في المدة القصيرة الباقية من مقيلهم جميعا في تلك الأيام الجميلة التي تأتي بعد أكتوبر حين يعتدل الجو أو يميل قليلا نحو الرطوبة، وتبتدئ حياة الفلاح تبشره بمقدم راحته الشتوية، وحين الأشجار العظيمة يتساقط بعض ورقها بعد أن أدى واجبه من كسوتها، وإن كانت لا تضن بظلها على من أراده. وأجاب حسن الدعوة، ونقشوا «سيجتهم»، وأخذ كل منهم معه ولدين من العمال، والتف الباقون حولهم، وأكثرهم كواعب قد أينع عليهن الصبا وكساهن الشباب ذلك الجمال الذي لا يضن به على أحد حتى ولا غير الجميل، وأخذت زينب مقعدها من بينهن إلى جانب صديقات لها وأتراب، وهي لا تكاد ترفع عينها عن إبراهيم. ولم تكن إلا لحظات حتى انتهت كل حركة، وصمت كل صوت، وآن أن يبتدئ اللاعبون طردهم. وإذ ذاك مسك حسن «الطاب» في يده، وبعد الفاتحة المعروفة تبادلها مع إبراهيم: «اذكر على - ذكرناه - وإبليس - لعناه - وجدنا وجدكم - رحمناه - يا أرحم الراحمين يا الله»، سمع صوت الطابات تنفرد على الأرض وما بين حين وآخر يصيح صغير من اللاعبين: الفوز - إنعاز - آه اثنين - الفوز يا طاب. الله. ولكن طقته الثانية لا تكون بأسعد حظا من الطقة الأولى، فيسلمه إلى جاره آسفا. والجلوس حولهم سكوت ينظرون بعيون ثابتة. وما هي إلا دقيقة أو نحوها حتى ابتدأ الطرفان يفوزان، وهذا يجيء بستة خضراء، والآخر بمثلها بيضاء، ثم أخذ العريفان يعدان كل لعبة: داره وواحد اثنين. وواحد اثنين ثلاثة يشيل ده ... وتني. أيوه. في رأسها من قلة ناسها.. ختيمك. آه لبن يا ولد. وانت. إوعه يا طاب.. لاه بقيت بلعبة واحدة. وعند كل تفويزة تبدو على ثغور المتفرجين ابتسامة خفيفة تذهب رويدا رويدا حتى تزول وتعروهم هزة انتعاش تدور فيهم كلهم كأنها رعشة كهرباء، ثم يرجعون إلى حالهم الأولى التي تقرب من الذهول أو الغفلة. ثم انتهوا من طردهم وقد حجب الشمس تعرض الغمام في الجو، ودخل الوجود بذلك في شيء من الظلمة والعبوس. ولم تكن إلا لحظات بعدها حتى سمعوا دويا جاء من بعيد تألفه آذانهم على ما فيه من الإزعاج كما تألف أغاريد الطير الشجية تملأ الكون رنينا وكأنها تدق على أوتار الهواء، وكما تألف خرير الماء الهادئ الدائم أو صوت الضفدع في ليل الصيف يحيي الظلام كلما سكت حداء العاملات - جاء ذلك الدوي إلى آذانهم، فمنهم من التفت إلى اتجاهه وحدد نحوه نظره، ومنهم من تمطى فاردا يديه إلى آخرهما نافخا الهواء بتثاؤبه متأوها من مقدم وابور العصر الذي مر بهم وهم ينظرون إليه يرج الأرض تحته، وينفخ في الجو سحبه تعلو فوق مدخنته التي تخرق الهواء، ثم تتمايل مع الريح وتنساب أجزاؤها ساقطة حتى تتلاشى. وانتهى بذلك مقيلهم ورجعوا إلى عملهم بالصبر القديم الموروث حتى أنقذهم منه أن احمر قرص الشمس مائلا إلى مغيبه منذرا أن لم يبق إلا قليل حتى يودع الأرض للصباح، وتضاءل النور أمام مقتبل الليل، وأمسى الرجوع إلى أوكارهم لا محيض عنه، وبذلك عفا الله، أو كما يقول أحيانا خوليهم لهم «عوافي يا أولاد». وتنادى إبراهيم وحسن من جديد ليرجعا معا، وانساق أمامهم أو تبعهم أولئك العمال والعاملات، وكلهم يجد في المسير ويتحدثون معا، فتفلت ما بين حين وآن ضحكة من الفتيات ينفرط عقدها في مشهد النهار الزائل، وتسيل مع الهواء، ويعقبها صداها لا يكاد يسمع، وكأنه رنين القرص البعيد لامسته البسيطة أو احتك بفروع الشجر، ولم يكن الصاحبان ليشاركا الباقين في ضحكهم، بل لتراهم وهم يهمسون وعلى وجوههم السمراء شيء من أثر الجد، فيصل إلى نفسك أنهم يتكلمون في أمر ذي بال (وهنا أستسمح نفسي وأستسمح قارئي أن أذكر حكاية قولهم كما قالوا): والواقع أنهم من أول خطوة اتخذوها في طريقهم أحسوا أنهم سيقولون اليوم غير ما تعودوا أن يحكوه معا. فبعد كلام وحديث قال إبراهيم: أيوه يا أخي.
قال انت بدك تتجوز؟ - ليه؟ وإيش عرفك؟. يعنى يا أخي شايف البنات اللي بدهم يجوزوا.. - أهم ياخويه بالرمية.. يعني إللي قدامنا دول مش عجبينك وإلا لازم تعمل لي أنت راخر أبو علي تجيب لك واحدة تغضب الصبح والمغرب.
وصحيح أنه قد كان ممن أمامهما أكثر من ثلاث يصلحن زوجات من خيرة الزوجات الفلاحات. بل لقد شاركهن في الطريق من الراجعات إلى دورهن أخريات من بنات الناس الطيبين كن يعملن في مزارعهن، فقدمن أمام حسن مجموعة من عرائس جميلات يصح الاختيار من بينهن. لكن ذلك المشهد أظهر له كذلك فساد قولهم إن بنات العائلات الكبيرة سريعات الغضب والركون إلى الاحتماء بأهلهن؛ إذ جاءت أمامه هؤلاء القادمات بذكرى أمثالهن، كن أحسن الزوجات، وأكثرهن وفاء، وأحفظهن ذمة، وأرعاهن عهدا. فما دام لا يرمي بنظره إلى من هي أغنى منه، أو في درجة غير درجته، فهو واجد من بنات أقرانه خير من تصلح له زوجا، وأكثر من حفظهن الذمام ورعايتهن العهد، هن قد ربين يعرفن قيمة المال، وما يجب من حسن القيام عليه والتصرف في شأنه، ويفقن في ذلك بكثير الفقيرات اللاتي لا يعرفن ما توازي الأرض، ولا ذقن في حياتهن لذة نجاح عملهن، وإنما هن بنات ساعتهن يجرين وراء أجرها، أنتج عملهن فيها أم لم ينتج .
ثم بعد برهة سكتا فيها، قال حسن: «ياخويه بكره يحلها ربنا».
بتلك الإشارة من إبراهيم حصل في نفس صاحبه شيء من معنى وجوب الاختيار، وأصبح يرى أن عليه أن ينتقي من بين هاتيك الكثيرات أمامه من تعجبه، وبعث إلى نفسه اليقين بحريته في ذلك ما يعلمه من يسر حالهم، غير أنه كما يقولون «حيرة تحيره»، وما كان في حياته السابقة كلها يفضل فتاة معينة تنقذه من موقفه هذا الذي يريد فيه شريكة يظن حين يعقد عليها أنه يأخذها شريكة العمر وأم بنيه وبناته الكثيرين على ما يأمل هو ويأمل أهله. ولقد رأى فيمن أمامه هؤلاء القادمات من مزارعهن مثل ما هو راجع من غيط أبيه أشبه به مركزا ويسر حال، ورأى من الأخريات القوية السمحة والجميلة الرزينة، وزينب فوق هذا وذاك.
ثم ابتدأا حديثا آخر يقطعان به بقية الطريق، وكلهم مسرعون يشقون عباب الظلام النازل يختفي تحته كل لون، ولا تميز العين من كل الموجودات التي تأخذ صبغته إلا ما كان أبيض ناصعا، فلما بلغوا السكة النازلة إلى الجامع انفتل الصديقان إليه: حسن في سمرته وحدته، وإبراهيم في رشاقته وخفته، ويكادان يوقنان أن الإمام قد سبقهما. وتفرق الآخرون كل اتخذ طريق داره بعد أن تهادوا التحية جميعا. والبنات تظهرهن غدفهن السوداء حزانى آسفات على شبابهن الغض يقضينه في الأرض وتنقيتها، وإن بعثت ابتسامتهن إلى الظن أنهن قانعات أو شبه قانعات. وانبعثن جميعا وابتعدن عن النظر قليلا في أرديتهن السوداء وكأنهن خيالات تموج في لجة الليل الوليد حتى يختفين ما بين الجدران فيتسللن في الأزقة إلى أوكارهن يقضين فيها ليلا هادئا نائما. •••
وأدى حسن صلاته منفردا هو وصاحبه، وأتماها في لحظة أو أقل، ثم خرج مسرعا إلى بيته، فلما كان في بعض الطريق إذا أبوه مع صاحب له اسمه سلامة، على مصطبة أمام دور هذا الأخير. فسلم عليهما، وتريث في سيره، إذ علم أن ليس هناك ما يدعوه للعجلة في اللحاق بأهله. أما هذان العجوزان اللذان أكل عليهما الدهر ولم يشرب بعد، فكانا أول من خرج من المسجد بعد الصلاة، وجلسا يقصان معا قصص أمثالهما، ويبدي كل منهما رأيه فيما يمر أمامهما: ثور اشتراه الحاج علي من سوق الخميس ودفع فيه اثنين وعشرين جنيها ظناه مع جودته وقوته في الشغل غاليا، وبنت تزوج بها عوض مشعل من البندر رأيا في مشيتها من اللكاعة ما حكما به على نساء البندر أنهن لكليعات.. فلما مرت بهما العاملات قافلات إلى دورهن لم يقل خليل شيئا حتى بادره صاحبه قائلا: وآدي عرايس بلدنا.
ثم بعد برهة قال: من حق يا خليل أنت بدك تجوز حسن؟!..
فأجابه خليل بصوت هادئ: والله يا سلامة بدي لكن مش عارف أجوزه مين؟ ابني ياخويه ما بيحبش البنات اللي كلهم دوشة ويعملوا لهم الصبح غارة والمغرب قتله ويا معجل ما يغضبوا، وأهي حيره يا سلامة ياخويه.
فقال له صاحبه بصوت ملآن أدعى ما يكون للثقة به والاطمئنان إليه: يالله ياخويه بلا كلام ... انت اللي محير روحك من غير حيره.. طيب ولما مش عجبينك دول ما غيرهم كتير. أقول لك أنا على واحدة من اللي فاتوا دول وواحدة والله عليها كلام.. زينب ما لها؟.. حق أوع تقول حاجة.
Unknown page