انساب الوقت هادئا وكل منهما يحس بالسعادة في وجوده إلى جنب الثاني.. ثم نادى بحامد صاحبه الذي جاء معه، فودع زينب وقام. ونزل السلم بالسكون الذي امتلأت به نفسه، فلما صار وسط الدار ووسط الضجة والتصفيق ووسط السرور المجنون أحس بقلبه يهتز، وأحس بتلك القداسة التي كانت تشتمل كل وجوده حين لفه الليل وهو إلى جوار زينب في ردائها كأنها تتطاير، ويحتل مكانه هذا السرور الجم الذي يحيط به. وما لبث إذ صار على الطريق من جديد أن راجعته ابتسامته، وصار يضحك هو وصاحبه، ومرا راجعين بالجامع القائم وسط ظلمة الليل منذرا بالموت والآخرة.
جاء أخو عزيزة بآخر قطار ليمضي هو الآخر أيام العيد بالبلد، فلما رآه حامد أسرع إليه، وسلم عليه، وجلس معه ومع إخوانه، وبقوا في سهرتهم طويلا ما بين حديث ولعب ورق وطاولة. وأخيرا خرجوا ليسمعوا الفقيه القارئ يسمع آي الذكر ويرتلها ترتيلا حسنا.
ثم افترقوا، وذهب كل إلى داره يريدون أن يجدوا ساعة من الراحة قبل موعد السحر. فلما خلا حامد إلى نفسه واضطجع في سريره ذكر ما رأى في ليلته، وهذا السرور العميم الذي يمرح فيه الفلاحون ومن حولهم من البنات وزينب. ثم زينب وحدها وهي جالسة إلى جانبه صامتة لا تتكلم. ثم ذكر أخا عزيزة وسمرهم. وبمناسبته ذكر عزيزة. وهكذا جاء إلى رأسه بخيال أشياء كثيرة اختلط بعضها ببعض، وكادت تتوه كلها عن باله مرة واحدة.
لكن شأن هذه الخيالات أن يأخذ المهم منها شكلا معينا يتجسم به في الذاكرة، ويغطي بذلك على ما سواه. لذلك بقيت تتصفى واحدة بعد أخرى صور الراقصين والضاحكين، وتدخل جميعا في حيز النسيان، وبقيت ظاهرة صورة زينب جالسة أمام الدرابزين صامتة، كأنها تمثال من النحاس لا تكاد تنطق بكلمة. ولقد أخذ حامدا العجب! ما عساه أن يكون أصابها؟ وجعل يسائل نفسه يود لو يقف على سبب لهذه الحال. وأخيرا هز كتفه قائلا: «وأنا مالي؟!»
وأراد أن يسكت كل صوت في نفسه. ثم ما لبث أن عاودته هذه الصورة، ارتكزت أمام عينه مجسمة، وتصور كأنها تنظر له نظرة استرحام. والواقع أن زينب لما قامت بعد انتهاء «الفكة» ونادتها أختها، جلست كذلك تفكر في حامد وفي تلطفه في السؤال عنها، وأحست بهزة ميل نحوه - ربما كان صحيحا أن في النفوس الإنسانية قسما إلهيا مطلعا على ما لا تدركه الحواس، هو الذي يهدينا في آمالنا وميولنا ويرسم لنا طريق الحياة!
تصور كأنها تنظر له نظرة استرحام، فامتلأ قلبه بالرحمة والعطف على ذلك الخيال الجميل المحبوب، وود لو يسأله عن سبب أساه. لقد عرفها ضاحكة السن مستبشرة، فماذا أصابها حتى جعلها أمام هاته الضجة المرحة تفكر وهي الملكة على كل المحيطات بها فيما يؤسي ويحزن؟ هل أصاب أهلها ما كدرها؟.. لكن ماذا عساه يصيبهم وهم فقراء بالأمس، فقراء اليوم، فقراء إلى الأبد ؟.. أم أن أحدا قدم لها إساءة انكمشت لها تلك الليلة؟.. أم ماذا..؟
وبقي في أحلامه حتى جاء من ناداه لطعام السحر. وما كاد ينتهي منه حتى رجع إلى غرفته ورجع إلى أحلامه. لكنها انهالت عليه هذه المرة بقوة لم يقدر أمامها على البقاء بل تقهقر خائفا. وكلما ذكر أنه كان على الطعام مع أخي عزيزة شعر بهزة غريبة. وأخيرا أراحه النوم من عنائه.
لكنه ما إن استيقظ في الصباح حتى عاودته أفكار المساء، ففضل الخروج إلى المزارع، لعله يجد فيها ما يلهيه عن همومه. وانكشفت المزارع أمام نظره تغطي أرضها خضرة البرسيم أو بعض الحبوب من تلك النباتات المملوءة مع لينها حياة، فإذا مر عليها الهواء نامت تحت سلطانه متضامة بعضها إلى بعض، يتماوج سطحها السندسي فتذهب موجاته إلى اللا نهاية، وتضيع أمام النظر قبل خط الأفق إن لم تسقط على مجاوراتها من الجرداء. ولم يذهب بعيدا حتى رأى دخانا هناك قريبا من حلة من حلل الأدرة. فقصده معتقدا أن جماعة من الفلاحين قد أوقدوا نارا اتقاء برد ذلك اليوم العبوس، وليعزيهم منظرها عن بقية هذا النهار الأخير من أيام الصوم.
فلما كان عندهم وجد واحدا من أعمامه معهم، وإذا هم يقلون ذرة على النار التي أمامهم. فبلغ به العجب منهم أن بهت أمام ما يعملون. ولكنهم كانوا جميعا يضحكون مسرورين. وكل منهم يقلب كوزا على النار بدقة وعناية. وكأنهم يحسبون هذا اليوم الأخير - يوم عيد الشباب كما يسمونه - غير واجب الصوم: أما عمه فتناول كوزا ناضجا جميلا وقدمه له باسما.
لم يستطع حامد أن يشاهد هؤلاء الأشخاص، وفي الوقت عينه لم يقدر على أكثر من أن وجه لهم نظرة احتقار على تبجحهم. لو أنهم استتروا لهان ما يعملون. لكنهم يخرجون على الجماعة من غير حساب لإحساس أحد، ويجرؤ عمه على أن يقدم لحامد هذا الكوز وهو يعلم أنه صائم، وكأنه بعمله يريد أن يظهر مبلغ تهاونه بهذا الفرض الذي يؤديه أهله جميعا من سنين ماضية.
Unknown page