كانت الشقة في الدور التاسع في شارع العجوزة، تنقطع المياه في الصنابير جزءا من النهار والليل. تستولي الأدوار السفلى على الماء، الماكينة تعمل بالكهرباء، تدفع المياه إلى الدور التاسع، ينقطع التيار الكهربائي جزءا من الليل. كان الهواء مشبعا بالتراب والدخان، سحابة سوداء تغطي السماء، صفائح القمامة أمام أبواب الشقق دون غطاء، تقلبها القطط، تتقاقز من حولها الصراصير، ماسورة المياه انفجرت مع ماسورة المجاري، عجلات السيارات تغرق في الشارع وتتوقف حركة المرور.
فوق باب العمارة الخارجي لوحة كبيرة مكتوب عليها بالخط النسخي: عمارة التقوى والإيمان. حتى العمارات أصبحت تعود إلى الإيمان، صاحب العمارة يملك شركة لتوظيف الأموال وبنكا من بنوك الإسلام. تظهر صورته في الصحف باللحية والشاربين والسبحة، والزبيبة فوق الجبين، يصافح الوزراء والسفراء وكبار الكتاب من أصحاب الأعمدة في الصحف الحكومية، وأساتذة الجامعات. منهم صفاء الظبي وزوجها السابق، لا يملك كل منهما شيئا إلا راتبه الشهري، ومكافآت نظير المحاضرات في بلاد النفط، وأرباح كتب ومقالات عن الإسلام، ومذكرات يوزعانها على الطلاب والطالبات، ودروس خصوصية في الدين والفقه والشريعة. تجمع لديهما في البنك الإسلامي رصيد ببلغ الآلاف، أو ربما كانت شركة من شركات توظيف الأموال المؤمنة، حتى الأموال عادت إلى الإيمان، ترفض ما يسمى الربا، تحصل على فوائد أكبر من الربا تحت اسم توظيف المال.
من نافذة غرفتها العالية في الدور التاسع تطل صفاء الظبي على السماء، تتصاعد إليها رائحة المجاري من الشارع، مع الأصوات الزاعقة في الميكروفونات، تغلق زجاج النافذة المزدوج طوال النهار؛ منعا من دخول الذباب، وزعيق المؤذنين من فوق المنارات. في الليل تغلقه أيضا منعا لدخول الناموس، أو البعوض، وحشرات أخرى صغيرة تسمى الهاموش. قد تفتح النافذة أحيانا طلبا للهواء، لكن الهواء معدوم، ورائحة المجاري لا تطاق، مع رائحة القمامة المتراكمة عند الأبواب، تتغطى بالملاءة من قمة الرأس حتى بطن القدمين، مع ذلك يدخل إليها الناموس والهاموش، وصرصار أسود يجري تحت رأسها. تهب من السرير واقفة على قدميها، تمسك فردة الشبشب لتضرب الصرصور، لكنه أسرع منها في الحركة، ينتصر عليها في المعركة، يختفي في شق تحت الجدار، يتركها تلهث، تتصبب عرقا، تلعن الدين والدنيا. تتمدد فوق السرير إلى جوار زوجها، ترمقه بحسد وإعجاب، ينام بعمق لا يزعجه شيء، وإن قامت الحرب أو اهتزت العمارة في زلزال.
من بعيد يسري إليها الصوت يشبه الهتاف في المظاهرات، أصبح الناس يخرجون إلى الشوارع يتظاهرون. عمال أصبحوا بلا عمل، شباب يحملون الشهادات العليا عاطلون، نساء بالجلاليب السوداء والشباشب، أطفال الشوارع والشحاذون والشحاذات، وأصحاب العاهات، ومشوهو الحرب والسلم والمشوهات.
من بعيد تسمع الهدير خافتا، يعلو بالتدريج مع طلوع الفجر. تبدو المدينة مثل حيوان أسود ضخم يصحو كسولا بطيئا، تطل عيناه الذابلتان من ثقبين في السحابة السوداء، يشبه امرأة مؤمنة ترتدي النقاب. تأتي الخادمة تكنس البيت ، تنشر الملابس على الحبال، تنفض السجادة الناحلة الباهتة فوق سور البلكونة، يتساقط التراب فوق الأدوار السفلى. يبدأ الشارع يصحو، محلات البقالة، الكوافير، الصيدلي، السمكري، الكازينوهات، والمطاعم على شاطئ النيل، وتحت الكباري، مكاتب البوليس، والخمارات، والمحاكم، والمدارس والمعاهد والجوامع. تضع صفاء الظبي إبريق الشاي على النار، زوجها نائم يبتسم في الحلم، لم يعد يبتسم في وجهها، يعطيها ظهره ويغط في النوم، جسمه قصير مربع، وهي تحب القوام الطويل الممشوق. وجهه عريض سمين وهي تحب الوجوه النحيلة الرشيقة، صوته خشن فيه ذكورة زائدة عن الحد، قال لها قبل الزواج: كتاباتك تعجبني يا أستاذة.
طرف لسانه خرج وهو ينطق حرف الذال في كلمة أستاذة، كان يرى كل ما فيها جميلا حتى أنفها المكور، قال لها: إن أنفها فريد من نوعه، يميزها أنفها عن سائر النساء، يجعلها مختلفة عن الأخريات. جميع عيوبها كانت تتحول في نظره إلى ميزات، اختلافها معه في الرأي أمر طبيعي، صحي يتمشى مع المنطق، مع ديموقراطية الإسلام. - أنا أومن بالتعددية يا صافي، الاختلاف يثري الحياة، لو أراد الله لخلقكم أمة واحدة، لكنه جعلكم فرقا وشعوبا متفرقة، الإسلام مبني على العقل يا صافي.
يقرأ عليها مقالا كتبه للجريدة الإسلامية، في بداية المقال يقول: بسم الله الرحمن الرحيم، يتميز الإسلام عن سائر الأديان بإعمال العقل والاجتهاد. صحيح أن الحجاب واجب على المرأة المسلمة درءا للفتنة والمعاصي، لكن حيض المرأة ليس نجاسة ولا أذى، يمكنها أن تمسك بيدها القرآن وتقرأه، لكن لا يمكنها الصلاة أو الصيام في أيام الحيض. أما الزواج من الإخوة في الرضاعة فليس من المحرمات في الإسلام؛ لأنه يتنافى مع العقل، إن رضع طفل من ثدي امرأة فكيف يمكن أن تمنعه من الزواج من طفلة رضعت من الثدي ذاته، أعني كيف لا يتزوجان إن جمعهما الحب بعد أن يصبحا في عمر الشباب؟
يغلبها النعاس وهو يقرأ، عقله فارغ ليس فيه إلا الحيض والنفاس والرضاع. يغضب حين يراها تنام وهو يقرأ: طبعا مش عاجباكي كتاباتي، كتاباتي دي اللي كانت عاجباكي قبل الجواز. - ويعني كتاباتي بتعجبك؟ كتاباتي اللي كانت بتعجبك قبل الجواز، وكنت تقولي: كتاباتك تعجبني يا أستاذة، ولسانك يخرج وإنت بتقول أستاذة، وإنت بتنطق حرف الذال. - لساني يخرج يعني إيه؟ إيه قلة الأدب دي؟ - إنت اللي قليل الأدب.
انقلبت الدنيا بعد أن نشر زوجها المقال، هاج أحمد الدامهيري. - هذا كفر! هذا الرجل يعارض كلام الله في القرآن. لا اجتهاد مع النص، هناك نص يقول: إن الحيض أذي، ولا تقربوا النساء حتى يطهرن من الأذى ...
لا يحفظ أحمد الدامهيري الآية في القرآن الخاصة بالحيض، لكنه يذكر عن يقين أن كلمة الأذى وردت في كتاب الله في هذه الآية عن الحيض، وهناك حديث عن الرسول
Unknown page