نشوء العقيدة الدينية
قصة الخلق
قصة الطوفان
برج بابل
نشوء العقيدة الدينية
قصة الخلق
قصة الطوفان
برج بابل
اليهودية في العقيدة والتاريخ
اليهودية في العقيدة والتاريخ
تأليف
عصام الدين حفني ناصف
نشوء العقيدة الدينية
(1) حيرة الإنسان البدائي
جاوز الإنسان البدائي أولى مراحل تطوره، وسار فيه شوطا آخر نمت خلاله مقدرته على التفكير والتعبير، فجعل يرقب ما بين يديه من ظواهر الطبيعة. وقد انتشر عليه رأيه من جراء ما يعتور هذه الظواهر من تغيرات راتبة دورية أو عنيفة فجائية، فجعل يسائل نفسه عن مولد اليوم ومماته: كيف ينتشر ضوء الفجر بعد السحر اللجيني ثم يمتد الصبح حتى يصير نهارا بينا ويرتفع الضحى وتحم الظهيرة، ثم يأخذ صهدان الشمس يفتر رويدا رويدا حتى المغيب فيبين الشفق العسجدي؟ وهذا القمر يتسق بدرا ثم لا ينفك يتضاءل أمام ناظريه حتى يستخفي محاقا؟ وهذه النجوم الزاهرة المنتثرة، والشهب المندثرة، والكسوف والخسوف؟ وهذه الفصول الأربعة تتخالف ألوانها وتتميز خصائصها؟ وهذه السحب المدفوعة وما تسحه من أمطار؟ وقوس قزح، تلك التي تتراءى في اليوم المطير؟ وهذا السيل الجارف والجدول المنساب يترقرق ماؤه زلالا، والبركة الساجية لا يغشى الموج صفحتها، فهي تعكس طلعة الناظر الدهش، وهذا البحر لا يدرك الطرف مداه، والمد والجزر؟
وهذه الأزهار ذات الأرج المنعش، والغابات الكثيفة تصوت فيها فيرتد إليك رجع الصدى؟ والريح العصوف تقتلع الأشجار وتقلقل الأحجار، وجلمود الصخر يحطه السيل من عل؟ والبروق الملعلعة والرعود المدوية يصم هزيمها الأسماع؟ وهذه الجبال المكللة قللها بالجليد الناصع تندلع من فوهاتها ألسنة النيران؟ كل شيء من ذلك يبدو له وكأنما تضطرب فيه قوى وتأثيرات هي وإن لم تدركها الحواس حقائق ماثلة.
وبعد هذا كله أعجوبة الولادة وغموض سر الموت؟ ورؤى المنام؟ يرى البدائي إذا غشيه النعاس أنه يجول ويصول في غابته المحبوبة ويصرع حيوانا مكتنزا فيمتلئ شبعا وريا من لحمه الشهي، ثم يهب من نومه فإذا هو لم يزل، حيث رقد، يتضور من أوار العطش وسعار الجوع.
كانت تلك كلها أمورا غامضة تخفى عليه؛ فقد استترت عنه طبائع الأشياء، واستبهمت لديه الأسباب والنتائج، ولم يتوافر له من العلم ما يصل به بين العلة والمعلول في عالم المنظور.
وأهل جزائر ماليزيا يدعون القوة الغامضة غير الشخصية «مانا»
Mana ، فإذا وفق امرؤ في القتال، فإنما يرجع الفضل في تفوقه إلى «مانا» روح أحد الموتى الشجعان، وإذا أصاب امرؤ نجاحا مرموقا في زراعته أو في تربية ماشيته، فذلك أيضا من المانا الكامنة في بعض الأحجار أو في التمائم المناطة بعنقه أو في خصلة أوراق النبات التي يزين بها حزامه. ويتحدث أهل مراكش عن «البركة» فهناك أشياء: آبار وينابيع ومغارات لها خاصة تبث الخصب في الأرض أو تهب لورادها وحجاجها البرء من الأسقام. وقد كان سلاطين مراكش يمنون على رعاياهم ببركتهم. وكان الإنجليز إلى عهد قريب يعزون إلى ملوكهم قوة سحرية؛ فهم يستطيعون بلمسة اليد أن يبرءوا المصابين بالداء الخنزيري المسمى داء الملوك،
1
وما زال الفلاحون في البلدان الكاثوليكية كإيطاليا وبعض أقاليم فرنسا يؤمنون بأن للقساوسة سلطانا على الرياح والأمطار والفيضانات والأوبئة والحرائق، وبأن للبابا مقدرة غامضة على غفران الخطايا والآثام وعلى إصدار المنشورات المعصومة والتشفع إلى الله. والناس أشد تعلقا بأذيال الأباطيل والترهات حيث الطبيعة صاخبة والحياة غير مستقرة تفتقر إلى أسباب الأمن والطمأنينة؛ ومن ثم كان أقل تغير عن الحالة المألوفة لدى الملاحين والبدو الرحل يورثهم الفزع والهلع. ورب رهبة عرت الناس فأوحت إليهم الإيمان بقوة شيء أو مكان ما مثل بيت إيل
2
حيث بات يعقوب ليلة هربه من أخيه عيسو في طريقه إلى خاله لابان الآرامي.
كانت الرهبة تستبد بالإنسان البدائي ويملك عليه الوجل لبه فيخيل إليه أن لكل شيء مما يكتنفه ذكاء، وأن هذه الظواهر الطبيعية إنما تحدثها كائنات موفورة الفطنة واسعة المقدرة، تبغي بصنيعها إنجاز أغراض خاصة لا نعلمها. إن الطفل يحسب دميته ذات حياة حين تتحرك آليا، فهو يتحدث إليها. وقد كان الإنسان البدائي في طفولة البشرية يفكر على هذا النحو؛ ومن ثم خلع مخه البدائي على قوى الطبيعة المحيطة به مثل ما للبشر من ذكاء وإرادة، وجعل يتوهم أحيانا أن لها هيئة كهيئة البشر، كما حباها بالروح، ولكأنما هي من البشر. وقد هيمنت هذه العقيدة على حياته، وما زال أثرها في عقولنا باقيا لم يزل؛ فلقد يتعثر المرء منا في كرسي فإذا هو قد ركله. وبيننا من يعرض للأحداث السعيدة التي تتمخض عنها نواميس الطبيعة فيذكرها على أنها عناية ربانية ومرحمة إلهية. (2) الروح
فسر الإنسان البدائي بعض ما يخفى عليه أمره من هذه الظاهرات بأن له روحا؛ أي جسما لطيفا حالا بجسده، ولكنه مستقل عنه قابل لأن يزايله في أية لحظة ويمارس نشاطه في أماكن أخرى. وهذه النظرة «الروحانية» هي أساس الدين.
لقد كان يقرن بين النسمة والنسمة، ويرى أن «الريح» إن هي إلا «روح»
3
كبيرة، ترضى فتكون نسيما بليلا ينفح، أو تسخط فتكون ريحا سموما تلفح. وعنده أن المرء إذا تراءى له في نومه صديقا فهو إنما رأى روح ذلك الصديق لا شخصه.
وقد فطن إلى أن الموتى لا يتنفسون فتوهم أن «النفس» (بفتح الفاء) هو «النفس» (بتسكين الفاء)؛ أي الروح، ثم خيل إليه أن من ينم نوما عميقا ينقطع تنفسه كذلك فتوهم أن روحه تفارقه بعض الوقت ثم تئوب إليه؟ فهو قمين بألا يوقظه فجأة لئلا تلقى الروح عنتا في العودة إليه، ثم قال في نفسه: لئن كانت الروح ترتد إلى النائم إنها لحرية أن ترتد إلى الميت. وهكذا لاحت في ذهنه فكرة البعث، وجعل - تبعا لذلك - يعنى بدفن موتاه وإيداع قبورهم ما قد يحتاجون إليه من أغذية وأكسية وآنية، واشتط بعض ذوي الثراء في ذلك فجعلوا يقتلون نساء من مات من أقربائهم وجياده وكلابه ويدفنونها معه لعله يفتقدها عند قيامته من الموت.
وقد كان يغلب عنده أن يكون موطن الروح في الرأس وأن يكون مخرجها عند الموت من الأنف أو الفم
4
في أثناء التنفس، كما حدث لراحيل
5
امرأة يعقوب، وأن يكون مدخلها منهما إلى الجسم إذا ارتدت إليه الحياة كما حدث لابن الأرملة التي كانت تعول إيليا. «فسمع الرب لصوت إيليا فرجعت نفس الولد إلى جوفه فعاش» (1 ملوك 17: 22).
وهو شبيه بما حدث للرجل الطيني: «ونفخ في أنفه نسمة حياة فصار آدم نفسا حية»
6 (تكوين 2: 7).
وبما حدث في الطوفان: «كل ما في أنفه نسمة روح حياة من كل ما في اليابسة مات» (تكوين 7: 22).
وعند البدائي أن العطاس أذان بأن الروح تعالج دخول الجسم أو الخروج منه؛ ومن ثم كان عطاس المريض نذيرا بدنو أجله، أو بشيرا بأن العافية تثوب إليه
7
كما حدث عندما رد أليشع الحياة إلى ابن المرأة صاحبة مثواه: «ودخل أليشع البيت وإذا بالصبي ميت ومضطجع على سريره. فدخل وأغلق الباب على نفسيهما كليهما وصلى إلى الرب. ثم صعد واضطجع فوق الصبي ووضع فمه على فمه وعينيه على عينيه ويديه على يديه وتمدد عليه فسخن جسم الولد. ثم عاد وتمشى في البيت تارة إلى هنا وتارة إلى هناك، وصعد وتمدد عليه فعطس الصبي سبع مرات، ثم فتح الصبي عينيه» (2 ملوك 4: 32-35).
وكان البدائي إذا حضرته الثؤباء يضع يده على فمه متخذا منها حاجزا يحول دون خروج الروح من جسده أو دخول عدو روحي إليه.
8
لقد ذهبت به أوهامه إلى ما يعرف الآن باسم المذهب الحيوي
animism
أو مذهب حيوية المادة القائل بأن لكل شيء في الكون، حتى الكون عينه، روحا هي المبدأ الحيوي المنظم له. وقد صور له هذا المذهب: (1)
أن له جسدا وروحا. (2)
أن لكل شيء مما حوله روحا كروحه. (3)
أن من هذه الأرواح ما يبغيه الخير ومنها ما يتربص به الشر.
وإلى هذه الأرواح غير المرئية التي تزخر بها بيئته كان يعزو مختلف الظواهر؛ فما وميض البرق وهزيم الرعد وهبوب الريح واندفاق المطر وزلزلة الأرض عنده إلا أفاعيل آلهة غضبى وشياطين ناقمة.
9
وكان يعتقد أن الروح تظل في الجسم ما ظل الجسم صحيحا متماسكا، فإذا دب إليه التحلل والفساد زايلته الروح.
10
وكان يعتقد أن الروح بعد مباينتها للجسد تحوم حوله زمنا ما؛ ولذلك كان أهل الميت يتنكرون بلبس ثياب الحداد، وبتغيير معالم الأثاث في البيت، وبتعفير وجوههم وحلق شعورهم وتجليل رءوسهم بالرماد؛ لينبهم الأمر على روح الميت المتحررة من جثمانه، ثم «يصوتون» صوات المكروبين ليذعروا الروح ويروعوها فترحل، وما فتئ المحافظون (على التقاليد القديمة) من اليهود إلى اليوم يغيرون اسم مريضهم إذا تبلغت به العلة؛ ليبعثوا الحيرة والارتباك في الروح الشريرة التي أورثته الوصب.
وهذه العادات والتقاليد التي كان يمارسها العبريون القدماء ما زالت حتى اليوم باقية لم يعف عليها الزمن؛ غير أن معانيها لم تعد واضحة في الأذهان؛ فالناس يمارسونها خالفا عن سالف دون تفكير وتمحيص. (3) الطوطم والتابو
كان البدائي يعتقد: (1)
أن الروح بعد بينونتها عن صاحبها تبدو في زيه (هيئته)؛ وبذلك وجدت الثنائية
dualism
من الجسد والروح. (2)
وأنها قد تنقلب صورتها إلى صورة حيوان ما؛ ومن هنا نشأت أساطير المخلوقات التي كانت أناسي ثم مسخت حيوانات. (3)
أن اللحم يحتوي مادة الروح التي ينطوي عليها الحيوان، فراح يتوهم أن المرء يكتسب خصائص الحيوانات التي يغتذي بلحومها، وكان ذلك من أسباب تحريم لحم الخنزير عند اليهود.
وكان كل امرئ يؤثر برعايته حيوانا ما ويعده حارسا له ويحس بصلة وثيقة تربط بينهما حتى ليستحرم قتله ويرى أكل لحمه ضربا من أكل لحم البشر. ومن هذا المعتقد تولدت الطوطمية وهي ضرب من عبادة الإنسان البدائي لحيوان (أو نبات) يحسب أن بينهما آصرة رحم وقربى.
ومن الطوطمية نشأت عقيدة تقمص الأرواح، ويبدو أنه كان لكل قبيلة في تلك العهود الموغلة في القدم طوطم
11
حيواني واحد على الأقل تقدسه وتنظر إليه على أنه الروح الحارسة لها، وأنه منبع قوتها، ومصدر البركة الحالة بها، وترى الإقامة في جواره من صالح الأعمال. وكان هذا الطوطم كأنه رمز للقبيلة، وشعار يوحد بين أفرادها إذ يتوهمون أنهم منحدرون من سلالته أو أنهم على الأقل تربطهم به آصرة قربى.
12
كان الطوطم يعد مقدسا ونجسا في آن واحد، وكانت تحميه شريعة ال تابو
13
أي شريعة التحريم؛ فمن المحرم عليهم قتله وأكل لحمه، وهذا منشأ التابو الغذائي.
وقد بقيت فكرة الإضراب عن أكل بعض الطواطم سائدة في بعض المجتمعات؛ فالبقرة تابو عند الهنود، والخنزير تابو عند اليهود؛ وإنما يضرب اليهودي الورع عن أكل لحم الخنزير لأن أسلافه الأقدمين منذ خمسة آلاف سنة أو ستة آلاف كانوا يتخذون الحلوف
14
البري طوطما لهم. ولا صلة لهذا الإضراب بما يحتج به حاخامو اليهود المحدثون من أسباب صحية؛ فإن الكتاب المقدس لم يذكر أية حادثة فشا فيها وباء أو نجم فيها مرض من جراء أكل لحم غير طاهر، ولا غرو في ذلك؛ فهو ينظر إلى المرض على أنه رجس من عمل الأرواح والشياطين.
وقد كان الحمل طوطما لإحدى القبائل الكنعانية، وكان عيد الفصح عند الكنعانيين عيدا يقربون فيه حملا لإله من الآلهة المحليين، ثم أصبح هذا الطوطم بعد ذلك «حمل بسكال» في الدين المسيحي. (4) التمائم والأوثان
كان البدائيون إذا طاف بأحدهم طائف من مرض أو حل به الموت عزوا ذلك إلى الأرواح الماثلة في كل ما يكتنفهم؛ ولهذا كانت تلك الأرواح حرية بأن تسترضى.
وازدادت الآراء الدينية على الزمن تعقدا واعتياصا، وغدت الأرواح عسيرة المأتى، فبدت الحاجة إلى انقطاع فئة من الناس لمباشرة هذه الأمور والتعمق في اكتناه أسرارها. وبدأ التخصص فلم يبق كل امرئ كاهن نفسه بل أخذ آباء الأسر الكبيرة ورؤساء العشائر الصغيرة على عواتقهم تصريف أمور الشعائر والاحتفالات الدينية، وغدوا بذلك ملوكا وكهنة معا، وما فتئت الأفكار الدينية تزداد زخرفا حتى غدا الكاهن الملك هو المثوى الذي تحل به روح القبيلة؛ ولهذا كان قمينا أن يعبد إلها؛ وهكذا - في أغلب الظن - نشأ الحق الإلهي للملوك. وكان من أثر هذه العقيدة في بعض الشعوب أن درجوا على قتل الملك إذا ما علت به السن ووهن منه العظم ليفسحوا للإله أن يثوي في جسد شاب، موفور الفتوة، جم النشاط، حديد العزم، عظيم الهمة. وكان الملك في بعض الأحيان يفتدي نفسه بابنه فيقتلون ابن الملك ويقولون: إنهم قتلوا ابن الإله.
وفي خلال ذلك تخلقت في بطء فئة من الناس تجردت لمعالجة الأمور الروحية، كانوا يتلقون تدريبا طويلا ويلقن كل منهم ابنه ما أوتي من حكمة . وخبر هؤلاء الكهنة البدائيون عنت الحمية عن الطعام في أوقات الجدب، وعلموا أن المخمصة تورث الخبال وتطلق الحناجر بالهذيان، وبلوا كذلك فعل المخدرات في إطلاق الأعنة للأخيلة والأوهام، فاستعانوا بها وبالصوم على التجلي، فكانت تعتريهم نوبات من الدروشة وتنطلق ألسنتهم بأصوات غريبة وألفاظ غير ذات معنى، فيتوهم من حولهم من السذج أن الأرواح قد حلت بهم، وأنها هي التي تنطق بألسنتهم
15
فيسري الرعب في أوصالهم،
16
فيبذلون بعض ما يملكون؛ ليشتروا به أمنهم وسلامتهم.
كان البدائي يتوسل إلى دفع الأرواح الشريرة بتلاوة الأدعية، وإقامة الصلوات، وحمل الخرز، وعد حبات السبح، وإناطة التمائم، وهي شيء تثوي فيه روح صديقة ذات بأس ونشاط، فإذا ما حمل المرء التميمة «حجبت» عنه أذى الأرواح الشريرة، وما «الحجاب» الذي ينوطه المرء عليه في وقتنا هذا إلا صورة متأخرة من التميمة. ولا تزال كثيرات من نساء أوروبا يلبسن المدليات والتمائم لاستدرار المعونة مما وراء الطبيعة ولاتقاء ما عسى أن يكون مخبوءا لهن في عالم الغيب. ولا يزال كثير من رجال الشرق يحملون السبح لأسباب هي في بعض الأحيان قريبة من ذلك.
وقد أضفت صناعة التمائم قدسية على الذين انفردوا بصنعها وهم الكهنة. واستغل الكهنة الدين لأغراضهم الخاصة، وعملوا على استدامة الخرافات بين شعوبهم لتظل قابعة في غيابة الجهل فيسهل عليهم خداعها وإخضاعها وابتزاز أموالها. وقد أيقظت الخرافات في الناس المطامع الحمقاء وأثارت فيهم النزعات الهوجاء وسيرت موكب البشرية أحقابا مديدة مسخرا في أشغال شاقة لا خير فيها ولا جدوى منها. ولو أن أولئك الناس بذلوا في سبيل البشر ما بذلوه في سبيل آلهتهم تلك لكنا الآن نتفيأ ظلال حضارة خير من حضارتنا وأرقى.
وما لبث الناس أن انتقلوا من تميمة الفرد خاصة إلى تميمة القبيلة عامة، وكانت بادئ بدء تتخذ من الروح الباسق والجلاميد الضخام؛ تلك هي الأوثان
idols
في أبسط أشكالها. وعندما اتخذ الناس الأوثان أربابا يتوسلون بها إلى ما فيه صلاحهم بدأ «الدين». وقد نجمت الأديان الأولى من الاتحاد بين العقيدة والمنسك.
ولما ارتقى القوم شيئا ما عمدوا إلى مسح أوثانهم هذه بالزيت
17
ثم خطوا خطوة أخرى فأصبحوا يخضبونها بالدم لتطيب الأرواح التي تسكنها بذلك نفسا فتظل حالة بها لا تريم، ثم تفتقت أذهانهم عن خطة جديدة فغدوا يقتلون الإنسان وينحرون الحيوان ويقربونهما لأوثانهم، وبذلك نشأ منسك التضحية،
18
وكان أهم المناسك الدينية طرا عند جميع الشعوب في تلك الأعصر السحيقة في القدم، وبه فسر أول حادث قتل في العالم إذ فتك هابيل بقايين (قابيل)؛ لأن يهوه تقبل قربان قايين، وكان من اللحم، وأشاح عن قربان هابيل وكان من النبات.
كان الفينيقيون والقرطاجنيون
19
ومن إليهما من الشعوب السامية يقدمون القرابين البشرية للإله ملخ (بضم الميم) - أي الملك - وعندما حصرت مدينة قرطاجنة سنة 307ق.م حرق أهلها على مذبح هذا الإله مائتي غلام من أبناء السراة. وكانوا في سورية إذا ما حزبهم أمر يحرقون بعض الأطفال، ثم أصبحوا يكتفون بختنهم أو ببذل قدر من المال قربانا لبعل أو عشتورت.
لقد رتع الآلهة في لحوم البشر ردحا من الدهر. فلما ارتفعت الحضارة وغدا الناس يبدون امتعاضهم من التضحية بأفلاذ أكبادهم انصرف الآلهة عن لحم الإنسان إلى لحم الحيوان؛ ونرى صورة لذلك في قصة إبراهيم حين يمسك عن ذبح ابنه إسحاق ويفتديه بكبش. (5) الآلهة
وما عتم الناس أن آثروا الاقتصاد في الوقت واليسر في العبادة؛ فانتهجوا طريقة الأعمال الكبيرة، وذهبوا إلى أن هناك إلها أعظم يهيمن على الآلهة الصغار. كان كهنة سوريا يعترفون بالإله الأعظم «ألو» (المشابه لألوهيم اليهود) في الوقت الذي كانوا يعبدون فيه الإله «بعل»، وكانوا في بابل في عصر بختنصر ومن قبله ينادون بأن «مردك» (بضم الدال) هو الإله الخالق دون أن يمحو ذلك عبادة سائر الآلهة، فالاعتراف بالإله الخالق ليس هو الإقرار بالوحدانية.
وأخلت أديان الآلهة المتعددة والأصنام الكثيرة الطريق آخر الأمر للإيمان بإله واحد لا يجشم الخلق عناء الحج إليه في موطن بعينه، بل يجدونه أينما ولوا وجوههم؛ لأنه حال بكل مكان. وزعم كل شعب أن إلههم هذا هو الذي أنزل عليهم شريعتهم؛ فالإله «شمش » إله الشمس هو واضع قانون حمورابي ملك بابل، و«أهورا-مزدا» هو الذي حبا زرادشت بالناموس في فارس حين راح هذا يصلي فوق جبل شاهق، و«زيوس» هو الذي أعطى الملك منيوس فوق جبل دكتا (بكسر الدال) الشريعة التي حكمت بمقتضاها جزيرة كريت ... وهلم جرا. (6) السحر عند الوثنيين
الآن، وقد اكتسب الذكاء الإنساني حدة وازدادت المعرفة البشرية سعة، أصبحنا نعلم عن يقين أنه ما من صلة بين سلوك الإنسان وظواهر الطبيعة؛ فمهما بلغ امرؤ أو شعب من سوء السيرة ولؤم السريرة، ومهما أتى هذا المرء أو هذا الشعب من المناكر وطالح الأفاعيل
20
فلن يحدث ذلك زلزالا أو يعقب طوفانا أو يحبس السماء فتجدب الأرض؛ ونعلم كذلك أن الصاعقة قد تنقض على الطيب والخبيث بدرجة سواء؛ فالطبيعة لا ترمي إلى هدف معلوم، وإنما هي تنتج بلا غرض وتحطم بلا سبب.
وقد كان البدائيون على غير بصر بما نعرفه اليوم من بواعث المرض؛ فالأمراض كلها ترجع عندهم إلى ما وراء الطبيعة ولا دواء لها غير السحر. لقد كانوا لا يعرفون حدا تقف عنده قوى الروح في إيلاء الشر وإيتاء الخير؛ ولذا عملوا على تألفها بالابتهال إليها؛ ومن هنا نشأت صلاة الوثنيين وسائر شعائرهم واحتفالاتهم الدينية وفشت عبادة الأرواح وإزلاف القرابين لها والتفنن في إقناع الأرواح الخيرة بمديد المعونة إليهم، وذلك أصل السحر؛ وهو فن الاستعانة بقوى وطاقات من وراء الطبيعة غير منظورة؛ وذلك لبلوغ أغراض مخصوصة يتعاصى بلوغها بالوسائل الطبيعية المألوفة والأساليب المنطقية المعروفة، ويتم ذلك بإتيان حركات معلومة وترديد كلمات مرسومة.
ويقوم السحر على مبدأين أساسيين يكونان معا ما يمكن تسميته ب السحر العاطفي
sympathetic magic
وهذان المبدآن هما: (1)
السحر بأشباه الأشياء
homoeopathic magic
ينتج الشيء ما يشبهه، وتأتي النتائج من جنس المقدمات، فإذا عرف الساحر المحنك بخبرته أن المطر وشيك الانهمار شرع يستسقي للقوم؛ وذلك بأن يسكب بعض الماء على الثرى ويقعقع
21
قارورة فيها حصى؛ فيحدث ذلك صوتا يحاكي ما يصحب المطر من هزيم.
ولقد كانوا في إنجلترا إلى عهد قريب يعالجون الرمد بنبات الفراسيون
eyebright
لأن زهرته تشبه العين، وكانوا في ألمانيا يعالجون اليرقان بأشياء صفراء فاقع لونها كالذهب والزعفران. (2)
السحر بما بين الأشياء التي ينفصل أحدها عن الآخر من صلة غير مقطوعة
contact magic .
إن الأشياء التي كانت مرة موصولا بعضها ببعض تحتفظ بقوة تفاعل بينهما حتى بعد أن تنفصم تلك الصلة؛ ولهذا يتخذ «أثر» الشخص وسيلة للكيد له والنيل منه. (7) السحر عند العبريين
سار العبريون فيما يتصل بأوهامهم ووساوسهم الدينية على النهج الذي سارت عليه سائر العشائر البدائية؛ فبدءوا بتعاطي السحر. وقد رووا وقائع كثيرة أنجز فيها السحر ما أريد منه، وخلفوا «وصفات» شتى لكيفية قتل امرئ أو إيذائه بالسحر ولطريقة اجتذاب المحبوبة إلى من يهواها وحملها على أن تطارحه الهيام.
والكتاب المقدس حافل بالشواهد على إيمان اليهود بالسحر.
فعندما احتشدت جحافل الفلسطينيين لذود الغزاة من بني إسرائيل وطفق الكهنة يكيدون شاول ويزعمون له أن الرب حال عن مودته وكف عن نصرته؛ تلبد الجو في وجهه وأعيت عليه معالجة الخطر الخارجي والداخلي في آن، وأراد أن يستخير
22
ربه فإذا هو قد تجمدت قريحته وتبلدت مخيلته حتى استعصى عليه أن يرى رؤيا يفسرها بما تشاء له وساوسه وأوهامه، ولم يجد بدا من الانصراف إلى الجان عوضا عن الآلهة، واللواذ بالسحرة بدلا من الأنبياء: «فقال شاول لعبيده: فتشوا لي على امرأة صاحبة جان فأذهب إليها وأسألها. فقال له عبيده: هو ذا امرأة صاحبة جان في عين دور. فتنكر شاول ولبس ثيابا أخرى وذهب ... فقالت المرأة: من أصعد لك؟ فقال: أصعدي لي صموئيل،
23
فلما رأت المرأة صموئيل صرخت بصوت عظيم. وكلمت المرأة شاول قائلة: لماذا خدعتني وأنت شاول؟
24
فقال لها الملك: لا تخافي
25
فماذا رأيت؟ فقالت المرأة لشاول: رأيت آلهة
26
يصعدون من الأرض. فقال لها: ما هي صورته؟ فقالت: رجل شيخ صاعد وهو مغطى بجبة. فعلم شاول أنه صموئيل فخر على وجهه إلى الأرض وسجد. فقال صموئيل لشاول: لماذا أقلقتني بإصعادك إياي. فقال شاول: قد ضاق بي الأمر جدا ... فقال صموئيل: ولماذا تسألني والرب قد فارقك وصار عدوك ، وقد فعل الرب لنفسه كما تكلم عن يدي، وقد شق المملكة من يدك وأعطاها لقريبك
27
داود» (1 صموئيل 28: 5-17).
وليست تعزب عنا تلك المباراة التي قامت بمشهد من فرعون بين سحرة مصر وبين النبيين اليهوديين الوافدين من مدين في إحالة العصي حيات وثعابين، ولنا أن نعد من هذه البابة ما حدث في برية سينا حين أبدى بنو إسرائيل الآبقون
28
من مصر تذمرهم من التيه الطويل في تلك المفاوز
29
الوعرة التي مكثوا يضربون فيها أعواما دون أن يجدوا سبيلا منها إلى خروج واستبشاعهم الطعام المسيخ
30
الذي كتب عليهم أن يتجرعوه وهم لا يكادون يسيغونه
31
وتأذيهم من الحيات التي وقعوا بين أنيابها فما انفكت تثخنهم لدغا حتى بدا لموسى أن يجتزئ بما أصابهم وأن يكف عنهم هذا الأذى: «فصنع موسى حية من نحاس ووضعها على الراية، فكان متى لدغت حية إنسانا ونظر إلى حية النحاس يحيا» (عدد 21: 9).
وقد سحق هذه الحية بعد 8 قرون حزقيا بن آحاز ملك يهوذا بين ما حطمه من أصنام وأنصاب: «هو أزال المرتفعات وكسر التماثيل وقطع السواري وسحق حية الناس التي عملها موسى لأن بني إسرائيل كانوا إلى تلك الأيام يوقدون لها ودعوها نحشتان» (2 ملوك 18: 4).
هذا وقد فصلت الأسطر الأولى من سفر التكوين كيف سلك الله في خلق الكون نهجا يذكرنا بصنع السحرة: «وقال الله: ليكن نور فكان نور» (تكوين 1: 3).
ويغنينا عن المزيد من الاستشهاد أن يهوه نفسه قال صريحا: «لا تدع ساحرة تعيش» (خروج 22: 18).
وهي الآية الكريمة التي أزهقت بمقتضاها حياة الألوف من البشر متهمين بجرائم لم يكن في طوقهم أن يقارفوها.
وقد ظل السحر عالي الشأن عميق الأثر حتى القرون الوسطى. وكان الأقدمون يؤمنون أن ممارسة السحر عمل اختصت به النساء دون الرجال أو أن الغلبة لهن في ممارسته؛ ولهذا كانت كثيرة المتهمين بممارسته من النساء، والنساء في نظر الإكليروس مفطورات على الشر.
32
والساحرة في صورتها المحدثة امرأة وثيقة الصلة بالشيطان لها مقدرة على إتيان الخوارق تحلق بين آن وآخر في الهواء فيما بين الجمعة والسبت من ليالي الأسبوع ممتطية مكنسة ذات عصا، فتؤم ندوات مختلفة تتنادى فيها الساحرات فوق قنن الجبال الشاهقة لتجديد البيعة للشيطان وإظهار الولاء له، وتخرج الساحرة إلى رحلتها هذه لا جهرة من باب البيت بل خفية من ثقب المفتاح أو من مدخنة المدفأة، ويرقد في فراشها في أثناء غيبتها شيطان من الشياطين الصغيرة الشأن متخذا زيها، ويحضر الندوة شيخ الشياطين في هيئة جدي ذي رأسين، فيمضين إليه يلثمنه، ويرقص لفيف منهن عاريات بين يديه، ثم يقبلن جميعا على الطعام والشراب على حين يجوس هو خلالهن متفحصا باحثا عن العلامة التي كان قد وسمهن بها.
وكان على من تقرف بممارسة السحر أن تعترف بجريرتها، فإن لم تفعل طوعا أجبرت على ذلك كرها، فإذا تجنت على نفسها استنجاء من سوء العذاب لم يكف الزبانية عن تعذيبها؛ إذ إن الاعتراف المطلوب منها لا يصح أن يقتصر على ما يتصل بشخصها بل يجب أن يتناول كذلك كل من تعرف (المتهمة) أنهن حلائف الشيطان؛ ومن ثم كانوا يستأنفون تعذيبها ولا يمسكون عن إذاقتها أنكى ضروب التعذيب حتى تدلي بأسماء من شهدت في ندوة السواحر من أهل القرية (أو الحي) أو بصفاتهن، فيشد عليهن وتستنطق كل منهن بالطريقة عينها، فتعترف على نفسها ثم تدلي بما يعن لها من أسماء ... وهلم جرا. وكان يقال للزوج وهو يعلم أن زوجته لم تفارق فراشه، إن ضجيعته في تلك لم تكن حليلته حقا بل كانت شيطانا يتزيا بزيها. وكان المألوف أن يخنقوا الساحرات بأيديهم فيمتن دون أن تهرق دماؤهن، ثم يحرقوا جثثهن فينبعث منها قتار
33
كذلك الذي ينبعث من محرقات اليهود.
وقد عبد الساحر الطريق أمام الحبر
34
اليهودي، وليس ذلك بالأمر الذي يعسر فهمه، فهما صنوان ولدا معا وشبا وترعرعا معا ولبثا معا يعيشان على خرافات ما وراء الطبيعة ويمارسان وظيفتهما بإقامة شعائر ومناسك خاصة بكل منهما؛ فالساحر يستعين الرقى والعزائم على إخضاع القوى التي تعلو قوة البشر وإملاء إرادته عليها، على حين يتوسل رجل الكهنوت إلى هذه القوى بدعوته إياها بألفاظ مهذبة . وهذا الفرق بين الأسلوبين وليد التباين العقلي والثقافي بين الساحر ورجل الدين، وكذلك بين جمهور هذا وجمهور ذاك، وثم في بعض الأحيان ما يشبه أن يكون تعاونا بين الطائفتين؛ إذ إن بين رجال الكهنوت من يدللون على صدق مزاعمهم حول عالم ما وراء الطبيعة وخلود أرواح البشر وصدق المعجزات المنسوبة إلى أنبياء بني إسرائيل (كوقف الشمس والقمر عن الدوران) بما يروجه السحرة ومحضرو الأرواح المحدثون من الأضاليل وما يدعون إتيانه من الخوارق والأعاجيب، وكذلك بين المشعوذين من يستشهدون على صحة دعاواهم في فعل السحر وتسخير الجان قديما وحديثا بما ورد في هذا المعنى من آي الكتاب المقدس.
وقد نشأ الدين اليهودي مشوبا بالوساوس والأوهام التي كانت تهيمن على أولئك البدو البدائيين، ولم يكن في أول مراحله غير أمشاج
35
من الأساطير والوصايا؛ أي التابوات المؤسسة على المذهب الحيوي والسحر العاطفي؛ ولهذا كان يتضمن أوامر ونواهي تغمض حكمتها على القارئ ما لم يكن على بصر بما كان للإيمان بالسحر من دخل في تحبير هذه الأقوال: «لا تزرع حقلك صنفين لئلا يتقدس الملء الزرع الذي تزرع ومحصول الحقل. لا تحرث على ثور وحمار معا ... لا تلبس ثوبا مختلطا صوفا وكتانا معا» (تثنية 22: 9-11).
ولهذا جرت جمهرة القراء على أن تغضي عنها وتجاوزها إلى ما يليها.
انظر - مثلا - إلى ما يتصل بالإحصاء الذي أجراه داود: «وعاد فحمي غضب الرب على إسرائيل فأهاج عليهم داود قائلا: امض وأحص إسرائيل ويهوذا ... فكان إسرائيل ثمانمائة ألف رجل ذي بأس مستل السيف، ورجال يهوذا خمسمائة ألف رجل
36
وضرب داود قلبه بعدما عد الشعب، فقال داود للرب: لقد أخطأت جدا في ما فعلت. والآن يا رب أزل إثم عبدك لأني انحمقت جدا ... فجعل الرب وبأ في إسرائيل من الصباح إلى الميعاد فمات من الشعب من دان إلى بئر سبع سبعون ألف رجل» (2 صموئيل 24: 1-15). (1)
فلم احتاج الإحصاء إلى «إهاجة» داود؟ (2)
ولماذا استحمق داود نفسه بعدما عد الشعب؟ ولماذا عرض له أنه أغضب الرب (أي الكهنة)؟ (3)
ولماذا استبد به الفزع حتى لدم
37
صدره؟ (4)
وما هو هذا الإثم الذي سأل الرب أن يزيله، والذي وجب أن تكون تحلته 70000 رجل؟
ألا إنها لأمور يعجز العقل المنطقي المتحضر عن استكناه أسبابها ويعييه الاهتداء إلى سرها؛ لأن مفتاحها إنما هو فيما يزعمونه من التفاعلات السحرية العاطفية كما سنرى من بعد.
هذا وفي مناسك العبريين، غير ما تقدم، أمور كثيرة يعيا بها الفهم ويكل عنها النظر إلا أن يهتدي إلى جذورها في ألفاف
38
الأساطير، ومن ذلك اتخاذ الطلاسم والعوذات استجلابا لليمن، وإناطة التمائم تحرزا من قوى الشر، والابتهال والصلاة والجثو على الركبتين والصيام عن تناول بعض الأطعمة ... إلخ إلخ. (8) التابو وليد الإيمان بالسحر
تكشف لنا أساطير
39
العهد القديم «وأقاصيصه»
40
عن كثير من معتقدات الإسرائيليين الغابرين، ومنها نتبين فرط تخبط أولئك القوم في دياجير الجهالة؛ ولنضرب لذلك مثلا قصة يونان
41
وهو الذي يعرفه العرب باسم يونس: «وصار قول الرب إلى يونان بن أمتاي قائلا: قم اذهب إلى نينوى
42
المدينة العظيمة وناد عليها؛ لأنه قد صعد شرهم أمامي. فقام يونان ليهرب إلى ترشيش
43
من وجه الرب، فنزل إلى يافا، ووجد سفينة ذاهبة إلى ترشيش فدفع أجرتها ونزل فيها ليذهب معهم إلى ترشيش من وجه الرب
44
فأرسل الرب ريحا شديدة إلى البحر فحدث نوء
45
عظيم في البحر حتى كادت السفينة تنكسر. فخاف الملاحون وصرخوا كل واحد إلى إلهه ... وقال بعضهم لبعض: هلم نلقي قرعا لنعرف بسبب من هذه البلية. فألقوا قرعا فوقعت القرعة على يونان. ... فقالوا له: ماذا نصنع بك ليسكن البحر عنا؟ لأن البحر كان يزداد اضطرابا. فقال لهم: خذوني واطرحوني في البحر فيسكن البحر عنكم؛ لأنني عالم أنه بسببي هذا النوء العظيم عليكم.
46 ... ثم أخذوا يونان وطرحوه في البحر فوقف البحر عن هيجانه، فخاف الرجال من الرب خوفا عظيما وذبحوا ذبيحة للرب ونذروا نذورا. وأما الرب فأعد حوتا
47
عظيما ليبتلع يونان، فكان يونان في جوف الحوت ثلاثة أيام وثلاث ليال» (يونان 1: 1-17).
هذا، وقد سجل «العهد» في طياته غير قليل من المعتقدات المؤسسة على المذهب الحيوي والسحر العاطفي ، ارتضاها أحبار بني إسرائيل وأدمجوها في أسفارهم المقدسة: (1)
فالابن يرث من أبيه آثامه كما يرث منه قسمات وجهه؛ ومن ثم كان الابن يؤخذ بجريرة أبيه.
48 (2)
ومن الميسور أن تنقل الآثام كما تنقل الأثقال من كاهل إلى كاهل؛ ومن هنا نشأ منسك نقل الذنوب من بني الإنسان إلى تيس يطلقه الكاهن في القفر.
49 «ويضع هارون يديه على رأس التيس الحي ويقر عليه بكل ذنوب بني إسرائيل وكل سيئاتهم مع كل خطاياهم ويجعلها على رأس التيس ويرسله بيد من يلاقيه إلى البرية؛ ليحمل التيس عليه كل ذنوبهم إلى أرض مقفرة فيطلق التيس في البرية» (لاويون 16: 21-22). (3)
قد يولد الطفل وبجسده علامة شبيهة بشيء وقع عليه بصر الأم في أثناء حملها به، وفي استطاعة الحامل أن تكسب الجنين الذي في أحشائها شبه شيء ما وذلك بأن ترنو
50
إليه طويلا.
ويمكن إحداث هذه الظاهرة في الحيوانات أيضا. ومن ذلك أن يعقوب عندما حان له أن يفصل
51
عن بيت خاله وحميه لابان سأله أن يوفيه أجر خدمته إياه، وعرض عليه أن يكون جعله ما يولد من الغنم وبه رقشة
52
أو تفويف.
53 «فأخذ يعقوب لنفسه قضبانا خضراء من لبنى
54
ولوز ودلب،
55
وقشر فيها خطوطا بيضاء كاشطا عن البياض الذي على القضبان. وأوقف القضبان التي قشرها في الأجران في مساقي الماء حيث كانت الغنم تجيء لتشرب. فتوحمت
56
الغنم عند القضبان، وولدت الغنم مخططات ورقطا
57
وبلقا»
58 (تكوين 30: 37-39). (4)
إذا أغلي اللبن أصيبت البقرة التي أدرته بجفاف ضرعها، فثم صلة بين أنثى الحيوان ولبنها تظل قائمة بعد أن تدره.
59
ولهذا نجد أخرى الوصايا الموسوية العشر (في صيغتها القديمة) تنهى عن الجمع بين اللحم واللبن على مائدة واحدة: «لا تطبخ جديا بلبن أمه» (خروج 34: 36).
ويحافظ المسيحيون المتزمتون على هذه الوصية اللهمة فيطهون اللحم بالزيت لا بالزبد. (5)
ومن الميسور إنجاز عمل مرغوب فيه بصنع ما يحاكيه؛ فيسدد المرء خنجرا أو شظبة حادة من العظم نحو العدو مع صب اللعنة عليه في أثناء ذلك، ويطلق ألوانا من الطيب نحو الحبيب الذي تهفو إليه النفس وتود اجتذابه، مع مناغاته خلال ذلك بألفاظ التحبب والتدليل، ويؤدي بفمه حركات امتصاص لاستخراج السموم من أجسام الأصدقاء ولإبرائهم من الأمراض. (6)
ويواري المرء منهم قلامة ظفره وقصاصة شعره وما إلى ذلك مكانا خفيا؛ حتى لا تحرق أو تسحق أو تمزق فيلحقه ما لحق ذلك «الأثر». (7)
وينطوي تمثال المرء على شطر من روحه؛ فمن لقي بين يديه تمثالا تسنى له التوسل به إلى إيذاء النموذج الذي نحت التمثال على قوامه أو صيغ على غراره،
60
ومن ثم جاءت الوصية الثانية تنهى عن صنع التماثيل، ولم تكتف بنص واحد جلي قاطع، بل كررت النهي في ألفاظ منتقاة، وفصلت القول في بيان جامع مانع: «لا تصنع لك تمثالا منحوتا ولا صورة ما مما في السماء من فوق وما في الأرض من تحت وما في الماء من تحت الأرض» ... (خروج 20: 4).
وكان العبرانيون في وقت ما يتحامون التلفظ بكلمة «تمثال»؛ إذ غدت التماثيل عند أولئك الجهلة الموسوسين
61 «تابو»؛ وذلك من خشيتهم أن تنشأ صلة عاطفية بين التماثيل والأشياء التي هي صورة لها.
62
وكان كليمنس الإسكندري يرى في تطلع المرأة إلى خيالها في المرآة انتهاكا للوصية الثانية؛ إذ إنها بعملها هذا تصنع لنفسها تمثالا.
ويهم بعض الناس أن من يحم مرآة يتبدد جده وسعده كما يتبدد شبهه مع كسارها المتناثر؛ وإلى هذا الاعتقاد ترجع عادة حجب المرايا أو إدارتها إلى الخلف عندما يموت أحد سكان البيت حتى لا يختطف شبح الميت، وهو يجوس خلال الدار أو حواليها، الروح التي تبرز من أحد أهل البيت في المرآة. (8)
وكذلك يكون اسم الشخص جزءا من روحه، والمرء لا يحرز روحه قبل أن يحرز اسمه
63
فعلى المرء أن يخفي اسمه مخشاة أن يصاب عن طريقه بما يلقي به إلى التهلكة وأن يحمله الاسم المعلن على المعاطب وينغص عليه عيشه.
64
وفي ميسور المرء إذا عثر به الجد أن يغير حظه بتغيير اسمه. ويمسك اليهودي عن إطلاق أسماء من ماتوا من أطفاله على من يولدون له من بعد؛ إذ إن عزرائيل متى جهل اسم طفل تعذر عليه أن يقبض روحه. وما فتئ بعض اليهود إلى اليوم يطلقون على مرضاهم أسماء جديدة حتى يخطئهم ملك الموت، وتراهم إذا ذكر لهم اسم أحد الموتى يستعيذون من روحه بقولهم: «أفاشولم»؛ أي فلترقد روحه بسلام.
وهذا التابو هو الذي يمنع اليهود من ذكر الاسم السري لإلههم
65
بزعم أنهم بذلك يدرءون عن العالم وقوع كارثة تطيح به. وعندهم أن ذلك الإله قد خلق العالم بأن جعل فمه ينطلق باسمه فإذا العالم قد وجد بعد أن لم يكن. ويعتقد المسيحيون أن العالم قد خلق بما لبعض الكلمات من قوة سحرية: «في البدء كان الكلمة، والكلمة كان عند الله، وكان الكلمة الله» (يوحنا 1: 1).
ويشتمل الكتاب المقدس على أسماء ذات قوة سحرية، فمن عرف خواص تركيب الحروف استطاع تسخيرها في الإتيان بالعجائب والتسلط على قوى الشر غير المرئية. وقد أصبح العرافون والكهنة والسحرة، لمعرفتهم التركيب السري للأسماء الإلهية، على صلة بالسماء؛ تسنى لهم ربط القوى السماوية بما يقع لبني الإنسان من أحداث.
وفي الكتاب المقدس شواهد كثيرة على ما لاسم الله من قوة سحرية: «فيجعلون اسمي على بني إسرائيل وأنا أباركهم.»
66
ومن المتواتر عند اليهود أنه حدث في القرون الوسطى أن بدا لحاخام من القبليين
sefer yezirah
وهم فرقة صوفية النزعة، أن يرفع المظالم عن بني جنسه ويقتص لهم مما أنزله بهم أعداؤهم، فخلق من الطين «جولم»
golem
وهو صنم ضخم الجرم موثق
67
التجاليد
68
غير أنه لا قبل له بالكلام، ونقش على جبهته اسم الله، فدبت فيه الحياة ونشط يدمر ما أمامه ويجتاح ما في طريقه، فنظر الحاخام من ذلك وبدر إلى محو الاسم من فوق جبهة الصنم فإذا الصنم قد انهار ترابا.
ولأسماء الملائكة قوة سحرية؛ جاء في المعلمة (أي دائرة المعارف) اليهودية أن هانيل عم أرميا استحضر الملائكة عندما حاصر بختنصر بيت المقدس، واستعداها على البابليين فمدت له يد المعونة وأوقعت في قلوبهم الرعب فولوا فرارا، كما أنه استخدم الاسم الذي لا يمحى ورفع بذلك بيت المقدس في أجواز
69
الفضاء ليجعلها بمنجاة من أذى الأعداء. بيد أن يهوه كان قد اقتضت مشيئته أن يدع المدينة تسقط في أيديهم؛ ولهذا أعادها أدراجها وبدل الملائكة فاستعصى على هانيل إحضارهم إليه مرة أخرى.
وتستخدم أسماء بعض شخوص الكتاب المقدس في الوصول إلى نتائج سحرية: دانيال للسلامة من الحيوانات الضارية، وموسى لاتقاء النيران
70
ويوسف لدرء الاحتلام وللعصمة من الغواية ... وهلم جرا.
وثم آيات تتلى لأغراض خاصة؛ فهم يتلون لتلطيف أوجاع الولادة: «وافتقد الرب سارة كما قال، وفعل الرب لسارة كما تكلم، فحبلت وولدت لإبراهيم ابنا في شيخوخته في الوقت الذي تكلم الله عنه» (تكوين 21: 1-2).
ويتلون لاتقاء شرة الكلب العقور: «ولكن جميع بني إسرائيل لا يستن
71
كلب لسانه إليهم؛ لا إلى الناس ولا إلى البهائم؛ لكي تعلموا أن الرب يميز بين المصريين
72
وإسرائيل» (خروج 11: 7). (9)
هذا وقد يمس المرء غيره بخطر مبهم غامض دون أن يتوسل إلى ذلك بتمثاله أو باسمه أو بشيء من مخلفاته؛ وذلك بتشهي إحراز شيء من ممتلكاته أو من الاتصاف بشيء مما يتحلى به من المزايا؛ فإن الحسد ينفي عن المحسود ما يكتنفه من خيرات فلا يلبث أن ينضب ماله وتنفق ماشيته وكأنما غصبه حاسده ما كان في حوزته. وكم من رجل حسده حاسد فخرع
73
بدنه و«ربطت» أعضاؤه التناسلية فإذا هو مخرس إزاء نداء الجنس لا قبل له بإشباع رغبة أو خليلة. وموجز القول أن الحسد لا يعدو أن يكون ضربا من السحر آلته العين الخبيثة.
ولا ضير في أن يحسد العبري امرءا من «الأمميين»؛ فقد أباح يهوه لشعبه المختار أرواح أهل الأمم الأخرى، وجعل أموالهم غنيمة للإسرائيليين في الحرب والسلم على السواء.
74
وأجاز للإسرائيلي أن يقرضهم المال بالربا الفاحش: «للأجنبي تقرض بربا ولكن لأخيك لا تقرض بربا» (تثنية 23: 20).
وأن يطعمهم جيف الحيوانات النافقة: «لا تأكلوا جثة ما. تعطيها للغريب الذي في أبوابك فيأكلها أو يبيعها لأجنبي» (تثنية 14: 21).
أما في داخل نطاق بني إسرائيل فقد حرمت هذه الموبقات
75
تحريما قاطعا، وحظر على اليهودي أن يحسد قريبه؛ أي ابن قبيلته، وأخاه في العقيدة الدينية ؛ لأن فشو هذه الآفة في أسباط
76
اليهود يعرضها لخطر هو خفي ولكنه مقيم يرفرف على أعضائها جميعا؛ ولهذا جعل اشتهاء ممتلكات هؤلاء الأقرباء انتهاكا لتابو، فمن فعل ذلك أوشك أن يلحق الأذى بجماعته؛ ومن ثم حق لها أن توقع به أوبل عقاب: «ويل للمفتكرين بالبطل
77
والصانعين الشر على مضاجعهم. في نور الصباح يفعلونه لأنه في قدرة يدهم؛ فإنهم يشتهون الحقول ويغتصبونها والبيوت ويأخذونها ويظلمون الرجل وبيته والإنسان وميراثه؛ لذلك هكذا قال الرب: ها أنا ذا أفتكر على هذه العشيرة بشر لا تزيلون منه أعناقكم ولا تسلكون بالتشامخ لأنه زمان رديء» (ميخا 2: 1-3).
وقد أبانت الوصية العاشرة تفصيلات الاشتهاء فيما يأتي: «لا تشته بيت قريبك. لا تشته امرأة قريبك ولا عبده ولا أمته ولا ثوره ولا حماره ولا شيئا مما لقريبك»
78 (خروج 20: 17).
وكانت هناك ألفاظ خاصة يحرص اليهود على التفوه بها وحركات معلومة يلوحون بها استعاذة لأنفسهم ولأقربائهم من شر الحاسدين وتحرزا من كيد الأرواح الشريرة التي توشك أن تدهمهم بما يورثهم وهن الجسم وضعف العقل ويفقدهم الجمال وينبو بهم عن التوفيق في أعمالهم، فكانوا يدرءون عن أطفالهم شر الحسد بأن يضعوا في جيوبهم كسرة من الفطير غير الخمير وشيئا يسيرا من الملح. وكانوا إذا طاب لأحدهم أن يعبر عن إعجابهم بامرئ قدم لذلك بكلمة تبطل أثر الحسد، فيقول مثلا: «كننهور»
kenanhore
يا له من طفل جميل موفور العافية!
79
وإن هذا ليذكرنا بحادثة وقعت ذات مرة في إحدى المحاكم الأمريكية؛ إذ سأل القاضي شاهدا يهوديا عن عمره فلم يحر جوابا، ونبه أحدهم القاضي إلى أن هنالك تابو يحرم على اليهودي إحصاء ما عنده من أناس أو ماشية أو دواجن أو غيرها،
80
ويحظر عليه الإجابة عن الأسئلة التي تتصل بذلك ما لم يكن السؤال مسبوقا بكلمة مأثورة معينة. فأعاد القاضي السؤال مسبوقا بتلك الكلمة فقال أمبشرين
umbeshrien
كم أتى لك من العمر؟ فباح اليهودي بسنه. (10)
إذا سرق امرؤ أحد موطنيه
81
ولم يمسك بجريرته، وصب المسروق - بنفسه أو بوساطة كاهن - لعنته على السارق وهو لا يعرفه ، حلت اللعنة به ونالت منه. وقد نجم عن ذلك أنه إذا سرق امرؤ شيئا ثم عرض له عارض من مرض توهم أن ذلك ألم به من جراء إصابته، فلا يملك إلا الإقرار بجرمه ورد المتاع المسروق إلى صاحبه أو تعويضه منه حتى لا تظل اللعنة آخذة بمخنقه؛
82
ومن هنا جاءت الوصية الثامنة تحرم السرقة. (11)
وعندهم أن دم الإنسان أو الحيوان هو حياته، أو - على الأقل - أن روحه تكمن في دمه؛ ومن هنا نشأ تحريم أكل الدم عند اليهود. «لكن احترز ألا تأكل الدم؛ لأن الدم هو النفس، فلا تأكل النفس مع اللحم»
83 (تثنية 12: 23).
لقد اختص يهوه نفسه بالدم كله فهو على الأنام حرام: «فتذبح الكبش وتأخذ دمه وترشه على المذبح من كل ناحية» (خروج 29: 16). «ويذبح العجل أمام الرب ويقرب بنو هارون الكهنة الدم ويرشون الدم مستديرا على المذبح لدى باب خيمة الاجتماع» (لاويون 1: 5). «فذبحه وأخذ موسى الدم وجعل على قرون المذبح مستديرا بإصبعه، وطهر المذبح ثم صب الدم إلى أسفل المذبح وقدسه تكفيرا عنه» (لاويون 8: 15).
أما نصيب الإنسان من الذبائح فهو اللحم: «وقال شاول تفرقوا بين الشعب وقولوا لهم أن يقدموا إلى كل واحد ثوره وكل واحد شاته، واذبحوا ها هنا وكلوا ولا تخطئوا إلى الرب بأكلكم مع الدم» (1 صموئيل 14: 34).
واليهود المتزمتون
84
لا يمتنعون من أكل الدم الخالص
85
فحسب، بل إنهم يتورعون كذلك عن أكل اللحم ما لم يستصف تماما من الدم، وذلك بنقعه في الماء وتمليحه ثم تجفيفه ونزع الأوعية الدموية منه مع تلاوة دعاء خاص عند ذبح الحيوان تكفيرا عن سفك دمه.
وإذا سفك امرؤ دم آخر خرجت روح القتيل من جثمانه مع الدم ولم تنفك تجأر بالشكوى: «صوت دم أخيك صارخ إلي من الأرض» (تكوين 4: 10).
وكان العرب يزعمون أن القتيل المطلول الدم؛ أي الذي لم يقتص له، يظهر عند قبره طائر ليلي صغير يقال له: الهامة. وقد يسمى الصدى، ولا ينفك يصرخ قائلا: اسقوني. حتى يؤخذ بثأره. ومن ذلك قول ذي الإصبع العدواني:
يا عمرو إلا تدع شتمي ومنقصتي
أضربك حيث تقول الهامة اسقوني
ولا تزال بالقاتل حتى تواريه في رمسه.
86
ومن هنا نشأ تحريم سفك الدم ووجوب تطهر الجنود بعد القتال من إهراق دم العدو ومن لمسه؛ حتى لا ينقلوا ذلك الدم إلى عشيرتهم فتنتقل معه أرواح القتلى من الأعداء فيتاح لها الاقتصاص من قتلة أصحابها؛ ومصداق ذلك قول موسى لجنوده وقد عادوا بعدما أعملوا السيف في رقاب أهل مدين: «وأما أنتم فانزلوا خارج المحلة سبعة أيام، وتطهروا كل من قتل نفسا، وكل من مس قتيلا في اليوم الثالث، وفي السابع أنتم وسبيكم وكل متاع من جلد، وكل مصنوع من شعر معز، وكل متاع من خشب تطهرونه» (عدد 31: 19-20).
وهم يستشعرون التنجس من سيلان الإفرازات المنوية عند مباشرة القربان
87
كما يستشعرون التنجس من سيل الدم عند القتل؛ ومن ثم وجب التطهر من هذا كما وجب التطهر من ذاك: «إذا حدث من رجل اضطجاع زرع يرحض كل جسده بماء، ويكون نجسا إلى المساء. وكل ثوب وكل جلد يكون عليه اضطجاع زرع يغسل بماء، ويكون نجسا إلى المساء» (لاويون 15: 16-17).
وقد فرض عليهم أن يتطهروا بعد الاحتلام أيضا: «إذا خرجت في جيش على أعدائك فاحترز من كل شيء رديء. إن كان فيك رجل غير طاهر من عارض الليل يخرج إلى خارج المحلة، لا يدخل إلى داخل المحلة. ونحو إقبال المساء يغتسل بماء، وعند غروب الشمس يدخل إلى داخل المحلة» (تثنية 23: 9-11).
وعندهم أنه إذا باضع
88
الرجل زوجته في أثناء نشوب الحرب زايلته المقدرة على أن يصرع عدوه، فإذا أصيب هو بجرح أودى الجرح بحياته؛ ولهذا أبى أوريا الحثي أن يمتثل لما رسمه
89
له الملك داود من الرجوع إلى بيته ليغشى امرأته «بتشبع»: «فقال داود لأوريا: أما جئت من السفر، فلماذا لم تنزل إلى بيتك؟ فقال أوريا لداود إن التابوت وإسرائيل ويهوذا ساكنون في الخيام وسيدي يوآب
90
وعبيد سيدي نازلون على وجه الصحراء، وأنا آتي إلى بيتي لآكل وأشرب وأضطجع مع امرأتي»
91 (2 صموئيل 11: 10-11).
وثم صلة عاطفية بين الزوجة وزوجها كتلك التي بين البقرة وما تدره من اللبن؛ فإذا أقدمت المرأة على الزنا ركب ذلك زوجها بالأذى؛ ولهذا أصبح الزنا «تابو» سجلته الوصية السابعة في قولها: «لا تزن» (خروج 20: 14).
هذه الوصية لم تصدر عن إحساس خلقي ولا هي تمت إلى القيم الخلقية المعروفة في هذا العصر؛ فإن قواعد الأخلاق
ethics
لم تكن قد ارتقت في الزمن الذي كتبت فيه الوصايا العشر إلى مستوى يعد فيه الزنا عملا ينطوي على سوء الخلق، وإنما كان النهي عن الزنا مجرد وصية تسجل تابو. وقد يكفي للدلالة على ذلك أن الكتاب المقدس ردد كلمة «الزنا» ومشتقاتها ما يربي على خمسمائة مرة على حين أن كلمة «الخلق»
moral
لم يرد لها ذكر فيه البتة. (9) الوصايا العشر
ينوه الكهنة بالوصايا العشر ويحفونها بهالة من القدسية زاعمين أنها أول شريعة أخرجت للناس وأنا أس الفضائل، وهو زعم لا ينهض على أساس من العلم ولا يدعمه سند من التاريخ؛ فقد سبق المصريون العبريين في سن التشريعات ورعاية الآداب، وكذلك سبقتهم شعوب قديمة أخرى.
وقد أسفر التحليل العلمي لهذه الوصايا عن: (1)
أنها خاصة بمن يسمونهم شعب الله المختار وحدهم، وهذا واضح من مقدمتها. «أنا الرب إلهك الذي أخرجك من أرض مصر من بيت العبودية» (خروج 20: 2). (2)
أنها تفتقر إلى الوضوح والتحديد.
فالوصية السادسة - مثلا - «لا تقتل» لا تبين لنا هل هي تحرم قتل الإنسان وحده أو قتل الحيوان أيضا؟ وهل هذا التحريم يشمل القتل دفاعا عن النفس من شرة إنسان أو ضراوة حيوان؟ وهل هي تحرم قتل الحيوان للاغتذاء بلحمه؟ وهل هي تحرم على الجلاد إنفاذ حكم القتل في المحكوم عليهم به؟
والوصية الثامنة «لا تسرق» ليس من الواضح هل هي خاصة بسرقة الممتلكات المادية وحدها أو هي تنطبق كذلك على من يسرق من أحد أصدقائه خطيبته، وعلى من يستولي على دراجة غيره ليتنزه بها ساعة ثم يعيدها مكانها؟ وهل هي تنطبق على تزوير الصكوك وتزييف النقود، وهما أمران لم يكن للناس بهما عهد في العصر الجاهلي إبان ظهور التوراة؟ (3)
إنها تناقض أمورا أخرى أوصى بها «العهد القديم».
فمن ذلك أنها تنهى عن القتل على حين أن موسى أمر بالقتل الجماعي دون رحمة وبلا تمييز بين الرجال والنساء والأطفال؛ فقد حدث أنه أرسل جيشه لإبادة شعب مدين، فأعمل الجيش سيوفه في رقاب الرجال ثم أشعل النيران في مساكنهم فذهبت ربوعهم وقراهم طعمة للحريق، وأقفل الجيش راجعا يدق طبول النصر معتزا بما جلب من السبايا وما غنم من الماشية وما نهب من المتاع، وعلل قواده أنفسهم بما سيلقاهم به موسى من الحفاوة والبشر، فإذا بكليم الله قد تمعر وجهه وصب عليهم جام
92
غضبه معربا عن فرط سخطه لأنهم استحيوا النساء والأطفال، وما كان ينبغي لهم، وأمرهم بأن يبادروا فيستأصلوا شأفة الأسرى جميعا لا يستبقون منهم إلا العذارى: «فالآن اقتلوا كل ذكر من الأطفال، وكل امرأة عرفت رجلا بمضاجعة ذكر اقتلوها» (عدد 31: 17).
ومن ذلك أيضا أنها تنهى عن السرقة على حين أن موسى حرض بني إسرائيل على أن يسرقوا المصريين قبل أن يبرحوا بلادهم: «فيكون حينما تمضون أنكم لا تمضون فارغين، بل تطلب كل امرأة من جارتها ومن نزيلة بيتها أمتعة فضة وأمتعة ذهب وثيابا وتضعونها على بنيكم وبناتكم فتسلبون المصريين» (خروج 43: 21-22). (4)
ولم يكن المقصود بها هو الحث على الفضيلة والنهي عن الرذيلة على حسب المعنى المفهوم في هذه الأيام، بل كان للتحذير من بعض أمور يعتقد أنها تولد أخطارا جسيمة وتعقب نتائج وخيمة لا يقتصر أذاها على الذين ظلموا منهم خاصة بل يعم الجماعة كلها إذ هي متضامنة في السراء والضراء.
93
لهذا جاءت أغلب الوصايا العشر في صيغة النفي؛ فهي لا تقول: كن مسالما، كن نزيها، كن عفيفا، بل تقول: لا تقتل، لا تسرق، لا تزن، لا تشهد على قريبك شهادة زور.
94
ويتضح مما تقدم أن هذه الوصايا بنيت على أوهام العبريين القدماء ووساوسهم المؤسسة على المذهب الحيوي والسحر العاطفي وإن غايتها القصوى هي توكيد سريان بعض التابوات التي فرضت عليهم منذ أقدم عصور جاهليتهم وتجنيبهم عقبى اللعنات الفتاكة التي هي قمينة أن تعصف بهم إذا انتهكت تلك التابوات. (10) جهالة العبريين
وهذا الذي أثبتناه فيما يتصل بالوصايا العشر يصدق كذلك على «العهد القديم» كله؛ فهو سجل لإيمان العبريين بالسحر يبين عن قصور معارفهم، لا فيما استحدث بعدهم من المعلومات فحسب (كدوران الأرض، ونظام كوبرنكس، وقوانين كبلر، وجاذبية الثقل، وعدم قابلية المادة لأن تستحدث وأن تفنى) بل كذلك في الأمور التي كان يعرفها معاصروهم وأسلاف معاصريهم من الشعوب العريقة في الحضارة والمدنية؛ فقد كان الصينيون - مثلا - يفقهون الشيء الكثير من سبح الأجرام السماوية في مسالكها، وكانوا يحسبون آجال الكسوف والخسوف، حتى لقد حاكموا في سنة 2169ق.م عالمين فلكيين يدعيان «هو» و«هي»؛ لأنهما غفلا عن تنبيه القوم مقدما إلى كسوف للشمس كان وشيك الوقوع.
لم يكن العبريون في زمن «العهد القديم» إلا ألفافا من أشباه الإنسان؛ لا يحسنون غير السلب والنهب. وقد لبثوا إلى نهاية دويلتيهم الهزيلتين وهدم بيت المقدس سنة 70م مرتطمين في حمأة الجهالة. ومن اليسير علينا أن نستخلص من العهد القديم بيانا بطائفة من المعلومات لم ترق إلى معرفتها أذهانهم، فكان جهلهم بها مبعث أخطاء جسام تفشت بذلك الكتاب. ويمكننا القول بوجه عام إن أولئك العبريين لم يكونوا قادرين على تصور الأبعاد الشاسعة سواء ما يتصل بالزمان والمكان. لقد كانوا على غير بصر بأن الكائنات الحية تعمر الأرض منذ مئات الملايين من السنين؛ ولهذا زعموا أن الكون خلق سنة 4004ق.م، ولم يدر في أخلادهم أن النجم المسمى بالشعرى اليمانية
Sirus
يكبر عن شمسنا في الجرم 2688 ضعفا وأن النجم القطبي الذي يهتدي به الملاحون والسارون في الصحراء يبعد عنا 292000000000 ميل وأن الضوء النافذ الذي يتأدى إلينا من بعض النجوم بسرعة 85000 ميل في الثانية يقطع ما بيننا وبينها في 5000000 سنة؛ فالحياة في وهمهم غير موغلة في القدم، والأرض في ظنهم تشمل الشرق الأوسط وما يصاقبه
95
من الأصقاع ليس غير، والكون عندهم يتألف من شيئين متقابلين متكافئين هما السموات والأرض: «في البدء خلق الله السموات والأرض» (تكوين 1: 1).
وهم يرون الشقة بينهما غير شاسعة، أما ما يسمونه «الجلد» ويسميه العرب «الرقيع »؛ أي قبة السماء، فهو في حسبانهم جسم صلب أشبه شيء بلوح من زجاج يعلو علينا مئات من الأمتار هو مرفوع على عمد: «أسس السماء ارتعدت وارتجفت لأنه غضب» (2 صموئيل 22: 8). «أعمدة السماء ترتعد وترتاع من زجره» (أيوب 26: 11).
وهذا الجسم الصلب مرصع من باطنه بأجرام سماوية مضيئة على النحو الذي نرى به المصابيح والثريات في السقوف والجدران.
وبما أن الشمس والقمر في حسابهم لا يزيدان في الحجم كثيرا على المقدار الذي يبدوان به؛ فقد كان من الهين اليسير على نبي مثل يشوع بن نون أن يعبث بهما: «حينئذ كلم يشوع الرب يوم أسلم الأموريين أمام بني إسرائيل وقال أمام عيون إسرائيل: يا شمس دومي على جبعون ويا قمر على وادي أيلون. فدامت الشمس ووقف القمر حتى انتقم الشعب من أعدائه. أليس هذا مكتوبا في سفر ياشر؟
96
فوقفت الشمس في كبد السماء ولم تعجل للغروب نحو يوم كامل»
97 (يشوع 10: 12-14).
لقد كان مؤلف هذا السفر جاهلا بأصول الفلك كما كان جاهلا بمشاعر الرحمة؛ كان يجهل أن الأرض هي التي تدور حول الشمس، وأن ما يبدو وقوفا للشمس والقمر لو صح أنه حدث ما كان إلا وقوفا للأرض عن الدوران حول محورها، وهو أمر لو تحققت لأعقبت فجاءته حرارة صاعقة، وهكذا يستهان بإفساد نواميس الكون كيما يتسنى لقبيلة من الهمج أن تنتصر على قبيلة أخرى في ذلك اليوم نفسه بدلا من إرجاء الانتصار إلى اليوم التالي،
98
ولم يكن العبث بنواميس الكون يقف في مخيلة هؤلاء القوم عند حد؛ فقد طالعونا بمعجزة أخرى أعقبت معجزة يشوع بثمانية قرون وبزتها في روعتها؛ فقد ابتلي حزقيا بن آحاز ملك يهوذا بالقروح فجأر إلى إلهه بالدعاء، فاستجاب له يهوه. وأراد النبي الذي يعاصره، أشعيا بن آموص، أن يطمئن ذلك الملك بأنه سيبرأ من قروحه فأظهره على ما أوحى إليه. «قد سمعت صلاتك. قد رأيت دموعك. ها أنا ذا أشفيك. في اليوم الثالث تصعد إلى بيت الرب. وأزيد على أيامك خمس عشرة سنة» (2 ملوك 20: 5-6).
ولم يقنع الملك بكلام النبي، وطلب برهانا على صحة نبوءته، فاجترح النبي معجزته الباهرة، وفيها لم يكتف بوقف الأرض عن الدوران بل تمادى فركسها فانقلبت تدور في الاتجاه العكسي.
99
كان العبريون يذهبون إلى أن الله يقيم فوق الجلد متواريا في الظلام: «حينئذ تكلم سليمان. قال الرب إنه يسكن في الضباب»
100 (1 ملوك 8: 12). «وجعل الظلمة ستره حوله، مظلته ضباب المياه وظلام الغمام» (مزمور 18: 11).
وأنه كان ينزل بين الحين والحين من فوق الجلد إلى الأرض لبعض شأنه ثم يعود أدراجه: «فنزل الرب لينظر المدينة والبرج اللذين كان بنو آدم يبنونها» (تكوين 11: 5).
وأنه كان يقيم معه فوق الجلد أبناؤه، أولئك الذين هبطوا الأرض فراقتهم بنات الناس وخلبن ألبابهم فتزوجوا بعضهن ورزقوا منهن أولادا يمتازون ببسطة الجسم ووفرة القوة وشدة النهم: «وبعد ذلك أيضا إذ دخل بنو الله على بنات الناس وولدن لهم أولادا. هؤلاء هم الجبابرة الذين منذ الدهر ذوو اسم» (تكوين 6: 4).
وأنه كانت تقيم معه الملائكة أيضا وتنتقل جيئة وذهوبا بين الأرض والسماء، وذلك ما شاهده يعقوب في رؤيا له: «وإذا سلم منصوبة على الأرض ورأسها يمس السماء، وهو ذا ملائكة الله صاعدة ونازلة عليها، وهو ذا الرب واقف عليها فقال أنا الرب» (تكوين 28: 12-13). «فاستيقظ يعقوب من نومه وقال: حقا إن الرب في هذا المكان وأنا لم أعلم! وخاف وقال: ما أرهب هذا المكان! ما هذا إلا بيت الله وهذا باب السماء» (تكوين 28: 16-17).
وأنه كان يقيم معه كذلك بعض المقربين إليه من البشر:
منهم أخنوخ المعروف عند العرب باسم إدريس: «وسار أخنوخ مع الله ولم يوجد لأن الله أخذه» (تكوين 5: 24).
ومنهم إيليا التشبي، المعروف باسم إلياس. وقد كان يسير ذات مرة هو وتابعه أليشع: «وفيما هما يسيران ويتكلمان إذا مركبة من نار، وخيل من نار، ففصلت بينهما. فصعد إيليا في العاصفة إلى السماء»
101 (2 ملوك 2: 11).
وأنى لأولئك العبريين الجهلاء أن يعلموا أنه لو صعد امرؤ بجسده في السماء لهرأه البرد فمات خصرا
102
ولما يقطع من الطريق شوطا طويلا، وناهيك افتقاره إلى التنفس والاغتذاء.
وفي وهمهم أن الأرض كانت أول أمرها لا شكل لها: «وكانت الأرض خربة» (تكوين 1: 2).
وصواب الترجمة: وكانت الأرض بلا شكل.
أما كيف يكون جرم ما بغير شكل فأمر يدق على الأفهام. بيد أن الأرض لم تبق طويلا على هذا اللاشكل؛ فسرعان ما أصبحت ذات تربيع: «وبعد هذا رأيت أربعة ملائكة واقفين على أربعة زوايا الأرض
103
ممسكين أربع رياح الأرض لكي لا تهب ريح على الأرض ولا على البحر ولا على شجرة ما» (رؤيا يوحنا 7: 1).
فهي إذن رقعة مفلطحة غير كروية وغير متحركة. وهي أيضا - كالسماء - مرفوعة على عمد: «لأن للرب أعمدة الأرض وقد وضع عليها المسكونة» (صموئيل 2: 8). «المؤسس الأرض على قواعد فلا تتزعزع إلى الدهر والأبد» (مزمور 104: 5).
وهي مركز الكون، وكل ما في الكون إنما خلق من أجل الأرض وسخر لساكنيها؛ فالشمس تنير لهم نهارا والقمر يضيء لهم ليلا، والنجوم تهدي المدلجين
104
من البدو مصحرين؛
105
والمقلعين
106
من النواتي مبحرين. أما النجوم فقد بلغ من هوان شأنها عند كتاب التوراة أنهم لم يفردوا لذكرها في قصة الخلق غير كلمة واحدة: «فعمل الله النورين العظيمين؛ النور الأكبر لحكم النهار والنور الأصغر لحكم الليل والنجوم» (تكوين 1: 16).
لقد جهل القوم كيف تكونت البحار وكانوا، فيما يبدو، يخالونها أسبق من اليابسة وجودا. ونحن نعلم الآن أن بخار الماء ظل يكتنف الكرة الأرضية دهرا طويلا فلما بردت قشرتها استحال البخار ماء وغشي الماء وجه الأرض. وحدثت بعد ذلك تكرشات في أديم الغبراء فارتفعت أجزاء منه فكانت الجبال وتجمع الماء في القيعان
107
بقوة الجاذبية فكانت البحار والمحيطات. ولكن كتاب الوحي الذين دونوا سفر التكوين كانوا يجهلون كل ما يتصل بجاذبية الثقل، فلم يجدوا بدا من الاستظهار بالقوة العظمى لحسر المياه التي تغمر البسيطة وجمعها في القيعان: «وقال الله: لتجتمع المياه تحت السماء إلى مكان واحد ولتظهر اليابسة. وكان كذلك» (تكوين 1: 9). (11) الأساطير
كان من جراء هذا الجهل المطبق أن تقبل العبريون الأساطير التي كانت ذائعة بين الشعوب المجاورة وانتحلوا الكثير منها وبخاصة الأساطير البابلية،
108
فقد كانت قبائل العبريين ضاربة أطنابها
109
على تخوم الكلدان، وكلا الشعبين سامي
110
الجنس حيوي (أنيمي) العقيدة يقبض على ناصية
111
شئونه الدينية كهنة ينطقون بالوحي.
فما الأساطير؟
هي قصص ابتكرها البدائيون لتفسير ما يغم عليهم من ظواهر الطبيعة وأحداث الكون، وليس عجبا أن تكون تلك القصص بدائية كالأذهان التي تفتقت عنها. وقد ذاعت تلك الأساطير وشاعت على ترادف الأزمنة وتخالف الأمكنة. وهي تتشابه تشابها وثيقا على ما بين البلاد التي ذاعت فيها من بعد الشقة.
والأساطير ضروب شتى؛ فمنها: (1)
أساطير تكشف عن أصل الإنسان وتبين كيف وفد الموت على العالم وتوضح كيف تعددت اللغات، كالأساطير التي حاكتها بعض الشعوب حول خلق الوجود في ستة أيام ومعصية آدم وبناء برج بابل. (2)
أساطير تتعلق بحوادث طبيعية وتفسر بعض الظواهر الطبيعية، كأسطورة اكتساح الطوفان للكرة الأرضية كلها مما يعللون به ما يعثرون عليه من الأصداف المتخلفة من الحيوانات الرخوة في أحجار الجبال البعيدة عن البحار. (3)
أساطير تعلل ما استرعى الانتباه من أشياء غير مألوفة، كأسطورة مسخ امرأة لوط عمودا من الملح، مما يعللون به مصادفتهم بعض صخور تشبه الإنسان في هيئته. (4)
أساطير تتعلق بتاريخ شخص حقيقي كالأسطورة القائلة بأن الناس كافة منحدرون من أرومة نوح. (5)
أساطير تتعلق بتاريخ شخص حقيقي (كالملك سليمان) أو موهوم (كالملك آرثر، وفلهلم تل).
112
ومن ذلك أسطورة الصراع بين الله ويعقوب، وهي تعلل لنا لم استبدل يعقوب هذا باسمه فتسمى «إسرائيل»، ولم أسمى البقعة التي اصطرعا فيها «فينيئيل»؛ أي وجه الله. (6)
أساطير تبين الأصل المنسي لبعض العادات والمناسك والاحتفالات؛ فأسطورة الصراع بين الله ويعقوب السالفة الذكر تجلو لنا لم يعزف اليهود عن أكل حق الفخذ، وأسطورة استير تبين لنا لم يحتفل اليهود بعيد البوريم، وكذلك أسطورة افتداء أفجينيا بغزال
113
تبين لنا مصدر المنسك الخاص بالتضحية في العيد بحيوان والإقلاع عما جرى عليه البدائيون في القرون الأوالي من التضحية بأبنائهم على مذابح آلهتهم، ومما لا ريب فيه أن هذه الأساطير قد تبدلت معالمها بكثرة تداولها، وأن الشعوب والقبائل حشدت فيها من التغني بمحامدها والتنويه بمآثرها ما يجعلها محببة إلى نفوس أبنائها.
وقد كان أعضاء الأسر الكبيرة في الزمان الخالي ينصتون إلى هذه الأساطير في رهبة وخشوع، فلما درس ذلك النظام ونشأت طائفة الأطباء السحرة وأصبحوا هم الذين يصرفون أمور قبائلهم استأثر هؤلاء برواية أساطير الآلهة، وكانوا يضنون بروايتها فلا يفعلون ذلك إلا في مناسبات خاصة. وقد رفع هذا الصمت الذي أحاط بها من شأنها وأسبغ عليها ثوبا من القدسية، فأصبحت لا يتراقى إليها الشك ولا يباح فيها الفحص ولا يخاض فيها بالحجاج واللجاج. فأما الأساطير التي تحولت إلى غوامض
114
والتي هي أجل من ذلك خطرا فقد كانوا يحبسونها عن التداول ليلقنوها خلفاءهم، وهذا ما نلمسه عندما نقرأ كيف وضع الكتاب المقدس. (12) أنبياء بني إسرائيل
شاع احتراف النبوة بين بني إسرائيل، وإن «العهد القديم» ليطالعنا بصورة لل «نبييم» تباين تلك التي تطوف بأذهان كثير منا؛ فهم - في الجملة - أشبه الخلق بمن نعرف من أولياء الله الذين يجوبون قرانا الريفية ويرتادون موالدنا الدينية، ولا عجب في ذلك؛ فإن كلمة «نبي» العبرية تعني هاذيا أو مخبولا.
كانت هذه المهنة تدر لمحترفيها أخلاف
115
الرزق، إلى أنها كانت تصادف هوى في أفئدتهم؛ فقد كانوا بطبيعتهم أفاقين
116
تطيب نفوسهم بالتجوال بين القرى والدساكر، وتنشرح صدورهم إذ يقرعون الأسماع، ويغلظون للجماهير في القول، ويرمون الناس بأبشع التهم، وينبزونهم بأفحش الألقاب.
وإنا لنتعرف الكثير من أحوال أولئك الأنبياء عندما نقرأ سيرة أخآب وولده يهورام من ملوك إسرائيل في القرن التاسع ق.م. كان أخاب ملكا مظفرا، وبدا له ف «اتخذ إيزابل ابنة أثبعل ملك الصيدونين امرأة وسار وعبد البعل وسجد له. وأقام مذبحا للبعل في بيت البعل الذي بناه في السامرة. وعمل أخاب سواري وزاد أخاب في العمل لإغاظة الرب إله إسرائيل أكثر من جميع ملوك إسرائيل الذين كانوا قبله» (1 ملوك 16: 31-33).
فتصدى له النبي إيليا (إلياس) وطلب إليه على جهة التحدي أن يحضر أنبياءه الذين يطاوعونه على هواه وسدنة الآلهة المنافسين ليهوه إله إسرائيل: «فالآن أرسل وأجمع إلى كل إسرائيل إلى جبل الكرمل وأنبياء السواري أربع المائة الذين يأكلون على مائدة إيزابل» (1 ملوك 18: 19).
فلما احتشد أنبياء الفريقين أتى إيليا بمعجزة بارعة كان ولا ريب قد أحسن الإعداد لها؛ إذ جاء بثور فذبحه وقطع لحمه وصففه على الحطب ثم تغمغم
117
أمام القوم ببضع كلمات، فما لبث الحطب أن اتقد على الملأ طوعا للخطة الموضوعة، وأخذ أنبياء البعل بهذه الأعجوبة الإسرائيلية التي لم يكن لهم بمثلها سالف عهد: «فسقطت نار الرب وأكلت المحرقة والحطب والحجارة والتراب ولحست المياه التي في القناة. فلما رأى جميع الشعب ذلك سقطوا على وجوههم وقالوا: الرب هو الله. الرب هو الله.
118
فقال لهم إيليا: أمسكوا أنبياء البعل ولا يفلت منهم رجل. فأمسكوهم فنزل بهم إيليا إلى نهر قيشون وذبحهم هناك» (1 ملوك 18: 38-40).
وشخص يهوشافاط ملك يهوذا ذات يوم إلى أخاب ملك إسرائيل يسأله العون في شن حرب على آرام (أي سورية) لينتزع منطقة راموت جلعاد، ووجد أخاب أنه لم يكن ينبغي له أن يحسم الرأي في أمر جلل كهذا دون أن يستطلع رأي الرب: «فجمع ملك إسرائيل الأنبياء نحو أربعمائة وقال لهم: أأذهب إلى راموت جلعاد للقتال أم أمتنع؟ فقالوا: اصعد فيها فيدفعها السيد ليد الملك» (1 ملوك 22: 6).
واحتمس القوم للقتال: «وعمل صدقيا بن كنعنة لنفسه قرني حديد وقال هكذا قال الرب: بهذه تنطح الآراميين حتى يفنوا» (1 ملوك 22: 11).
وكان ثم نبي مغضوب عليه يدعى ميخا بن يملة فاستدعاه الملك إليه وسأله في هذه المشكلة الخطيرة فأبدى التشاؤم على النقيض من أنداده الأنبياء: «وقال: فاسمع إذا كلام الرب. قد رأيت الرب جالسا على كرسيه وكل جند السماء وقوف لديه عن يمينه وعن يساره. فقال الرب: من يغوي أخاب فيصعد ويسقط في راموت جلعاد؟ فقال هذا هكذا وقال ذاك هكذا، ثم خرج الروح ووقف أمام الرب وقال: أنا أغويه. وقال له الرب: بماذا؟ فقال: أخرج وأكون روح كذب في أفواه جميع أنبيائه. فقال: إنك تغويه وتقتدر فاخرج وافعل هكذا. والآن هو ذا قد جعل الرب روح كذب في أفواه جميع أنبيائك هؤلاء، والرب تكلم عليك بشر. فتقدم صدقيا بن كنعنة وضرب ميخا على الفك وقال: من أين عبر روح الرب مني ليكلمك» (1 ملوك 22: 19-24).
وضرب ملك إسرائيل بنبوءة النبي ميخا عرض الحائط وأقدم على المغامرة الحربية مطمئنا إلى مزاعم جمهرة أنبيائه فكانت عقباه الموت الزؤام،
119
ومن الطبيعي أن استرسال الكثير من الأنبياء في التكهن بالأحداث المقبلة طالما أفضى إلى خيبة وضيعة سؤل وفوت أمل؛ ولهذا عمد أصحاب الأسفار المتأخرة إلى التحفظ والحيطة فقالوا: «فإذا ضل النبي وتكلم كلاما فأنا الرب قد أضللت ذلك النبي وسأمد يدي عليه وأبيده من وسط شعبي إسرائيل» (حزقيال 14: 9).
ونذكر على سبيل المثال أن الملك الإسرائيلي أخاب كان يأخذ جزية من ملك مؤاب، فلما مات أخاب أمسك ملك مؤاب عما كان يفعل فلم يؤد الجزية إلى يهورام الذي خلف أباه على عرش إسرائيل، فأشخص يهورام ملك إسرائيل إلى يهوشافاط ملك يهوذا يستنفره إلى مؤازرته في قتال المؤابيين، فما ونى هذا أن خف إليه يؤيده وأصبحت الحرب وشيكة. وأراد يهورام قبل أن يرمي بنفسه في حومة الوغى أن يطمئن إلى أن إلهه يهوه سيظاهره في هذا العدوان فأرسل إلى النبي أليشع
120
يستنبئه ما يكون: «فقال أليشع لملك إسرائيل: ما لي ولك! اذهب إلى أنبياء أبيك وإلى أنبياء أمك ... لولا أني رافع وجه يهوشافاط ملك يهوذا لما كنت أنظر إليك ولا أراك. والآن فأتوني بعواد. ولما ضرب العواد كانت عليه يد الرب. فقال: هكذا قال الرب» (2 ملوك 3: 13-16).
وأفضى إليه برأيه.
ولم يمض على ذلك طويل وقت حتى تقدم
121
أليشع إلى أحد صبيانه بأن يخلع الملك يهورام ويبيد أسرته وينصب ملكا آخر مكانه: «ودعا أليشع النبي واحدا من بني الأنبياء وقال له: شد حقويك
122
وخذ قنينة الدهن هذه بيدك واذهب إلى راموت جلعاد. وإذا وصلت إلى هناك فانظر هناك ياهو بن يهوشافاط بن نمشي، وادخل وأقمه من وسط إخوته وادخل به إلى مخدع داخل مخدع. ثم خذ قنينة الدهن وصب على رأسه وقل: هكذا قال الرب: قد مسحتك ملكا على إسرائيل. ثم افتح الباب واهرب ولا تنتظر . فانطلق الغلام؛ أي الغلام النبي، إلى راموت جلعاد» (2 ملوك 9: 1-4).
وامتثل ياهو، بعد مسحه بالدهن، أمر الغلام النبي ويمم شطر الملك يهورام: «فلما رأى يهورام ياهو قال: أسلام يا ياهو؟ فقال: أي سلام ما دام زنا إيزابل أمك وسحرها الكثير ... وضرب يهورام بين ذراعيه فخرج السهم من قلبه فسقط في مركبته» (2 ملوك 9: 22-24). «وكان لأخاب والد يهورام سبعون ابنا في السامرة. فكتب ياهو رسائل وأرسلها ... فلما وصلت الرسالة إليهم أخذوا بني الملك وقتلوا سبعين رجلا ووضعوا رءوسهم في سلال ... وقتل ياهو كل الذين بقوا لبيت أخاب في يزرعيل وكل عظمائه ومعارفه وكهنته حتى لم يتبق له شاردا» (2 ملوك 10: 1-11).
ويؤخذ مما تقدم: (1)
أن أناسا كثيرين أقبلوا على احتراف مهنة النبوة لما لها من مزايا جمة فكثر عدد الأنبياء كثرة لا تناسب قلة عدد السكان في البلاد. (2)
وكان لبعض أولئك الأنبياء من قوة الشوكة ما يحبوهم بسلطان يعلو على سلطان الملوك على النحو الذي بلوناه في القرون الوسطى من المتربعين على كرسي البابوية؛ إذ كانوا يؤرثون الفتن، ويشعلون الحروب ويخلعون الملوك وينصبون غيرهم. (3)
وكان بعض أولئك الأنبياء كلما رغبوا في تلقي الوحي هيئوا أنفسهم لذلك بتحريك رءوسهم حركة راتبة على الإيقاع الموسيقي كفعل الدراويش في حلقات الأذكار، وصنيع الوسطاء الروحانيين في بعض الأحيان. (4)
وقد ظهر الأنبياء أيضا في الدويلات المتاخمة لإسرائيل ويهوذا؛ إذ كانت تسودها أحوال وملابسات كالتي مهدت لظهور تلك الطائفة في تينك المملكتين، ولم يكن ثم من فرق سوى أن اليهود المنتزحين عن الفيافي والقفار كانوا يدعون إلى عبادة الإله الجبلي المحارب يهوه على حين أن سكان تلك الدويلات وجلهم من المزارعين الودعاء كانوا يدعون إلى عبادة البعل وهو إله متحضر مسالم. وقد ذاع صيت نبي بني مؤاب الوثنيين أعدى أعداء اليهود، ذلك المدعو بلعام بن بعور المعروف باسم لقمان الحكيم (بلع = لقم) وقد اشتهر بالحوار الطريف الذي دار بينه وبين حماره (العدد 22). (5)
وثم قصة عجيبة تبين لنا كيف كان الوحي يتنزل على الناس في ذلك الزمان.
فقد ظل بنو إسرائيل بعد موسى ما ينيف على أربعة قرون يحكمهم من يلقبون بالقضاة، وضاقوا آخر الأمر بهذا الحكم وازداد برمهم به في أعقاب عهد الرائي (أي النبي) صموئيل: «وكان لما شاخ صموئيل أنه جعل بنيه قضاة لإسرائيل ... ولم يسلك ابناه في طريقه بل مالا وراء المكسب وأخذا رشوة وعوجا القضاء» (1 صموئيل 8: 1-3).
واستشرى الفساد فاستغلظ التذمر وتنادى القوم بأن يملكوا عليهم ملكا فأنكر صموئيل ذلك عليهم قائلا إنه لا ملك إلا يهوه: «قلتم لي بل يملك علينا ملك. والرب إلهكم ملككم» (1 صموئيل 12: 12).
ويترتب على هذه السفسطة أن يكون صموئيل هو الذي يفصح عن مشيئة الرب، وما الرب إلا صموئيل، وفي سنة 1025ق.م هتف الشعب بشاول ملكا عليه، فلم يغفر صموئيل لشاول أنه غصب منه صولجان الحكم، وزاده سخطا على شاول أن هذا الملك عد نفسه مدينا بسلطانه للشعب وأنه لم يمض إلى آخر الشوط في تلبية ما للكهان من رغائب وإنفاذ ما لهم من مطالب ولهذا عدوه مارقا من الدين وأبلغوه أن الرب غير رأيه فيه وأصبح شانئا له لا يريد به يسرا: «وكان كلام الرب إلى صموئيل قائلا: ندمت على أني قد جعلت شاول ملكا لأنه رجع من ورائي ولم يقم لكلامي» (1 صموئيل 15: 1-11).
واختار صموئيل داود ليحل محل مسيح الله شاول بعد التخلص منه، ومسحه بالدهن ليوليه ملكا على إسرائيل: «فأخذ صموئيل قرن الدهن ومسحه في وسط إخوته وحل روح الرب على داود من ذلك اليوم فصاعدا» (1 صموئيل 16: 13).
وجعل صموئيل يسخر داود في الكيد لشاول، وقلب المرشح
123
للملك والنبوة ظهر المجن لمليكه العتيد،
124
وأحس شاول بما يبيته له داود من مكايد فأرسل الجند لاعتقاله، ولكن صموئيل أظله بحمايته. لقد نشب الخلاف بين السلطة الروحية والسلطة الزمنية، وآثر الجند جانب النبي على جانب الملك فشملهم شيخ الأنبياء بعطفه وأدخلهم في زمرة المتنبئين: «فأرسل شاول رسلا لأخذ داود. ولما رأوا جماعة الأنبياء يتنبئون وصموئيل واقفا رئيسا عليهم كان روح الله على رسل شاول فتنبئوا هم أيضا. وأخبروا شاول فأرسل رسلا آخرين فتنبئوا هم أيضا . ثم عاد شاول فأرسل ثالثة فتنبئوا هم أيضا» (1 صموئيل 19: 20-21).
كان قدامى الإسرائيليين يتلظون بنار الحسد من البلدان المتاخمة ذات الحضارة المتقدمة لوفرة ما ترتع فيه من خصب وما يفاض عليها من رخاء، وكان الأنبياء اليهود - بوجه عام - ينفطون ضغنا وسخيمة؛ فهم يتوجهون إلى إلههم بمثل هذا الدعاء على بابل: «طوبى لمن يمسك أطفالك ويضرب بهم الصخرة» (مزمور 137: 9).
إنهم ينشدون الآن هذا في كنائسهم على أنغام الأرغن.
وقد نشط أولئك الأنبياء المتعصبون ينثرون التكهنات التي يتوقعون فيها أن تحل النكبات بالبلدان المصاقبة لهم، وبديه أن تلك التكهنات لم تكن أكثر من تعبيرات شعرية عن آمال بني إسرائيل القومية في استعباد الأمم المجاورة ونهب بلادهم وإخرابها: «لأن الأمة والمملكة التي لا تخدمك تبيد. وخرابا تخرب الأمم» (أشعيا 60: 12).
لقد تكهن النبي حزقيال بخراب مدينة صور، وبما أن اليهود كانوا أهون من أن ينجزوا ذلك فقد تكهن ذلك النبي بأن إخرابها سيتم على يد ملك أجنبي قوي الشوكة هو ملك بابل، وقد أسهب في تكهنه هذا حتى استغرقت تفصيلاته ثلاثة إصحاحات بتمامها؛ فمن ذلك قوله: «لأنه هكذا قال السيد ها أنا ذا أجلب على صور نبوخذراصر ملك بابل من الشمال ملك الملوك بخيل وبمركبات وبفرسان وجماعة وشعب كثير. فيقتل بناتك في الحقل بالسيف ... بحوافر خيله يدوس كل شوارعك. يقتل شعبك بالسيف فتسقط إلى الأرض أنصاب عزك. وينهبون ثروتك ويغنمون تجارتك ويهدون أسوارك ويهدمون بيوتك البهيجة ويضعون حجارتك وخشبك وترابك في وسط المياه» (حزقيال 26: 7-12).
ولكن نبوخذراصر لم يهدم مدينة صور بل هدمها الإسكندر بعد زمن نبوخذراصر ب 240 سنة ثم أعيد بناؤها ولم تزل منذ ذلك الحين عامرة بالألوف من أهلها.
وكان النبي أشعيا يتمنى أن: «تصير بابل بهاء الممالك وزينة فخر الكلدانيين كتقليب الله سدوم وعمورة. لا تعمر إلى الأبد ولا تسكن إلى دور فدور ... ويملأ البوم بيوتهم» (أشعيا 13: 19-21).
ولكن أمنيته لم تتحقق، وما زالت تلك المدينة باقية حتى الآن يعرفها الناس باسم «الحلة».
وكذلك لم تتحقق أمنيته بصدد دمشق، وقد أفصح عنها في قوله : «وحي من جهة دمشق. هو ذا دمشق تزال من بين المدن وتكون رجمة ردم» ... (أشعيا 17: 1).
كما لم تتحقق أمنية معاصره وزميله أرميا حيث يقول: «ارتخت دمشق والتفتت للهرب. أمسكتها الرعدة وأخذها الضيق والأوجاع كماخض ... لذلك تسقط شبانها في شوارعها وتهلك كل رجال الحرب في ذلك اليوم يقول رب الجنود. وأشعل نارا في سور دمشق فتآكل قصور بنهدد» (أرميا 49: 24-27).
وقد مر على دمشق بعد ذلك زهاء 26 قرنا دون أن تلتهمها النيران وتحولها كومات من الأنقاض، وقد كانت غوطة
125
دمشق وما برحت واحدة من منازه الدنيا المعدودة فهي جنة فيحاء يتفيأ ظلالها قرابة 700000 من النسم.
وكان أولئك الأنبياء أشد ما يكونون حقدا على مصر، فهم لا يفتئون يدعون عليها بالخراب والثبور
126
ويتوقعون لها - أو بالأحرى يتمنون لها - أن تذل وتصبح هدفا لشماتة الأعداء: «وأشتت المصريين بين الأمم وأذريهم في الأراضي، وأشدد ذراع ملك بابل وأجعل سيفي في يده. وأكسر ذراعي فرعون فيئن قدامه أنين الجراح» (حزقيال 30: 23-24). «ويأتي سيف على مصر ... من مجدل إلى أسوان يسقطون فيها بالسيف ... إني أبيد ثروة مصر بيد نبوخذراصر ملك بابل ... وأضرم نارا في مصر ... وأشتت المصريين بين الأمم وأذريهم في الأراضي» (حزقيال 30: 4-33).
وقد خاب فأل حزقيال في ذلك كله، فلم يتشتت المصريون بل كان الشتات مصير اليهود، وكذلك خاب فأل أشعيا حيث قال: «وأهيج مصريين على مصريين فيحاربون كل واحد أخاه وكل واحد صاحبه. وتنشف المياه من البحر ويجف النهر وييبس. وتنتن الأنهار وتضعف وتجف سواقي مصر ... في ذلك اليوم تكون كالنساء فترتعد وترجف من هزة يد رب الجنود التي يهزها عليها وتكون أرض يهوذا رعبا لمصر» (أشعيا 19: 1-17).
لقد أفقد الحقد على مصر أولئك الأنبياء اتزانهم حتى طوعت لأشعيا نفسه أن ينضو عنه ثيابه ويمشي عاريا في الأسواق كاشفا عن سوأته يدعو إلهه أن يسلط أشور ذات البأس والجبروت على أهل مصر، فتلحق بهم هزيمة ماحقة، وتسوقهم إلى بلادها يرسفون في أغلال الأسر وهم عراة حفاة على النحو الذي يعرضه أشعيا على يهوه متخذا من نفسه وسيلة إيضاح: «في ذلك الوقت تكلم الرب عن يد أشعيا بن آموص قائلا: اذهب وحل المسح عن حقويك واخلع حذاءك عن رجليك. ففعل هكذا ومشى معرى وحافيا
127
فقال الرب: كما مشى عبدي أشعيا معرى وحافيا ثلاث سنين آية وأعجوبة على مصر وعلى كوش
128
هكذا يسوق ملك أشور سبي مصر وجلاء كوش الفتيان والشيوخ عراة وحفاة مكشوفي الأستاه خزيا لمصر»
129 (أشعيا 20: 2-4).
أجل، لقد كان أولئك الأنبياء كثيرا ما يعوزهم الاتزان فيأتون من السخافات أشكالا وألوانا. انظر إلى حزقيال وهو يبدي استياءه من الأحوال التي تسود البلاد معلنا في أسلوب فج
130
أنه سيخبز خبزه على الغائط الذي يخرج من الناس: «وتأكل كعكا من الشعير. على الجزء الذي يخرج من الإنسان تخبزه أمام عيونهم» (حزقيال 4: 12).
وانظر إلى هوشع يبدي مسوغات زواجه إحدى المومسات: «قال الرب لهوشع: اذهب خذ لنفسك امرأة زنى وأولاد زنى. لأن الأرض قد زنت زنى تاركة الرب» (هوشع 1: 2).
ولا عجب في أن يتزوج نبي من بني إسرائيل بمومس بعد أن افترع النبي الإسرائيلي لوط ابنتيه: «فسقتا أباهما خمرا في تلك الليلة. ودخلت البكر واضطجعت مع أبيها ... فحبلت ابنتا لوط من أبيهما» (تكوين 19: 33-36).
وبعد أن تخلى أبو أنبيائهم إبراهيم عن امرأته سارة لفرعون وأصاب من جراء ذلك ثروة وافرة: «وصار له غنم وبقر وحمير وعبيد وإماء وأتن وجمال.»
ثم تخلى عنها مرة أخرى لآخر من ملوك الممالك المجاورة.
131 «وقال إبراهيم عن سارة امرأته: هي أختي. فأرسل أبيمالك ملك جرار وأخذ سارة» (تكوين 20: 2).
وبعد أن سار ابنه إسحاق أبو إسرائيل على خطاه: «وسأله أهل المكان عن امرأته. فقال: هي أختي. لأنه خاف أن يقول امرأتي لعل أهل المكان يقتلونني من أجل رفقة؛ لأنها كانت حسنة المنظر» (تكوين 26: 7). (13) يهوه
مر العبريون بمختلف المراحل العقائدية التي مر بها غيرهم من العشائر البدائية، فانتقلوا من المذهب الطبيعي (ناتورزم) إلى المذهب الحيوي (أنيمزم). وعبدوا قوى الطبيعة كالشمس والقمر والكواكب والأشجار والأحجار، وعرفوا الآلهة المتعددين ذوي الاختصاصات المحدودة، ولبثوا يعبدونها دهرا قبل أن يتجهوا صوب الإله الواحد.
وكان من أسماء آلهتهم القدامى «إيل » أم؛ ومن ثم فإن يعقوب «إسرائيل» ... «أقام هناك مذبحا ودعاه إيل إله إسرائيل» (تكوين 33: 20).
وقد عبدوا «أنات» ملكة السموات، وهي إلهة سامية قديمة: «بل سنعمل كل أمر خرج من فمنا فنبخر لملكة السموات ونسكب لها سكائب كما فعلنا نحن وآباؤنا وملوكنا ورؤساؤنا في أرض يهوذا وفي شوارع أورشليم فشبعنا خبزا وكنا بخير ولم نر شيئا» (أرميا 44: 17).
وعبدوا كذلك «أشيما» إله النار والأوبئة عند البابليين.
وقد كان «يهوه» أيضا إلها للنار؛ وذلك ما جعله يتراءى لموسى في شجيرة مشتعلة: «وظهر له ملاك الرب بلهيب نار من وسط عليقة. فنظر وإذا العليقة تتوقد بالنار والعليقة لم تكن تحترق» (خروج 3: 2).
كما أنه كان إلها للأوبئة: «قدامه ذهب الوبا وعند رجليه خرجت الحمى» (جبقوق 3: 5).
ويعتقد بعض الباحثين أن يهوه هو مولك
Moleck
الذي كانوا يحرقون أطفالهم تضحية له والذي بنى له الملك سليمان «مرتفعة» يعبدونه فيها: «حينئذ بنى سليمان مرتفعة لكموش رجس المؤابيين على الجبل الذي تجاه أورشليم ولمولك رجس بني عمون» (1 ملوك 11: 7).
ومولك معناها ملك. وقد كان «ملك» من ألقاب يهوه المعروفة. ويبدو أن كلا من يهوه ومولك قد عبد في صورة العجل.
كان يهوه أول أمره إلها من آلهة الطبيعة، كان إلها للجبال ثم أصبح إلها قبليا مقاتلا؛ لأن رجال القبيلة التي عبدته كانوا مقاتلين مظفرين ذوي شوكة وبأس، وظل هذا شأنه حتى السبي البابلي، ثم شملته حركة الترقيات فأصبح عميدا للآلهة في فلسطين على مثال مردخ
Merodach
في بابل وزيوس
Zeus
في اليونان؛ ولهذا نرى سفري التثنية ويشوع يصوران يهوه في صورة الطاغية الذي يهيمن على سائر الآلهة: «إله الآلهة الرب، إله الآلهة الرب، هو يعلم» (يشوع 22: 22).
ولسنا نعرف متى ظهر اسم يهوه أول مرة، والأرجح أن ذلك كان بعد أن استوطن اليهود كنعان. وكان النطق بهذا الاسم محظورا إلا في مقامات خاصة: «لا تنطق باسم الرب إلهك باطلا؛ لأن الرب لا يبرئ من ينطق باسمه باطلا» ... (خروج 20: 7).
وكانوا يكتبون اسم يهوه بالأحرف الأربعة ي. ه. و. ه.
J. H. V. H
دون أن يدعم بأحرف العلة؛ أي دون أن يضبط بعلامات الشكل لخلو اللغة العبرية منها إذ ذاك، وهكذا ورد اسمه في «الماصورا»
132
ومن ثم كان من الممكن أن يقرأ الاسم «يهوه» أو «ياهو» وقد ظهر الاسم الأخير مضافا أو مضافا إليه في بعض أسماء الأعلام الذين ورد ذكرهم في الكتاب المقدس مثل «إيلياهو» ومعناه ربي هو ياهو و«ياهوملك» ومعناه ياهو ملك.
ولما ابتكرت علامات ضبط الحروف العبرية في القرن السابع الميلادي كان رجال المقارئ في السيناجوج (المعبد) يتورعون عن النطق باسم الله؛ إذ كان ذلك محرما على اليهود كما هو محرم على بعض الشعوب البدائية الأخرى؛ ولهذا جعلوا يستخدمون بدلا من «لفظ الجلالة» كلمة «أدوناي» أو «أدونا»؛ أي ربي. وقد أثرت هذه الوساوس والشكوك في أصحاب الترجمة السبعينية
133
فكانوا يتحامون ذكر اسم الله إلا فيما ندر، وأدرجوا بدلا منه كلمة «هوكوريوس»؛ أي الرب. وركب اليهود آخر الأمر لكلمة يهوه أحرف العلة التي بكلمة إدونا
Edona
فأصبح الاسم يكتب على وزانها
Je Ho Va H
وينطق
Jahweh
يهوه.
ومعنى هذا الاسم سر مجهول، وقد يكون معناه «أنا الذي (هو) أنا» أو «الخالد». وفي كتاب الفرس المقدس يقول أهورا مزدا لزرادشت: «أنا الذي هو أنا»، وفي «كتاب الموتى» يرمز قدماء المصريين إلى الحياة بكلمة «عنخ» ومعناها «ذاك الذي يعيش».
وقد انتابت دين اليهود تغيرات تترى لم تقتصر على أن استبدلت:
باسم إبرام مؤسس هذا الدين اسم إبراهيم وباسم الجماعة القومي «إسرائيليون» اسم يهود بل شملت كذلك اسم الله، فكان:
ألوهيم في قصة نوح.
الشداي في قصة إبرام.
يهوه في قصة يعقوب.
وكان هذا الإله في بادئ الأمر يلقب نفسه ب «إله إبراهيم وإسحاق ويعقوب»: «وقال الله أيضا لموسى هكذا تقول لبني إسرائيل: يهوه إله إبراهيم وإله إسحاق وإله يعقوب أرسلني إليكم» (خروج 3: 15).
ثم أصبح يلقب نفسه ب «إله العبرانيين»: «تدخل أنت وشيوخ بني إسرائيل إلى ملك مصر وتقولون له الرب إله العبرانيين التقانا» (خروج 3: 18).
ثم بإله إسرائيل: «وبعد ذلك دخل موسى وهارون وقالا لفرعون هكذا يقول الرب إله إسرائيل أطلق شعبي ليعيدوا لي في البرية» (خروج 5: 1).
ولم يدع قط أنه إله البشر أجمعين، بل هو على النقيض من ذلك أقر بأن ثمة آلهة آخرين وأبدى غيرته منهم؛ فقد كانت السماء في ذلك الوقت تغص بالآلهة، منهم عشتورت إلهة الصيدويين وكموش إله المؤابيين وملكم إله العمونيين ... وهلم جرا. ولم يكن إله العبرانيين إلا واحدا من أولئك الآلهة القبليين الذين كانوا يعبدون في عهد البداوة. وقد جعل أولى وصاياه العشر «لا يكن لك آلهة أخرى أمامي» ... (خروج 20: 3).
وكرر هذا المعنى غير مرة: «فالآن اخشوا الرب واعبدوه بكل أمانة وانزعوا الآلهة الذين عبدهم آباؤكم في عبر النهر وفي مصر وأعبدوا الرب» ... (يشوع 24: 14). «من ذبح لآلهة غير الرب وحده يهلك» ... (خروج 22: 20).
ونرى من حديث يفتاح الجلعادي إلى ملك بني عمون في أمر كموش إله المؤابيين أن يفتاح كان يعد كموش إلها حقا مثل يهوه: «والآن الرب إله الإسرائيليين قد طرد الأموريين من أمام شعبه إسرائيل أفأنت تمتلكه. أليس ما يملكك إياه كموش تمتلك، وجميع الذين طردهم الرب إلهنا من أمامنا فإياهم نمتلك» ... (قضاة 11: 23-24).
كان عباد يهوه يعتقدون أنه الإله الواحد عندهم، ولكنهم لم يكونوا يعتقدون أنه الإله الوحيد في العالم كله، وكانوا يتحدثون عنه بقولهم: «ربنا»؛ أي رب بني إسرائيل وحدهم، وكانوا يفاخرون به الشعوب والقبائل المتاخمة التي تعبد آلهة يراها اليهود دون يهوه شأنا: «لا مثل لك بين الآلهة يا رب» (مزمور 86: 8). «لأني عرفت أن الرب عظيم وربنا فوق جميع الآلهة» ... (مزمور 135: 5). «وسقط أخزيا من الكوة التي في عليته التي في السامرة فمرض وأرسل رسلا وقال لهم: اذهبوا اسألوا بعل زبوب إله عقرون إن كنت أبرأ من المرض. فقال ملاك الرب لإيليا التشبي. قم اصعد للقاء ملك السامرة وقل لهم أليس لأنه لا يوجد في إسرائيل إله تذهبون لتسألوا بعل زبوب إله عقرون» (2 ملوك 1: 2-3). «أيها الرب إله إسرائيل. ليس إله مثلك في السماء من فوق ولا على الأرض من تحت» (1 ملوك 8: 23). (14) صفات يهوه
كان لبعض الفرق اليهودية آلهة محليون بقي طرف من آثار عبادتهم حتى زمن أرميا عندما غزا البابليون يهوذا: «لأنه بعدد مدنك صارت آلهتك يا يهوذا» ... (أرميا 11: 13).
أجل كانت عبادة بني إسرائيل للآلهة المحليين قد اضمحلت بوجه عام عندما توثقت عرا الوحدة السياسية في أيام داود وسليمان وتركزت العبادة في الهيكل الذي بناه سليمان (970-936ق.م) في أورشليم، لولا أن تلك الوحدة ما نشبت أن انفرط عقدها إذ انقسمت مملكة اليهود عقب موت سليمان إلى مملكتين صغيرتين: (1)
إسرائيل في الشمال، وحاضرتها السامرة. وقد دمرها الأشوريون سنة 722ق.م بقيادة سرجون الثاني ووضعوا نهاية لتلك المملكة. (2)
يهوذا في الجنوب، وحاضرتها أورشليم
134
وقد أخربها البابليون بقيادة ملكهم بختنصر
135
سنة 586ق.م. وسبوا عددا غفيرا من أهلها ساقوهم إلى بابل حيث عاشوا عبيدا مسخرين إلى أن غزا الملك الفارسي كيروش «قورش» الكبير بابل سنة 538ق.م. وأطلق من بها من اليهود وقد أشربوا حضارة أعرق من حضارة العبريين وأرقى، وخبروا ما كان للبابليين من مناسك واحتفالات تعبدية وقصص دينية، فلما قفلوا إلى إسرائيل إذا هم يجدون من بقوا فيها من الطغام قد لابسوا من حولهم من الشعوب وتطبعوا بطباعهم وعبدوا آلهتهم، فلم يجد الكهنة بدا من التنديد بأولئك الآلهة الأجناب. وكان من أثر الذلة التي ضربت على بني إسرائيل في الأسر زهاء نصف قرن أن عمدوا إلى التشبه بإلههم القومي والازورار عن منافسيه. ولكن ذلك لم يكن هو التوحيد بالمعنى العلمي للكلمة.
وقد فند و. روبرتسن سميث القول بأن اليهود أسهموا في إدخال التوحيد على العقائد الدينية، وأوضح أن ما يسمونه الاتجاه نحو الوحدانية إن هو إلا الاتحاد بين الدين والحكم الملكي.
ونحن حين نتحدث عن وحدانية الله نتحدث ضمنا عن البعث في يوم الدينونة ومجازاة المسيء بالعقوبة والمحسن بالمثوبة، فذلك من متممات معنى الألوهية ووحدانيتها، وبغيره يكون الإيمان بالوحدانية ناقصا غير تام. بيد أن اليهود لم يكونوا يؤمنون بالبعث والجزاء بعده، ولم يكن يدور في أخلادهم شيء عن النعيم والجحيم في الدار الأخرى، ولم يعرفوا شيئا من أمر الملائكة المجنحين إلا بعد أن شاهدوا صورها في الآثار البابلية مدة سبيهم في بابل؛ ولهذا عد النقاد ذكر الملائكة في الآية: «وسمعت صوت إنسان بين أولاي فنادى وقال يا جبرائيل فهم هذا الرجل الرؤيا» ... (دانيال 8: 16).
دليلا قاطعا على أن سفر دانيال لم تخطه يراعة النبي دانيال عند سقوط بابل في يدي قورش سنة 538ق.م بل كتبه آخرون بعد ذلك بثلاثة قرون أو أربعة حول سنة 164ق.م.
أجل، كان اليهود يعتقدون أن من أثم منهم لقي عقابه في العاجلة، فرتبوا على ذلك أنه إذا أصاب امرءا منهم أذى في نفسه أو في عياله أو ماله كان ذلك دليلا على أنه سلف له اقتراف إثم كبير يطلقون مخيلاتهم في تصوره ويلصقونه به.
ولما برهنت المشاهد المتكررة على فقدان الارتباط بين ما يأتيه الإنسان من خير أو شر وما يلقاه في حياته من هناءة أو شقاوة
136
لم يكن هناك مناص من القول بأن العقاب والثواب يحدثان في حياة أخرى بعد الموت. وقد وردت أول إشارة في العهد القديم إلى يوم كيوم البعث في سفر أشعيا. وقد عاش أشعيا في نحو القرن الثالث ق.م.
إن القول بأن فكرة الوحدانية طرقت أذهان العبريين في سيناء خطأ لا يقل في جسامته عن القول بأن لغات البشر كان منشؤها عند برج بابل. لقد كانت أمخاخ العبريين الذين نحلهم أحفادهم ابتكار الوحدانية لا تسمو كثيرا على مخ الإنسان الشبيه بالقرد، فلم يكن في طوقهم أن يتصوروا صورة ثقافية كهذه. وكل ما حدث هو أن موجة من التعصب القومي غمرت اليهود في زمن متأخر إثر عودتهم من السبي البابلي، وأن رجال الكهنوت آنسوا في هذا الاتجاه كسبا أدبيا ومغنما ماديا لهم فعاضدوه وناصروه.
137
ومن ثم أمسك يهوه عن الشرك بنفسه وانثنى ينادي بأنه الإله الأوحد لا إله غيره: «أنا الرب وليس آخر. لا إله سواي» ... (أشعيا 45: 5).
وأقبل يزعم أنه هو الذي فطر السموات والأرض وبرأ الخليقة طرا وأنه هو الذي يحفظ على الكون كيانه ويصرف أموره ويزجي السحب لتهمي أفاويقها
138
على شعبه المختار فتخرج الأرض لهم ثمارا يقتاتونها وتنبت لماشيتهم كلأ تعتلفه.
وهكذا كملت صورة الإله الواحد يهوه، الذي لم يخلق اليهود بل كان اليهود هم الذين خلقوه فجاء على صورتهم وفي مستواهم العقلي
139
وناهيك: «وقال الله نعمل الإنسان على صورتنا كشبهنا» ... (تكوين 1: 26).
والمقصود بالشبه هنا هو الشبه في شكل الجسم. وفي الحق إنه لمن العسير أن يتصور المرء إلها ذا شخصية
140
على هيئة حصان أو عصفور أو ما إلى ذلك، فمن المألوف ذهنا أن يقترن الشكل بالمقدرة العقلية. وقد وصف بعضهم الله بأنه «روح» فلم تنقل هذه الكلمة إلينا معنى واضحا. إن محاولة تجريد الله من الشكل تنتهي بنا إلى مذهب وحدة الوجود القائل بأن الله حال بكل شيء.
ويوصف يهوه بأنه مشاكل للإنسان
141
في شكله وعواطفه وأسلوب معاشه؛ فهو يسكن في بيت: «حينئذ تكلم سليمان. قال الرب إنه في الضباب. إني قد بنيت لك بيت سكنى مكانا لسكناك إلى الأبد» (1 ملوك 8: 12-13). «ومن حلف بالهيكل فقد حلف به وبالساكن فيه» ... (متى 23: 21).
وهو يفرض على عابديه فرائض من حيوانات ... «صحيحة لا عيب فيها» عدد 19: 20.
ويطلب إليهم إتحافه بالبواكير من ثمار الموسم، ويسلط السباع الضارية والحيات اللوادغ والأوبئة الفتاكة على من يعصيه ويخالف عن أمره.
وله مثل ما لنا من جوارح: «ثم أعطى موسى عند فراغه من الكلام معه في جبل سيناء لوحي الشهادة: لوحي حجر مكتوبين بإصبع الله» ... (خروج 31: 18).
وله حواس كحواسنا، ومن ذلك أنه شم ريح القتر مما شواه له نوح من اللحم بعدما رست به سفينته على البر عند انحسار الطوفان: «فتنسم الرب رائحة الرضا» (تكوين 8: 21).
وتنتابه انفعالات كانفعالاتنا؛ فهو مستشيط غضبا ثم يبوخ
142
غضبه فيمسك عن الاسترسال فيه: «فحمي غضب الرب على موسى» ... (خروج 4: 14). «وبسط الملاك يده على أورشليم ليهلكها، فندم الرب عن الشر وقال للملاك المهلك الشعب كفى. الآن رد يدك» (صموئيل 24: 16).
وهو يغار من الآلهة الآخرين: «فإنك لا تسجد لإله آخر؛ لأن الرب اسمه غيور، إله غيور هو»
143 (خروج 34: 14).
ويغار من مخلوقاته؛ فقد طرد آدم من جنة عدن لأنه هدي النجدين
144
وميز بين السبيلين سبيل الخير، وسبيل الشر عندما أكل من ثمار شجرة معرفة الخير والشر، وكانت المعرفة بهما حتى ذلك العهد مما انفرد به الآلهة دون البشر: «وقال الرب الإله: هو ذا الإنسان قد صار كواحد منا عارفا الخير والشر» (تكوين 3: 22).
وقد أغرق الخلق بالطوفان، لم يستثن منهم غير نوح وذريته، ثم أثار الفرقة بين تلك الذرية لكيلا يتسنى لهم بناء مدينة في أرض شنعار، وهي المدينة التي كفوا عن ابتنائها وأسميت بابل: «وقال الرب هو ذا شعب واحد ولسان واحد لجميعهم، وهذا ابتداؤهم بالعمل. والآن لا يمتنع عليهم كل ما ينوون أن يعملوه، هلم ننزل ونبلبل هناك لسانهم حتى لا يسمع بعضهم لسان بعض. فبددهم الرب من هناك على وجه كل الأرض. فكفوا عن بنيان المدينة» (تكوين 11: 6-8).
لقد جعل الإسرائيليون إلههم صورة منهم. وقد رسم الكهنة هذه الصورة بمداد من الدم فإذا هو إله راعب يلتذ الأنين والتنهدات، يظل الإنسان ما عاش يرتجف بين يديه من الهلع، غير السمع والطاعة فليس له. ولقد عزوا إلى هذا الإله أقوالا من بنات أفكارهم ونحلوه أعمالا من تلفيق مخيلاتهم، ووصفوه: بأنه وحش مفترس: «فأني أنا أفترس وأمضي آخذ ولا منقذ» (هوشع 5: 14). «أصدمهم كدبة مثكل وأشق شغاف قلبهم وآكلهم هناك كلبوة، يمزقهم وحش البرية» (هوشع 13: 8).
وبأنه غشاش مخادع: «فقلت: آه يا سيد الرب، حقا إنك خداعا خادعت هذا الشعب وأورشليم قائلا يكون لكم سلام، وقد بلغ السيف النفس» (أرميا 4: 10). «قد أقنعتني يا رب فاقتنعت وألححت علي فغلبت»
145 (أرميا 20: 7).
وبأنه ولوع بالخمر: «فقالت الأشجار للكرمة: تعالي واملكي علينا. فقالت لها الكرمة: أأترك مسطاري الذي يفرح الله والناس وأذهب لكي أملك على الأشجار» (قضاة 9: 12-13).
وبأنه أكول منهوم؛ زار خليله إبراهيم ذات يوم وتناول الطعام عنده هو واثنان من ملائكته فأكرم إبراهيم وفادتهم وأحسن قراهم: «ثم أخذ زبدا ولبنا والعجل الذي عمله ووضعها قدامهم. وإذ كان هو واقفا لديهم تحت الشجرة أكلوا» (تكوين 18: 8).
وأولم له نوح وليمة شواء عقب انحسار الطوفان، كما سلف، فعفا عن البشر وآلى على نفسه ألا يغرقهم بالطوفان مرة أخرى: «وأخذ من كل البهائم الطاهرة ومن كل الطيور الطاهرة وأصعد محرقات على المذبح. فتنسم الرب رائحة الرضا. وقال الرب في قلبه لا أعود ألعن الأرض أيضا من أجل الإنسان» (تكوين 8: 20-21).
ورموه بالعجز: «وكان الرب مع يهوذا فملك الجبل، ولكن لم يطرد سكان الوادي لأن لهم مركبات حديد» (قضاة 1: 19).
وهي ترجمة تفتقر إلى الأمانة وصوابها:
ولكنه (الرب) لم يقو على دحر سكان الوادي ... إن صورة هذا الإله الغضوب الذي يشير إلينا بإصبعه متهددا وهو يصرخ في وجوهنا: لا تفعلوا كذا، وإياكم وكذا، وويل لمن يفعل كذا، هي أكبر عثرة في سبيل الإنسانية الساعية إلى تحرير نفسها من الخوف والجهل وإلى تطهير ذهنها من أساطير الهمج البدائيين. (15) الضحايا البشرية
كان يهوه: كغيره من آلهة الشعوب المنحطة، يتطلب من بني الإنسان أضاحي بشرية: «لا تؤخر ملء بيدرك وقطر معصرتك، وأبكار بنيك تعطيني» (خروج 22: 29).
وهذه الترجمة تعوزها الدقة. والترجمة الصحيحة هي: «لا تتوان في تقديم باكورة ما ينضج من ثمرك وما تعصر من خمرك، وهب لي البكر من ولدك.»
فإذا نذر امرؤ ابنه للرب في لحظة من لحظات الضعف النفسي والتهوس الديني لم يكن له أن يعدل عن ذلك وأن يفتدي ابنه بالمال، وعليه أن يسوق بنفسه فلذة كبده إلى حيث يجد كأس المنون: «كل محرم يحرمه إنسان للرب من كل ماله من الناس والبهائم ومن حقول ملكه فلا يباع ولا يفك. إن محرم يحرم من الناس لا يفدى. يقتل قتلا» (لاويون 27: 28-29). «وكان جوع في أيام داود ثلاث سنين، سنة بعد سنة. فطلب داود وجه الرب. فقال الرب: هو لأجل شاول ولأجل بيت الدماء لأنه قتل الجبعونيين. فلنعط سبعة رجال من بنيه فنصلبهم للرب في جبعة شاول مختار الرب. فقال الملك أنا أعطي ... فأخذ الملك ابني رصفة ابني أية اللذين ولدتهما لشاول أرموني ومفيبوشت وبنى شاول الخمسة الذين ولدتهم لعدريئيل ابن برزلاي المحولي. وسلمهم إلى يد الجبعونيين فصلبوهم على الجبال أمام الرب»
146 (2 صموئيل 21: 1-94).
وتبلغ التضحية بالبشر ذروتها في قصة يفتاح بن جلعاد، وهي قصة يرمز بها إلى التضحية بإلهة عذراء:
147 «ونذر يفتاح نذرا للرب قائلا: إن دفعت بني عمون ليدي فالخارج الذي يخرج من أبواب بيتي للقائي عند رجوعي بالسلامة من عند بني عمون؛ يكون للرب وأصعده محرقة ... ثم أتى يفتاح إلى المصفاة إلى بيته، وإذا بابنته خارجة للقائه بدفوف ورقص. وهي وحيدة، لم يكن له ابن ولا ابنة غيرها ... وكان لما رآها أنه مزق ثيابه وقال: آه يا ابنتي قد أحزنتني حزنا وصرت بين مكدري لأني قد فتحت فمي إلى الرب ولا يمكنني الرجوع. فقالت له: يا أبي هل فتحت فاك إلى الرب؟ فافعل بي كما خرج من فيك بما أن الرب قد انتقم لك من أعدائك بني عمون. ثم قالت لأبيها: فليفعل لي هذا الأمر؛ اتركني شهرين فأذهب وأنزل على الجبال وأبكي عذراويتي أنا وصاحباتي. فقال اذهبي. وأرسلها إلى شهرين. فذهبت هي وصاحباتها وبكت عذراويتها على الجبال، وكان عند نهاية الشهرين أنها رجعت إلى أبيها ففعل بها نذره الذي نذر وهي لم تعرف رجلا. فصارت عادة في إسرائيل أن بنات إسرائيل يذهبن من سنة إلى سنة لينحن على بنت يفتاح الجلعادي أربعة أيام في السنة» (قضاة 11: 30-40).
ويبدو مما كتبه ميخا نحو سنة 700ق.م، وما كتبه حزقيال بعد ذلك بسنوات أن اليهود لم ينفكوا يحرقون بنيهم وبناتهم قرابين ليهوه، حتى عصر متأخر غدت فيه التضحية ببني الإنسان أمرا يبعث على النفور ويثير الحنق، فاعتاض القوم من الأضحيات البشرية أضحيات من الخراف وما إليها، كما نرى في قصة إبراهيم وولده إسحاق. وأنكر الأنبياء المتأخرون هذه التضحية فقالوا على لسان يهوه: «هل أعطي بكري عن معصيتي، ثمرة جسدي عن خطية نفسي.» «وبنوا مرتفعات توفة التي في وادي ابن هنوم
148
ليحرقوا بنيهم وبناتهم بالنار، الذي لم آمر به ولا صعد على قلبي» (أرميا 7: 31).
ولكن يهوه ليس بمستطيع أن يتنصل مما أسلف من أوامر، وأن يبهت من خلوا من أنبيائه في وجوههم ويجبههم بالتكذيب، فكان عليه أن يلتمس لنفسه عذرا من إصداره تلك الأوامر التي جاء اليوم ينسخها ويبرر فرضها عليهم فيما مضى: «تمرد علي بيت إسرائيل في البرية. لم يسلكوا في فرائضي ورفضوا أحكامي التي إن عملها إنسان يحيا بها، ونجسوا سبوتي كثيرا. فقلت إني أسكب رجزي
149
عليهم في البرية لإفنائهم ... ورفعت يدي لهم في البرية لأفرقهم في الأمم وأذريهم في الأراضي ... وأعطيتهم أيضا فرائض غير صالحة وأحكاما لا يحيون بها. ونجستهم بعطاياهم إذ أجازوا في النار كل فاتح رحم لأبيدهم حتى يعلموا أني أنا الرب» (حزقيال 20: 13-26).
يعني أنه أنزل عليهم هذه الشريعة الفاسدة على عمد وفرض عليهم التضحية بأفلاذ أكبادهم بغية إيذائهم والتنكيل بهم ليعلموا أنه الرب.
لقد كان يهوه دائما طلوبا للقرابين، ولطالما عمرت مائدته بألوان من لحوم الأطفال والرجال والأبقار والأغنام، وكان آخر أضحية قدمت له هو ابنه الوحيد يسوع، فما إن ارتوى بدمه المسفوح حتى فكه وطابت نفسه وأصبح يؤثر المال الصامت، الذهب والفضة، على صنوف اللحوم جمعاء، فمضى يحض الخلق على افتداء بنيهم وأداء مال الفدية إليه: «وكل بكر إنسان من أولادك تفديه» (خروج 13: 12). «كل بكر من بنيك تفديه» (خروج 34: 20). «غير أنك تقبل فداء بكر الإنسان وبكر البهيمة النجسة تقبل فداءه» (عدد 18: 15). (16) إله في صندوق
وأمر يهوه - القادر على كل شيء، الحال بكل مكان - بأن يصنعوا له صندوقا يقبع فيه، وبين أوصافه، وحدد مقاييسه، وعين اسم النجار الذي يعهد إليه في صنعه، ونوع الخشب الذي يتخذ منه، وصور التماثيل التي يحلى بها غطاؤه، وأسهب في ذلك غاية الإسهاب؛ ومن ذلك قوله: «وتصنع غطاء من ذهب نقي، طوله ذراعان ونصف، وعرضه ذراع ونصف، وتصنع كروبين من ذهب صنعة خراطة، تصنعهما على طرفي الغطاء
150
فاصنع كروبا
151
واحدا على الطرف من هنا وكروبا آخر على الطرف من هناك ... وأنا أجتمع بك هناك وأتكلم معك من على الغطاء من بين الكروبين اللذين على تابوت الشهادة بكل ما أوصيك به إلى بني إسرائيل» (خروج 25: 10-22).
وقد كان هذا الإله الثاوي في الصندوق محرم الرؤية واللمس على الناس باستثناء الكهنة وحدهم، فمن انتهك هذا التابو فجزاؤه الموت الزؤام: «وضرب أهل بيتشمس لأنهم نظروا إلى تابوت الرب وضرب من الشعب خمسين ألف رجل وسبعين رجلا» (1 صموئيل 6: 19).
والراجح أن فكرة الصندوق أو التابوت هذه مستعارة من قدماء المصريين؛ فقد كانت توابيتهم تحمل بتلك الطريقة، وهذا بيانها: «وتسبك له أربع حلقات من ذهب وتجعلها على قوائمه الأربع. على جانبه الواحد حلقتان، وعلى جانبه الثاني حلقتان. وتصنع عصوين من خشب السنط وتغشيهما بذهب. وتدخل العصوين في الحلقات على جانبي التابوت ليحمل التابوت بينهما» (خروج 25: 12-14).
وهكذا نجد أن العبريين لم يستعيروا من المصريين حلي الذهب والفضة فحسب بل استعاروا منهم نظام التوابيت كذلك.
وقد لاحظ بعضهم أن توابيت المصريين كانت تحتوي رمز الحياة ودوامها، فدار بأخلادهم أن العصا والحجرين وهي ما وضعه موسى في الصندوق، قد تكون رمز الذكورة، وما التابوت نفسه إلا رمز الأنثوية. ولا غرو أن تكون عبادة عضو الذكورة من الدعائم التي يقوم عليها دين اليهود؛ فإن هذا الدين مقتبس من شعبين وثيقي الإيمان بهذه العقيدة، وهما الشعبان البابلي والمصري.
كان الأقدمون يبدون غاية الإعجاب بأعضاء التناسل ويعربون عن تجلتهم لما تنطوي عليه من قوة خلاقة وما لها من قدرة معجزة على الإخصاب، وكانوا يربطون بين إخصاب النساء وإخصاب الأرض؛ ولهذا جعلت بعض القبائل، تنتخب ملكا وملكة للربيع يباشران الاتصال الجنسي على الملأ ليشيع الخصب في الأرض فتفشو غلتها، وكانوا في بعض البلاد يحتفلون في أيام البذر فيلابس أفراد الجنسين بعضهم بعضا ويتناكحون ما طاب لهم فيسفر ذلك عن إخصاب النساء ذوات الأزواج العقماء.
وكانوا يعتقدون أن في عملهم هذا إيحاء للأرض بأن تخرج في الربيع عن التحفظ الذي تلتزمه في الشتاء. وقد عرفت هذه الاحتفالات في اليونان وعند الرومان، كما أنها شوهدت خلال العصور الوسطى في فرنسا وإنجلترا. ولا يزال شيء من هذه الإباحة الجنسية ملحوظا في حفلات اللهو التنكرية التهريجية (الكرنفالات) ببلاد الغرب، وفي الموالد الدينية ببلاد الشرق.
ولما نزح العبرانيون من البراري المقفرة إلى كنعان ألان يهوه من طباعه الحوشية
152
ليلائم موطنه الجديد الذي يفيض لبنا وعسلا، واقتبس الكثير من خلال «بعل» إله الخصب والتناسل في كنعان؛ فكان العبري لا يجد غضاضة عليه
153
في أن يقبض عضوه التناسلي حين يقسم أغلظ الأيمان، وكأنما هو يقول: إن حنثت في هذه اليمين فلتزايلني المقدرة على استعمال هذا العضو الحيوي.
154 «وقال إبراهيم لعبده كبير بيته المستولي على كل ما كان له: ضع يدك تحت فخذي فأستحلفك بالرب إله السماء وإله الأرض ألا تأخذ زوجة لابني من بنات الكنعانيين الذين أنا ساكن بينهم ... فوضع العبد يده تحت فخذ إبراهيم مولاه وحلف له على هذا الأمر» (تكوين 24: 2-9).
وقد استجاب بنو إسرائيل رجالا ونساء لدواعي اللذة الجنسية وسدروا
155
ينطلقون في ميادينها نشطين خالعي العذار.
156 «وبنوا هم أيضا لأنفسهم مرتفعات وأنصابا وسواري على كل تل مرتفع وتحت كل شجرة خضراء. وكان أيضا مأبونون في الأرض» (1 ملوك 14: 23-24).
كان هذا الإله الثاوي في الصندوق يتخذ - كغيره من الأوثان - للعرافة، وكانت رؤيته ولمسه محرمين على الناس باستثناء الكهنة وحدهم، فمن انتهك حرمته من غير هؤلاء فجزاؤه الهلك.
وقد تولى هذا الإله قيادة بني إسرائيل في مهامه سيناء أربعين عاما في رحلة كانت خليقة ألا تستغرق 40 يوما. وهم ينسبون إلى هذا التابوت، كما يطلقون عليه، الفضل في تمكنهم من عبور نهر الأردن: «فعند إتيان حاملي التابوت إلى الأردن وانغماس أرجل الكهنة حاملي التابوت في ضفة المياه. والأردن ممتلئ إلى جميع شطوطه كل أيام الحصاد. وقفت المياه المنحدرة من فوق وقامت ندا واحدا بعيدا جدا عن «أدام» المدينة التي إلى جانب صرتان. والمنحدرة إلى بحر العربة بحر الملح
157
انقطعت تماما وعبر الشعب مقابل أريحا. فوقف الكهنة حاملو تابوت عهد الرب على اليابسة في وسط أردن راسخين وجميع إسرائيل عابرون على اليابسة حتى انتهى جميع الشعب من عبور الأردن»
158 (يشوع 3: 15-17).
وكانوا يعتمدون على هذا التابوت في دحر الأعداء. وقد باءوا مرة بالهزيمة فعللوا ذلك بأن التابوت لم يكن في معيتهم؛ إذ إن المقاتلين كانوا قد «صعدوا إلى رأس الجبل، وأما تابوت عهد الرب وموسى فلم يبرحا من وسط المحلة فنزل العمالقة والكنعانيون الساكنون في ذلك الجبل وضربوهم وكسروهم» (عدد 14: 44-45).
وقد صد اليهود عن التابوت ولووا كشحهم عنه لما ألفوه قد استنفدت قواه، وحدث بعد ذلك أن منوا بالهزيمة في قتالهم للفلسطينيين دون أن يكون التابوت معهم، فقر رأيهم أن يعيدوا التابوت إليهم وأن يمنحوا يهوه الهرم فرصة أخرى. (17) مضي اليهود في عبادة الأوثان
وفي الحق أن اليهود لم يؤمنوا بالوحدانية تمام الإيمان ولم يخلصوا لإلههم يهوه حاق
159
الإخلاص، بل ظلوا إلى عهد غير موغل في القدم يشوب عقيدتهم الجنوح إلى الأخذ بتعدد الآلهة.
لقد كان إله الأسفار الأولى من «العهد القديم» يعيش عاليا في السماء مع كائنات أخرى أقل شأنا تسمى هي أيضا «ألوهيم».
160
وفي التوراة آيات شتى تشير إلى إيمان اليهود بالآلهة المتعددين؛ فمن ذلك: «وقال الله: نعمل الإنسان على صورتنا كشبهنا» (تكوين 1: 26). «وقال الرب الإله: هو ذا الإنسان قد صار كواحد منا عارفا الخير والشر» (تكوين 3: 24).
وهم لم يقتصروا على أن آمنوا بالآلهة الأجانب: «من مثلك بين الآلهة يا رب» (خروج 15: 11).
بل لقد عبدوها كذلك ضاربين بالوصية الأولى عرض الحائط، وفي ذلك يقول يهوه: «لأنهم تركوني وسجدوا لعشتورت إلاهة الصيدونيين، ولكموش إله المؤابيين، ولملكوم إله بني عمون، ولم يسلكوا في طرقي ليعملوا المستقيم في عيني» (1 ملوك 11: 33).
وقال داود في شبابه يشكو موطنيه إلى مليكه شاول ويحملهم تبعة لجوئه إلى الفلسطينيين أعداء وطنه ودينه: «إنهم قد طردوني اليوم من الانضمام إلى نصيب الرب قائلين: اذهب اعبد آلهة أخرى» (1 صموئيل 26: 29).
ومفاد القول أن عبادة يهوه محدودة بتخوم بني إسرائيل؛ ولهذا فإن المدعو نعمان قائد جيش آرام «سورية» سأل النبي أليشع، عندما أبرأه من البرص، أن يطرفه بقدر من ثرى بلاد إسرائيل ليعبد فوقه إله إسرائيل ويذبح عليه الأضحيات التي يقربها له: «فقال نعمان: أما يعطى لعبدك حمل بغلين من التراب؛ لأنه لا يقرب عبدك محرقة ولا ذبيحة لآلهة أخرى بل للرب» (2 ملوك 5: 71).
وقد عبد اليهود كل ما عبده غيرهم من الشعوب البدائية في عصور الجاهلية، عبدوا الأوثان وعبدوا العجل الذهب. وقد أشار «العهد القديم» إلى عبادتهم للعجول في غير موضع؛ ومن ذلك أن الملك يربعام الذي خلف سليمان أمر بصنع عجلين من ذهب: «فاستشار الملك وعمل عجلي ذهب وقال لهم: كثير عليكم أن تصعدوا إلى أورشليم. هو ذا آلهتك يا إسرائيل الذين أصعدوك من أرض مصر. ووضع واحدا في بيت إيل وجعل الآخر في دان» (1 ملوك 12: 28-29).
وذاعت عبادة العجول
161
في مملكة يهوذا وعاصمتها السامرة: «زنخ عجلك يا سامرة» (هوشع 8: 5).
وكان يهوه يعبد في بقاع إسرائيلية شتى في صورة عجل ذهب، وكان أنبياء القرن الثامن ق.م ينظرون إلى عبادة العجل على أنها ضرب من عبادة يهوه وإن كانوا يرونه ضربا غير مستحب. وقد احتوى هيكل أورشليم نفسه على رموز لعبادة العجل. وبارك يربعام ملك يهوذا هذه العبادة فلم يكن لإيليا وأليشع قبل بالاعتراض عليها؛ ولهذا قصرا حملاتهما على عبادة الآلهة الأجانب مثل بعل الفينيقي وكانت عبادته قد تطرقت إلى مملكة اليهود مع الملكة إيزابل عند زفافها إلى أخاب.
لقد عبدوا العجول رمز القوة والإخصاب قبل أن يعبروا نهر الأردن إلى كنعان، فلما عبروه عبدوا البعليم وغيره من آلهة الوثنيين. وفي «العهد القديم» أن سليمان زين الهيكل بالصور والتماثيل، وأنه انكفأ يعبد أصنام الشعوب المجاورة ولم يمسك عن ذلك طوال حياته: «وكانت له سبعمائة من النساء السيدات وثلاثمائة من السراري. فأمالت نساؤه قلبه. وكان في زمان شيخوخة سليمان أن نساءه أملن قلبه وراء آلهة أخرى، ولم يكن قلبه كاملا مع الرب إلهه كقلب داود أبيه. فذهب سليمان وراء عشتورت إلاهة الصيدونيين وملكوم رجس العمونيين. وعمل سليمان الشر في عيني الرب ولم يتبع الرب تماما كداود أبيه. حينئذ بنى سليمان مرتفعة لكموش رجس المؤابيين على الجبل الذي تجاه أورشليم، ولمولك رجس بني عمون»
162 (1 ملوك 11: 3-7).
وعندما تربع حزقيا بن آحاز على عرش مملكة يهوذا حوالي سنة 720ق.م وجد القوم ما زالوا عاكفين على عبادة الأوثان فتسخطه ذلك: «وهو أزال المرتفعات وكسر التماثيل وقطع السواري وسحق حية النحاس التي عملها موسى
163
لأن بني إسرائيل كانوا إلى تلك الأيام يوقدون لها» (2 ملوك 18: 4).
ورفعوا الترافيم
164
إلى منزلة الآلهة وهي أصنام تحمل وتنقل، فعندما ظعن يعقوب بأغنامه المخططة والرقطاء من عند حميه لابان الآرامي (أي الشامي) ميمما شطر أبيه إسحاق في كنعان عمدت راحيل ابنة لابان، إحدى الشقيقتين اللتين بنى بهما يعقوب في أسبوع واحد، إلى سرقة أصنام أبيها: «وأما لابان فكان قد مضى ليجز غنمه. فسرقت راحيل أصنام أبيها. وخدع يعقوب قلب لابان الآرامي إذ لم يخبره أنه هارب» (تكوين 31: 19-20).
وكان داود أيضا يقتني الترافيم. فلما بحث عنه الجند ذات يوم لينفذوا فيه أمر الملك شاول بقتله هربته امرأته ميكال بنت شاول: «فأنزلت ميكال داود من الكوة. فذهب هاربا فأخذت ميكال الترافيم ووضعته في الفراش ووضعت لبدة المعزى تحت رأسه وغطته بثوب» (1 صموئيل 19: 12-13).
وبعد ذلك بزهاء ثلاثة قرون؛ أي في القرن الثامن ق.م كان النبي هوشع يعد الترافيم شيئا لا غناء عنه في العبادة؛ فهو يتحدث إلى العاهرة التي اشتراها بخمسة عشر شاقلا من الفضة منبئا إياها أن البلاد أوغلت في الإثم ولجت في المعصية، فكتب عليها يهوه أن تمر بها أوقات عصيبة يبلغ من هول المحنة فيها أن تزول منها الترافيم: «وقلت لها تقعدين أياما كثيرة لا تزني ولا تكوني لرجل، وأنا كذلك لك؛ لأن بني إسرائيل سيقعدون أياما كثيرة بلا ملك وبلا رئيس وبلا ذبيحة وبلا تمثال وبلا أفود وترافيم.»
وعبدوا الإنسان. «وعاد بنو إسرائيل يعملون الشر في عيني الرب، فشدد الرب عجلون ملك موآب على إسرائيل، لأنهم عملوا الشر في عيني الرب.
فجمع إليه بني عمون وعماليق، وسار وضرب إسرائيل، وامتلكوا مدينة النخل.
فعبد بنو إسرائيل عجلون ملك موآب ثماني عشرة سنة» (قضاة 3: 12-14). (18) في سبيل التوحيد
كان العبريون منذ زمن سحيق يعبدون يهوه مجسما في صورة أسطوانة من الحجر، أو هم - بتعبير آخر - كانوا قد نحلوا معبودهم الحجري هذا صفة الألوهية وأطلقوا عليه اسم يهوه ، فكيف أصبح هذا العمود القومي المقدس إلها قادرا على كل شيء، وكيف صارت بهم الحال إلى الوحدانية؟
ألا إنما يرجع الفضل في ذلك إلى أمرين: (1)
الوضع الاجتماعي والسياسي لأسباط بني إسرائيل خلال المدة التي تبدأ بالقرن التاسع ق.م وتنتهي بالقرن الخامس ق.م. (2)
نزعة خاصة في عقول الساميين إلى التوحيد، ومن بدوات
165
أرنست رنان اللامعة قوله إن العقل السامي مفطور على التوحيد. لقد مر الساميون بطور عبادة الآلهة المتعددين ثم جرت منهم محاولة للتوفيق بين شتيت الآلهة فأسبغوا على كل منهم ما للآخرين من خصائص وصفات، فنصلت الألوان المميزة لكل منهم والفارقة بين بعضهم وبعض حتى التبس الأمر في شأنهم وقد حدث شيء من ذلك في بلدان غير سامية مثل مصر واليونان ولكن الأمر لم يبلغ فيها شأوا بعيدا.
فقد كان إله العبرانيين مخبوءا في ظلمة تابوت أو متواريا في غبش داخل خيمة، وكان العبرانيون يجفلون عند رؤيته ويتحرجون من النطق باسمه، فبقيت آلهتهم دون أشكال واضحة أو ملامح محددة.
وبخلاف مصر ذات الجو الجاف الذي يدرأ العطب والفساد عن المومياوات والأصنام والمقابر والمعابد، كانت البلاد التي استوطنها العبريون تتعاورها أطوار جوية عنيفة من أمطار تنهمر ورياح تتناوح
166
وتبعا لذلك تتأثر المومياوات والآثار المقدسة فيسرع إليها التفتت والبلى. وهكذا تقوضت هذه الأشياء؛ فاندرست عبادة الأسلاف، واغتصب الآلهة ذوو الخطر مكان الرجل التاريخي، وسمي الآلهة القدامى بأسماء جديدة متطفلة عليهم فأصبح ملكرت بعل مدينة صور يعبد في زمن متأخر على وهم أنه الإله الإغريقي هرقل. وكان ببلوس صنمان يعبدان على أنهما الإلهان السوريان أدونيس وعشترت، ثم دار الزمن فأصبحا يعبدان باعتبارهما الإلهين المصريين أوزيريس وإيزيس.
167
وقد كان هذا الازدياد في الشبه بين مختلف الآلهة ورغبة القوم في التوفيق بينهم مما عبد الطريق في سبيل المناداة بالوحدانية فيما بعد، وساعد على ذلك أن التصورات الدينية عند الساميين كانت مشوبة بشيء من الإبهام مرده إلى: (1)
خلو حضارة الساميين من الفنون؛ فقلما دار بخلد أحد منهم أن ينقش صورة لإلهه. (2)
الخصائص المتأصلة فيهم والتي نرى الآن نموذجا لها في العرب وما ركب في طبائعهم من كآبة وكبرياء وحذر واسترسال في التخيل واستغراق في التأمل.
هذا ومن الخير أن نلاحظ: (1)
أن يهوه كان منظورا إليه دوما على أنه إله بني إسرائيل القومي. (2)
وأنه كان إلههم الأعظم على غرار زيوس في اليونان وجوبتر في روما. (3)
وقد أعلى مكانه في أعينهم وجعله يزعم على سائر الآلهة المحليين، بوصفه الإله القومي، أن بني إسرائيل كانوا يقيمون في فلسطين على قلق، وكانوا جاليات متناثرة يحدق بها الأعداء، وكانت الحرب سجالا بين الفريقين. (4)
وكانت عبادة يهوه هي الرباط القومي الذي يوثق بين الأسباط المتناثرة المتنافرة، فهم يحملونه معهم في المعارك ليقاتل إلى جانبهم. وهذا التضامن بين الإله والقبيلة هو ظاهرة واضحة من ظواهر العبادة عند الساميين.
وقد ازداد بنو إسرائيل إدراكا لذلك بعد ما التأم شملهم على عهد داود وغدوا شعبا واحدا اتخذ من أورشليم عاصمة له. (5)
ويرجع الفضل في صيرورة يهوه إلها للجنس الإسرائيلي برمته
168
إلى ما قام به داود من إحضاره يهوه إلى أورشليم وما نهض به سليمان من بناء هيكل له، حتى إذا ما انقسمت المملكة إثر موت سليمان أصبح يهوه هو الإله الأعظم للمملكة الجنوبية «يهوذا» على الأقل. (6)
وقد انتفع يهوه بما هو مذكور من أمره في مبتدأ الوصايا العشر من أنه «إله غيور»؛ أي إنه لا يطيق أن يشركه في هيكله إله آخر، فإن ذلك جعل «داجون» إله الفلسطينيين يخر على وجهه بين يديه ولا يقوى على البقاء في حضرته: «وإذا بداجون ساقط على وجهه إلى الأرض أمام تابوت الرب ورأس داجون ويداه مقطوعة على العتبة. بقي بدن السمكة فقط» ... (1 صموئيل 5: 4).
وهكذا فرض سدنة يهوه على الذين يتعبدون له أن ينصرفوا انصرافا تاما عن الآلهة الآخرين، وجعلوا ينظرون إلى أولئك الآلهة على أنهم أوثان، فغدا يهوه هو الإله الحي الواحد، على الأقل في أرض إسرائيل. (7)
وكان رجال الكهنوت قد حظروا صنع تماثيل ليهوه اكتفاء بالحجر المقدس الذي أودعوه التابوت، فكان القوم يولون وجوههم شطر «شيلوه» ثم شطر «أورشليم» متخذين منها قبلة تدعم الوحدة القومية. (8)
وكان رجال الكهنوت قد حظروا صنع تماثيل ليهوه الدبلوماسي ما يحفظ عليهما استقلالهما المزعزع وسط إمبراطوريات قوية في مصر والعراق. بيد أن المملكة الشمالية ما عتمت أن تلقت في القرن الثامن ق.م ضربة قاصمة إذ أغار عليها الأشوريون واجتاحوا عاصمتها السامرة في سنة 722ق.م فطغى التحمس على عباد يهوه في ذلك العصر الذي نستطيع أن نسميه عصر النبوات والذي أبرز لنا تلك الشذرات الأدبية العبرية في المقاومة السلبية ومكافحة الغزاة بغير سلاح ومناصرة يهوه للعبريين في قتال أعدائهم قتالا فت في أعضادهم فلم تغن عنهم أفراسهم ومركباتهم الحربية، فإذا قصر الإسرائيليون عليه عبادتهم ونبذوا سائر الآلهة فسيعصف بأشور ويجعلها موطئا لأقدامهم. تلك هي اللغة التي كان يتحدث بها أشعيا ومن إليه.
ومن عجب أن الحزب اليهوي؟ تلك الفترة التي كان الكيان القومي كله معرضا فيها للانهيار كي يقوم بالإصلاح الديني الشامل.
كان الكهنة في ذلك الوقت هم وحدهم على شيء من العلم، وكانوا يكتبون الأسفار الدينية ويلقنون الناس أنها موحى بها، ويتخذون من ذلك برهان صحتها، لا أنها صحيحة ومن ثم تكون موحى بها.
وتوفر حلقيا رئيس الكهنة في أورشليم على وضع سفر جلا فيه الشريعة مدونة على نمط جديد منقحة حسبما كانت تقتضي الأحوال والملابسات المستجدة إذ ذاك، ثم شخص إلى يوشيا ملك يهوذا (حوالي سنة 621ق.م) وزعم له أنه سقط له من أوابد
169
الهيكل سفر كان بديدا
170
بين سجلات الهيكل يتضمن معلومات تاريخية وأحكاما خلقية وتشريعية أدلى بها موسى فيما غبر وهي لا تدع وجها من أوجه الخلاف فيما يعرض من المسائل إلا حسمته. وأفلح الكهنة في ضم الملك يوشيا إلى جانبهم، فما ونى أن دعا كبار القوم إلى الهيكل حيث أمر فتلى عليهم سفر الشريعة وفرض عليهم بسلطانه الإصلاح الديني المنشود: «وأمر الملك حلقيا الكاهن العظيم وكهنة الفرقة الثانية وحراس الباب أن يخرجوا من هيكل الرب جميع الآنية المصنوعة للبعل وللسارية ولكل أجناد السماء ، وأحرقها خارج أورشليم في حقول قدرون وحمل رمادها إلى بيت إيل، وهدم بيوت المأبونين التي عند بيت الرب ... وذبح جميع كهنة المرتفعات التي هناك على المذابح وأحرق عظام الناس عليها، ثم رجع إلى أورشليم ... وكذلك السحرة والعرافون والترافيم والأصنام وجميع الرجاسات التي رئيت في أرض يهوذا وفي أورشليم أبادها يوشيا ليقيم كلام الشريعة المكتوب في السفر الذي وجده حلقيا الكاهن في بيت الرب» (2 ملوك 23: 4-24).
ولم يقيض ليوشيا أن يعمر بعد ذلك طويلا ليسهر بنفسه على ذلك الإصلاح الديني الكبير؛ فقد زحف «نخاو» ملك مصر على أشور مخترقا مملكة يهوذا، وانبرى يوشيا لصد هذا الزحف في مجدو ففتك نخاو به وبجيشه في مجدو.
وانصرمت بعد ذلك سنون وإذا بختنصر وقد انقض على نخاو وظهر عليه في قرقميش واستولى على يهوذا ودخل حاضرتها أورشليم سنة 586ق.م وأباحها لجيشه ثم أخربها وقوض مرابعها وعاد منها إلى بلاده بألوف الأسرى والسبايا، وبذلك أصبحت مملكة يهوذا ولاية تابعة لبابل وكفت دهرا عن أن يكون لها وجود مستقل.
وقد أغفل المؤرخون ما صار إليه العمود الحجر الذي هو يهوه، وما يدرينا لعل الغزاة فعلوا به ما فعله يوشيا بالسارية التي «أحرقها ... ودقها إلى أن صارت غبارا» (2 ملوك 23: 6).
ومهما يكن من أمر فقد انقطع ذكر يهوه - بوصفه شيئا ماديا - منذ تلك الحقبة، فلم نعد نسمع نبأ يتعلق به وبالتابوت الذي كان يثوي فيه.
ومن عجب أن اختفاءه التام هذا من صحيفة التاريخ بوصفه إلها محسوسا ملموسا لم يكن سببا لاضمحلال عبادته وخمودها في بلاد اليهود، بل كان مؤذنا بتحولها إلى عبادة روحية توحيدية منتشرة في مختلف أرجاء العالم؛ ذلك أن هذا الاختفاء حدث بعد أن أوشك دين يهوه على استيفاء تطوره، فإن الأنبياء ومن ... كانوا - حتى قبل السبي البابلي - قد شرعوا في تحسين فكرتهم في يهوه وقدسيته وسموه على البشر وقدرته على كل شيء، فلما كان السبي اتسع هذا الفهم الروحاني وجعل العبريون ندرا في منفاهم يتصورون يهوه حاكما رفيع الذرى يسكن السماء غير مقيد بقيود المادة ولا تراه العيون ولا تقام له التماثيل أو يرمز إليه بشيء.
وبدأت الوحدانية تغزو قلوب العبريين أول مرة في بابل، وما هي إلا أن أصبحت عقيدة لهم؛ فقد وقع في وهمهم أن كل ما حل بهم من الغوائل إنما يرجع إلى هجرهم يهوه ومخالفتهم عن أوامره؛ ومن ثم جعلوا يزدادون التصاقا بهذا الإله الذي يمثل وجودهم ووحدتهم القومية.
وحدث في سنة 538ق.م أن قورش الكبير عاهل فارس غزا بابل من بها من اليهود الذين اجتلبهم إليها بختنصر منذ نصف قرن ورد لهم آنية الذهب والفضة التي كان بختنصر قد غنمها من هيكل سليمان، ويسر العاهل الفارسي لهم إقامة معبد لربهم في أورشليم عوضا عن هيكل سليمان الذي كان البابليون قد أتوا عليه: «هكذا قال كورش ملك فارس: جميع ممالك الأرض دفعها لي الرب إله السماء، وهو أوصاني أن أبني له بيتا في أورشليم التي في يهوذا» (عزرا 1: 2).
وعاد الأسرى والسبايا من بابل إلى يهوذا وهم على ثقة بأن صلاحهم وفلاحهم متوقفان على تجديد دينهم، ولم يكن بين أولئك الذين آبوا أخيرا إلى أورشليم غير نفر قليل، إن كان قد آب منهم أحد على الإطلاق، ممن سبق لهم أن عرفوا هذا الإله الحجر الذي كان ثاويا في التابوت. لقد تبوأ يهوه مكانه في السماء بين النجوم الزهر، أما الهيكل الذي بناه القوم له بعد عودتهم من السبي فإنه لم يقم فيه بشخصه ولم يصر «بيت الله» بالمعنى الحرفي للكلمة كما كان سلفه هيكل سليمان الذي قوضه بختنصر.
وطوى الموت قورش فخلفه على عرش فارس عاهل إثر عاهل، نذكر منهم ارتحشستا وفي عهده رجع عزرا بن ... بن ... بن ... بن هارون الكاهن - شقيق موسى - من بابل إلى أورشليم وناط به الملك إصلاح الشريعة اليهودية وخوله في ذلك سلطانا كبيرا، فسار عزرا على نهج جده حلقيا وقام بالحركة الإصلاحية الثانية مبتدعا شريعة جديدة نسبها إلى موسى: «اجتمع كل الشعب كرجل واحد إلى الساحة التي أمام باب الماء وقالوا لعزرا الكاتب أن يأتي بسفر شريعة موسى التي أمر بها الرب إسرائيل فأتى عزرا الكاتب بالشريعة أمام الجماعة من الرجال والنساء وكل فاهم ما يسمع ... وأجاب جميع الشعب: آمين آمين، رافعين أيديهم وخروا وسجدوا للرب على وجوههم إلى الأرض. واللاويون أفهموا الشعب الشريعة والشعب في أماكنهم، وقرءوا في السفر في شريعة الله ببيان وفسروا المعنى وأفهموهم القراءة» (نحميا 8: 1-8).
وظفر يهوه بالنصر بفضل فقدانه لخصائصه المميزة واقتصاره على الاتصاف بالصفات العامة للألوهية، وهو ما أكسب الوحدانية قوة عظيمة وسنى لها أن تشق طريقها في كل مكان؛ فالوحدانية هي الدين مختزلا إلى عنصره المركزي البسيط.
وقد تركت الأفكار الجديدة أثرا عميقا في مناحي العقيدة اليهودية، فأقبل أولو الأمر يدونون الأخبار التاريخية جميعها في صورة يهوية؛ وبذلك لبست التوراة والأسفار التاريخية الثوب الذي ترتديه الآن، وتغير مفهوم القوم عن يهوه؛ فبعد أن كانوا، حتى القرن السادس ق.م، يعدونه الإله القومي لإسرائيل جعلوا الآن ينظرون إليه على أنه إله العالم كله على النحو الذي يعرفه الإسلام عن الله والذي تعرفه المسيحية عن الآب في الوقت الحاضر. بيد أن ذلك لم يحل دون بقائه على ارتباط وثيق باليهود، وكان هؤلاء يرجون أن تعرف الأمم مجده وعظمته من طريقهم، وظل الأمر كذلك خمسة قرون في انتظار المناداة به خارج إسرائيل، وعقد الاتحاد بينه وبين شتى القوميات، وكان الفضل في ذلك لبولس الطرسوسي. (19) نشأة الوحدانية في مصر
وأيا ما كان الأمر فقد سبق المصريون اليهود في القول بوحدانية الله؛ فقد كان أمنحتب الرابع آخر ملوك الأسرة الثامنة عشرة عند استوائه على العرش يؤمن بأن إلها واحدا هو الإله الحق وما عداه باطل وزور. وكانت الصورة المرئية لهذا الإله هي الشمس «آتون»؛ فهي أم الكائنات جميعا، وما وجدت الخليقة كلها إلا بكلمة من فيها، وما صدف الناس عن عبادتها إلا ضلالة وعماية
171
وقد حزم الملك أمره، وعاونته زوجته الحسناء نفرتيتي، على أن يبث الدعوة لهذه العبادة وأن يصطنع الشدة والحزم في نشرها. وأوجب على أتباع «آتون-رع» أن يستمسكوا بعبادة الشمس وأن يجحدوا سائر العبادات، وغير هو اسمه تمجيدا للشمس فجعله «أخناتون»؛ أي عظمة الشمس وبهاءها.
ولم تتوافر لهذا المصلح العظيم، خلال الإحدى عشرة سنة التي ولي فيها الملك، مواءمة العوامل السياسية والاقتصادية ومؤازرة القوة الثقافية في البيئة؛ فقد تصدت السلطة الدينية القومية في مدينة «طيبة» لهذه الديانة الجديدة التي تتهدد عبادتهم للإله «آمون» بالاضمحلال والزوال، ولم تزل تكافحها حتى قضت عليها.
172 •••
وفي التوراة نفسها دليل على قدم التوحيد في مصر؛ فقد قرب فرعون إليه العبد العبراني يوسف وأبدى إعجابه به: «فقال فرعون لعبيده: هل نجد مثل هذا رجلا فيه روح الله» (تكوين 41: 38).
وهو كلام بين الدلالة على أن فرعون وحاشيته كانوا يعرفون الله ويكرمون القانتين
173
له وذلك في زمن يوسف وهو - تأسيسا على ما جاء في التوراة - يسبق زمن موسى بنحو 215 سنة.
174
ولم تكن الوحدانية هي كل ما نقله أحبار اليهود عن عقائد المصريين؛ فقد كان كهنة المصريين يلقنون الناس أصول ديانتهم قبل أن تطالعهم التوراة بقولها: «في البدء خلق الله السموات والأرض. وكانت خربة وخالية وعلى وجه الغمر
175
ظلمة وروح الله يرف
176
على وجه المياه. وقال الله: ليكن نور فكان نور» (تكوين 1: 1-3).
وكان مما يلقنونهم إياه: (1)
أن ثم إلها خلق المادة الأولى، وكان الكون قبل ذلك خواء.
177 (2)
ثم صاغها في صورة ما. (3)
أن نفس أحد الآلهة هب فوق وجه الغمر. (4)
أن الله برأ الخلق في سهولة ويسر بقوله: كن. (5)
أن النور خلق قبل الشمس.
178
وكذلك عن مصر نقل وضعة التوراة الأجزاء الأساسية في قصصها، وعدلوا ما نقلوه حتى أصبح يلائم الأساطير الشائعة بين قومهم. وهم لا يمتازون من غيرهم من واضعي الكتب المقدسة الأخرى في مختلف أرجاء المعمورة إلا بأنهم لم يمتد حديثهم فيتناول الحياة المستقبلة وبأنهم لم يعدوا بالجنة ويتوعدوا بجهنم؛ فقد كان يهوه يقتصر في السيطرة على عباده بما يجزيهم به في هذا العالم من مثوبة طيبة وما ينزله بهم فيه من عقوبة رادعة. أما حكاية النعيم والجحيم فهي إضافات حديثة العهد نسبيا.
قصة الخلق
كانت أرجاء المعمورة في الأزمنة الغابرة تتجاوب فيها أساطير شتى، تنطوي على أجوبة غير صائبة عما يخوض فيه الناس من أسئلة واستفسارات يتصل بمبدأ الخليقة، ومنشأ الجنس البشري، وبوفود الموت على هذا العالم، وما إلى ذلك من معميات الوجود. ولم تكن تلك الأساطير التي يتناقلها البدائيون عامرة بالتصورات الشعرية والتأملات الفلسفية كأساطير من تلاهم من الشعوب التي نهلت من حضارة، بل كانت تدور حول محور واحد هو سن المناسك الدينية. وقد اكتسبت تلك الأساطير ما لها من جلالة الشأن بما أحدثت في حياة الأجيال اللاحقة من آثار عميقة لم تندرس حتى الآن.
وعاد العبريون إلى أورشليم من موطن سخرتهم في بابل. وقد احتقبوا قصة تتعلق بخلق الدنيا ما لبثوا أن أحدثوا فيها من التعديلات ما يجعلها تلائم فكرتهم في الوحدانية وتؤيد منسك العطلة في اليوم السابع من أيام الأسبوع: «لأن في سنة أيام صنع الرب السماء والأرض والبحر وكل ما فيها واستراح في اليوم السابع؛ لذلك بارك الرب يوم السبت وقدسه»
1 (خروج 20: 11).
وقد وضعت هذه القصة لتعليل انتفاء الخلود عن الناس؛ فقد كان الناس أبد الدهر تواقين إلى أن يقهروا الموت ويظلوا أحياء.
وكان البدائيون يرون الحيات والأورال والحشرات (في بعض أطوارها) تنسلخ من جلودها فيعتقدون أنها بذلك تستديم الحياة، وكان يخيل إليهم أن الطيور تنسل عنها ريشها فتجدد بذلك شبابها: «فيتجدد مثل النسر شبابك» (مزمور 103: 5).
وما زال الأهلون في بعض الجهات (غينيا الجديدة والهند الصينية وجزائر أميرال وسلبيز إلخ) يعتقدون أن الناس كانوا ذات يوم يستديمون حياتهم بتغيير جلودهم أو بدفن موتاهم في ظل شجرة معينة تعيد إليهم الحياة بعد فترة من الزمن.
وفي قصة خطيئة آدم ما يوحي بأن الإنسان خلق بادئ الرأي ليكون من المخلدين لولا ذلك الحادث الذي دفع منه فأفقده هذه المزية وألقى به فريسة أبدية للمرض والموت.
تقول القصة إن في الجنة شجرتين تمتازان من سائر أشجارها بما لهما من خصائص هامة؛ هما: «شجرة الحياة في وسط الجنة وشجرة معرفة الخير والشر» (تكوين 2: 9).
وقد خول الله الإنسان، بل هو أوصاه، أن يجتني ما طاب له من ثمار أشجار الجنة ما خلا شجرة واحدة هي شجرة معرفة الخير والشر: «وأوصى الرب الإله آدم قائلا: من جميع شجر الجنة تأكل أكلا. وأما شجرة معرفة الخير والشر فلا تأكل منها» (تكوين 2: 16-17).
وإذن لم تكن ثمار شجرة الحياة حراما على آدم. وقد كان حريا أن يأكل منها لولا أن الحية صرفت انتباهه عنها إلى الثمرة المحرمة فكتبت بذلك الموت عليه وعلى بنيه أبد الآبدين.
ورثنا هذه الأسطورة عن اليهود، ثم سارت الكنيسة بها شوطا إلى الأمام؛ إذ فسر القديس بولس النكبة التي كان مسرحها جنة عدن على نحو يتفق ومذهب الفداء وييسر عودة الإنسان إلى الفردوس المفقود.
وتشبه قصة العبرانيين في خلق الكون ما دونه البابليون من ذلك في سجلاتهم الطينية وما سجله المصريون على آثارهم الضخمة والهنود في معابدهم المعتمة. والصورة اليهودية لهذه القصة، وإن تكن أحدث عهدا، تقل عن نظائرها من الصور الغوابر بهاء وسموا، وليست لها حظها من البساطة واليسر؛ وذلك ما نراه في جلاء عندما نوازن بين قصة التوراة والقصة الهندية التي هي أقدم منها بأربعين قرنا، وهي تقول:
خلق الكائن الأعلى آدم وثنى بحواء، وأسكنهما جزيرة سيلان الفاتنة ليستمتعا في مخارفها
2
بأوقات لذيذة يزجيانها
3
في الحب والغزل؛ فقد اقتضت مشيئته أن يكون الزواج أبدا مسبوقا بالحب. ولما أظلهما الحب ربط الكائن الأعلى بينهما برباط الزواج وأوصاهما ألا يبرحا تلك الجزيرة، وكانت ذات رونق وبهاء، تكسو أديمها أعشاب نضرة تزفزفها
4
الرياح المتناوحة
5
فتعزف أنغاما تبذ أنغام القيثارة رقة وعذوبة تمتزج بتغريد البلابل الصادحة والطيور الشادية على الأفنان المتمايدة.
6
وتاق آدم أن يلقي نظرة على ما حوله فدلف إلى طرف الجزيرة الشمالي وكان ثم معبر ضيق يصل الجزيرة بالقارة. ومد الشيطان في ناحية القارة سرابا رقراقا
7
صور لباصرتي آدم منظرا أخاذا رأى فيه قلل الجبال وقد جللتها الثلوج النواصع وتدفقت منها السيول لتتكسر على الجنادل فيجيش منها الزبد، ورأى تحت سفوحها الأودية الخضراء قد انبسطت رقاعها وانسابت فيها الجداول الصافية، وقد أنضرت على ضفافها الأشجار وأينعت الثمار. وراقه ما شهد فآب إلى حليلته يزين لها أن تصحبه إلى القارة، ولم يزل بها حتى تبعته على هواه. بيد أنهما ما إن اجتازا ذلك العنق الضيق من الأرض حتى انهار في اليم فانقطع دونهما خط الرجوع، وانقشع السراب فإذا هما لا يجدان بين أيديهما غير فياف قفراء وصخور صماء لا بهجة فيها ولا رواء.
هذا، ومن الملاحظ فيما يتصل بالزمن الذي أدمجت فيه هذه القصة في سفر التكوين أنه لم ترد إشارة إليها في أي سفر آخر من أسفار اليهود المقدسة، إلا كلمة عارضة في الوصية الموسوية الرابعة الخاصة بتحريم العمل أيام السبت، وقد ذكرناها قبل، وهي وصية لا يتأتى أن يكون اليهود قد أوصوا بها إبان بداوتهم، حين كانوا يلبثون بياض النهار قاعدين عن كثب من أغنامهم، بل يغلب أن يكون ذلك قد حدث بعد أن استقروا فترة طويلة في مدن وأبنية وراء أسوار. ومهما يكن من أمر فمن الثابت أن هذه القصة لم تقرع مسامع اليهود إلا بعد السبي البابلي
8
فقد كان علم بدء الخليقة
9
قائما عند البابليين قبل أن يكتب سفر التكوين بأزمان مديدة، بل قبل العصر الذي يفرض أن موسى عاش فيه. وقد اشتمل هذا العلم على جميع الدعائم الأساسية التي تقوم عليها قصة الخلق العبرانية وعلى رأسها خلق العالم في ستة أيام وإغراء حواء وغواية آدم وهم يسمونه «أدمي» وهي الصيغة الأشورية لاسم آدم ويسيمه العبرانيون «أدمة» وهو اسم مشتق من فعل معناه «يحمر»
10
وقد يكون مرد ذلك إلى ثرى فلسطين الأحمر.
وإذا رجعنا إلى اللغة الأكدية (وهي التي سبقت البابلية والتي كتب بها الأشوريون والعبريون في بادئ الأمر جانبا من كتاباتهم في علم بدء الخليقة) ألفينا أن لفظ «أد» معناه أب وأن لفظ «دم» معناه أم، وبذلك يدل اسم آدم على إنسان يجمع بين الأبوة والأمومة أو بين التذكير والتأنيث. أما اسم حواء فمعناه حية أو حياة.
11
وتذكر القصص الفارسية وقصص التلمود أن الله خلق بادئ الرأي امرءا يجمع بين ذكر وأنثى ظهراهما ملتصقان ثم فصل بين الذكر والأنثى. وورد هذا المعنى في التوراة أيضا فهي تقول: «يوم خلق الله الإنسان على شبه الله عمله ذكرا وأنثى، خلقه وباركه ودعا اسمه آدم» (تكوين 5: 2).
أي إن آدم كان ذكرا وأنثى في وقت معا
12
وبما أن دم خلق على مثال خالقه: «خلق الله الإنسان على صورته. على صورة الله خلقه. ذكرا وأنثى خلقهم» (تكوين 1: 27).
فإن الله - عندهم - يجمع أيضا بين خصائص الجنسين. هذا وقد سردت أساطير الفرس قصة الخطيئة الأصلية على النحو الآتي:
كان الزوجان الأولان من البشر «مشيا» و«مشيانة» يعيشان بادئ بدء عيش الطهر والبراءة، وقد عاهدهما أرمزد، خالق كل ما هو خير، على أن يديم عليهما السعادة ما استمسكا بعرى الفضيلة. بيد أن أهريمان، أس الرذيلة ومصدر الأذى، دس عليهما شيطانا تراءى لهما في صورة حية وعاطاهما من ثمار شجرة بهية المنظر من خصائصها أن تضفي الخلود على الأحياء وترد الحياة إلى الموتى، فتطرقت إلى قلبيهما نوازع الشر، وزايلهما ما كانا يتحليان به من خلق رفيع، ثم ما لبث أهريمان أن سعى إليهما بنفسه في صورة الحية نفسها، ولم يزل يغرر بهما ويغريهما حتى اعترفا به - دون أرمزد - خالقا لكل ما هو خير، وبذلك خسرا ما كان قد اعتد لهما من نعيم مقيم.
وفي أساطير المصريين القدماء أن إيزيس وأوزيريس كانا يعيشان معا في الفردوس تظللهما السعادة وتحف بهما الهناءة، وما فتئا في تلك الحال إلى أن استبدت بإيزيس الرغبة في أن تستقي، من ماء الخلود، فمضى أوزيريس يطلبه فكانت تلك عثرته.
وقد فشت أساطير كهذه في مختلف الشعوب، وكلها مجمع على أن المرأة الأولى اقترفت الخطيئة الأولى انقيادا للإغراء. وما يزال الناس في الشعوب المتمدنة يقولون: «فتش عن المرأة.» وإنه ليسر الرجل أن يلقي على المرأة تبعة أخطائه، والويل للضعيف.
وقد سردت لنا التوراة قصة الخلق مرتين، أو بالحرى، سردت لنا قصتين في خلق الكون تستقل إحداهما عن الأخرى. وقد ألصقت كل من القصتين بالأخرى في غير لباقة. وتستوعب الأولى منها الإصحاح الأول من سفر التكوين والآيات الثلاث الأولى من الإصحاح الثاني. وقد أطلق على «الله» فيها لفظ «ألوهيم» بصيغة الجمع، ويبدو الله في تلك القصة إلى حد بعيد كأنه مجرد فكرة لشيء معنوي ليس له وجود حسي؛ فهو قادر على أن يخلق ما يريد مكتفيا بأن يقول: «كن.» وهذه القصة خلاء من أية إشارة إلى جنة عدن وما جرى فيها. وقد وضع الكهنة - بعد عودتهم من بابل - هذه القصة على غرار الأسطورة السامية التي سمعوها هناك. أما القصة الثانية وهي أقدم عهدا وأوغل بدائية، فهي تبدأ بالآية الرابعة من الإصحاح الثاني وتنتهي بنهاية ذلك الإصحاح،
13
وقد صور الله فيها مشاكلا للإنسان في سمته وسلوكه. وقد أفاضت هذه القصة في حديث الجنة وحددت موضعها جغرافيا على الأرض: «وكان نهر يخرج من عدن ليسقي الجنة. ومن هناك ينقسم فيصير أربعة رءوس، اسم الواحد فيشون؛ وهو المحيط بجميع أرض الحويلة حيث الذهب. وذهب تلك الأرض جيد. هناك المقل وحجر الجزع. واسم النهر الثاني جيحون، هو المحيط بجميع أرض كوش.
14
واسم النهر الثالث حداقل،
15
وهو الجاري شرقي أشور. والنهر الرابع الفرات»
16 (تكوين 2: 10-14).
وتختلف القصتان فيما يتصل بالمادة التي جبل الله منها الخليقة؛ ففي القصة الأولى نجد الماء هو العنصر الأول.
17 «وروح الله يرف على وجه المياه» (تكوين 1: 2).
أي إن الله خلق من الماء كل شيء حي: «وقال الله لتفض المياه زحافات ذات نفس حية وليطر طير فوق الأرض وعلى وجه جلد السماء. فخلق الله التنانين العظام وكل ذوات الأنفس الحية الدبابة التي فاضت بها المياه كأجناسها وكل طائر ذي جناح كجنسه» (تكوين 1: 20-21).
أما القصة الثانية فنجد فيها أن الله خلق كل شيء من طين: «وجبل الرب الإله من الأرض كل حيوانات البرية وكل طيور السماء» (تكوين 2: 19).
وتتباين القصتان كذلك فيما يتصل بالترتيب الذي اتخذه الكائن الأعلى في خلق الكون خلال ستة أيام كما هو مبين فيما يلي:
في اليوم
في القصة الأولى وهي التي كتبها الكهنة بعد السبي البابلي
في القصة الثانية وهي أقدم عهدا
1
خلق السموات والأرض والنور والظلمة.
خلق السموات والأرض.
2
خلق الجلد وجعل بعض المياه فوقه وبعضها تحته.
كان ينبثق من الأرض ضباب يسقي أديمها.
3
اجتمعت المياه التي تحت الجلد في البحار فظهرت اليابسة ونبتت الأعشاب والأشجار المثمرة.
خلق من التراب إنسانا أسماه آدم.
4
خلق الشمس والقمر والنجوم.
غرس جنة في عدن شرقا وأسكن آدم إياها.
5
خلق الزحافات (يقصد الأسماك) والطيور والتنانين (يقصد الحيتان).
خلق حيوانات البرية والطيور.
6
خلق الوحوش والبهائم وجميع دبابات الأرض ثم خلق آدم وحواء.
خلق المرأة من إحدى ضلوع الرجل.
أما تناقض القصتين فيما يتصل بخلق الجنس البشري فيمكن إجماله فيما يلي:
في القصة الأولى
في القصة الثانية
أولا
كان آدم وحواء آخر ما برأ الله من الخليقة.
خلق الله آدم قبل حيوان البر وقبل الطير.
ثانيا
خلق الله الإنسان على صورته.
لم يرد ذكر لذلك.
ثالثا
خلق الله الإنسان ذكرا وأنثى دفعة واحدة.
لاحظ الله ليومين من خلق آدم أنه في حاجة إلى امرأة تؤنسه. بيد أنه لم يخف إلى خلقها بل انصرف عن ذلك إلى خلق شتى الحيوانات وعرضها على آدم. وبعد ذلك خلق حواء.
رابعا
بارك الله الناس «وقال لهم أثمروا واكثروا واملئوا الأرض.»
لم يفعل ذلك بل إنه جعل الحمل والولادة لعنة على المرأة «وقال للمرأة تكثيرا أكثر أتعاب حبلك، بالوجع تلدين أولادا.»
خامسا
ذكر الإنسان من بادئ الأمر على أنه مبعوث لإخضاع الأرض. ولم يرد ذكر البتة لجنة عدن التي حدثت فيها مأساة الخطيئة.
وضع آدم في عدن ثم زف إليه حواء، ولكنها لم تحمل ولم تلد إلا بعد نفيهما من الجنة.
تزعم قصة الخلق الموسوية أن الخالق كان قبل يعيش بلا خليقة، وفي يوم أحد
18
من سنة 4004ق.م
19
عن له أن يخلق الكون فاستحدثه من العدم، ودأب يعمل في ذلك ستة أيام ثم استراح في اليوم السابع: «وفرغ الله في اليوم السابع من عمله الذي عمل. فاستراح في اليوم السابع من جميع عمله الذي عمل»
20 (تكوين 2: 2).
وخلق الله كل ما في الكون بترتيب عجيب، فكان الضوء يشيع في الأفق قبل أن تخلق الشمس. لقد كانوا يجهلون - فيما يجهلون - أن تعاقب الليل والنهار إنما يولده تبدل موقع القارات من الشمس نتيجة لدوران الأرض حول محورها؛ ولهذا جعلوا النور يخلق في اليوم الأول: «وقال الله: ليكن نور، فكان نور، ورأى الله النور أنه حسن. وفصل الله بين النور والظلمة. ودعا الله النور نهارا والظلمة دعاها ليلا. وكان مساء وكان صباح يوما واحدا» (تكوين 1: 3-5).
ولكن كيف فصل الله بين النور والظلمة، وكيف كانا مختلطين من قبل؟
ليس النور بشيء له وجود إيجابي، وإنما هو ظاهرة تحدث طوعا لسنن معروفة في علم الفلك وعلم البصريات، أما الظلمة فليست بشيء مادي يمكن أن يمزج بالنور ويدمج فيه ثم يفصل منه، وإنما هي مقدار سلبي؛ هي احتجاب النور.
لقد كانوا يتوهمون أن الظلمة شكل من أشكال المادة؛ ولذا قالوا في قصة الضربات البشعة التي أنحى بها موسى على مصر: إن الظلام قد اشتدت حلكته في مصر بأمر موسى: «حتى يلمس الظلام» (خروج 10: 21).
لقد قدموا المعلول على العلة فجعلوا الأرض تخلق في اليوم الأول على حين أن أمها الشمس لم تخلق إلا في اليوم الرابع. وجعلوا أديم الأرض يكتسي بالخضرة في اليوم الثالث: «فأخرجت الأرض عشبا وبقلا» (تكوين 1: 2).
قبل أن تتجلى ذكاء (الشمس) في اليوم الرابع فترسل ضوءها العسجدي، وهو لا غناء عنه للنبات في التمثيل الكلوروفيلي الذي هو سبب اخضرار لون النبات ومصدر هام لاغتذائه.
وجعلوا الحيوانات تخلق بترتيب يباين ترتيب رتبها وفصائلها؛ فقد خلقت الحيتان عندهم قبل الثدييات وما الحيتان إلا طور متأخر منها: «فخلق الله التنانين العظام
21
وكل ذوات الأنفس الحية الدبابة التي فاضت بها المياه كأجناسها وكل طائر ذي جناح كجنسه وقال الله لتخرج الأرض ذوات أنفس حية كجنسها بهائم ودبابات
22
ووحوش أرض كأجناسها وكان كذلك» (تكوين 1: 24).
وجعلوا الوحوش تطعم العشب: «ولكل حيوان الأرض وكل طير السماء وكل دبابة على الأرض فيها نفس حية أعطيت كل عشب أخضر طعاما» (تكوين 1: 30).
وعندهم أن الله خلق الحيوانات زوجين زوجين
23
ذكرا وأنثى، إلا الرجل فقد خلقه الله وترا لا شفعا: «وجبل الرب الإله آدم ترابا من الأرض ونفخ في أنفه نسمة حياة
24
فصار آدم نفسا حية»
25 (تكوين 2: 7).
وأسكن الله آدم جنة؛ أي حديقة، في بقعة اسمها «عدن» ثم عرض عليه الحيوانات كلها، فنشط آدم يضع لكل منها اسمه العلمي،
26
وهو عمل ضخم لا ينهض بمثله في الوقت الحاضر أقل من مجمع علمي كامل. بيد أن آدم كان في غضون ذلك معنيا بالبحث عن شريكة لحياته: «فدعا آدم بأسماء جميع البهائم وطيور السماء وجميع حيوانات البرية. وأما لنفسه فلم يجد معينا نظيره» (تكوين 2: 20).
ولاحظ الله أن آدم وحيد فريد، يفتقر إلى امرأة توفر له أنسه وتحفظ عليه جنسه، فعقد العزم على أن يطرفه بما يشتهي؛ غير أنه - ولا ندري لماذا - لم يخلق المرأة من العدم الأصلي الذي خلق منه الكون، أو التراب الذي خلق آدم، بل أوقع على الرجل سباتا وانتزع ضلعا من ضلوعه
27
صاغ منها امرأة فارهة
28
زفها إليه، وبلغهما أنه أباح لهما كل شيء ما عدا شيئا واحدا نهاهما أن يقرباه، وكان من الطبيعي أن يقربا هذا الشيء المدفوع عنه وأن يذوقا الفاكهة المحرمة.
29
ولسنا ندري ما هذه الشجرة العجيبة ذات القوى السحرية، شجرة معرفة الخير والشر؟ ولم أنبت الله هذه الشجرة في وسط الجنة ولم يجعلها في مكان ناء قصي؟ ولم نهى عن الأكل من ثمرها وعد تمييز الإنسان بين الخير والشر عملا عدائيا نحوه.
30
إن تمييز الإنسان بين الخير والشر هو بدء إدراكه الخلقي ومستهل مقدرته على توجيه مصيره، وهو ارتقاء لا انحطاط، فلم وجد يهوه في أكل الإنسان من ثمر هذه الشجرة كارثة حلت بشخصه؟ ولم ترتب على أكل الإنسان منها إقصاؤه عن الجنة: «قال الرب الإله: هو ذا الإنسان قد صار كواحد منا، عارفا الخير والشر. والآن لعله يمد يده ويأخذ من شجرة الحياة أيضا ويأكل ويحيا إلى الأبد» (تكوين 3: 22).
ومن هم أولاء الذين أشار الله إليهم بقوله: «كواحد منا»؟ هل هم آلهة آخرون؟
وما تلك الشجرة الأخرى ذات القوة السحرية التي تورث ثمارها الآكلين خلود الأبد؟
ولم ينكر يهوه على الإنسان أن يخلد على حين أنه لم ينكر ذلك على الكائنات الأخرى التي عناها بقوله: «كواحد منا»؟
وقد امتثلت حواء لأمر يهوه ردحا من الدهر، ثم دلفت إلى الجنة حية
31
لا ندري من أي أرض أقبلت، ولا نعرف كيف تسنى لها أن تلج الجنة، ولكنا نعرف أنها: «أحيل جميع حيوانات البرية التي عملها الرب» (تكوين 3: 1).
ولبثت الحية ترصد حواء حتى ألفتها على مبعدة من آدم وعلى مقربة من شجرة معرفة الخير والشر فتراءت لها وتحدثت إليها، ولا ندري متى حذقت هذه الحية اللغة العبرية؟ ولا كيف ظلت حواء ساكنة لا يبدو عليها شيء من الدهش وهي ترى حية عجماء تطارحها الحديث؟
وزينت لها الحية أن تذوق هذه الفاكهة ذاكرة أنها تؤتي آكلها الحكمة والسداد.
كان الله قد حذر آدم وحواء من ثمر هذه الشجرة قائلا: «لا تأكلا منه ولا تمساه لئلا تموتا، فقالت الحية للمرأة لن تموتا» (تكوين 3: 3-4).
ولكنهما أكلا ولم يموتا بل امتد العمر بآدم 930 سنة.
32 «فكانت كل أيام آدم التي عاشها تسعمائة وثلاثين سنة ومات» (تكوين 5: 5).
وليس في القصة ما يدل على أنه كان قبل مخلدا لا يموت كما تقول المسيحية
33
ولكن فيها ما يدل على أنه طرد من الجنة
34
حتى لا ... «يمد يده ويأخذ من شجرة الحياة أيضا ويأكل ويحيا إلى الأبد» (تكوين 3: 22).
وهكذا لم يقع لآدم وحواء ما أنذرهما به يهوه من حلول الموت الزؤام به ولكن حدث ما أنبأتهما به الحية من أنه: «يوم تأكلان منه تنفتح أعينكما وتكونان كالله عارفين الخير والشر» (تكوين 3: 5).
فقد انفتحت أعينهما حقا فعلما أنهما عاريان. «فانفتحت أعينهما وعلما أنهما عريانان ...» (تكوين 3: 7).
ولولا أنهما عصيا أمر يهوه لكنا نحن أيضا ما نزال إلى اليوم عراة لا يستر سوآتنا حجاب: «... فخاطا أوراق تين وصنعا لأنفسهما مآزر»
35 (تكوين 3: 7).
ولسنا نعلم متى تعلما الخياطة ولا من أين أتيا بالمخيط.
ومع أن الله موجود في كل مكان فرضا فقد قدم إلى الجنة من خارجها، ومع أنه ليس بذي رجلين فقد سمع الزوجان العاصيان خفق
36
نعليه: «وسمعا صوت الرب الإله ماشيا في الجنة عند هبوب ريح النهار» (تكوين 3: 8).
فتواريا وسط شجر الجنة من الإله الذي هو في كل مكان والذي هو عالم بكل شيء.
وبدأ يهوه يستجوب المتهمين، فألقى البطل التبعة على زوجته وألقتها هي على الحية: «فقال آدم: المرأة التي جعلتها معي هي أعطتني من الشجرة فأكلت.
37
فقال الرب الإله للمرأة: ما هذا الذي فعلت؟ فقالت المرأة: الحية غرتني فأكلت» (تكوين 3: 12-13).
وتم الاستجواب، ونطق يهوه بالحكم، وهو يقضي على الحية الجارمة، وعلى جميع الحيات غير المجرمات، وعلى ذراريها من بعدها، بأن يكون سعيها في الأرض زحفا على البطون وأن يكون غذاؤها التراب وأن تجد نفسها إلى الأبد عرضة لسحق رءوسها: «فقال الرب الإله للحية: لأنك فعلت هذا ملعونة أنت من جميع البهائم ومن جميع وحوش البرية. على بطنك تسعين وترابا تأكلين كل أيام حياتك.
38
وأضع عداوة بينك وبين المرأة وبين نسلك ونسلها. هو يسحق رأسك وأنت تسحقين عقبه» (تكوين 3: 14-15).
ويفهم من ذلك: (1)
أن الحيات كانت، قبل أن تجترم إحداها هذا الذنب في الجنة، تمشي منتصبة. (2)
وأنها كانت تتغذى بغذاء كالذي يتغذى به غيرها من ضروب الحيوان. (3)
وأنها غدت الآن تستف التراب. (4)
وأن التراب، وهو خليط من مواد غير عضوية، يصلح أن يتخذ غذاء للحيوان يتمثله الجسم الحيواني.
لقد خلق الله آدم بعيدا عن الكمال وما انفك يراقبه حتى وقع في المصيدة، ثم أوقع العقاب بالكائنات طرا، فلعن الحيات كلها من جريرة تلك الحية التي كان قد فسح لها مكانا في جنته، ثم لعن النساء جميعا في شخص أمهن حواء.
39 «تكثيرا أكثر أتعاب حبلك. بالوجع تلدين أولادا، وإلى رجلك يكون اشتياقك، وهو يسود عليك» (تكوين 3: 16).
فأما أوجاع الحمل والولادة فهي من معقبات المدنية والترف، ويزداد شعور الناس بها على قدر ازدياد حظهم من رفاهة العيش ورفاهة الشعور، على حين لا يشعر بها المتوحشون إلا هونا ما. ويلاحظ مثل هذا التباين بين الحيوانات الوحشية والمستأنسة. أما سيادة الذكر على الأنثى فهي القانون الساري في عالم الحيوان باستثناء أنواع قليلة مثل النحل. وقد لعن الله الأرض التي جبل منها آدم من جراء ما أتاه فوق ظهر أرض الجنة: «ملعونة الأرض بسببك. بالتعب تأكل منها كل أيام حياتك» (تكوين 3: 17).
وهكذا أصبح الجنس البشري كله آثما بإثم آدم وحواء، وحقت عليه كله اللعنة من أجل ثمرة واحدة من ثمار الفاكهة أكلت وكان آكلاها على غير خبر بالخير والشر، فإلى فضولهما مرد الخطيئة الأولى في العالم.
40
لقد أودى بنا نحن المساكين العاثري الجد تشهي حواء الفاكهة. هي أكلتها ونحن أصبنا بآلام المعدة، وسيظل ألوف الملايين من البشر يتلوون من الألم جيلا إثر جيل لأن حواء ذاقت ثمرة من ثمار تلك الشجرة.
وقد جوزي آدم وحواء على أكلتهما هذه بإخراجهما من الجنة، ولو أن آدم لم يستجب لدعوة زوجه لطردت هي وحدها وبقي هو في الجنة فردا عزبا لا أنيس له ولما كان ثم سبيل إلى مجيئنا نحن إلى هذا العالم غير التلقيح الصناعي.
وخشي يهوه أن يعود آدم إلى الجنة ويأكل من ثمار شجرة الحياة فيخلد، فأقام على باب الجنة سرية من الملائكة يذودون عنه ذلك المتطفل إن طوعت له نفسه أن يرجع، ونصب عند الباب سيفا ينفث نارا ولا يني يضرب في الهواء عن اليمين وعن الشمال ويغير اتجاهاته من تلقاء نفسه ليقطع خط الرجعة على آدم إذ كان من الجنة غير بعيد: «أقام شرقي جنة عدن الكروبيم ولهيب سيف متقلب لحراسة طريق شجرة الحياة» (تكوين 3: 24).
وليته كان قد اتخذ هذه الحيطة لمنع تسلل الحية إلى الجنة بدلا من إيصاده باب الإصطبل بعد فرار الحصان. ولسنا ندري ماذا كان من أمر السيف المتأجج المتوهج؟ فلعل مياه الطوفان أخمدت لهيبه!
ولسنا ندري ما الذي آل إليه أمر الحية؟ هل طردت هي الأخرى من الجنة أو هي ما تزال فيها؟ هناك من يزعم أن الحية لم تكن هي نفسها التي أغرت حواء، بل كان الشيطان هو الذي فعل ذلك متقمصا إياها، فإذا كان ذلك كذلك فلم لعن الله الحيات وجعلها تستف التراب؟
هذا، ويبدو أن الرب لم يرقه المئزران اللذان خاطهما آدم وحواء لنفسيهما من ورق التين؛ ولذا: «صنع الرب الإله لآدم وامرأته أقمصة من جلد وألبسهما» (تكوين 3: 21).
فمن أين جاء بالجلد الذي صنع منه الأقمصة؟ هل عمد إلى بعض حيوان الجنة فذبحه وسلخه ودبغ جلده، ثم خاطه؟ وهل كان، جل جلاله، جزارا وسلاخا (بشكيرجي) ودباغا وخياطا؟
لقد ضن يهوه على الإنسان الأول بثمرة من شجرة، فلما أكلها ضاعف للنساء آلام الحمل والولادة، وقسر الحيوان على سف التراب، وأغرق العالم كله بالطوفان، ثم انتحر صالبا نفسه على فلقة من خشب.
يتضح مما تقدم أن هذه الأقاصيص: (1)
قصة خلق الكون في 6 أيام. (2)
قصة الرجل الطين والمرأة الضلع. (3)
قصة خطيئة الإنسان ونفيه من الجنة.
هذه الأقاصيص جميعا: (1)
منتحلة من أساطير عالمية أقدم من التوراة عهدا. (2)
ليست مطردة النسق بل هي تناقض نفسها في مواطن شتى. (3)
ليست مطابقة للحقائق العلمية المعروفة بل هي تصطدم بها.
ولهذا عمد الذين نشروا «الكتاب المقدس للأحداث» في الولايات الأمريكية المتحدة إلى حذف هذه الأقاصيص منه. وقد التمس المفسرون منجاة من الحرج بتحميل ألفاظ الكتاب من المعاني ما لا تحتمل. (1)
فزعموا أن الأيام الستة التي خلق الله فيها خليقته ليست كهذه الأيام ذات الساعات الأربع والعشرين، بل إن كلا منها دهر طويل يقاس بألوف السنين. وإنه لزعم سقيم لا يتفق وقوله: «وكان مساء وكان صباح» (تكوين 1: 5، 8، 13، 19، 23، 31).
ولا سيما فيما يتصل بما بعد خلق الشمس في اليوم الرابع.
وإذا صدق تأويلهم هذا فماذا من أمر اليوم السابع؟ وهل يبقى بعد ذلك مبرر لتقديس يوم السبت؟ ثم ماذا عسى أن تكون جدوى الأعشاب والأشجار التي برأها الله في اليوم الثالث: «فأخرجت الأرض عشبا وبقلا وبزرا كجنسه وشجرا يعمل ثمرا بزره فيه كجنسه. ورأى الله ذلك أنه حسن وكان مساء وكان صباح يوما ثالثا» (تكوين 1: 12-13).
ولم يكن في تلك النباتات غناء لأحد، وهو لم يكن قد اعتزم أن يخلق البهائم وما إليها إلا في اليوم الخامس؛ أي بعد ألوف السنين.
وكيف قضى آدم في عزوبته ألوف السنين التي مرت بين اليوم الثالث الذي برأه الله فيه ثم أسكنه الجنة حسبما ورد في القصة الثانية (تكوين 12: 15).
واليوم السادس الذي خلق فيه حواء من إحدى ضلوعه؟ (تكوين 2: 21-22).
هل كان خلال تلك الحقب الطويلة يداعب الحيوانات ولا يصنع شيئا آخر؟
ثم كيف يكون آدم قد عاش تلك الألوف من السنين على حين أنه. «كانت كل أيام آدم التي عاشها تسعمائة وثلاثين سنة ومات» (تكوين 5: 5). (2)
وقالوا إن الجلد المذكور في قوله: «فعمل الله الجلد وفصل بين المياه التي تحت الجلد والمياه التي فوق الجلد وكانت كذلك. ودعا الله الجلد سماء» (تكوين 1: 7-8).
والسماء هي الفضاء الواسع الذي يحيط بالأرض فكيف يفصل بين مياه فوقه ومياه تحته؟ (3)
وقالوا إن قوله: «خلق الله الإنسان على صورته. على صورة الله خلقه. ذكرا وأنثى خلقهم» (تكوين 1: 27).
يفيد أنه خلقه على صورته في الطهر، وهو تفسير داحض يبطله أن آدم وحواء لم يكونا طاهرين؛ فإن الجنس البشري كله ما يزال يرزح تحت وقر خطيئتهما، وإن أبناءهما كذلك لم يكونوا أطهارا؛ فقد فتك أحدهم بأخيه وهو أشد ما يكون حاجة إلى عونه في تلك الوحدة التي تبعث الرهبة في النفس، كما أن حفدتهما الأدنين بلغوا من الفساد مبلغا جعل الله يندم على أن براهم: «فحزن الرب أنه عمل الإنسان في الأرض. وتأسف في قلبه» (تكوين 6: 6).
ولم يجد وسيلة يستدرك بها خطأه هذا غير إغراق الأرض بما عليها. (4)
وقالوا إن الله حين قال: «هو ذا الإنسان قد صار كواحد منا عارفا الخير والشر» (تكوين 3: 22).
إنما كان يتحدث عن الأقنومين الآخرين من أقانيم الثالوث، وهو تأويل واضح البطلان. (5)
وقالوا إن المعنيين بأبناء الله الذين افتتنوا ببنات الناس وتزوجوا منهن: «وبعد ذلك أيضا إذ دخل بنو الله على بنات الناس وولدن لهم أولادا ...» (تكوين 6: 4).
ليسوا سوى أبناء شيث بن آدم، وأما بنات الناس فما هن سوى بنات قايين قاتل أخيه هابيل.
وهنالك كثير من هذه التفسيرات المضللة لا تتصل بهذا المبحث، منها: (1)
أن مصارعة يعقوب لله في فنيئيل (تلك المصارعة التي انتهت بخلع حق فخذ يعقوب والتي كوفئ يعقوب على فوزه بتغيير اسمه وجعله إسرائيل) هي مصارعة في الصلاة. (2)
أن القطعة الخليعة المعروفة باسم نشيد الإنشاد إنما تصف الحب المتبادل بين المسيح وكنيسته، وأن ما ورد فيها عن ثديي المرأة وفخذها وبطنها إنما هي رموز لاتحاد يهوه والسيناجوح.
قصة الطوفان
عرض القرآن الكريم لطوفان نوح غير مرة، فعندما استغلظ أمر المشركين ولقي الرسول منهم عنتا فادحا نزلت آيات من القرآن تترى تنذرهم بوخامة عاقبتهم وتبصرهم بما حل بأقوام قبلهم بغوا على أنبيائهم فأهلكهم الله بوسائل شتى.
فأما ثمود فأهلكوا بالطاغية * وأما عاد فأهلكوا بريح صرصر عاتية (الحاقة: 5-6).
وأما قوم نوح فأهلكوا بالطوفان (الذاريات: 41-46). وليست قصة قوم نوح في القرآن بمختلفة في الأهمية كثيرا عن قصص عاد وثمود وغيرهم بل هم سواء،
ألم يأتكم نبأ الذين من قبلكم قوم نوح وعاد وثمود والذين من بعدهم لا يعلمهم إلا الله جاءتهم رسلهم بالبينات فردوا أيديهم في أفواههم وقالوا إنا كفرنا بما أرسلتم به وإنا لفي شك مما تدعوننا إليه مريب (إبراهيم: 9).
ويلاحظ أن مسرح الأحداث في كل قصة لم يكن يتجاوز قرية واحدة أو بضع قرى متجاورات. وليس يشذ الأمر عن ذلك فيما يتصل بقوم نوح؛ فقد أهلك الله قريتهم بالطوفان؛ أي بفيضان عارم من دجلة والفرات كان عنيفا مخيفا كذلك الذي دهم أهل العراق في أبريل من سنة 1839م؛ إذ طمت أمواه الرافدين فطغت في شوارع بغداد وما إليها حتى ناهزت مترين وركبت البلاد حتى كانت السفن تمخر فيها، وكان المرء لا يبصر أينما ضرب ببصره غير لجة لا يدرك الطرف مداها ولا يبرز منها غير ذرى المآذن وشطب النخيل (وهو سعفها الأخضر).
وإذ كان إبرام وصحبه مؤسسو فلسطين من تلك النواحي فمن الممكن القول بأن مخيلتهم كان قد انطبع فيها ذكرى فيضان من هذا القبيل.
ولكن صناع التوراة لم يرقهم أن يكون شأن نبيهم العبري نوح هينا كشأن النبي العربي صالح، ولم يرضهم أن ينحصر طوفان نبيهم وراء حدوده المحلية، ولم يقنعوا بأقل من إغراق الكوكب الأرضي من أكنافه الأربعة، ورأوا ألا تكون قصة الطوفان قصة مستقلة قائمة بنفسها فوصلوها بغيرها؛ ليجعلوا منها فصلا هاما في ملحمة صهيونية يهودية طويلة مفادها أن الله اختبر عباده، فأبدى بنو آدم من بادئ الأمر كثيرا من سوء السيرة وخبث السريرة، وما فتئت ذرية آدم تزداد على الزمن ارتداغا في الأوحال وإيغالا في الآثام حتى أصبحت لا تطاق فلم يجد خالق الأرض مندوحة عن إغراقها: ما عليها ومن عليها، لم يستحي من بني آدم كلهم غير نوح وبني نوح وزوجاتهم؛ فجماع البشرية في الوقت الحاضر هم بنو نوح كما أنهم بنو آدم.
على أن الطوفان الذي أغرق الناس لم يغرق الشيطان الذي يوسوس في صدور الناس من الجنة والناس؛ ومن ثم لم يبرح الناس سادرين في مهاوي الغواية لا ينبو عنهم في ذلك سوى بني إسرائيل، فاتخذهم الله شعبا مختارا له، وارتضى لهم الصهيونية شعارا، وإبادة جيرانهم العرب مذهبا، وواثقهم على أن يقطعهم أخصب الأودية المعروفة في ذلك الزمان وسائر البقعة الوسيطة من الأرض المترامية بين النيل والفرات: «في ذلك اليوم قطع الرب مع إبرام ميثاقا قائلا لنسلك أعطي هذه الأرض من نهر مصر إلى النهر الكبير نهر الفرات» (تكوين 25: 18).
وقد أراد كتاب التوراة أن يسوغوا اعتداء الإسرائيليين على البلاد التي يغزونها فادعوا أن أهل تلك البلاد قد منوا بلعنة من البطارقة الكبار أمثال نوح وإبرام وإسحاق، وأن الله فضل بني إسرائيل على كل من عداهم، وأحل لهم - من ثم - سفك دماء سائر الناس واستلاب أموالهم والإجحاف بحقوقهم. ولما كلت قرائحهم البليدة عن تبيان ما اختص إله اليهود به شعبه المختار من عظيم الخلال وما أتاه هذا الشعب من مجيد المكرمات التي تسبغ عليهم الفضل المزعوم، لجئوا إلى محاولة إسقاط مروءة الشعوب المعروفة لهم؛ فألصقوا بها وبزعمائها من المخازي ما يسف بهم إلى دركات أحط من درك اليهود، وأقاموا في سفر التكوين سلسلة من المصافي، تحجز كل مصفاة منها شعبا من الشعوب بعد أن يحمله الأحبار المؤلفون من ضخام الأوزار ما تضيق إزاءه ثقوب المصفاة عن إمراره. (1)
وكان طوفان نوح هو المصفاة الأولى وقد سدت الطريق في وجوه بني آدم ليقتصر المرور على بني نوح وهم طلائع بني إسرائيل. (2)
وقد أسهبت التوراة في وصف رحلة نوح على متن سفينته، ثم افتنت في تبيان ألوان الأطعمة التي قربها نوح على مذبح إلهه بعد انحسار الطوفان، ثم سكتت فلم تذكر من أمره بعد ذلك سوى حادثة واحدة بادية التفاهة كانت هي المصفاة الثانية التي ضاقت ثقوبها عن أن تسمح بمرور حام بن نوح، فأقصته هو وابنه كنعان من زمرة الأخيار الذين بارك فيهم آباؤهم، وبذلك لم يظفر بالمرور من الإخوة الثلاثة سوى سام مؤسس الجنس السامي الذي ينتمي إليه بنو إسرائيل.
فقد ذكرت أن نوحا أخلد إلى حياة الأسرة وعاش زوجا ورب بيت يجمع حوله أولاده وحفدته. وشرع وهو في مستهل القرن السابع من عمره يغرس بستانا من الكروم حتى إذا ما أينع العنب عصره خمرا وشرب منها وأفرط في الشرب فغاب عن وعيه وانكشفت سوأته: «فأبصر حام أبو كنعان عورة أبيه وأخبر أخويه خارجا ... فلما استيقظ نوح من خمره علم ما فعل به ابنه الصغير فقال: ملعون كنعان. عبد العبيد يكون لإخوته. وقال: مبارك الرب إله سام. وليكن كنعان عبدا لهم. ليفتح الله ليافث فيسكن في مساكن سام. وليكن كنعان عبدا لهم» (تكوين 9: 22-27).
وإنا لا نرى في وقوع نظر حام على عورة أبيه وتحدثه في ذلك إلى إخوته ما يستتبع تلك النتائج الخطيرة التي ترتبت على وشاية أخويه به إذ صب أبوه الموحى إليه لعنته على كنعان بن حام. ولسنا ندري لم تخطى نوح بلعنته المستجابة حاما إلى كنعان ابنه، إلا أن تكون القصة كلها قد وضعت لتبرير المذابح البشعة التي أحدثها الإسرائيليون في فلسطين وما زالوا يحدثونها هناك ولتسويغ سفك دماء العرب الكنعانيين التي ضرجوا بها ثرى تلك البلاد .
أجل، لقد استطاع كاتبو التوراة بهذه الفرية أن يضربوا بحجر واحد عصفورين معا: (أ)
حث اليهود على استعباد شعوب وادي النيل من مصريين وسودانيين وحبش بزعم أن جدهم حاما باء بلعنة من أبيه نوح. (ب)
تحريضهم على اصطلام العرب أصحاب فلسطين بزعم أن جدهم كنعان باء بلعنة من جده نوح، وهؤلاء العرب الكنعانيون هم الذين نافحوا عن الوطن الفلسطيني ما يربي على 4 قرون واستعصى على اليهود تدويخهم حتى زمن الملك داود. (3)
ولما استتب الأمر للساميين بدت الحاجة ماسة إلى مصفاة ثالثة لتنحية لوط عن منافسة عمه إبرام، فذكروا أن لوطا استطاب المقام في ربوع سدوم وعمورة؛ ذلك الماخور الذي تمارس فيه متعة الجنس في مختلف ألوانها، ثم انتهى به الأمر إلى أن نزا وهو مخمور على ابنتيه فافترعهما في ليلتين متتاليتين، وأولد إحداهما ولدا أسماه مؤاب وأولد الأخرى ولدا أسماه بن عمي، وبذلك لوثوا شرف المؤابيين والعمونيين - ألد خصوم الإسرائيليين وأشد محاربيهم صلابة وشجاعة - وزعموا أن مجيئهم إلى العالم كان وليد عمل من أعمال العهر والفجور، فهم أولاد زنية؛ وتلك أكبر مثلبة يرمى بها امرؤ في ذلك العصر. (4)
وهكذا خلا الجو لإبرام، أبي اليهود وأبي الأنبياء. وقد رزقه إلهه ولدين فوجب أن تكون هناك مصفاة تمرر أحدهما وتحول دون مرور الآخر.
وقد فصلت التوراة قصتهما فذكرت أن ساراي امرأة إبرام، وكانت عجوزا عقيما، أشفقت أن يموت زوجها غير معقب وتلك سبة عند العبريين، فاقترحت عليه أن يدخل بجاريتها المصرية هاجر فيكون له منها ولد. وبنى إبرام بهاجر فولدت له إسماعيل، ثم وفد عليه نفر من الملائكة وأصابوا عنده من الطعام الذي جهزته امرأته ساراي ما طابت به أنفسهم فبشروها بأنها ستحمل وتلد، وتحققت البشرى فولدت له إسحاق وهو عبري خالص غير مهجن، وبذلك لم يبق من حاجة إلى الأمة وابن الأمة، فطردت سارة جارتها هاجر وابنها إسماعيل وأصبح إسحاق هو الذبيح الذي فداه الله بذبح عظيم. (5)
ورزق إسحاق ولدين توأمين كان أولهما إبصارا للنور هو عيسو وتلاه يعقوب، فوجب إقصاء أحدهما من الميدان، ومن الطبيعي أن يقصي عيسو «العيص» وأن يستبقي يعقوب؛ لأن يعقوب هو إسرائيل أبو بني إسرائيل رؤساء الأسباط (أي القبائل) اليهودية. وقد كتب الفوز لإسرائيل على أخيه عيسو بفضل مكيدة حاكتها أمه؛ إذ ألبسته ثياب أخيه في غيبته ومضت به إلى أبيه الكليل الطرف وقدمت له طعاما طيبا زعمت أنه من صيد ابنه عيسو، فخدع الرجل بابنه الأصغر يعقوب فباركه وهو يحسب أنه الابن البكر عيسو: «فشم رائحة ثيابه وباركه وقال ... ليستعبد لك شعوب وتسجد لك قبائل. كن سيدا لإخوتك وليسجد لك بنو أمك. ليكن لاعنوك ملعونين ومباركوك مباركين» (تكوين 27: 27-29).
ويلاحظ أن إسحاق لم يذكر في مباركته هذه اسم ابنه الذي فاضت عليه بركته ولا اسم ابنه الآخر الذي حلت عليه لعنته، على نحو ما فعل نوح حين قال: «ملعون كنعان. عبد العبيد يكون لإخوته. وقال: مبارك الرب إله سام، وليكن كنعان عبدا لهم» (تكوين 9: 25-26).
فقد كان الحديث كله مفصلا على قد الغرض النهائي الذي يسعى إليه أحبار اليهود وهو إصدار مرسوم (فرمان) يخول بني إسرائيل الحق في أن ينهبوا العالم طرا.
وقد عاش نوح بعد الحقبة التي ذكرنا أخباره فيها 350 سنة طواه فيها النسيان؛ إذ إن كتاب التوراة أغفلوا أمره فيها كما أغفلوا قبل ذلك ما كان من أمر آدم وحواء بعد طردهما من الجنة فلم نعرف كيف عاشا فوق ظهر الأرض ولا أين طواهما بطنها.
وإنما أغفل كتاب التوراة بقية سيرة نوح لأن الإفاضة فيها لا ينال بها الغرض الوحيد الذي وضعوه نصب أعينهم وهم يحبرونها ألا وهو الدعاوة للصهيونية ودعوة بني قومهم إلى الإغارة على البلاد العربية المجاورة ذات الخصب والثراء، وحثهم على اجتثاث أهلها والحلول محلهم في مرابعهم، واستعباد من بقي منهم في قيد الحياة واستذلالهم وممارسة النخاسة فيهم.
وفي سبيل هذه الغاية لم يبال صناع التوراة أن يفسدوا قصة الطوفان إفسادا شاملا، وقد أسهبوا في تفصيل ما تسرد من أحداث وتحديد ما تبين من أوصاف وغلوا في تضخيم ما تشتمل عليه من إحصاء، فإذا تلك الأحداث ليست مستحيلة الحدوث فحسب، بل هي كذلك تستعصي على التصور، لقد خيل إليهم خبالهم أنه بما أن الله قادر على كل شيء فمن الميسور أن يعزى إليه فعل أي شيء وإن تكن فيه لسنن الطبيعة مجافاة، ولأحكام العقل والمنطق منافاة، ولمكارم الأخلاق مجانبة، ومن الميسور أن يزعموا أن صدره قد وغر عليه من جراء مسلك أناس نكرات في ركن قرية نائية، فما عتم أن غمر بالطوفان وجه البسيطة فإذا الكرة الأرضية قد استحالت كرة مائية، ولم يبق ثم غير خضم لجب لا شاطئ له، تطفو فوق صفحته المتلاطمة جثث الخلائق الأبرياء ومن بينها جثث الذين عاونوا نوحا في بناء سفينته.
يا لهول الآلام المروعة التي عاناها أولئك المساكين وهم يشهدون المياه المتفجرة من أسفل تعلو حثاثا وتبتلعهم فريقا إثر فريق، فيهرولون إلى التلال ويصعدون في الجبال في عجلة محمومة علها أن تعصمهم من الكارثة. وقد مد الفتيان أيدي المعونة إلى الفتيات واحتضنت الأمهات أولادهن ليدرأن عنهم غائلة الردى، ولكن ما جدوى أن يرحم الهالكون بعضهم بعضا وقد طردهم الرحمن الرحيم جميعا من واسع رحمته؟! وما لبث المتسلقون أن تهاووا بين اللجج وما أبطأ السابحون أن خذلتهم سواعدهم، فأخرست الصرخات اللاهفة، وأطبق على العالم صمت الموت الرهيب ... حتى إذا ما انحسر الطوفان بعد عام وبعض عام برز سطح الأرض أجرد من النبت لا يكسوه إلا جثث المغرقين.
إن اللغة التي كتبت بها هذه القصة في التوراة لا تدع مجالا للشك في أنها تتحدث عن طوفان عالمي غمر الأرض من أقصاها إلى أقصاها؛ فقد برح الأسى بالرب؛ لأنه برأ الجنس البشري، فحزم أمره على أن يزهق نفوس الناس جميعا، ويأتي على جميع مظاهر الحياة في الأرض، وأنفذ مشيئته: «فتغطت جميع الجبال الشامخة التي تحت كل السماء. خمس عشرة ذراعا في الارتفاع تعاظمت المياه. فتغطت الجبال. فمات كل ذي جسد كان يدب على الأرض» (تكوين 7: 19-21).
وفي هذه القصة من الشطط ما جعل بعض المبرزين من كتاب المسيحية يتحرجون من إقرارها، ويلتمسون المهرب من ذلك في الزعم بأنها إنما تصف طوفانا بحريا محليا اقتصر أذاه على تلك البقعة من الشرق الأوسط. بيد أن سهل العراق ليس بالذي يلائم حدوث طوفان بحري يغمر رقعته؛ فهو يرتفع عن سطح البحر في الشمال قرابة 180 مترا ويهبط تدريجا في اتجاه الجنوب على امتداد 500 كيلومتر أو 600 كيلومتر حتى يدرك البحر.
ولو أن الطوفان كان مقصورا على المنطقة الممتدة إلى جبال أراراط لبرز لنا سؤال محير هو كيف يمكن أن ينتصب جدار من الماء يربي سمكه على 4 كيلومترات وأن يظل سنة كاملة متماسكا دون أن ينهار فيغمر الماء الأراضي المتاخمة.
لقد غالى كتاب التوراة في تضخيم طوفان نبيهم حتى أصبح يصطدم مع كل معلوماتنا الحديثة ومع تذكيرنا المنطقي السديد، فإذا قرأ المرء هذه القصة في صورتها اليهودية دارت بباله طائفة من الأسئلة: (1)
لماذا خلق الله آدم ثم أباد بني آدم كلهم باستثناء نوح وبنيه وزوجاتهم؟ لماذا لم يوفر على الناس ما جشمهم من عناء وعنت، بأن خلق نوحا وزوجته بادئ بدء تاركا آدم وحواء وأبناءهما طي التراب الذي جبل منه آدم؟ ما جدوى تلك التجربة المخفقة التي دامت 1656 سنة وقد كان جل جلاله في غنى عنها لسابق علمه بالنتيجة التي ستنتهي إليها؟ (2)
لماذا ندم الرب على أنه برأ الحيوان: «فقال الرب: أمحو عن وجه الأرض الإنسان الذي خلقته. الإنسان مع بهائم ودبابات وطيور السماء لأني حزنت أني عملتهم» (تكوين 6: 7)، مع أن الحيوان لم يأكل من الفاكهة المحرمة ولم يطمح ببصره إلى أن يطعم من شجرة الحياة؟ (3)
ولماذا أقحم تلك الحيوانات الطاهرة البريئة في تلك المحنة المروعة وحملها تلك الآلام الوبيلة؟
في هذه القصة، كما هو الشأن في سائر قصص «العهد القديم» يشاطر الحيوان الإنسان حظه؛ فقد حرى بنو إسرائيل على أن يقتلوا كل من يلقونه - في البلاد التي يغزونها - من الرجال والنساء والأطفال ومن الحيوان كذلك.
ومن المعقول أن تكون هذه هي عدالة بني إسرائيل، ولكن من غير المعقول ومن غير المقبول أن تكون هي عدالة الله. (4)
كيف وصلت الحيوانات التي أقلتها سفينة نوح إليها وأكثرها يقيم في أصقاع نازحة؛ فالكنجرو - مثلا - يعيش في أستراليا دون غيرها، والحيوان الكسلان لا يعيش خارج أمريكا الجنوبية، والزرافة لا تستوطن إلا أفريقيا، وقرد الأورانج أوتان (إنسان الغاب) لا يسكن في غير جزيرتي بورنيو وسومطرة؟
هل طاف نوح بسفينته على القارات الست في غضون المدة التي أمهله إياها يهوه لإدخال الحيوانات في السفينة وقدرها أسبوع واحد، أو كانت الحيوانات هي التي قدمت بنفسها إلى السفينة؟
وكيف قفزت الحيوانات التي لا تحسن السباحة من قارة إلى أخرى، وكيف كانت الحيوانات تحصل على قوتها في الطريق؟
وكم سنة أمضاها الحيوان الكسلان في مسيرة ما يربي على 10000 كيلومتر من أمريكا الجنوبية إلى العراق وهو لا يستطيع أن يقطع أكثر من 15 مترا في اليوم؟
وكيف تسنى لنوح أن يودع السفينة كل هذا الحشد الضخم من الحيوانات في أسبوع واحد. (5)
ما عدد الحيوانات التي استصحبها نوح من كل نوع حتى يحتفظ بمختلف الأنواع؟ 2 أم 7 أم 14؟
إننا نجد بادئ الرأي أمرا صريحا إلى نوح بأن يسلك السفينة من كل زوجين اثنين: «من كل ذي جسد اثنين. من كل تدخل إلى الفلك لاستبقائها معك. تكون ذكرا وأنثى» (تكوين 6: 19).
ثم نجد بعد ذلك أمرا مخالفا لما تقدم يقول: «من جميع البهائم الطاهرة تأخذ معك سبعة سبعة ذكرا وأنثى. ومن البهائم التي ليست بطاهرة اثنين ذكرا وأنثى. ومن طيور السماء أيضا سبعة سبعة ذكرا وأنثى» (تكوين 7: 2-3).
إذا أخذنا بالنص القائل بأن نوحا حمل معه 14 أنموذجا من كل نوع من أنواع البهائم والطيور ألفينا أن ذلك يزيد في عدد الحيوانات التي أقلتها السفينة بحيث يجعلها بحاجة إلى سفينة مترامية الأطراف تبدو إزاءها سفينة نوح بأبعادها المعروفة أشبه شيء بقوارب النجاة، وإذا قبلنا النص القائل بأنه لم يأخذ معه سوى زوجين (أي اثنين) من كل نوع ارتطمنا في المحظور عندما يصعد نوح محرقاته عقب انحسار الطوفان: «وبنى نوح مذبحا للرب. وأخذ من كل البهائم الطاهرة ومن كل الطيور الطاهرة وأصعد محرقات على المذبح فتنسم الرب رائحة الرضا» (تكوين 8: 20-21). (6)
كم يوما لبث تدفق الطوفان؟ «كان المطر على الأرض أربعين يوما وأربعين ليلة» (تكوين 7: 12).
ولم تزل المياه المنهمرة تطمو حتى غمرت الأرض كلها وحجبت قمة أفرست الشاهقة بجبال هيمالايا (ويبلغ ارتفاعها عن سطح البحر 8840 مترا). وكانت المياه تعلو بمعدل 225 مترا في اليوم؛ أي ما يذرف على 10 أمتار في الساعة.
لقد خلق الله الكون كله في 6 أيام ولكنه استنفذ في إغراق الكوكب الأرضي وحده 40 يوما.
وبقيت المياه محتفظة بمنسوبها المرتفع زمنا غير قليل: «وبعد مائة وخمسين يوما نقصت المياه» (تكوين 8: 3).
وهذا يفيد أن الطوفان انتهى بعد 5 أشهر، وإنها لفترة كافية لاستئصال شأفة الجنس البشري وشأفة سائر الحيوان. بيد أننا نجد عند متابعتنا القراءة أن الكارثة دامت 337 يوما وإن لم نتبين وجه الحكمة في إطالة هذا المشهد الفاجع. (7)
كيف استطاعت هذه السفينة الساذجة البناء المحدودة السعة أن تضم جميع النماذج الحيوانية المتكررة مع عظم عددها؟ إن ما نعرفه من أنواع الحشرات وحدها يربي على نصف مليون نوع، وبين الحيوانات المنقرضة ما كان يتسم بضخامة الجرم.
وعلى أي أساس انتخب نوح النموذجين أو النماذج المتعددة للأنواع الحيوانية التي أقلتها سفينته؟ هل اختار أقوى الحيوانات أو أجملها أو هو التقطها كيفما اتفق؟ وهل كان ثم حيوانات أخرى لم يقع عليها لاختيار في تلك المباراة للجمال وكمال الأجسام؟
وهل عادت تلك الحيوانات إلى أوطانها في مختلف الأصقاع القطبية والاستوائية وما بينها أو هي هلكت بالطوفان؟
وهل قدر نوح أن تكون الإناث غير حوامل حتى لا تورثه دوارا وتسبب لسفينته متاعب هي في غنى عنها؟
وكيف استطاع، ولم يكن مجهزا بمجهر، أن يميز بين الذكر والأنثى من الحشرات وما في حكمها؟ (8)
لئن كانت السفينة لا تتسع لمئات الألوف من الحيوانات إنها لأحرى ألا تتسع لما يكفيها من طعام وشراب طوال مكثها فيها، وإن الحيوان ليحتاج من العلف والماء في العام إلى ما يزن أكثر من عشرة أمثاله.
وجدير بنا أن نلاحظ فوق ذلك تعدد ألوان العلوفة اللازمة لمختلف الحيوانات ؛ فالعواشب تتقوت بالعشب. واللواحم من السباع تفترس آكلات العشب. ومن الطيور الجارحة ما يأكل البغاث وما إليه من صغار الطير، ومن الطير ما يلتهم السمك والديدان والحشرات وما إلى ذلك، والحرباء تأكل الذباب، وأسد النمل يزدرد النمل، والنحلة تتغذى برحيق الأزهار، أما الزواحف العملاقة فقد كانت تستنفد في غذائها غابات بأكملها. (9)
لقد حمل نوح معه نماذج حيوانية ولكنه نسي أن يحمل معه نماذج نباتية، فكيف وجدت الحيوانات بعد انحسار الطوفان ما تقتاته وقد أهلك الطوفان نبات الأرض وحيوانها؟ وهل كان من الممكن أن تبقى الأشجار متأصلة في مغارسها وقد أذاب الماء الثرى من حول جذورها؟ وهل كان من الممكن أن تحتمل الأشجار وقر كيلومترات من الماء لا يقل ضغطها عن 8000 طن على كل متر مربع؟
لسنا ندري كيف ثابت الحياة إلى عالم النبات، ولكنا نفرض أن الأمر استلزم سنة حتى تنبت الأرض ما يكفي لعلف آكلات العشب من حيوانات السفينة، ومعنى ذلك أنه كان على نوح أن يحمل مع تلك الحيوانات ما يقوم بأودها سنتين لا سنة واحدة، وهذا يعدل وزنها 20 مرة أو 30.
إنا لنرثي لنوح وأولاده وزوجاتهم فقد كان عليهم أن يقوموا بأعمال سواس للدواب ومروضين للوحوش وحواة للثعابين، وأن يؤلفوا بين الحيوانات المتعادية بفطرتها (كالذئب والكلب). وكان عليهم أن يكسحوا أرواث الحيوانات وأبوالها ويلقوا بها من النافذة الضيقة التي ليس ثم غيرها في السفينة ذات الطبقات الثلاث. ولا ريب أن الروائح الخبيثة كانت تنبعث بقوة في ذلك الإصطبل الطافي فوق العباب فتزكم آناف نوح وعترته، ولعله كان عليهم أيضا أن يقوموا بتكييف الهواء على نحو ما ليهيئوا لمختلف الحيوانات ما يلائمها من الأجواء. (10)
ما الذي كان من أمر الحيوانات التي لا تطول آجالها أكثر من بضعة أسابيع أو بضعة ايام؟ إن الذباب يعيش في طور الحشرة الكاملة أقل من شهر، وتستغرق دورته الكاملة ما دون الشهرين، فهل ماتت الذبابتان اللتان اصطفاهما نوح قبل أن تريا البر؟
وهل أنتجتا قبل موتهما 500 ذبابة جديدة تبيض كل مما فيها من الإناث 500 بويضة تخرج منها 500 ذبابة أخرى، وهكذا دواليك فلا ينتهي الطوفان بعد سنة وبضعة أيام حتى تكون السفينة قد أصبحت تعج بالذباب. (11)
ما الذي صار إليه أمر السمك والحيوانات البحرية التي تعيش في الماء العذب الفرات وتلك التي تعيش في الماء الملح الأجاج بعد أن امتزجت مياه البحار بثمانية أمثالها من مياه الأمطار لكي تحجب قنن الجبال؟ أغلب الظن أن كثرة من ذلك السمك قد هلكت وهلكت معها سائر الحيوانات البحرية بعد أن أصبحت المياه التي تحتويها غير ملائمة لحياتها. (12)
من أين انسابت كل تلك المياه التي غمرت الكوكب الأرضي والتي بلغ سمكها 9 كيلومترات: «انفجرت كل ينابيع الغمر وانفتحت طاقات السماء» (تكوين 7: 11).
ترى أين هذه الينابيع؟
يتوهم الكاتب الموحى إليه أن في قيعان البحار ينابيع في طاقتها أن تفيض بمقادير غير محدودة من الماء مدخرة في مستودع مركزي بباطن الأرض. ولكن كيف تنبثق المياه من الينابيع إلى الأعلى؟ إن العلم ينكر هذه الينابيع ويقول بأنه إذا صح أن في باطن الأرض مستودعا مركزيا لمادة ما فإنما تفعمه ... السائلة لا المياه.
ويتوهم الكاتب الموحى إليه كذلك أن ثم مقادير هائلة من الماء مودعة فوق ذلك الجسم الصلب الذي يدعونه الجلد يعنون به قبة السماء: «وقال الله ليكن جلد في وسط المياه وليكن فاصلا بين مياه ومياه. فعمل الله الجلد وفصل بين المياه التي تحت الجلد والمياه التي فوق الجلد. وكان كذلك ودعا الله الجلد سماء» (تكوين 1: 6-8).
وهذه المياه العليا هي التي تهطل عندما يمطر الناس، فإذا رضي الله عن عباده الصالحين تفرج لهم عن قدر من هذه المياه تروي غلتهم وتنمي غلتهم.
ولما حزم الله رأيه على إغراق الأرض فتح النوافذ التي في الجلد على مصاريعها فانشعب الماء منها بقوة عارمة وارتفعت مياه البحر حتى طمت على كل طود عظيم.
إننا نعلم اليوم أن الأمطار إنما يسحها السحاب، وأن السحاب إن هو إلا بخار المياه المتصاعد من متون البحار، فإذا ما مطرت السماء ارتدت المياه إلى البحار ثم تكرر صعود البخار وهطول الأمطار دون أن يرفع ذلك من مستوى سطح البحر قلامة ظفر، وهو أمر كان الشاعر العربي على بصر به حيث قال:
كالبحر يمطره السحاب وما له
فضل عليه لأنه من مائه
ولكن كتاب التوراة كانوا يجهلون قوانين التبخر. (13)
ومهما يكن من أمر المنبع الذي مج تلك الأمطار الدافقة فأين ترى تسربت تلك المقادير الهائلة من المياه عندما انحسر الطوفان عن اليابسة؟ إن تصوب تلك المياه أي نزولها من عل أمر يمكن للعقل تصوره وإن كان العلم ينكره، أما تصعدها إلى عل فأمر يجل عن التصور. (14)
وقد هامت السفينة على وجه الماء شهورا طوالا ثم غاص الماء واستقرت السفينة على جبال أراراط بأرمينيا (على مقربة من حيث ينبع الفرات).
ولم يتبين نوح أحسر الماء عن اليابسة أم هو ما فتئ يغمرها؛ ولهذا أطلق بعض الطيور تستجلي له ذلك، بادئا بالغراب النوحي: «وعاد فأرسل الحمامة من الفلك فأتت إليه الحمامة عند المساء وإذا ورقة زيتون خضراء في فمها. فعلم نوح أن المياه قد قلت عن الأرض فلبث أيضا سبعة أيام أخر وأرسل الحمامة فلم تعد ترجع إليه أيضا» (تكوين 8: 10-12).
وشجرة الزيتون التي أتت الحمامة نوحا بورقة منها، كيف تأتى لها أن تبقى سليمة وقد ظلت أكثر من سنة تحت مياه سمكها كيلومترات تضغطها ضغطا ماحقا مع ما نعرفه من رقة شجر الزيتون تحمله؟ (15)
كيف رجعت الحيوانات من جبال أراراط المجللة بالثلوج (لأنها فوق خط الثلج الدائم إذ إنها تعلو مستوى سطح البحر بأكثر من 4 كيلومترات) إلى مواطنها الأول في متباين القارات؟ وكيف اهتدت إلى تلك المواطن حيث كانت تعيش بنات أجناسها؟ وكم سنة استغرقتها الحيوانات الوئيدة السير في مآبها آلاف الكيلومترات والباقي من عمرها لا يفي بذلك؟ •••
من العسير أن يجيب المرء عن أي من هذه الأسئلة بإجابة مقنعة؛ فقصة الطوفان اليهودية لا تقبل دفاعا ولا يسلم بصحتها في الوقت الحاضر إلا رجل يفكر في القرن العشرين بعد الميلاد تفكير الذين كانوا يعيشون في القرن العشرين قبل الميلاد؛ رجل يتمتع بعقل كعقول الأطفال وتصديق ساذج كتصديق العجائز.
برج بابل
كان الناس، والبشرية في طفولتها، يشعرون بتقاصر أنفسهم بين أيدي الآلهة وتحاقرها إليهم. وقد عبروا عن تلك المشاعر في مواطن شتى بأساطير مختلفة تقص أنباء جبابرة عصاة طمحوا إلى مشاركة الآلهة في السماء أو نفيهم منها، فابتلى الآلهة أولئك الجبابرة التاعسين ببلبلة ألسنتهم عقابا لهم على ما اجترحوا من إثم، ومن ذلك ما يرويه أهل المكسيك نقلا عن أسلافهم الأقدمين من أن أحد الذين نجوا من غائلة الطوفان بنى هرما ليبلغ به أسباب السماء، فأوغرت جرأته صدور الآلهة، فرموا البناء بشعلة من نار فأتت النار عليه وأصبحت كل أسرة من بناة الهرم تنطق لسانا خاصا بها.
1
وليست أسطورة برج بابل التي يتناقلها اليهود في هذا المعنى بعبرية الأصل، بل هي - كالكثير من أساطير التوراة - مستعارة بحذافيرها من الكلدانيين؛ فقد روى الكاهن الكلداني بروزس أن الرعيل الأول ممن عمروا الأرض، وقد كانوا ضخام الأجسام موثقي القوة، حقروا الآلهة واستسخروا منهم وأقاموا برجا يبلغ رأسه عنان السماء، وما عتمت الرياح أن ساعفت الآلهة فأطاحت بالبرج،
2
وأحدث الآلهة بلبلة في ألسنة الناس وكانوا قبل يتكلمون لسانا واحدا. ومن المحتمل أن تكون هذه القصة مما كان الكلدانيون يتذاكرونه عن معبد بلوس الشهير الذي لم يتم بناؤه وهو من روائع العمارة.
يذكر الكتاب المقدس أن ذرية نوح كلها. وقد كثر عددها بعد الطوفان، ارتحلت ميممة صوب المشرق إلى أن حطت رحالها في أرض شنعار؛ أي في بابل، فأقاموا بها بعض الوقت ثم: «قال بعضهم لبعض هلم نصنع لبنا ونشوه شيا. فكان لهم اللبن مكان الحجر. وكان لهم الخمر مكان الطين» (تكوين 11: 3).
ويؤخذ من ذلك أن أولئك القوم توصلوا إلى اختراع الآجر دفعة واحدة دون أن يتدرجوا في صناعة مواد البناء فيبدءوا بصنع اللبن المجفف في أوار الشمس ويشيدوا به منازلهم ردحا من الدهر ثم ينتقلوا خطوة تالية فيشووه في النار.
ثم تجاذبوا أطراف الحديث و: «قالوا هلم نبن لأنفسنا مدينة وبرجا رأسه بالسماء ونصنع لأنفسنا اسما لئلا نتبدد على وجه كل الأرض» (تكوين 11: 4).
فكيف جال بأذهانهم أن يقوموا بالدعاوة لأنفسهم في عالم ليس فيه غيرهم، وأن يكونوا فيه معلمين؟ وكيف يحول اشتهار اسمهم وذيوع صيتهم دون تشتتهم في مختلف أقطار المعمورة؟ وكيف دار في أخلادهم أن يبنوا مدينة وهم لم يروا مدينة من قبل؟ إن المدن تبنى في قرون، والمثل الإنجليزي يقول: إن روما لم تبن في يوم واحد.
ولسنا ندري ما الذي آلت إليه فكرة بناء المدينة؛ ولهذا نقتصر على قصة البرج.
زعم حاخامو اليهود أن ذلك البرج جاوز في ارتفاعه مائة كيلومتر، ومن السهل بناء القصور في الهواء، أما نحن فلا يخالجنا شك في أنه، على فرض صحة القصة، كان دون مائة متر.
وقد عزا المؤرخ اليهودي يوسفس بناء البرج إلى أن «نمرود» بن كوش بن حام بن نوح (تكوين 10: 8-10).
أعلن قومه بأنه سيقتص من الله إذا بدأ له أن يغرق العالم مرة أخرى، وأنهى إليهم أنه سيبني برجا لا ترقى إلى ذروته المياه ييسر له أن يثأر من الله لأجداده المغرقين.
ويستفاد من هذه القصة أن القوم لم يثقوا بما عاهدهم الله عليه هم والبهائم حين: «كلم الله نوحا وبنيه معه قائلا: وها أنا مقيم ميثاقي معكم ومع نسلكم من بعدكم، ومع كل ذوات الأنفس الحية التي معكم. الطيور والبهائم وكل وحوش الأرض التي معكم من جميع الخارجين من الفلك حتى كل حيوان الأرض. أقيم ميثاقي معكم فلا ينقرض كل ذي جسد أيضا بمياه الطوفان. ولا يكون أيضا طوفان ليخرب الأرض» (تكوين 9: 8-11).
كان بناة البرج يحلمون بأن يعتلوا متن القبة الزرقاء، وكانوا يخالونها جسما صلبا ألصقت بباطنه الشمس والقمر والنجوم، ويحسبونها لا تعلو كثيرا على مستوى السحب.
إن الذين أوتوا حظا من العلم يضحكون من هذا الحلم؛ لأنهم يعلمون أن بناء برج يصل إلى القمر، وهو أقرب الأجرام السماوية منها وتعد الشقة بيننا وبينه كقفزة البرغوت بالقياس إلى ما بيننا وبين الأجرام السماوية الأخرى، يقتضي أن تنبسط قاعدة هذا البرج حتى تغطي وجه الكرة الأرضية كله وأن تستعمل في بنائه مواد تماثل المواد التي في كتلة الكرة الأرضية خمسين ضعفا.
لقد كشف الذين دونوا هذه القصة عن جهالة عمياء، وحاشا لله جل جلاله أن يكون على غرارهم في الجهالة فيذعره ما أجمع القوم عليه من غزوه في علياء سمائه حتى إنه لم يلبث أن: «نزل الرب لينظر المدينة والبرج اللذين كان بنو آدم يبنونهما» (تكوين 11: 5).
من أين نزل؟ أليس هو في كل مكان؟ وفيم نزوله؟ هل كان كليل الطرف وكان يعوزه منظار مقرب فلم تتسن له الرؤية من بعد؟
وهل اعتقد أن القوم قادرون حقا على إمضاء ما بيتوا النية عليه؟ «وقال الرب هو ذا شعب واحد ولسان واحد. لجميعهم وهذا ابتداؤهم بالفعل. والآن لا يمتنع عليهم كل ما ينوون أن يعلموه. هلم ننزل ونبلبل هناك لسانهم حتى لا يسمع بعضهم لسان بعض» (تكوين 11: 6-8).
لقد عنى نفسه عناء ما كان أغناه عنه؛ فهل نسي قانون الجاذبية؟ هل جهل مهندس الكون قواعد البناء؟ هل غاب عن وعيه أن بناء قاعدته ذات سطح معين لا يمكن أن يعلو فوق ارتفاع معين؟ ألا إنه لو ترك القوم يتمادون في البناء لانقلب (البناء) على رءوسهم، فما باله سبحانه قد اضطرب وعظم بلباله؟
السبب هو أن هذا الرب لم يكن إلا يهوه، إله قبيلة من الهمج لا يعلم أكثر مما يعلم عابدوه. •••
وقد أدلى الكتاب المقدس في هذه القصة بسبب لاختلاف اللغات وتعدد اللهجات على وجه المعمورة لا يرى فيه علم الموازنة بين اللغات إلا أوهاما لا تمت إلى الحقيقة بنسب؛ فقد زعم: (1)
أن الجنس البشري كان إلى ما بعد الطوفان بفترة من الزمن وإلى قبيل مولد إبراهام ينطق كله لسانا واحدا. (2)
وأن الحال كانت على أن تظل كذلك لولا تلك المحاولة لبناء البرج. (3)
وأن جميع لغات الأرض ولدت في بابل من اللغة الأم - وهي العبرية - ولادة خارقة للعادة بمعجزة. (4)
وأنه ليس بين لغات الأرض جميعا لغة تبلغ من العمر خمسة آلاف سنة غير اللغة العبرية.
وليست هذه المزاعم بعجيبة من قوم يجهلون سنن التطور وينكرون نظرية النشوء والارتقاء. وإنها لتجافي الحقائق العلمية المسلمة، ومنها أن لغات أمريكا الأصلية، على ما بين إحداهما والأخرى من وثوق أواصر القربى، مبتوتة الصلة بلغات العالم القديم، وليس ثم ما يدل على أنها موروثة عن العبريين أو الفينيقيين أو الكاتيين أو غيرهم.
ليست اللغة شيئا تصنعه الآلهة وتبثه في أذهان الناس وإنما هي تنشأ وترتقي تدريجا في بطء خلال أزمنة طويلة، فإن القبائل والشعوب قد عضتها خطوب وحكتها محن وتجارب مختلفة، وشعرت باحتياجات متباينة، واكتنفتها بيئات غير متماثلة، وعلقت بأذهانها انطباعات مما رأت وسمعت وشمت وذاقت ولمست؛ ومن ثم اختلفت لغاتها وتباينت تصوراتها الدينية ونظمها السياسية وعاداتها الاجتماعية. وتتركب لغات الهمج من أصوات قليلة لا يستطاع التعبير بها عن شيء غير أفكار أو حالات عقلية محدودة كالحب والاشتهاء والخوف والكره والازدراء، أما اللغات التي تصلح للإفصاح عن أفكار مركبة فلا بد لنموها من قرون كثيرة.
وقد جاء في الإصحاح الثاني من سفر التكوين أن الله عرض جميع أنواع الحيوان بين يدي آدم، وأن آدم جعل يطلق على كل منها اسما من عنده، فمن أين جاء آدم بهذه الأسماء وهو ما يزال حديث العهد بالخروج من التراب غرا خلوا من التجارب والانطباعات؟!
وكيف حدث أن أصبح هو وحواء والحية يتكلمون لسانا واحدا؟! لقد زعموا أن آدم كان يتكلم العبرية في جنة عدن! «ودعا آدم اسم امرأته حواء؛ لأنها أم كل حي» (تكوين 3: 20).
وأن حواء تكلمت بها بعد خروجها من الجنة: «وعرف آدم حواء امرأته فحبلت وولدت قايين وقالت: اقتنيت رجلا من عند الرب» (تكوين 4: 1). «وعرف آدم امرأته أيضا، فولدت ابنا ودعت اسمه شيثا، قائلة: لأن الله قد وضع لي نسلا آخر عوضها عن هابيل»
3 (تكوين 4: 35).
وإن لامك بن متوشالح تكلم بها قبل الطوفان بستة قرون: «ودعا اسمه نوحا، قائلا: هذا يعزينا عن عملنا وتعب أيدينا من قبل الأرض التي لعنها الرب» (تكوين 5: 29). وكانت أسماء البطارقة العشرة السابقين للطوفان كلها عبرية.
من الخطل أن يأخذ المرء بما يفهم ضمنا من الكتاب المقدس من أن اللغة العبرية هي لغة العالم الأصلية؛ إذ إنها ليست سوى لهجة من اللهجات السامية، شأنها في ذلك شأن اللغة العربية واللغة الآرامية. وليس ثمة وشيجة قربى تربط اللغات السامية باللغات الآرية: «هلم ننزل ونبلبل هناك لسانهم حتى لا يسمع بعضهم لسان بعض» (تكوين 11: 7).
ولكن كيف بلبل الله ألسنتهم وشوش لغاتهم؟ هل أفقدهم حافظتهم؟ هل شل جزءا من أمخاخهم؟ هل ضرب على أعضاء النطق عندهم حتى لا تؤدي النبرات والأصوات التي في اللغة القديمة؟
ولم أفضى تبلبل ألسنتهم إلى أن: «بددهم الرب من هناك على وجه كل الأرض فكفوا عن بنيان المدينة»؟ (تكوين 11: 8).
ولماذا لم يتلبثوا إلى أن يفهم بعضهم بعضا بوسيلة من الوسائل؟ إن ما كانوا عليه من الضعف والعجز قمين أن يجعل كلا منهم يحس الحاجة إلى عون أخيه، وكان الاستمرار في بناء البرج أيسر من الهجرة إلى غير غاية: «لذلك دعي اسمها بابل؛ لأن الرب هناك بلبل لسان كل الأرض» (تكوين 11: 9).
فيا له من تخريج عجيب!
إن كلمة «بابل» لا تتصل البتة بكلمة «بلال» العبرية التي تعني شوش أو خلط،
4
وتدل الشواهد على أن هذا الاسم أصله «باب إيل»؛ أي باب الرب.
وكم من أسطورة من أساطير العبريين وغيرهم مبعثها اشتقاق لغوي خاطئ.
Unknown page