فأحنت مريم رأسها ولبثت ساكتة، فمد عارف إليها يديه مستغفرا مستعطفا: سامحيني، اغتفري، اصفحي.
فبدت على وجنتيها الدموع كالطل على الورد وأخذت يده ذاهلة ساكتة واجفة، صافحته اليد منها ولم تصافحه النفس، وليس عارف ممن يشعرون لأول وهلة ببشاشة النفس أو بتجهمها، فظل قابضا على يدها وتقدم وإياها فأجلسها على الديوان يعتذر إليها ويستغفرها.
فدبت كلماته في قلب مريم دبيب النار المدخنة في جوانب البيت فأدفأته وأظلمته معا، أحست بحنو طالما تاقت إليه في هذه الأيام؛ حنو صاف لا تمازجه الغايات السافلة ولا يشوبه حب المكارم والجميل، فجاءها كالعاصفة دفعة واحدة فضاقت منه صدرا، على أنه وإن كانت قد ضعفت بل ضاعت ثقتها بالناس وصارت تخشى حتى المعروف منهم والإحسان، رضيت بما ساقته إليها الأقدار إكراما لولدها.
جلست على الديوان تنصت إلى كلمات عارف، معلمها السابق، والد ابنها، خطيبها الآن، ولم تفه بكلمة واحدة، وفي تلك الآونة دخل القس بولس فسلم على عارف مبارك، فانبرى القس جبرائيل يتمم واجبات التعريف فاضطرب عليه، فأراحه القس بولس من حيرته وتردده قائلا: أعرفك بنفسي، أنا زوج سارة الراعية التي توفيت في الناصرة منذ خمس سنوات، والفتاة الجالسة إلى جنبك بنتي.
فبهت عارف لهذا الخبر وشرع يقلب نظره بمريم وبوالدها القسيس. - لا تتعجب من جهري، من لا يخجل من الصدق أمام الله لا يخجل منه أمام الناس.
فقاطع القس جبرائيل الحديث قائلا: دعونا من هذا الآن، لقد أشرقت الشمس؛ شمس الحب والحق وأزفت الساعة، أترضى يا عارف مريم زوجة لك؟ - نعم، نعم. - أترضين يا مريم عارفا زوجا لك؟
فلم تجب مريم فأعاد القسيس السؤال: أتقبلين عارف مبارك عريسا لك؟ - ولماذا تسألني؟ ألم أبح لك بسر قلبي، كمل عملك وأرحني منك. - سري عنك يا بنتي خففي من روعك، هذي ساعة فرحك، لتكمل مشيئة الله .
ونادى إذ ذاك أجيره أبا إبراهيم ولطيفة، فقال يخاطبهما: عندنا الآن عرس يا أولادي، كوني أنت الأشبينة يا لطيفة، وأنت يا أبا إبراهيم الأشبين.
وبدأ القس جبرائيل بالصلاة، وكان فريد الصغير أثناء ذلك واقفا إلى جنب أمه متمسكا بردائها رصينا عبوسا حائرا بما هو جار أمامه، ولما بارك القسيس إكليل العروسين ركض فريد إلى لطيفة يقول: الخلوف زاع، اسمعيه يمعق، روهي أطعميه، ثم جاء يقول لأمه: اطلعي نطلع علكلم ونأخذ البابا معنا، العنب استوى، وأنا أقطفله العنقود.
فضحك القس جبرائيل معجبا، وقال: خذوا الحقيقة من هؤلاء الصغار، أجل لقد استوى العنب وحان وقت القطاف، ليبارككما الله ليبارككما الله!
Unknown page