وحامد من بين هؤلاء الأشخاص الذين تعرف، فكان يرد إلى خاطرها أحيانا، وتجد فيه موضع أحلام وآمال كبار تقضي فيها ساعتها، ولكنه لم يكن المنفرد بتلك النفس الدائمة التنقل لا تستقر على حال. وتعرض أمامها كل يوم صور أشخاص ممن عرفت في الماضي، أو من سمعت عنه من غيرها أنه رجل الجمال والشهامة. لذلك لم تكن نظرات حامد لها تلك النظرات التي تذهب للقلب وتدخل أعماق النفس فتصادف هواها. وما كان تخفيضها جفنها إلا حياء مما عند كل فتاة. وإن تك قد أحست نحوه بشيء أثناء تلك المدة القصيرة فما هو ببالغ إلا قليلا إلى جنب ما يحس هو به نحوها.
والأيام تسير، ونفس كل تجد من المشاغل ما تقضي فيه نهارها، وحامد يكثر التردد إلى المزارع وإلى بيت صاحبه ليراه ويفكر في أمر ذلك الحب الذي خالط فؤاده، وامتلأت به جوانحه، تفكيرا يذهب به إلى ثورة اليأس، ثم يعاوده الرجاء، ويحسب في الإمكان انتزاع فتاته من خدرها، وبث ما يكنه لها من الوجد، وما برح به من الهوى، وينتظر سماع اعترافها بأنها تحبه، ويمرحان بذلك معا في جو السعادة.. ويذهب بأحلامه إلى عالم خيالي جميل لذيذ يتمتع فيه بما حرمه من عالم الواقع. فإذا رجع إلى الوجود لمس الحقائق القاسية وأحس بآلام الحرمان، حتى يكاد يصل إلى الجمود والنظر إلى العالم كله بعين الخائف الحذر.
وقابل زينب في عملها مع صويحباتها، وهن يغنين مسرورات، وهي صامتة ساكتة، فراعه أمرها، لكن ما تتقلب عليه نفسه وما يدور في رأسه كفى ليشغله عنها، غير أن الأيام القديمة وذكراها، وذلك الجمال الصامت بين متحركات الحياة، أحدث عنده هزة ضعف عن مقاومتها، وجاءت بذكرى الحوادث الماضية. وفي كل يوم يرى فيه زينب ويلقي عليها تحيته كان لا يستطيع أن يمنع نفسه من التفكير في شأنها وما يحزنها.
وقضى على هذا النحو كل المدة التي أقامتها صاحبته في الريف، وهو يتلمس أثرها من بعيد، ويذهب إلى حيث تكون، يمتع نفسه بنظرتها أو يجتلي ابتسامتها. وما كان ليقنع بهذا، ولكنه لم يكن ليصل إلى أكثر منه، حتى أسلمته أيامه الأخيرة إلى شيء من الرجوع إلى هدأته وامتلاك حواسه، والنظر إلى عزيزة بشيء من اليأس أن يقدر يوما على مفاتحتها بأمر الحب، أو محادثتها فيما يدور بين المحبين من لذيذ الحديث. ورجع بذلك يأنس بإخوته وأهله، ويصرف عن نفسه ما حملته من قبل من الآلام والآمال، فإذا عاودته الذكرى في ساعات خلوته قنع منها بلذتها، وتنسم عبيرها، ثم انتقل بعدها إلى زينب وشأنها، ثم إلى المستقبل البعيد وما يرجوه فيه من السعادات، أو ترك نفسه يلعب بها الهواء الجميل، وحواسه تتمتع بما يحيط بها من نعم الوجود وآثاره. وهكذا دخل في نوع من إهمال كل ما حوله وعدم الاهتمام به والسير كما يسير غيره، وإن كان قلبه الكليم بهاته الأيام الطويلة ينزع إلى عصيانه أحيانا، وتأخذه الثورة ويتولاه الهياج، يريد من الوجود من يضمه إليه ويشاركه كل حياته.
وليالي الصيف الساهرة - يقضيها الفلاح يلف في طنبور أو يسوق ساقيته ويتعهد سقي القطن أو ري الشراقي - تعزي حامدا عن كثير من همه، فيخرج والقمر حائر في لجة السماء، وخياله أشد حيرة في لجج الماء، والتلال تمتد مع العين حتى يضيع النظر في لجة الليل، ولا يجيء منها إلا على قليل، والنجوم منثورة تحيط بالبدر، ويرقبها الفلاح ليقيس عليها وقته، وينتظر مطلعها واحدة بعد الأخرى، فإذا هو رأى نجمة الصبح ترنح كأنه طرب لمقدم الفجر يصليه شاكرا أنعم ربه، ثم يرجع إلى عمله طول النهار إلا ساعات يسرقها ليغمض فيها عينه.
وفي أيام ظهر نبات الذرة الجديدة بذلك اللون الأخضر الباسم، ولم يبق من الأرض جرداء إلا القليل الذي أبقاه الفلاح للبرسيم السواد، ولبست الطبيعة بذلك لباس زينتها، وأخذت زخرفها، وابتدأ الفلاح يحس نسيم السرور يجيء إلى نفسه، وانتهت الليالي الكثيرة الضجة والجلبة، ليالي الري، وصار يقنع من السهر بالقليل يسقي فيه القطن، كما ينتظر بفارغ الصبر انتهاء الإدارة والبطالة وذلك الترتيب الذي يقصم ظهره، وينظر للماء الطامي «الأحمر» نظرة الرضا والقنوع، ويعد ما بقي على أيام الراحة عدا.
وبعدها ابتدأ خف الذرة يفرح له الفلاح وتبدأ به الدواب ربيعها، والعمال والعاملات قد خرجوا من أيام الحرث والتلقيط تحت حر الشمس ومواساة الأرض مواساة الطفل خيفة أن «تطلع» وذهب منهم من ذهب إلى «الطفي والسقي» وآخرون إلى الخف، وانتقلوا بذلك عن عناء إلى عناء، وإن كان هذا الآخر بما يحيط به من أسباب السرور أحب للنفس وأكثر عندها قبولا.
وزينب تنتقل مع المنتقلين، وعليها سيما السكون والسكوت، والأيام تقص من عمر الصيف ونهاره الطويل، وكل شيء على الأرض ينمو سريعا، وحامد قد غرق بعد سفر صاحبته في أفكار شتى، وآمال لا آخر لها، وأحلام يسعد بها ساعة ويشقى بها أخرى، وإن وجد في إخوانه وفي الكون البديع بما عليه عزاء وسلوانا.
8
كان حسن منذ علم بما أعد له أبوه في نفسه من أمر زواجه أشغل من أمه بالا، يبحث هو أيضا عن فتاة من بنات أمثالهم الناس الطيبين. ولئن كان عمله المتواصل ليل نهار في المزارع يشغله عن التفكير الطويل في هاته المسألة، إلا أن أيام الصيف الحارة ولياليه الرائعة البديعة لا تتثنى عن إيقاظ عوامل الحياة في النفس وتنبيهها إلى ما يلازم طبيعة الإنسان وما يجول في خاطره دائما من التعلق بموجود ذي جمال يجد فيه عزاء عن آلام الحياة ومشقاتها، ويخلد معه نفسه ونوعه.
Unknown page