حاشية:
تسلم لنا على جميع عائلتكم ودمتم.
إبراهيم أحمد
من يوم أن سافر إبراهيم لم يقف له أحد على خبر. فلما وصلت هذه الرسالة إلى حسن، وعلم منها أن صديقه ممتع بالصحة، وأن كل آماله أن يكون جميع معارفه مسرورين أصحاء، سارع فأبلغ الخبر إلى والدة إبراهيم التي لم تلبث حين سمعته، أن طوقته بذراعيها الناشفتين، وجعلت تقبله من غير حساب، وقد عرتها رعدة عصبية، وانهلت من عينها دمعة لم يدر حسن إن كانت دمعة فرح على صحة ابنها أو دمعة حزن وألم على فراقه. والواقع أنها لما ذكرته وذكرت منفاه البعيد عاودها الحزن الذي استولى عليها من يوم سفره! لكنها في الوقت عينه سرت بالخبر الطيب الذي يحمله إليها صديقه، وحمدت الله على صحة ابنها المحبوب. وبين هذين العاملين - وقد ارتفع قلبها في صدرها، وعاودتها القشعريرة مرات تهز جسمها النحيف البالي - هملت دمعتها على وجهها الأسمر قد عملت فيه الأيام فتركت فيه آثار التجعد الظاهر.
هذه أول كلمة بلغتها بعد ستة أشهر عن إبراهيم الذي قام من بلده إلى بندر المديرية ثم القاهرة حيث أقام بعض شهور بقشلاقات العباسية ومنها انتقل مع إخوانه وبلدياته إلى السودان ومجاهله إلى تلك البلاد القفر التي بابها فوهة القبر والعذاب والجحيم ينال فيها كل فقير صحيح البدن حظه من الشقاء. ثم هو يرد إلى بلاده وكل ما كسبه أنه لبس طربوشا ثلث متر في الطول وسترة وبنطلونا تجعله يزدهي على أقرانه أياما بعد رجوعه، ثم يصبح من الأعطال الذين يقضون حياتهم نوما وحديثا ويلبسون مركوبا أو بلغة وجلابية بيضاء وعمامة ملفوفة على طاقية مزهرة، أو تلجئه الحاجة إلى أن يرجع إلى صف العمال الفقراء التعساء فيعمل كما كان ويأكل من عرق جبينه.
بلغ حسن الخبر لأم إبراهيم لساعة ما وصله الكتاب، وقرأه عليه بعض من كان حاضرا في دار العمدة. ثم رجع إلى بيتهم وقص عليهم الحديث، وأخبرهم بما لا يزال عالقا في ذهنه منه، وأن إبراهيم يسلم عليهم جميعا. فتشوقت زينب أن تسمع كلماته، وتمنت لو وجد من يقرؤه أمامهم. ولكنها لم تستطع التصريح بما في نفسها لما تحيطها به من الحذر دائما ومن أن حسن مطلع على خفايا قلبها وأنه ينتظر منها كلمة كهذه ليبرق لها ويرعد ويظهر لها مخبوء ما في نفسه.
ترى ماذا يقول عنها إبراهيم في جوابه وهل ذكر اسمها؟.. رباه! وهل يتذكرها وهو بعيد لا يعرف شيئا من أمرها ولا ما يدور في نفسها؟ أو أنه قد نسيها وراحت من باله كما راحت البارحة؟ ألا يوجد أحد يقترح على حسن أن يقرأ الجواب! عمي خليل.. أمي جازية.. أحد أيا كان؟.. انقضت الأيام التي كان يجلس فيها إبراهيم تحت الشجرة ينتظر مجيء زينب!.. لكن كيف ينساها؟.. ومن يدري؟.. قد يكون نسي كل شيء.. إذن أفلا أحد يريد أن يسمع جواب إبراهيم؟..؟.. آه.. أمي جازية لا تريد هي الأخرى ...
بعد برهة من سكونهم جميعا سأل عمي خليل: هو مش مبسوط كده.. إبراهيم أبو أحمد. - دا مبسوط خالص.. وبيقول يمكن يروح سواكن ويمكن ما يروحش لسه ما هوش عارف إن كان بلوكهم مسافر والا لأ. - هيه.. بلا سواكن بلا طوكر.. إياك دنه قاعد. كتر التنقل يلخبط اللي ما يتلخبطش.
وفيما هم في حديثهم دخل عليهم صغير من أولاد جيرانهم يسأل إن كانت أمه هناك، لأنها ليست عندهم وهو خائف أن يبقى وحده فقالت له أمي جازية: اقعد وكمان شويه هي تجيء تسأل عليك.
ولما جلس سألوه عما يعمل في المكتب هذه الأيام. ومن أجل أن يعرفوا قوته في المطالعة أخرج إليه حسن جواب إبراهيم ليقرأ وأنصتوا جميعا له. أما زينب فاقتربت منه بقدر ما يسمح لها به المكان، ووجهت إليه كل سمعها. ومن لحظة لأخرى يرده حسن في بعض الكلمات التي يلحن في النطق بها بعد ما سمعها صحيحة من قارئ المضيفة.
Unknown page