Zawj Marat Rasas
زوج امرأة الرصاص وابنته الجميلة
Genres
وأنت تجري نحو الذي ينتظرك. تتذكر جعفرا، جعفر مختار، تشعل سجائرك وتطفئها وتقول لنفسك كلاما أنت نفسك لا تفهمه، إلى أن أمسك بك رجلان، رجلان قويان بليدان، ولا تدري أن مليكة هي التي استأجرتهما، ألقياك على الأرض، سحباك سحبا كجوال الفحم إلى منزلك، ومليكة هي التي أوحت إليهما أن يربطاك، أنت تعي حقيقة أنك لست بالمجنون، ولا كنت تدعي الجنون في يوم ما، لكن في الغالب أن علاقتك بأمك هذه العلاقة المشوهة هي محصلة ما أنت فيه، هي لا تحبك ولا أحبتك في يوم من الأيام، حتى في أول نظرة ألقتها عليك وأنت طفل صغير، ترفس في الهواء كالجرو، وتتلوى ما أحست أنك ابنها، جرو لكلبة ضالة بالته في زقاق مظلم وواصلت جريها نحو الجيف المتقيحة، ولما لم تفق بعد أمك من آلام المخاض، صرخت في وجهك الصغير وعينيك المغمضتين: أنت غلطة العمر، ثم أخذت تنادي: أبعدوا عني هذا المسخ، أبعدوه.
وكأنها ما حبلت بك ستة أشهر ويومين، عانت فيك ما عانت، كأنها ما هيأت فراش أبوك في أمسية مثيرة، أغوته ببهاء الدلكة وعطر الصندل، أشعلت فيه نار الرغبة وهي تبدي له جموح جسدها في ضوء الشموع الناعسة، كأنها ما صرخت حين اشتعال لحظة اللذة في أعماقها وغور اشتهائها، كأنها ما نامت ليلتها تلك تحلم بك تكبر فيها، تنبت فيها، تحيا في دمها، أنت أيها المرفوض، ألم تقل لك: ما كان أحد من آبائك يرغب فيك ... كلهم كانوا ينشدون اللذة، فقط اللذة لا أكثر، إذا.
اذهب إليها واطلب منها أن تسامحك، أن تغفر لك خطيئة ميلادك، خطيئة أن تصر على الحياة وتظل باقيا إلى الآن، قل لها: أعيديني نطفة دافئة في صلب من تظنين أنه أبي، قل لها: ابصقي على وجهي ما يكفي من لعنات لكي أمسخ ذرة غبار فأهيم في فضاء لا نهائي، أو حدثها عن جعفر وأنت لا تدري ماذا يعني جعفر لأمك، جعفر مختار، لكنك لا تستطيع أن تقول لها شيئا ولا تقدر على مواجهتها بما تظن أنه الحقيقة، مدعيا أن لكل إنسان حريته الشخصية كاملة غير منقوصة، يكره من يشاء، يعز من يشاء، ولا يسأل إلا في حالة واحدة: إذا لم يكن حرا بقدر حريته، إذا كان عبدا في أعماقه، لكنك تحبها، تحبها جدا، وهذا حق شخصي لا تلام عليه، كما أنه من حقك الشخصي أن تطلق نعمة بنت خالتك؛ لأنها لم تسعك - أو على حد قولك - رغم أن أنها سمينة جدا، إلا أنها كانت أضيق من حلمي، وأنه أيضا من حقك الشخصي أن تتزوج مليكة شول مادنق، فتاة الدينكا الحسناء التي يسع قلبها عشرة من الأفيال وخرتيتا واحدا، ومن حقك الشخصي أن تتفاخر أمام الآخرين بأنه لا أب لك، أترى ما يقول الناس عنك في خلواتهم الخاصة، في مكاتبهم، مدارسهم، بيوتهم، في أفراحهم وأتراحهم؟ إنه رجل فاجر، وأيضا ابنته الجميلة، وعندما ينظرون إلى ابنك رياك يستعجبون قائلين: كيف لرماد أن ينجب جمرة؟
ولم تتمكن من إقناعهم بأن لكل رجل أخلاقه الخاصة النابعة من ذاته، من وعيه بالوجود ونظرته للعالم، وعيه بالعلاقة المعقدة لوحدات الزمن، وحدات المكان والإنسان، بفهمه لشفرات السلوك البشري من خلال ثقافته الحرة وامتلاكه لحريته بإرادته، إذا أنت ترى نفسك أكثر البشر صلاحا وتقوى، هل تريد أن تقول للآخرين قولك لابنتك منى: إن الداعرة امرأة فاضلة إذا كانت مقتنعة في حقيقة وعيها بأنها لا تمارس شيئا رذيلا أو نابيا، إذا لم تتناقض مع نفسها في فضيلة ما تفعل، هي إذا تؤسس لأخلاقها الخاصة جدا ويجب احترامها، هي إذا تؤسس لفضيلتها الإلهية، ويجب أن ينظر إليها كفيلسوف، إذا مثل الشعرة من العجين تنسل نقية من خطايا المجتمع؛ لأن خطاياه هي نتيجة نقضه لأخلاقه التي ارتضاها، أخلاقه التي أسسها، التي ليست أخلاقها، بالتالي ليست ملزمة بها، وبهذا الفهم يا محمد الناصر تصبح فيلسوفا صغيرا رعديدا لكنك بلا شك بك ما يكفي من الشجاعة لكي تصبح أول من يطبق نظريتك، وآخرهم أيضا؛ لأنه لا أحد يقبل أن يسمعك، لا أحد سوى ابنتك الجميلة منى، أشعلت سيجارة، أطفأتها، تكوم رماد السجائر أمامك.
تذكرت جعفرا، جعفر مختار، احتسيت قهوة مرة، قفزت إلى ذاكرتك آخر لحظة قضيتها مع مليكة، قبل موتها المفاجئ بالنسبة لك؛ لأنه أبدا لم يكن مفاجئا بالنسبة لمليكة ذاتها، أحسست بدفء صوتها المبحوح، وهي تهمس في أذنك: سأظل أشتاق إليك، سأظل أجري خلفك لأعيدك إلى المنزل، وأنت تجري بحثا عن الذي ينتظرك، سأظل أمطرك بالأسئلة، هل ستهرب من سؤالي أبدا بعد أن أموت؟
ولم تستطع أن ترد على همسها إلا بدمعات ساخنات قطرت من عينيك اللتين رأتا كثيرا من تصدعات الإنسان، عاصرتا مليونا من أعاصير الموت وعذابات الضحك والمسخرة، ثم انفجرت بالبكاء، مثل طفل جائع، ولم تتخيل نفسك أنه بإمكانك أن تبكي في يوم ما بهذا العمق، بهذه الحرية، أنت لم تحب في حياتك غير مليكة شول، فتاة الدينكا الحسناء، ذات الأرداف المملوءة بالأطفال والبافرا ولن تحب غيرها، حاولت أن تتذكر آخر لحظة حب قضيتها في فراشها، آخر قبلة، آخر همسة، آخر آخر، كان الرجلان قد أحكما وثاقك بحبل متين، قلت لهما: اتركاني، قالت لك مليكة: لا.
فتحدثت إلى ابنك رياك وابنتك منى بكل موضوعية فأفهمتهما حقيقة الإنسان أو الشيء الذي ينتظرك دائما في مكان ما، في زمان ما، قالت مليكة بشكل مؤكد: أنت موهوم ...
هي تفهمك أكثر من نفسك وتعرفك عندما تريد شيئا وتقول غيره، وعندما لا تريد شيئا وتبدو وكأنك تريد العالم كله، وأنت غامض بقدر وضوحك، مخبول بقدر عقلك، صغير بقدر كبرك، أنت قوي بقدر ضعفك، لكنك لست بشأن ما تعتقد أن تكون ولا بفهم ما تعتقد، ولست ضئيلا بما يجب لكي يتجاهلك الله. رأت منى في رجل الشجرة كثيرا ما كانت تفتقده فيك، وأهم ذلك الشجرة ذاتها.
أن تكون رجل شجرة؛ لأنك عندما التقيت مليكة لست أكثر من رجل حانة، أو ذلك الجالس قرب زجاجة العرق الزرقاء، هل تدري أن رجل الشجرة يفترش صدر ابنتك منى يوميا؟ نعم، أنت تعرف ذلك لكنك تتجاهله، مثلما تجاهلت حبوب الحبل المختفية التي كانت تخص مليكة، مثلما تجاهلت تساقط صدرها وارتخاء شفتيها وجفافهما وغيابها المتكرر عن المنزل، وكنت تختلق لها الأعذار، هل سافرت مع صديقتها في سياحة قصيرة؟ ربما تأخرت الليلة في الاستذكار، كم تبقى لامتحانات نهاية العام؟
وتحت باب الحرية الشخصية أيضا طالبت بالبحث عن الذي ينتظرك، صليت على عجل، قرأت سورة الكافرون.
Unknown page