قلنا: إن سارة كانت تساعد أبيها حتى في سهراته، وإليك البيان؛ فقد كان الجمال قصاصا أيضا يقص في الخانات وفي بيته قصص الأقدمين في حلقة عامرة من المكارين والمسافرين والفلاحين، بل كان بيته شبه ملعب رسم الدخول إليه شيء من التبغ أو السكر أو البن، وما أجملها حلقة في ليالي الشتاء في الليلة القراء، وقد أضرمت النار في الموقد، وأشعل كل من الحضور «السبيل»، ودارت سارة عليهم بالقهوة وبدأ والدها يتلو مقدمته الشهيرة؛ أي «كان ما كان ... إلخ» فيهتز من ضحك القوم عمود البيت وتبتسم لنكاتهم نار الموقد من خلال الدخان. - برغوث على صدرك يا سارة. - اجلسي قربي الله يحرسك لوالدك. - كردم أبو آدم حفر البحر ومن يحفر قبري الليلة؟ تسلم يا نور العيون! - ما أطيب قهوتك يا سارة! - يا بنت أمير العرب هاتي بصه. - الليلة من ليالي العجوز اسمعوا الهواء يزمر. - والموقد يرد عليه. - اسمع يا شيخ بدأت القصة. - نشكر الله على سلامة البرغوث.
وما هذه إلا شرارة من الموقد الذي كانت تضطرم ناره في ذاك البيت، في وسط حلقة لسانها الجمال القصاص، وروحها ابنته ساقية القهوة، وكانت سارة ذكية الفؤاد، فصيحة اللسان، عظيمة الحافظة، أخذت عن أبيها وفاقته في صناعته، فإذا كان في سفر ليلة ما تقوم مقامه فتضحك الحضور وتبكيهم وتهيجهم وترعبهم، بما تقص عليهم من الخرافات ومن حكايات الجان والعفاريت. وكان أبوها يعزها ويعجب بها كثيرا، ويستصحبها في أكثر سفراته فتسير في القافلة إلى القدس والكرك والشام، وتفتن حيث تقطن وتضرب عند اللزوم ضربة يعجز دونها الرجال. فتاة ترمي بعينيها وترمي بساعدها، شديدة البأس ثابتة الجنان لا يتجهمها الليل ولا تستوقفها القفار، وقد طالما اجتازت وادي اليرموك وحدها توصل السير بالسرى، وهي تغني أدوار «العتابا والميجانا» بصوت جهوري رنان تردد الأودية صداه، وتصغي إليه وحوش الفلاة، وما أشبهها بالشهيرات من نساء العرب اللواتي فقن الرجال فصاحة في المجالس وبأسا في ساحات الوغى.
ولكن اليوم الأسود لم يمهل يومها، جاءها وهي صبية يسوق إليها من مثله الأيام والسنين، جاءها يوم تزوج أبوها فكانت خالتها بليتها الكبرى، ولم تكن سارة لتطيق التحكم والتأمر، فوطنت النفس على أن تهجر البيت. وكان قد حدث لها حادث منذ أشهر فعجل عليها بالفرار، فخرجت من أبيها وهي حامل في شهرها الخامس لا تعرف ملجأ تلجأ إليه، فأقامت بضعة أسابيع في بعض القرى حول المرج ثم رحلت إلى حيفا لتخفي هناك عارها، ولكنها ضلت الطريق فمشت شمالا حتى وصلت إلى شفا عمرو، وهناك بين تلك النواويس خارج البلد جلست تستريح، وكانت قد بدأت تشعر بانحلال في جسمها وتقطع في أوصالها، فأوت مساء ذلك اليوم إلى كهف من تلك الكهوف التي كانت قبورا في قديم الزمان، وعرفت لأول مرة في حياتها ما هو العذاب وما هو الخوف وما هو القنوط، ألا فإن هذه أول تجاربها.
حاولت أن تنام فحال دون ذلك ما أصابها من الآلام التي أخذت تزداد حتى أحست سارة أنها دفنت حية في ذاك القبر، حية في قبرها تئن من الأوجاع، وصاحت نصف الليل صيحات لم يسمعها غير الله وولدت كما تلد البدويات وهن في الطريق راحلات، ولكنها ولدت طفلا ميتا، فكان غمها أشد من أوجاعها. وعند بزوغ الفجر لفت طفلها بالمنديل الذي كانت تحمل فيه زادها ودفنته في الناووس الذي ولد فيه وغطته بأغصان من شجر الزيتون، وأقامت وإياه هناك بضعة أيام تندبه وتندب حظها، وبعد أن نقهت قليلا وأحست من نفسها بشيء من القوة، خرجت من ذاك اللحد والمهد لا تدري ما تصنع ولا ترى أمامها طريقا تنشط خطواتها، أترجع إلى قريتها وقد كرهت الإقامة فيها؟ أتدخل شفا عمرو وهي لا تعرف أحدا هناك؟ أطرقت مفكرة حائرة بائسة، فتذكرت أن أحد أبناء بلدها إلياس البلان يعلم في مدرسة ابتدائية في صفورية، فصعدت في الجبل تقصد تلك البلد علها تحظى بلقائه فيفتح لها بابا للارتزاق، ولكنها لم تجده في صفورية، وقيل لها: إنه نقل منذ سنتين إلى الناصرة ودخل الدير ... هناك، الدير! وقعت هذه الكلمة في قلب سارة كما يقع الندى في نخاريب الصخور فينيرها، فتحت لها بابا ظنته باب الخلاص فكان شركا من أشراك القدر جديدا، ولعل القدر في بعض أطواره مثل البشر إذا وقعت الطريدة بين يديه لا يفلتها أو يذبحها.
جاءت سارة الناصرة وقد كدها الجوع والتعب فسارت توا إلى الدير الذي أهديت إليه فلقيت هناك ابن بلدها الأخ إيلياس البلان، فتنفست الصعداء وشكرت ربها، وأول ما فاهت به هاته الكلمات: دخيلك مت من الجوع والتعب.
فتأهل الأخ إيلياس بها وطيب نفسها وأدخلها غرفة قرب المطبخ وجاءها بخوان عليه بضعة أرغفة من الخبز وقالب من الجبن وشيء من الزيتون وجفنة من الطعام. وبعد أن أكلت واستراحت سألها حاجتها، فقالت إنها تريد أن تدخل الدير، فابتسم ابتسامة ثبطت من عزمها وأخبرها أن رغبتها لا تتحقق إلا بشروط قد يصعب عليها إتمامها، ثم قال: أديرة الراهبات هنا كالشركات العقارية؛ هل عندك شيء من العقار توقفينه للدير؟ هل عندك مال تدفعينه رسم دخولك؟ هذه أهم من النذور الثلاثة، أتخدمين؟ حسن، ولكن الواقفات في أبواب الأديرة يطلبن الخدمة كثيرات مثلك.
على أنه وعدها خيرا، وبعد أيام عادت إليه فأنزلها في بيت لأجراء الدير تساعد الفلاحين وتغسل ثياب الرهابين، ثم نقلت إلى المطبخ لإحسانها الخدمة؛ فأحبها رفاقها من الخدم وأعجبوا بحسنها وخفة روحها وزلاقة لسانها، وكانوا يجتمعون كل المساء عندها في المطبخ وبينهم بعض الرهبان، فتقص عليهم المضحك المبكي من قصصها العجيبة ونوادرها الغريبة، وأول من أعجب بها وأحبها الأخ إيلياس الذي دخل ذاك الدير ليتمم فيه علومه. وكان لم يزل في ريعان الشباب يملكه من النساء حسن الوجوه وسحر العيون، وما لبث أن فتن بسارة، استهوته الفتاة فخدعها؛ اختلى بها سرا مرارا وعللها بالوعود، وكانت سارة حادة المزاج سريعة التأثر، في قلبها شعلة من الحب لا تطفئها تجارب الحياة المحزنة، فاستسلمت إلى الراهب الذي وعدها أن يخلع الثوب الأسود ويتزوج بها، ولقد بر الأخ إيلياس بقسم من وعده إذ خرج من الدير في فرصة الصيف مدعيا أنه ذاهب إلى بيته ليتفقد أهله، وكان قد أوعز إلى سارة أن ترحل إلى قرية ... قرب كفر كنا وتنتظره في الخان هناك، وفي تلك القرية أقام وإياها بضعة أشهر متنكرا، ثم تركها وهي في شهرها التاسع عائدا إلى الدير في الناصرة لعلمه أن في نية الرئيس أن يبعثه إلى سوريا ليدرس الإفرنسية في إحدى مدارس الرهبنة هناك، فهرب من مسئولية فعلته ولم يهرب حينئذ من الدير.
ولما ولدت سارة أقسمت يمينا أنها لا ترضع ابنتها قبل أن تنتقم من والدها اللئيم الخداع؛ لذلك جاءت الناصرة ليلا تحمل لفافة ألقت بها عند باب دير الأيتام، وهي تقول: سأرجع يا بنتي، سأرجع إليك وقد انتقمت من والدك.
وراحت تسأل في الدير عنه، فقيل لها: إنه سافر إلى سوريا. شكته إلى الرئيس فضحك منها وشتمها وطردها خارجا، فقالت له والغيظ يحتدم في عينيها: عرفت طريقتكم؛ استرني أسترك، الله لا يستر عيوبكم. وخرجت من الدير تلعنه وتلعن ساكنيه وسافرت إلى بيروت لتبحث عن الجاني عليها، ولكن الأخ إيلياس البلان وقد قدر ما قد يكون من عواقب إثمه غير اسمه وخلع ثوبه ولجأ إلى إحدى قرى لبنان يعلم فيها الصبيان، وبعد سنتين عاد يلبي الدعوة السماوية؛ دعوة الرهبنة، فلبس الثوب الأسود ثانية ودخل في سلك رهبنة أخرى، وتدرج إلى رتبة الكهنوت فيها، فسيم قسيسا وأصبح من المحترمين في الأرض.
وليس كالدير مأوى لأمثال الأخ إيلياس، ثوب أسود واسم جديد ودير قصي، وبال بعد ذلك مطمئن، فيا له من إثم لا يقتفي أثره أشد أصحاب القيافة حذقا، يا له من ستر لا يكشفه أكبر رجال الشحنة!
Unknown page