تثبت صافي عينيها في عيني بدور. تتحرك عينا بدور بعيدا عنها، تلمح زكريا الخرتيتي يلعب الجولف، ينثني بجسمه القصير النحيف ليضرب الكرة، تطير الكرة مسافة قصيرة في الهواء، ثم تسقط على الأرض، يمشي نحوها شامخا بأنفه كما يفعل زميله محمود الفقي وكبار الكتاب، من خلفه يهرول الصبي الصغير يجر العربة المحملة بالمضارب. إلى جواره يمشي محمود الفقي طويل القامة ممشوق، خطوته واسعة ثابتة واثقة بنفسها، مثل حروفه على الورق، ظهره أكثر وسامة من وجهه، عيناه مطفأتان ليس فيهما بريق، مقلتان صغيرتان لونهما باهت.
لم تكن بدور تنجذب إلى محمود الفقي، فقط حين تراه من ظهره تعود إليها الذكرى، كأنما في حياته امرأة أخرى ليست هي بدور ربما هي بدرية. كانت بدرية في التاسعة عشرة من عمرها تمشي في المظاهرات الكبيرة، إلى جوارها يمشي نعيم طويل القامة ممشوقها، المقلتان الكبيرتان في عينيه تشعان وهجا أزرق أسود بلون عين الليل، أو البحر تنعكس عليه أشعة الشمس. - زكريا الخرتيتي يغار من محمود الفقي، يظن أنني واقعة في غرامه. - وأنت واقعة في غرام طبيبك النفسي. - هو واقع في غرامي، حب من طرف واحد يا صافي. - العكس هو الصحيح يا بدور.
يدور الحديث عن الحب والرجال، كانت صافي أكثر خبرة من صديقتها بدور، عرفت عددا أكبر من الرجال، زملاء وأصدقاء وأحباء وعشاقا. تقول لبدور: أنا أبحث عن الرجل الذي يستحقني، لكنه لم يخلق بعد، ربما لن يكون مخلوقا أبدا، ثم تضحك وتلقي برأسها إلى الوراء. كان شعرها أسود غزيرا مقصوصا ألاجرسون، بعد أن خلعت الطرحة والتيربون مع خلعها أزواجها. قامتها أطول قليلا من قامة بدور، أقل سمنة، خطوتها أكثر اتساعا، تنظر إلى الأشياء في ثبات أشبه بالحملقة، شفتاها نحيفتان، تبلل شفتها السفلي بطرف لسانها حين تتكلم. - أنا في الحقيقة لا أنجذب إلى الرجال. في المراهقة كنت أحب امرأة، الآن تعود إلي مراهقتي في مرحلة الكهولة، بصراحة يا بدور أنا أنجذب إلى النساء. أحيانا أضبط نفسي متلبسة بحب امرأة، تصوري أني حلمت مرة إني أعانق زينة بنت زينات! - عناق بريء، عناق الأخت لأختها، أو الأم لابنتها. - لأ عناق غير بريء يا بدور!
تطلق صافي ضحكة عالية يكاد يسمعها لاعبو الجولف، تشاركها بدور في الضحك، تتخفف قليلا من العبء، من الثقل في قلبها، من الخوف الدفين الغامض منذ الطفولة. - أيوه اضحكي يا بدور الدنيا فانية، إحنا بنعيش مرة واحدة، مرة واحدة فقط لازم نعيشها بالطول والعرض، اسمعي النكتة دي عن غباوة الرجالة ... (تضحك صافي كثيرا قبل أن تحكي النكتة، يهتز رأسها في الهواء مع شعرها القصير الغزير.)
كان فيه راجل عاوز يتجوز بنت عذراء مية في المية، عمرها في حياتها ما عرفت راجل، كل ما يتقدم لواحدة عشان يخطبها يعمل لها اختبار، يكشف لها عن قضيبه من تحت البنطلون ويسألها إيه ده يا شاطرة؟
طبعا البنت تقول له: ده قضيب، يرفع الراجل بنطلونه ويخرج، يقول لنفسه لا يمكن أتجوزها، دي عارفة الرجال. كان بيكرر الاختبار ده مع كل بنت، وطبعا تسقط البنت في الامتحان لما تقوله: ده قضيب، أخيرا أخيرا بعد كم سنة من الاختبارات نجحت واحدة في الاختبار، لما كشف عن قضيبه وقال لها: ايه ده يا شاطرة؟ قالت: ده زمارة.
يا سلام، فرح أوي الراجل، وقال لنفسه: أخيرا وجدتها. أريكا البنت العذراء اللي عمرها ما شافت قضيب راجل.
بعد عشرين ثلاثين سنة بعد ما تزوجها وخلف منها دستة عيال، كان قاعد في ليلة رايقة في البلكونة بعد ما شرب كاس نبيذ، خطر لعقله إنه يسألها وهو يشير إلى قضيبه، ويقول: لكن ازاي يا حبيبتي ما عرفتيش أن ده قضيب؟ انفجرت زوجته فيه بصوتها العالي، وقالت: هو ده قضيب ده؟ ده القضيب طول دراعي ده. وأشارت إلى دراعها الطويل.
انفجرت بدور وصافي في ضحك متواصل حتى دمعت عيونهما، مسحت كل منهما عينيها بمنديل ورق شفاف معطر، وقالت صافي: هو ده غباء كل الرجال يا عزيزتي. ايه رأيك نروح المسرح الليلة نسمع زينة بنت زينات؟ كتبت أغنية جديدة وحتغنيها الليلة لأول مرة. إنتي عارفة إنها بتكتب كلماتها وألحانها، فنانة موهوبة بصحيح، أم كلثوم كانت بتغني كلمات وألحان من تأليف غيرها، لكن زينة بنت زينات موسيقية وشاعرة وصوتها جميل كمان، كنت أتمنى يكون لي بنت زيها. - وأنا كمان كنت أتمنى يكون لي بنت زيها. - عندك بنتك مجيدة ما شاء الله، كاتبة مرموقة، مقالاتها في مجلة النهضة مقروءة.
نطقت صافي كلمة مقروءة بطرف لسانها. لم تكن تعجبها كتابات مجيدة الخرتيتي، تقلد أباها في طريقة الكتابة، وتقلد أمها في نقدها للأدب. - مجيدة ورثت أبوها يا صافي، صورتها تشبهه بالضبط لما كان شاب، أحيانا أحس أنها بنته هو مش بنتي أنا، كان نفسي يكون لي بنت تشبهني.
Unknown page