سبع، يتغنى بأشعار «ليلى» أو هذه الإلهة «ليليث» التي تصدرت كتقليد مطلع الغناء العربي على مدى كل كياناتنا العربية: «يا ليل»، وما هي إلا الإلهة ليليث التي أجلت غموضها الاكتشافات الحفرية الألف الثالثة قبل الميلاد؛ حيث ظهرت في البداية كشيطانة «ليليث» تسكن الخرائب والأماكن المهجورة، وهي الفكرة المتواترة اليوم عن سكنى العفاريت الخرائب، وهو ما كشفه وأوضحه نص القصيدة السومري المعنون: «جلجاميش وأنكيدو والعالم الآخر» أو «جلجاميش وشجرة الصفصافة».

وتبدأ هذه القصيدة هكذا: «في قديم الزمان، كانت شجرة الصفصافة مغروسة على شاطئ الفرات، وحدث أن هبت عليها العواصف الجنوبية، وفاضت عليها مياه الفرات، فأخذتها الإلهة أنانا إلى مدينتها «أرك» - أو الوركاء - وغرستها في بستانها المقدس، حتى إذا كبرت الشجرة صنعت من خشبها سريرا وكرسيا، وعندما حاولت أنانا قطعها لتصنع من خشبها سريرا وكرسيا أعجزتها حية شيطانية «ليليث» اتخذت منها مسكنها، إلى أن جاء البطل الإلهي جلجاميش فقطع الشجرة وذبح الحية، وفرت الشيطانة ليليث إلى الأماكن الخربة المهجورة.»

وبالقطع هذه أول فكرة تاريخية أو حفرية عن سكنى العفاريت الخرائب.

ومع انتقال تراث السومريين إلى خلفائهم وورثتهم البابليين - الذين عرفوا بالأكاديين نسبة إلى أكدو عاصمتهم - انتقلت فكرة الشيطانة ليليث إليهم، وليليث كلمة بابلية أشورية، ومعناها أنثى العفريت أو الريح، كما أنها ذكرت مرة أخرى في إحدى القصائد الجلجاميشية البابلية حوالي 2000ق.م، وتحول هذا اللفظ بعد ذلك من ليليث إلى ليل، وهي ما أصبحت تظهر ليلا، وعرفت بالجنية ليل، تسكن الأماكن الخربة وموارد المياه، وتظهر كخارقة ليليلة يغطي الشعر كل جسدها العاري في الفولكلور السامي المتواتر اليوم بعامة.

ويبدو أن الليليث أو ليلى السومرية هذه - 3 آلاف عام ق.م - هي نفسها التي أصبحت تصادفنا في الشعر والأغاني الشعبية: يا ليل يا عين. كما أن الليليث - أو ليلى كما أشرنا - توجد بكثرة في الأغاني الدينية الشعبية المعروفة بأغاني التخمير والزار.

وهكذا تسمى بها شاعرنا المقاتل الزير سالم فتصدرت اسمه في كل النصوص الفصحى والعامية «أبو ليلى».

ويبدو أن العبريين كانوا قد أخذوها عن الفلسطينيين الذين سبقوهم في استيطان فلسطين، فليليث في اللغة الكنعانية أو الفينيقية معناها إناثا أو إناث، ومفردها أنثى، وهي ما تتوحد مع عشترت، خاصة في طقوس العرس المختلط.

ولقد اعتقد الملك سليمان في أن بلقيس - ملكة سبأ - ما هي إلا ليليث؛ نظرا لأن جسدها كان مغطى بالشعر، فلما نظر سليمان إلى شعر ساقيها، ورأى جسمها أحسن جسم، صرف وجهه عن ساقيها للشعر،

4

وكان أن وضع لها سليمان - بمعاونة مردته بعد ذلك من الجن - الخلطة التي تزيل الشعر، وهي ما عرفه النساء بعد ذلك حين ينزعن أو ينتفن شعرهن بالحلوى.

أما عن فكرة توحد حواء بالحية التي تتوحد بدورها بالشيطان، فتتبدى بكثرة في أغلب أساطير الخلق السامية.

ففي أغلب الأساطير والشفاهيات العربية خاصة يغوي الشيطان المرأة زوجة الإله أو البطل، مثلما حدث حين تسلطت الجليلة - زوجة الأخ الأكبر كليب - ضد الزير سالم الذي كان دائم القول «بأن أهل العقل لا تسمع لأنثى»، ومثلما حدث مع زوجة نوح حين مكنته من تخريب الفلك ثلاث مرات.

وتشير بعض أساطير الخلق العبرية أن أول صراع نشب بين آدم وحواء الأنثى أو ناثا أو ليلى الأولى هذه، وجاء بسبب استياء حواء من وضع المضاجعة «لما حتم علي الاضطجاع إلى جانبك»، فمن أخص خصائص الليليث - أو ليلى هذه - إغراء ومخاواة الرجال النائمين الفرادى، بل ومضاجعتهم، وقد يصل الأمر إلى حد قتلهم بمص دمائهم ونهش أجسادهم، ولعل في هذا أول تصور عن النداهات،

5

وترجع بذوره الأولى إلى الألف الثانية ق.م عند الكنعانيين الشوام من سوريين وأردنيين وفلسطينيين.

ومن أساطير الخلق الأولى، اكتملت المعتقدات التي ما تزال شائعة حول أضرار الشيطانات - الليليث - والأرواح الخفية بالأطفال الحديثي الولادة، فكان من المتبع رسم دائرة سوداء على حائط حجرة العرس، يكتب داخلها: «آدم وحواء» اغربي يا ليليث. أما عندما تتمكن الليليث أو ليلى من الاقتراب من الطفل الوليد، فإنها تشغف به حبا ، وفي هذه الحالة ينبه الطفل بوضع أصبعه في فمه.

وفي القرن الرابع عشر الميلادي وحد «هيرونيموس» بين الليليث أو ليلى الساميلاة واللاميا اليانانية، واللاميا أميرة ليبية هجرها الإله زيوس بعد أن سرقت أطفال زوجته هيرا، فكان أن واصلت انتقاماتها بسرقة زوجات الآخرين من أزواجهم، واللاميا تغوي الرجال الفرادى النائمين، فتمتص دماءهم وتلتهم لحمهم، وهي ما أصبحت في تراثنا الفولكلوري النداهة والسلعوة، وفي الرسوم الحائطية الهليلنية صورت اللاميا وهي تفترس أحد المسافرين وهو مضطجع على ظهره ... مثلها في هذا مثل سابقتها الرسوم الحائطية الكنعانية السورية التي ترجع إلى ما قبل القرن الرابع عشر ق.م، والتي تصور الإلهة العارية إناثا - أي الأنثى أو الليليث أو ليلى - طائرة في الهواء، لامسة مقبلة عشيقها النائم الإله «موت»، وفي صورة حائطية أخرى يبدو موت - أو آدم الكنعاني - يحفر تحت الضلع السادس لآدم الكنعاني؛ ليخلق ليليث أو ليلى أو حواء الأولى هذه.

فيلاحظ أن ليلى أو ليليث أو إناثا الكنعانية الفلسطينية ذات المنبت السومري اللا سامي، التي دخلت التراث العربي والإسلامي فيما بعد على هيئة «تجريد» للأنثى أو حواء الأولى، هي بذاتها التي تسمى بها الزير سالم «أبو ليلى»، وذلك بعد أن تخلت عن خصائصها الشيطانية الأولى، واكتست مسحة شعائرية مصاحبة لأغاني التخمير والزار؛ حيث كثيرا ما تتبدى جميلة وكثيرا «ما تصبح مغنية» و«راقصة عارية» تغوي الرجال النائمين الفرادى أو العزاب غير المتزوجين، مثل بطلنا هذا الزير سالم، الذي يرجح أنه كان - وظل - أعزب في مجمل النصوص والذاكرة الجمعية الشعبية العربية.

يضاف إلى هذا أن هذه الإلهة التي تحدد عمرها بأكثر من خمسة آلاف عام «ليليث» أو ليلى «إناثا» الكنعانية الفلسطينية، من خصائصها أنها تتبدى خارقة ليليلة معطية لمن تخاويهم أو تعاشرهم أو تتعشقهم، يضاف إليه ارتباطها بالشعر والغناء والوحدة، وكلها كانت من خصال بطلنا الشعبي العربي الفلسطيني المنشأ، والذي ربما أضافت دراسات الأجيال القادمة لسيرته الملحمية هذه ما يبقي على افتراضاتنا، وأخصها أنه الإله الشمسي المحلي لكلتا بلدتي: «بئر سبع» والقدس قبل إنشائهما أورشليم الذي نرجح أنه هو الذي أعطاها اسمه الفلسطيني، وأنه لعب أكبر الأدوار في كلا التراثين العربي والعبري، بخاصة أكثر في فابيولات شمشون الإله الشمسي الفلسطيني.

وما هذا سوى مدخل أو مبحث لسيرته في إطار السمات القومية لفولكلورنا العربي.

القسمات الطوطمية لسيرة الزير سالم

وإذا ما برأت هذه السيرة - الملحمة - الزير سالم من الوقوع في براثن عوالم الجن والمردة والكائنات الخرافية ومنفراتهم وخوارقهم، فإنها استسلمت من جانب ثان للسمات والخصائص الطوطمية الواضحة القسمات، والتي تحكمت بدورها بالبنية القرابية؛ من قبائلية وعشائرية ومبادلاتها، للزواج والانتساب والتسمية، وجميعها هنا تخضع للتحكم الطوطمي، من حيوان لطير لنبات لزواحف، من جمال ونوق وحمير وكلاب وسباع وضباع ويمام وحمام وبوم وهكذا.

من ذلك تسمية أبطالها: كليب وكلبة أو جروة وابنه بالفعل الملقب بجرو أو الجرو، وتلقيبه بأبي اليمامة، ويمامة أو حمامة التي كانت سببا في اشتعال حرب البسوس المسماة سراب الملك كليب المنيع في العالية أو عالية، وكسرت له بيضة لحمامة أو يمامة أو قنبرة

1 (أم قويق) كان قد أجارها في حماه.

وعلى عادة مصاحبة معظم الطواطم للحكايات والمأثورات الشارحة، تذكر المصادر الأدبية العربية بخاصة لكليب أنه كان يطوف حماه المنيع ذاك، فشاهد قنبرة على بيض لها، وعندما رأته طارت فابتعد عنها، إلى أن عاودت الرقاد على بيضها، فأنشد لها مؤنسا هذه الأبيات التي تواترت من شاعر جاهلي لآخر، ومنهم طرفة بن العبد:

يا لك من قنبرة بمحجر

خلا لك الجو فبيضي واصفري

ونقري ما شئت أن تنقري

لا ترهبي خوفا ولا تستنكري

فأنت جاري من صروف الحذر

إلى بلوغ يومك المقدر

فعلى هذا النحو الساذج الذي يرد في فابيولات الحيوان والنبات والحشرات الطوطمية، اندلعت حرب الأربعين عاما المعروفة، حين اجتاحت ناقة البسوس حمى كليب، وكسرت له بيضة قنبرته أو بومته هذه، فكانت الحروب التي ألهبتها البسوس، والتي هي في حد ذاتها - البسوس - ما هي إلا طوطم أو مزار كهنوتي بأسمائها المتعددة ومنها الهيلة.

كذلك تسمية ضباع أو الضباع أخت الزير سالم والملك كليب، والمتزوجة من الأمير همام، صديق الزير وصفيه، والذي كان لها شأن في هذه الملحمة مع أخيها الزير الذي قتل ابنها «شيبان»، وكان قد فضل الانضمام إلى قبيلة خاله الزير سالم بدلا من قبيلته الأبوية، ومضى يثير همم قبيلته الجديدة لأمه؛ انتقاما ودفاعا عن خاله كليب ضد - من - أهله وعشيرته، حتى إن الزير سالم فاض غضبه منه، فكان أن قطع رأسه ووضعها في جراب حصانه الذي عاد به إلى قبيلته، وما إن خرجت أمه ضباع ووضعت يدها في جراب حصانه حتى تلقت رأس ابنها الذبيح «شيبان».

وهنا ظلت ضباع متربصة لحظة الانتقام من أخيها الزير، إلى أن وضعته بتابوت أو كفن، وألقت به في الماء أو البحر كإيزيس وأم موسى.

والمعروف أن الضبع كان من حيوانات الجزيرة العربية، كما يقال: إن ضباع هذه اسمها الحقيقي «أسمى»، ويبدو أن ضباع أو الضباع كان شعارها أو اسمها الطوطمي، كما تذكر المأثورات الفولكلورية الشفاهية التي ما تزال تتواتر شفاهيا أنها كانت - كأخيها الزير سالم - تعارك وتصارع الأسود والسباع.

فلعل التسميات الطوطمية الحيوانية التي تصادفنا في هذه السيرة وغيرها تتراوح ما بين ضباع كليب أبي اليمامة، وكذا الحمامة أو اليمامة وزرقاء اليمامة، بالإضافة إلى التسميات اليمنية الحميرية الموغلة من الطوطمية؛ منها انتساب إحدى ملكاتهم: بلقيس ملكة سبأ، أو شيبا (سباع)، وكان حيوانها أو طائرها الطوطمي المقدس هو الهدهد، الذي صاحب رحلتها الشهيرة إلى أرض فلسطين مع الملك سليمان، وكانت تلقب ببلقيس بنت الهدهاد.

فالملاحظ هنا أن الدين الطوطمي لا يستهدف التمثيل بالحيوانات القوية دون غيرها، فالملك كليب الذي كان يحكم «من أرض الروم للكعبة»، كان يسمى بأبي اليمامة، وحيوانه أو طائره هنا اليمامة وبيضتها، وكذا بلقيس الإمبراطورة اليمنية المحاربة وطائرها الهدهد الذي اتخذته لقبا.

فقد يتمثل الحيوان أو الشعار الطوطمي في تملكه لقدرة خارقة حرم منها الإنسان حتى الملوك والتباعنة، فالطائر يطير في أعماق السماء، وعلى رأسه ريشة، وهي ما صارت مثلا في التعالي والتجبر، كما أن الحيات والثعابين تملك قدرات تغيير جلدها وإطالة أعمارها، بالإضافة لقدرات لدغتها القاتلة.

وهناك أقوام طوطمية تنتمي للأسماك السلمون والحيتان والتونة التي تمتلك قدرات الغوص في أعماق مياه البحار والمحيطات.

وما أكثر الأقوام والكيانات والقبائل الطوطمية التي شهدها تاريخ منطقتنا العربية وتنتمي للحشرات، مثل حضارات ديدان وسوسة في إيران وتونس وما بين النهرين، والقدرات الخارقة - محشرة - السوس من أحد الجوانب، وهو أنه يفني أعتى الأخشاب الصلدة مثلما يحفل به الشعر الشعبي:

لعبت يا سوس في الصندل وخشب الزان،

وبحت بالسر يا سوس وخليت المخبي يبان.

كما أنه ما أكثر الطواطم النباتية في منطقتنا العربية، من نخل وجميز وعوسج ويقطين أو قرع، والأخير كان النبات الطوطمي المقدس للنبي يونس، حين نبتت عليه شجرة قرع وتبنته إلى أن كبر بعد أن أمضى عقابه داخل بطن الحوت، إلى أن لفظه على الشاطئ «كالطفل المنفوث» أو حديث الولادة.

وقد يرد تساؤل على النحو التالي: لماذا الحيوان أو النبات وارتباطهما بالدين الطوطمي؟ والإجابة: إنهما - أي الحيوان والنبات - يمدان الإنسان بطعامه، والاحتياج للطعام يستوجب المكان أو الحما أو الوطن، وهذا هو ما يتطلب الحماية والأمن، بالإضافة لعديد من الاحتياجات والتعاطفات الأخرى، وهذا بدوره أفضى إلى التحالفات العشائرية القبائلية لاتحاد مجموعة من الطواطم حيوانية ونباتية تنتهي في الشعار الأهم للقبيلة أو مجموع العشائر من زاحفة ومهاجرة ومغيرة، مثلما هو الحال في معظم سيرنا وملاحمنا العربية التي عادة ما تكون مهاجرة ومغيرة.

وخلاصة القول: إن الحيوان والنبات يشكلان رابطة أو علاقة بين الإنسان البدائي والطبيعة؛ لذا تحفل حكايات ومأثورات الحيوان والنبات الطوطمية بأخص خصائص الحيوان أو الأشجار أو الزواحف المقدسة، ولعل الحكاية أو المأثور الأمثل المصاحب لتسمية كليب أو الكلبيين أو قبائل بني كلب المتفرقة في الجنوب العربي والشام والأردن وفلسطين والمصاحبة لمأثورات كلبه أو جروه، ونباحه الذي كان يحدد حماه المنيع أينما نزل كليب أرضا أو كلأ.

فكانت القبيلة وأسلافها والأرض التي تعيش عليها وما يتحكم فيها من عوامل مناخية واجتماعية وحدة تنحدر من الطوطم السلف الأب، سواء أكان حية أو نعامة أو حمامة أو كلبا أو جملا أو جرادا أو ديدانا أو بيضة أو حوتا.

على هذا اختلقت كل قبيلة أساطيرها، ووحدت - بالتالي - بين الطوطم والخالق؛ مثل: كوزلولوجي أو أسطورة الخلق عند الرشيين القائلين بفكرة الرحم الخالق (ويمكن ملاحظة العلاقة اللغوية الاشتقاقية بين ذلك الرحم الخالق، وبين الرحمة والرحمان والرحيم والراحم والمرحوم ... إلخ).

وهم الذين زعموا «أن في جوف الماء الريح وفي الريح الرحم، وفي الرحم المشيمة، وفي المشيمة بيضة، وفي البيضة الماء الحي، وفي الماء الحي ابن الأحياء العظيمة، الذي ارتفع إلى العلو فخلق البريات والأشياء والسموات والأرض الآلهة.»

وكذلك أساطير خلق المغتسلة سكان البطائح والكشطين والمتسطورين والصامية والغولية والآدمية أو الآدوميين الذين منهم اشتق اسم آدم أبو البشر، أما القريشيين فكان طوطمهم الحوت.

ويرى رفائيل بتاي أن العبريين استعاروا أفكارهم عن الحيتان والحيوانات البهيمية ذات الجثث الهائلة من العرب الأوائل أو البائدة، وهو ما كان يطلق عليه العرب تعفون أو التعفن، ومنها بعل تعفون، وهو ما يشير إلى البهيمية، وصراعات الحيوانات الخارقة الوحشية؛ مثل: الثيران والبقر الوحشي والحيتان.

ووردت هذه الخوارق البهيمية في الميثولوجي الفرعوني، فذكر الرحالة المؤرخون: «هردوت وديودورو الصقلي وبليني» الحيتان والتماسيح وفرس النهر، فكانت تلك الحيوانات الوحشية مقدسة في مصر للإله ست عدو أوزيريس ومغتصب عرشه.

كما وردت هذه الخوارق البهيمية في الميثولوجي البابلي، ومنها الحوت متعدد الرأس، والإله ذو الرءوس السبعة، وكان بمثابة الصولجان السومري منذ الألف الخامسة قبل الميلاد.

وبحسب ما ذكره هرودوت وديودورو الصقلي؛ فقد «أكل فقراء الشرق الأوسط - بعامة - لحم الحيتان وفرس النهر والبهائم الوحشية خلال أعيادهم الموسمية؛ احتفالا بأكل اللحم.»

وطبعا كان الحيوان الطوطم يدافع عن القبيلة ويحميها، مثل: هدهد سليمان وبلقيس، وحادث تلصصهما أو تجسسهما على أحدهما الآخر، وأيضا ضباع قبائل الضبعيين والكلبيين، وكذلك بنو هلال أو الهلالية أصحاب سيرة بني هلال وبنو عبد شمس ونسر وغيرهم، وهو ما أصبحت شعائرهم الطوطمية مثل الهلال والنسر رمزا موحدا للعالم الإسلامي فيما بعد. •••

فإذا ما عدنا إلى البذرة الطوطمية لهذه السيرة الملحمية برمتها، وهو تهجم ناقة البسوس سراب لحمى كليب الذي يحدده نباح كلبه جرو وكسر بيضة يمامته التي تسمى بها أبي اليمامة، فكانت حرب الأربعين أو البسوس؛ نجد أن الناقة أو الجمل أو البعير تعد بالفعل من أقدم المعبودات العربية التي عبدت في ممالك تدمر

2

في اليمن والحجاز وتخومها وسوريا، وكانت تعرف باسمها الأنثوي كما هو الحال مع ناقة البسوس باسم بل أو بعله، أو هبل - فيما بعد - وهو الإله الذي استقدمه الكاهن عمرو بن لحي الجرهمي ونصبه في جوف الكعبة، وارتبط بشعائر ضرب القداح، وما من أمر قام به العربي الجاهلي لم يستشر فيه هبل، فكان في جوف الكعبة قدامه سبعة أقداح مكتوب في أولها: «صريح» والآخر «ملصق»، فإذا شكوا في مولود أهدوا إليه هدية، ثم ضربوا بالقداح فإن خرج «صريح» ألحقوه، وإن خرج «ملصق» دفعوه، فكان لكل مطلب قدح؛ قدح على الميت، وقدح على النكاح، وقدح للاختصام والسفر والعمل.

ويبدو أن الجاهليين كانوا قد استقدموا صنمه من خارج الجزيرة العربية، ويرجح أنهم جاءوا به من العراق؛ إذ إن تمثاله - بحسب وصف ابن الكلبي - كان «من عقيق أحمر على صورة إنسان، مكسور اليد اليمنى، أدركته قريش فجعلت له يدا من الذهب»، وكان قربان هذا الإله مائة بعير.

ومما يرجح طوطمية ناقة البسوس أنها كانت ناقة سائبة على عادة الشعائر التي عرفها العرب الجاهليون باسم البحيرة والسائبة والوصيلة مثل ناقة صالح، مع ملاحظة أن اسم صالح كان أيضا اسم لصنم كشفت عنه الحفائرية اللحيانية والصفوية، مثل: «اللات، العزى، مناة، عوص،

3

ديدان، أحرام، جد، ذو الشرى، صالح.»

فحكايات ومأثورات الحيوان والطيور الطوطمية يرى البعض أنها أكثر قدما من الأساطير، وأنها ترجع إلى مراحل التوحش والطوطمية، فهي حكايات أقرب إلى التعليمية أو الشرح والتفسير، كما أنها حكايات ملخصة غاية في الدقة من حيث التصميم والتخليص، لها مغزاها أو حكمتها ودقة ملاحظتها بالنسبة للطبيعة وغموضها ومخلوقاتها، وكذلك بالنسبة لحكمة الإنسان البدائي وفلسفته بإزاء قدرات الحيوانات والطيور والزواحف والهوام والنباتات التي حرم منها الإنسان بعجزه عن الطيران، والغوص في الماء وتغيير الجلد، والصوت العالي أو النباح كالكلب، وقوى الحيوانات الوحشية والبهيمية وهكذا .

ويحتفي دارسو الفولكلور بحكايات الحيوانات والطيور والنباتات والزواحف احتفاء خاصا، هذا على الرغم من إيجازها الشديد، بل وواقعيتها الشارحة المحددة، وهناك من يرى أن حكايات الحيوان هي بداية الأساطير وأنها أكثر قدما وبدائية منها؛ إذ إنها كانت وعاء لشرح وتقديم الأفكار والمعتقدات، أي إن أكثر هذه المعتقدات كان يتجسد في شكل حيوان وطيور، فالإله زيوس كان نسرا، والإلهة أثينا كانت بومة، وهيرا كانت بقرة، والإله النوردي ثور كان طائر جنة صغيرا، والإله تير كان ذئبا، مثله في هذا مثل الإله الروماني مارس وضريبه السليثي ديباتر.

كما أن هنا شبه إجماع من جانب دراسي الفولكلور على أن قصص الحيوان الشارحة أسبق من الخرافات.

وقصص الحيوان الشارحة هي تلك القصص التي فسر بمقتضاها الأقدمون الفرق بين حيوان وآخر، بين طبيعة ولون وخصائص الذئب عن الحمل، ولون الحمامة الأبيض المخالف للون الغراب الأسود، وكذلك التفسيرات الغيبية التي فسر بها البدائيون السبب أو السر في بريق عيون القطط في الظلام، واستطالة أذنا الأرنب والحمار، واختفاء الخفافيش عن العيون نهارا هربا من الدائنين، وغوص الطائر البحري إلى أعماق الماء بحثا عن الأشياء الغارقة، وكذا تسبيح الكروان، ودعاء الحمامة بالعماء على من سرق بيضها، ونهيق الحمار،

4

مثل نهيق حمار الزير سالم حين تركه على باب بئر سبع، ونزل ليملأ كوزا من البئر الذي أيقظ أسدا نائما، فالتهم حمار الزير، الذي واصل - بدوره - الانتقام من سباع بئر سبع الفلسطينية.

وفي واحدة من الحكايات السودانية - التي موطنها النيل الأبيض - تكشف لنا الحكاية كيف أن الدنكا لا يضربون الكلاب اعتقادا منهم في أن الكلب هو أول من جاء بالنار لقبيلة الدنكا، فلقد «عاش الدنكا حقبة طويلة لا يعرفون النار، وكان الرجل منهم إذا صاد سمكة قطعها ووضعها في ماعون وتركه تحت وهج الشمس.»

وفي حكاية شارحة أخرى من الشلوك عن البقرة والكلب، موجزها أن البقرة خلقت في السماء، ووقعت على الأرض فتكسرت أسنانها، ولما رآها الكلب أغرق في الضحك حتى انفتق شدقاه وبلغا أذنيه، وظل على هذا الحال إلى اليوم.

فما من حيوان أو طائر أو نبات لم تصاحبه مجموعة مأثورات وحكايات تحدد أوصافه وأخص معالمه، وتحيطه بتفسير عصور ما قبل العلم في الحكايات العربية السامية بخاصة.

ومن تصوراتهم التي أنطقوها الحيوانات والطيور - حول الموت وحلول القضاء

5 - ما فسر سليمان به غناء البلبل «كانت نصف ثمرة فعلى الدنيا العفاء»، والهدهد يقول: «إذا نزل القضاء عمي البصر»، وكل حي ميت وكل جديد إلى زوال، و«لدوا للموت وابنوا للخراب.» والنسر يقول: «يا ابن آدم عش ما شئت فإنك ميت.»

وكانت نحل وشيع الحابطين أصحاب أحمد بن حابط بنواحي البصرة، وأحمد بن نانوس، وأيوب بن نانوس، الذي أباح النكاح، كانت هذه الفرق والشيع تقول بأن «الله نبأ أنبياءه من كل نوع من أنواع الحيوان، حتى البق والبراغيت والقمل؛ مستندين إلى قول الله:

وما من دابة في الأرض ولا طائر يطير بجناحيه إلا أمم أمثالكم .»

والربط بين الجن والحيوانات والهوام والأشجار يشير مباشرة إلى انحدارها من الطوطمية، وهو ما كنته القبائل السامية - خاصة أصحاب الوبر - من عرب وعبريين، فكانوا يتسمون باسم الحيوان، ويحرمون التلفظ باسمه، ومن هنا جاءت المرادفات المتعددة للحيوان الواحد، وذكر المستشرق هيود أن «لدى العرب خمسين كلمة للدلالة على الأسد، ومائتين للثعبان، وثماني للعسل، وأكثر من ألف للسيف.»

ذلك أن للعرب الساميين باع ملحوظ في أنهم موطن ومصدر هذه الحكايات الطوطمية قبل الهنود الآريين والإغريق الهلينيين والرومان.

فالرقيق الإغريقي - الذي يعد أهم وأقدم مصدر لهذه الحكايات الحيوانية - «أيسوب» يرى البعض - ومنهم كراب - أنه كان رقيقا ساميا يشتغل بالكتابة، وجمع هذه المأثورات في أيونيا، ومن هنا وصلت هذه الحكايات من الشرق السامي إلى الغرب، وأنها ارتحلت أيضا من الشرق السامي إلى الهند مع ما ارتحل إليها من ثقافة العراق وما بين النهرين.

وتحفل قصص الخلق الأولى والطوفان البابلي والعبري بمثل هذه الحكايات، كذلك حكاية أشجار

6 «يوثام» التي أولاها فريزر اهتماما خاصا.

كما تحفل الآداب الجاهلية والإسلامية بالآلاف المؤلفة من هذه الحكايات عند الجاحظ والدميري وغيرهما.

ثم لماذا نذهب بعيدا والمصدر الأكثر قدما من أيسوب ذاته وهو - الشخصية الخرافية العربية السامية - الحكيم لقمان الذي أوضحت المكتشفات الحفائرية الأركولوجية أصله البابلي، وعلى هذا فهو أسبق خمسة عشر قرنا من أيسوب الذي يرى البعض خطأ أنه هو بذاته النبي أيوب نبي الأدوميين السوريين والأردنيين. •••

أخيرا يمكن القول: أنه برغم أن مختلف المجتمعات قد عاشت وواصلت استمرارها ونموها في ظل مختلف البيئات التاريخية، ومرت بمختلف التحولات إلا أنها لم تتخل كلية عن خصائصها الأولى - ولنقل: طواطمها وتابواتها - التي تعرضنا لها بالدراسة، وكما أجمع علماء العصر الفيكتوري - منذ ماكلينان وروبرت سميث وفريزر - أنها - أي الطواطمية - ما تزال تحيا وترتع كرموز بدائية تحت مختلف الأشكال المتكاثرة لحياتنا الحديثة، فأنت تجدها في إعلان وشارات الدول الحديثة يستشهد في سبيلها، كما تجدها تطل برأسها في شارات المحافظات والمطبوعات والأضرحة والملابس والماركات والمطبخ الحديث ... إلخ.

فالمناهج البنائية قد حققت بدراستها الطوطمية نتائج رياضية ملفتة، وبالتحديد ما توصل إليه العالم البنائي الفرنسي كلود ليفي شتراوس، الذي انصبت دراسته على علاقة الطوطمية بالظواهر أو علم الظواهر، ففي رأيه أن الطوطمية - كظاهرة حضارية - تجيء كاستجابة أو حتمية لظروف ومكونات طبيعية وبيئية، وأن هناك علاقة شعائرية أو دينية بين الإنسان وطوطمه، وكثيرا ما تتمثل في الأشياء والمناهج المقدسة، ولها سلطاتها الملزمة، وأن نظم الزواج في المجتمع الطوطمي لا تخضع لإرادة الأفراد بقدر خضوعها للقرابة الطوطمية، كما اتضح في سيرتنا هذه - الزير سالم - وانتساباتها وولاءاتها القبلية، بل وحروبها الضارية.

فحتى وقت قريب عام 1920م رصد فان جنيب 41 نمطا مختلفا للطوطمية في أستراليا وحدها، وأثبت أن الكثير منها ما يزال ساريا، برغم أن جذورها الضاربة ترجع إلى الألف الثامن قبل الميلاد. فالطواطم ما هي إلا أرواح تحيا في الخفاء محافظة على توارث أسماء القبائل الأمومية والأبوية، كما أثبت «جنيب» أن الطوطمية ما تزال تتحكم متسلطة على نظم الزواج والطلاق والميراث والقرابة عند عديد من شعوب العالم خارج الغرب.

وفي طرح التساؤل عن علاقة الطوطمية بالحيوانية والنباتية، يشير شتراوس بأن الحيوان والنبات يمدان الإنسان بطعامه، والاحتياج للطعام يستلزم المكان أو الوطن في المفهوم البدائي.

فشتراوس يسألنا منذ راد كليف براون، ويقدم تفسيراته المخالفة لتثقيفية فريرز وأنيمزم تيلور، والبحث عن الأصول عند ماكلينان وروبرت سميث، وأخيرا توظيفية مالينوفسكي، فجميع هؤلاء قدموا تفسيراتهم عن البدائيين، لكن شتراوس ربط الطوطمية بالتخلف حتى داخل مجتمعات ما فوق التصنيع.

صراع الماء والكلأ في هذه السيرة

وأبرز ما يلفت نظر أي باحث إثنوجرافي لهذه الملحمة السيرة - الزير سالم - هو خلوها - إلى أقصى حد ممكن وبالقياس إلى بقية تراثنا السيري والملحمي العربي بعامة - من الإغراق المباشر في بحار الخرافة ومستنقعاتها الآسنة المصاحبة للعقل الغيبي، كما هو الحال في بقية سيرنا وملاحمنا، بدءا من سير وملاحم التباعنة، ومنهم التبع الطاغية حسان اليماني المغتصب للحما - الذي هو الوطن - باجتياح جيوشه الغازية من أقصى الجنوب اليمني - عدن وحضرموت وسبأ - للشام والحجاز وفلسطين، واغتصابه للزوجة الفلسطينية جليلة أو دليلة، بالإضافة للحما أو الوطن.

ثم سيرة آخر الملوك اليمنيين الملك سيف بن ذي يزن الحميري، والتي تلعب فيها المردة والجن والسحرة والهواتف والنداهات والحيوانات الخارقة أدوارا جوهرية في صلب مسارها.

وفي سيرة الهلالية واستطرادها القصصي الجانبي للخوارق ونماذج التحولات والسحر والسخط المصاحب لأبطالها على طول أقطار العالم العربي.

خلاصة القول: إننا بإزاء سيرة ملحمية عربية خالية - إلى أقصى حد - من ذلك العالم الخرافي للجن وعوالمهم.

وإذا ما عرفنا أن هناك مدرسة أثنوجرافية بكاملها - تعرف بالمدرسة الشرقية - ترى في خرافات وخوارق الجان والعفاريت أنها إنتاج آري كامل، من أعلامها العالم العتيد «تيودور بنفي»، يصل بنا القول إلى أن هذه السيرة - الزير سالم - نجت - إلى حد كبير - من تأثيرات هذه السمة الآرية للهند وفارس، ودورهما المتزاوج الكبير والمؤثر في تراثنا العربي السامي منذ أقدم العصور - الألف الرابع قبل الميلاد - حتى العصور الإسلامية الوسيطة والمتأخرة، التي تلعب فيها المؤثرات الآرية الفارسية الإيرانية الأعجمية بالقدر الذي شكلت بمقتضاه مشاركة - وقل: مناصفة - مباشرة للملمح التراثي الإسلامي وجانبه التطهري والإنيزمي الروحي، بالإضافة طبعا للدور السياسي، بدءا من الدولة ونظم الحكم حتى ما نشهده على أيامنا من انتصارات الثورة الإيرانية، وما أحدثته من مؤثرات وهزات جذرية على طول عالمنا العربي والإسلامي في أيامنا هذه.

أقول: إن سيرتنا هذه نجت - إلى حد ملحوظ - من المؤثرات الآرية، وكذا عالم الآلهة الهلينية اليونانية للآلهة التي تخالط البشر وتزورهم وتعدهم بالنصر، وتعود فتخلف وعدها، وتستخدم في خداعها كل موتيفات خرافية؛ مثل: «طاقية الإخفاء» التي دأبت أثينا كإلهة حرب - للإغريق - قبلية تناصرهم ضد أعدائهم الطرواديين «حين لبست خوذة آذس التي تخفي من يلبسها عن الأنظار.»

فالزير سالم تبدو - إلى حد معقول - سيرة خالية من الخرافة، وكذا عالم القوى الخارقة والعلوية والأرباب والآلهة الطائرة، والتي تزني وتتحول إلى نساء؛ لكي تجرب الشذوذ الجنسي، وحين تدلي برأيها عن لذة اللذة تفضل اللذة الجنسية وهي في حالة وضع الأنثى عن ما كانته في وضع الرجل الذكر، كما في حالة الإله الهندي أندرا، والكاهن الهليني المتنبئ - الموغل في رجعيته - تريزياس، الذي كان يحلو له كثيرا أن يتحول لامرأة أنثى، وحين كانت الإلهة «هيرا» تحقد عليه وتعاقبه فإنها كانت تعيده إلى حالته الأولى، أي إلى رجل مرة ثانية.

ونحن هنا بإزاء سيرة ملحمية عربية لم تخالطها المؤثرات الآرية الهندية الفارسية، ثم الهلينية فيما بعد.

نحن بإزاء سيرة سامية أكثر منها آرية، إن خالطتها سمات وخصائص فهي عربية سامية، وليست بآرية.

من هذه السمات: ذلك الصراع الأرضي البشري الذي قوامه هنا الحروب القبائلية والطوطمية التي موضعها الجذري الصراع الاجتماعي، وهو «الماء والكلاء»، وما يفرضه من أمن الدفاع عن الحما الذي هو صنو الوطن، وما يستتبعه من [انصهارات] قومية، أخذا بمقولة أن العنف مدخل يتطلب المزيد من التوحد.

فالحروب والإغارات والأخذ بالثأر جميعا تجيء كنتيجة - وليست كمقدمة - للصراع الاجتماعي ولصراع الطعام، وهو الماء والكلأ عصب حياة البوادي العربية والدافع الأول لحركتها وتطاحنها القتالي، وحروبها وهجراتها بحثا عن الزرع والضرع، ومن هنا تجيء هذه التغريبة اليمنية الحميرية القحطانية إلى الشام وما بين النهرين والحجاز وفلسطين.

وكذا تغريبة الملك سيف من نفس الموطن - الجنوب العربي - إلى إفريقيا الوسطى - أثيوبيا - والسودان ومصر، بحثا عن كتاب النيل ومنابع الماء والكلأ.

يضاف إليهما تغريبة التحالف القبلي القمري الهلالي لعرب الجزيرة الهلالية وحروبهم وهجراتهم إلى دلتا النيل وتونس الخضراء، حين حدث جوع في الأرض؛ أرض نجد والحجاز.

بالإضافة إلى بقية الهجرات العبرية الثلاث إلى مصر حين حدث ذات الجوع في الأرض، وهي هجرة قبيلة إبراهيم ويوسف ويعقوب.

فالملك التبع حسان اليماني يجيء إلى الشام والحجاز وفلسطين - بلاد العسل واللبن - أملا في التسيد، وما إن يتحول إلى طاغية مغتصب لكلا الأرض والزوجة حتى يقتل بالحيلة والغفلة، ويعلق كليب رأسه على بوابات العاصمة دمشق.

ثم يجيء الدور ذاته على كليب، فما إن يتحول بدوره إلى طاغية، يتخذ له حيا في أرض تدعى العالية، لا يطؤه أحد إلا بإذنه، ولا يورد أحد إبله مع إبله، ولا يوقد نارا مع ناره، وهكذا إلى أن استفحل خطره بشكل لا يطاق، فكان أن حق اغتياله كطاغية قبائلي طبقي.

بل إن الأسطورة الطوطمية المصاحبة له - والمفسر لتسميته «كليب» - تكشف وتوضح أبعاد القوة الباطنة الدافعة للصراع الطبقي وتلك الحروب القبائلية التي يقال: إنها امتدت أربعين عاما، مما دفع تلك الكاهنة البسوس إلى استيعابها واستخدامها في تحريضها الاجتماعي الطبقي ضد الملك الطاغية كليب بن ربيعة: «هذا الباغي الذي حمى - حرم - عليكم الماء والكلأ.»

فتنسب المصادر الكلاسيكية العربية مرجعة تسمية كليب إلى أنه اتخذ جرو كليب كشعار أو طوطم، فلا ينزل مكانا به كلأ أو ماء إلا ذا ما أطلق جروه فيعوي فيه، فلا يرعى أو يستقي أحد، فضرب به المثل «أعز من كليب وائل»؛ أي أن لا أحد أعز من جرو بني وائل.

ومعروف أن أول أفكار عربية مصاحبة لمفهوم الوطن والوطنية عند العرب من بائدة وجاهليين؛ هو ذلك الحما الذي ما يزال محفوظا متواترا داخل اللغة الفصحى، بما يوصلنا إلى الحماية والحمية والحما مرادف الوطن.

وكان ذلك الحما يحدده للقبيلة أو العشيرة نباح الكلب، ومن مجموع العشائر المتحالفة رفعت تلك الشعيرة الطوطمية لتصبح شعارا عاما لمجموع القبائل خلال تجوالها وهجرتها بحثا عن الماء والكلأ، وما يفرضه من حما وأمن، وهم ما عرفوا بالكلبيين.

ومن هنا يجيء دور البنية القبائلية القرابية وما يستتبعه بالنسبة لسلاسل أو سلسال النسب والأنساب، الذي هو أشق أبنية هذه السيرة الأنموذجية لسيرة أو ملحمة الأنساب التي هي - بدورها - عصب وجوهر السير الشعبية الملحمية بعامة.

1

فالأصل في مثل هذه السير هو أن تجيء - بادئ ذي بدء - سيرة عائلة. إنها بمثابة التراجم التاريخية للأشخاص من ملوك تباعنة وأمراء وشيوخ قبائل، مع إضفاء الاهتمام الأقصى برواية أنساب عائلة حميرية أو قيسية حروبها وانتساباتها وهجراتها ومنازعات بلاطها وأنماط زواجها وميراثها وتوارثها.

ذلك دون عزلة عن مضمون الصراع المستهدف للسلطة والتسلط، والمرتبط بمصالحه فيما يحيطه، وعبر كفاحه الشاق في سبيل البقاء، ولو كان ذلك البقاء الذي يسوده الطوطم كمنتج روحي أو دين بدائي.

فحتى الطوطمية الموغلة في الكلاب والحمير واليمام والنوق وأم قويقات جميعها لها دورها الاجتماعي والطبقي؛ مثل منبت الصراع الذي أفضى إلى مصرع ناقة البسوس الذي يحفظ الأدب العربي برمته اسمها سراب أو الناقة سراب، والتي اقتحمت حما كليب أو الملك كليب أبا اليمامة، وكسرت بيض حمامة كان قد أجارها، وكان أن رمى الناقة سراب بسهم شخب لها ضرعها بالدم واللبن، فنشبت الحرب بين بكر وتغلب طوال تلك السنوات العديدة أربعين عاما، حتى أفنى البطنان بعضهما بعضا.

وعلى هذا النحو الحيواني يسوق الأدب العربي على طول تاريخه هذه السيرة الملحمية دون إدراك لجذورها الطوطمية وبقية أبنيتها؛ من عرابية قبائلية واجتماعية طبقية، تجري أحداثها على أرض حدقة عين العالم القديم؛ أرض فلسطين العربية منذ أقدم العصور.

Unknown page