حشد كبير من الناس يقفون صفوفا منتظمة في شارع عريض، تركع وتقوم وتسجد ثم تنصرف مرة واحدة. شاهدن معركة وقتلى في الشارع، حيث تجمع فيه الناس بالقرب من الخيام، وأناسا تصيح: «سقط خمسون شهيدا هذا اليوم يا شباب»، ثم سمعن ما سجلته ذاكرته السمعية في المواجهات بين الجيش، وقوات القبائل في «الحصبة»، وسيطرتهم على العديد من الوزارات.
دمعت عيونهن، وهن يشاهدن حربا ضروسا بين جبال جرداء وصحار، معدات حربية تزحف وعربات جند وصواريخ، وطائرات تقصف الجبال، معدات حربية تقذف القذائف، وأناسا بذقون طويلة بثياب سوداء يتقدمون صفوف الجند، وهم يهتفون: «الله أكبر، اهجموا على الكفرة والمرتدين، الجنة أمامكم يا جند الله، تقدموا إليها، إنها الجنة. الوحدة أو الموت ...» كانت هناك عربات تحمل القتلى بالعشرات، والدم يسيل منها. ثم شاهدن بحرا ومدينة بدائية خلفها جبل كبير يمتد من البحر إلى البحر، لم تعد تلك الجبال أو موقع المدينة معروفا لديهن. ثم سمعن شخصا يشبه صوت مروان، وهو يهتف بين الجند: «إنه النصر، ها هي مدينة عدن أمامنا. هزمنا الاشتراكيين الانفصاليين الكفرة.»
قالت إحدى النسوة للبروفيسور ماري: «نود لو يصحو مروان؛ ليخبرنا هل هو ذلك الرجل القاتل أم لا؟ أصبحنا نخاف منه.» ردت ماري: «لا تستعجلن، حتى ولو كان هو، فبعد اللقاح الديني سيتغير تماما.» عدن إلى مشاهدة شريط ذكريات مروان. شاهدن أسرة مروان وعدة عمال يعملون وكذلك طريقة البيع القديمة، وما أضحكهن فجأة، وأخرجهن عن عادات الضحك المتبعة، هو مشاهدتهن لامرأة قصيرة عارية، وهي تحت جسد مروان الثقيل. قالت البروفيسور، ولا يزال الجهاز يسجل ذاكرة مروان، وهو فيما يشبه الغيبوبة: إنه اكتشاف مهم، حصلنا عليه عن الزمن الماضي لصنعاء، والعالم القديم أيضا.
صحا مروان من غيبوبة الذكرى، وهم يشاهدون شاشة تلفزيونية: فتيانا يلعبون، فهتف: «ذاك صديق طفولتي عامر، وذاك محمود، تلك سمية، ذاك بيتنا، مسجد القرية، غير معقول! من أين حصلتم على هذه المشاهد، أكاد أجن؟! .. ياااه، تلك أمي غصون، خالتي، هذا قطيع أغنام أبي، تلك قريتي. مستحيل!» شاهد نفسه، وهو يضرب فتى .. ثم شاهد نفسه وهو صغير يسرق بيض «مريم علي» جارتهم في القرية. شاهد نفسه، وهو يقف خلف أحد الفتيان، وهما يختليان معا بين الأحراش! غطى عينيه حتى لا يرى، شعر بالخزي. كان مروان يود أن يواري نفسه عن الغير، يغطي عينيه. هتف: إنه يوم الحساب .. إنها القيامة! لا أستطيع أن أرى أكثر. لا أستطيع .. إنه يوم الحساب، يوم تشهد عليهم أيديهم وأرجلهم. إنك بين يدي ملائكة الحساب يا مروان، وهذا كتابي أقرؤه، ثم انهمرت دموعه باكيا.
بينما كان مروان يلطم خديه، ويتأسف على حياته في الدنيا كيف قضاها، يعض على أصابع الندم، كانت النسوة منشغلات بمشاهدة طريقة المضاجعة الهمجية مع زوجته. ذهلت النسوة من تلك الطريقة المتوحشة.
عاد مروان يتلصص بخزي على شاشة العرض، وهي تعرض غرفة ضيقة كئيبة، وامرأة عجوز تقف بقميصها الفضفاض، وقد رفعت أكمامها إلى ساعديها، وكفاها ملطخان بالدم، حول رأسها مقرمة حمراء منقطة بالسواد، وسروالها قطني أسود، كانت تقول بفرح: «إنه ولد أبيض وجميل يا غصون، ماذا ستسمينه؟ سيفرح به أبوه حين يعود من المرعى.» قالت المرأة وهي تتألم: «قد سماه أبوه «مروان»؛ فقد كان يتوقع أنه ولد.»
تأكد لمروان أنه «يوم الحساب»؛ لطالما رأى أمه وهي تلده، وأن الجنة والنار تكونان في الأرض التي يتوفى فيها الإنسان، وأنه الآن بين يدي ملائكة الحساب. في نفسه تساؤل عميق: «قيل لنا إن ملائكة العذاب مرعبون. كيف هذا وأنا أشاهدهم بصور جميلة ولطيفة، ذكورا وإناثا! ترى هل ما قيل لنا عن الجنة والنار، وملائكة الحساب لم يكن سوى تخيل من البشر؟! هل عشنا قرونا في كذبة؟!»
كان الجميع في دهشة؛ لما يشاهدونه في فيلم ذاكرة مروان، بالصوت والصورة لأحداث حدثت أمامه في حياته. ذرفت البروفيسور ماري الدمع مرة أخرى، رغم أن لا أحد يبكي في هذا العصر، وقالت: «لم نر في ذكريات مروان أشياء مبهجة، كانت معظمها محزنة للغاية. لقد عاشت مقاطعة صنعاء فيما مضى حروبا شتى، في آخر عصر همجي عاشته البشرية تحت سيطرة الرجل. كانت الأنانية المشبعة بالنرجسية الخبيثة تطغى على العقل البشري كثيرا ...»
تأكد للجميع أن الذي بين أيديهم رجل آخر، غير كريم نورين، الذي اختفى عن الوجود، أمر حير النساء، كيف اختفى وظهر مروان فجأة إلى الوجود، الذي بقي حيا منذ القرن الثالث ق.ج. «قبل الإنسان الجديد»، بداية القرن الواحد والعشرين الميلادي؟ وكيف بقي حيا إلى هذا العصر؟!
3
Unknown page