وفي اليوم الرابع من مبارحتنا السويس وصلنا إلى جدة، فلما نزلنا البر ذهبنا إلى نزل هناك، وبتنا تلك الليلة وأنا في حالة اندهاش وذهول لوجودي في بلاد جديدة وديار بعيدة، غير أني شممت ريح «شريف» فعادت لي الآمال ومثلت لي اجتماعي به وعودتنا إلى مصر، فيا لها من آمال لو تحققت!
وفي الصباح أخبرت الحاج عليا أن معي كتابا من أحد كبار المصريين إلى أمير جدة وأحب أن أوصله له، فأرسل معي خادما يعرف محل الأمير، ولما دخلت عليه وجدته رجلا تظهر عليه المهابة والإجلال، تحيط به الخدم والحشم، فقدمت له الكتاب، وحين قرأه قال: تفضل، على الرحب والسعة، متى جئت يا ولدي؟ - أمس على الباخرة الخديوية. - وأين أمضيت ليلة أمس؟ - في خان لا أعرف له اسما، مع سيدي الحاج علي الهندي. - وهل وصي عليك الحاج علي من مصر؟ - لا، ولكنا تعارفنا ونحن بالبحر. - أنت ولا شك سعيد يا ولدي لا تحتاج لوصية مثلي؛ فإن لسيدي الحاج علي نفوذا في هذه البلاد ولا نفوذ الأمير نفسه؛ لأنه رجل طيب السريرة خالص النية حسن الأخلاق، يساعد الناس بكل ما في جهده، فاحمد الله على ذلك. ومتى تسافرون إلى جدة؟ فأجبته: «غدا، إن شاء الله»، فقال: «سأرسل معكم بعضا من الحرس لتوصيلكما آمنين، وما دمت مع سيدي الحاج علي فلا تخف من شيء.»
ثم أحضرت القهوة، وسألني عن أحوال مصر فأجبته بقدر ما وصلت إليه معرفتي، مع الاحتراس من الزلل، فاستحسن كلامي، وقال: «إن شاء الله، إذا عثرت بأخيك فلا تنس أن تمر علينا أثناء ذهابك لأرسل معك هدية إلى ...» وذكر اسم رجل لا أتذكره الآن يقول إنه من كبار المصريين.
ثم استأذنته في الانصراف فأذن لي. ولما وصلت الخان وجدت الحاج علي في انتظاري، وقد ظهر أنه أحبني كثيرا لما كان يظهر من اعتنائه بأمري. وفي ثاني يوم ركبنا بغالا سريعة المشي فوصلنا مكة بعد العشاء لكن بعد عناء طويل، ولم نسترح في الطريق إلا ريثما تناولنا الغداء، وقد أنجز أمير جدة وعده بإرساله جماعة من حاشيته ليوصلونا إلى مكة، ولما وصلنا إلى هناك ذهبنا إلى منزل سيدي الحاج علي، وهو منزل من أحسن منازل هذه المدينة، في الجهة الشمالية منه تحيط به بعض أشجار كثيرة، وهو على الشكل العربي الذي نراه في البيوت العتيقة بالقاهرة، وله حوش مكشوف بمشربيات وأثاث من أحسن مصنوعات الهند والعجم، والمنزل على العموم من الطرز الشرقي الذي يتمنى الأوروبي رؤيته لما احتوى عليه من الزخرفة العربية والهندية والفارسية والتركية، ولقد أعد حجرة لنومي وخادما نبيها تحت أمري، وأنا أستغرب وأصور في نفسي ماذا كان يحصل لي لو لم أتقابل مع هذا الرجل، وكيف تكون معيشتي، وكيف أقيم، وكيف أدبر أمري ونحو ذلك. وبعد تناول العشاء الفاخر قال لي: لا شك أنك في غاية من التعب لأنك لم تتعود على مثل هذا السفر. - أي نعم، وإني لمحتاج إلى الراحة.
فأمر الخادم بتوصيلي إلى حجرة نومي، فوجدت سريرا بديع الصنع مفروشا بأحسن الفروشات العربية؛ فحمدت الله على نعمائه وجزيل آلائه، وصليت فروض اليوم، وما وضعت رأسي حتى نمت من شدة التعب العظيم، ولما أفقت في الصباح وجدت خادما على باب الحجرة فارشا سجادة للصلاة ومعه إبريق وطشت من النحاس الأصفر، فتوضأت وصليت الصبح، وبعد ذلك قال لي الخادم بكل احترام إن سيده ينتظرني، فذهبت معه إلى محل متسع لمقابلة الضيوف، فوجدت الحاج علي جالسا في صدر المجلس يدخن نرجيلة ومعه بعض أشراف مكة المكرمة، فسلمت عليهم فردوا السلام وقوفا، ثم دعاني الحاج علي للجلوس بجانبه، وقدمني لهم بصفة نجل أحد أمراء مصر، وأنا في نفسي أتفكر في حالتي إذا لم أكن تعرفت بهذا الرجل الكريم، وما ذلك إلا ببركة دعاء والدي وتقواه لأن التقوى تنفع الذرية.
الفصل الثامن
منظر جديد
ألا إنما الدنيا كمثل رواية
تمثلها الأحوال والقول والفعل
فترفع أستارا وتبدي عجائبا
Unknown page