فقلت له: لا قليلا ولا كثيرا. فقال: ولم هذا الحزن يا ولدي الذي تراكم عليك أمس، وما سببه؟
فقلت: ليسمع لي سيدي كلمة واحدة، لقد أحسنت لوالدي في حياته وفي مماته باعتنائك بأمر ولده الحقير، ولك ولابنتك الشكر والفضل، وحيث إني غريب عنكم وليس لي عندكم ما يجعلني أقيم بينكم، فاسمح لي بالذهاب أقابل العواصف الدنيوية بصدر تربى على الثبات وفعل المروءة، جزاك الله عن الإنسانية خيرا. - هذا كلام لا يسمع، نعم إن والدك توفي وليس لك أقارب ولا ثروة تقوم بتعليمك، ولكني أبوك وسكينة أختك وأمها أمك وهذا البيت بيتك لك ما لنا وعليك ما علينا. واعلم أنني عازم على إرسالك إلى المدرسة التوفيقية لتتميم دراستك، لكي تحوز شهادة الدراسة الثانوية وإما أن تستخدم في الحكومة أو تذهب إلى مدرسة عليا، وكل مصاريفك من مالي فإنني مهما عملت معك لا أؤدي الجميل الذي قام به والدك نحوي أيام كان أول تاجر بالإسكندرية والفضل للمتقدم، ولذلك فإني لا أدعك تذهب. - على أي حال فإن لساني يعجز عن شكرك، غير أني لا أقبل أن يصرف علي من مال أحد غير والدي، وقد أوصاني أن أتخذ طريقا في العالم وأن أقوم بلوازم نفسي؛ فلا أخالف له وصية ولا أرضى أن أعيش إلا على ما أحصل عليه من عرق جبيني، وأنا عارف أنك تحب أن تصرف على تربيتي فإنك مشهور بحبك للتربية، وكم صرفت وكم تصرف من المبالغ على تربية أولاد الفقراء حبا في بلادك! أما أنا فقد تعلمت ما يكفيني لأن أعيش عيشة شريفة مع القيام بواجبات وطني وأمتي. - إذا لم تشأ أن تذهب إلى المدرسة فإني أبحث لك عن مركز في الحكومة بواسطة إخواني. - عزمت إن شاء الله على أن لا أطرق للحكومة بابا. - إذن علام عولت يا ولدي؟ - على السعي وراء معيشتي، والله وليي وعليه أتوكل.
فلما سمعت سكينة إصراري على الذهاب من عندهم، خرجت من عندنا وأنا أرى الدموع تتناثر من نرجس عينيها كقطرات الندى على الورد، فسألها والدها عن سبب خروجها فلم تجبه بل خرجت صامتة، فالتفت إلي وقال: ألا ترجع عن عزمك؟ وأين تذهب؟ - لا أرجع عن عزمي لأني مسافر إلى بلاد الحجاز في أول مركب تسافر من السويس. - مسافر إلى الحجاز! ما هذا الكلام يا ولدي؟! ولم تسافر؟! لا بد من سبب. - نعم.
وقصصت عليه أمر شقيقي كما هو مذكور في الوصية، وأني عازم على البحث عليه لكي يكون لي وأكون له عضدا وساعدا مساعدا. فلما سمع ذلك أطرق برأسه مدة من الزمن ثم رفع رأسه وقال: لا تذهب، وأنا أكلف مأمور الصرة الذي يذهب مع المحمل الشريف في هذه السنة أن يبحث على شقيقك، فربما يكون قد توفي، وكيف تذهب إلى هذه البلاد والإنسان لا يأمن فيها على حياته؟ فقلت له: إن حياتي لا تهمني، بل يهمني شخص ليس لي من الدنيا سواه، فإن حصلت عليه كان المراد، وإلا أكون قد قمت بالواجب علي، وإن مت أموت شهيد الشرف والمروءة.
فقال: تعجبني شهامتك وحسن مبدئك، ولكن دون مرادك خرط القتاد. - الصبر والثبات يذللان صعاب الأعمال، فلا بد من سفري وعلى الله الاتكال.
وما زال يعارضني وأعارضه حتى لان ووعدني بالمساعدة من مال وغيره، كل ذلك صار وسكينة واقفة على الباب تبكي وتنتحب، فلما سمعت تصريح والدها دخلت علينا وهي باكية، فقال لها والدها: ما لك يا سكينة؟ فقالت: بالله عليك يا والدي لا تصرح له بالذهاب؛ فإنني تربيت معه ولا قدرة لي على فراقه.
ثم جاءت والدتها فأعلمتها بالخبر فشددت علي بالبقاء، وأخذ الجميع يرجونني في تغيير عزمي فلم أغير فكري، فلما رأوا إصراري سكتوا جميعا، وعند ذلك قال البك: «إذا كان ولا بد من سفرك، فلا بد من ذهابي إلى الإسكندرية لأستعلم لك عن أوقات قيام البواخر وكيفية السفر؛ لتكون على بينة من أمرك، وآمل أنك إذا سافرت تعود في أقرب وقت، وأسأل الله أن يسهل لك السبيل وتعثر على شقيقك الوحيد. ثم قام للسفر.
أما أنا فبقيت مع سكينة ووالدتها مدة طويلة، تتكلم عن السفر وكيفيته وما يتبع ذلك من الكلام، وسكينة لا تتكلم، ولما طال الوقت هممت بالخروج إلى الحديقة، فسألتني سكينة عن مقصدي فقلت لها: إلى الحديقة، فقالت والدمع يغلب قولها: ألا تحب أن أكون معك لكي أتمتع برؤيتك قبل السفر؟ - ذلك ما أتمناه، إنما أرجوك بحق تربيتنا معا أن لا تستعملي رسول هواك في منعي عن السفر، فقد كفانا معارضة. - أنا لا يمكنني؛ لأن رسول غرامي ليس له تأثير عليك الآن، وإلا لكنت قبلت نصيحة والدي وبقيت معنا.
وفي أثناء الكلام وصلنا إلى الحديقة، ولما كنا نمر على محلات لعبنا ونحن طفلان، أو على محلات جلوسنا ونحن عاشقان ندير كئوس الغرام كنا نتنهد سوية، حتى وصلنا إلى مقعد هناك تحت شجرة كنا نألفها حتى لقد سميناه «ملتقى الأحباب»، ولما استوى بنا الجلوس قالت: يا فريد، أتذكر الأيام التي قضيناها تحت هذه الشجرة؟ - تسأليني؟ وهل أنسى أيام هنائي وسروري؟ ألا تعلمين أن أيام الصفاء هي كروضة يانعة زاهرة في صحراء الذاكرة؟ ومن العادة أن الأمور بضدها تعرف، ولكن سوف تنسين ذلك، تنسينني حينما تتزوجين برجل من درجتك في الثروة والمقام. - طالما قلت لك: إنك تجرح فؤادي بهذه الأقوال، وهل أتزوج بغيرك ولو ذقت المنون؟ - لا تتزوجين بغيري! ولم؟ هل تظنينني أتكدر؟ لا وأبيك، إن سعادتي هي سعادتك، فمتى كنت سعيدة ذات بعل يستحقك وأولاد متعلمين مهذبين فإني سعيد، وإنما لي نصيحة أحب أن تسمعيها فإذا عملت بها فإن فؤادي ولو على بعد منك يهنأ ويسعد. - وما هذه النصيحة يا فريد؟ - أحب أن لا تتزوجي إلا من كان متعلما مهذبا، يعرف الواجب نحو امرأته وعائلته.
فأرادت أن تقاطعني الكلام، فقلت لها: «تأني يا سكينة، إن ما أقوله لك صادر عن فؤاد مملوء بحبك.»
Unknown page