وكان خليفته داود صورة تاريخية طريفة إلى الغاية، فأشبه - مختارا - ببابر المغولي، مع أنه لا يساوي بابر هذا الذي كان في مقتبل عمره رئيسا لقرية، فافتتح شمال الهندوستان مبديا إقداما لا يصدق، قاتلا معذبا الألوف من البشر، بابر ذلك الذي كان شاعرا أديبا مع همجيته!
وأمثلة كتلك لا تجدها إلا في الشرق تحت تلك الشمس المحرقة التي تقتطع من الطبيعة محاصيل عظيمة، وتنبت أضخم الأشجار وأجسم الحيوانات وأقوى الأبطال، وأما في غربنا فترى المتغلبين والطامعين ذوي نفوس أكثر عنفا وأشد اتزانا، فلا يقايضون سيفهم الدامي طائعين بالمزهر، ولا يخافتون بصوتهم الذي خلق للقيادة في سبيل وزن لين للأشعار.
ويعوزنا أن يشابه داود الملك التقي المتعطش إلى العدل، المختنق بشهيق التوبة، الأواب في مزامير الاستغفار التي حفظتها الرواية لنا.
ومما نعرفه أن داود كان مرتلا شاعرا، ولكنك إذا عدوت رثاءه لشاول ويوناتان اللذين ماتا وهما يقاتلان الفلسطينيين فوق جبال جلبوع، وجدتنا نجهل ما وضعه من النشائد، وفي المزامير قليل جدا من الذي صنعه منها كما نرى.
ومعرفتنا لداود المحارب أحسن من تلك، وآية مجده في منحه بني إسرائيل عاصمة، وفي حسن اختياره لهذه العاصمة، فلولا أورشليم «القدس» لكان شأن اليهود ضئيلا إلى الغاية. وأورشليم أضحت رأس بني إسرائيل وقلبهم، وأورشليم أوج، وأورشليم رمز، وأورشليم لا تزال تلقي أشعتها على العالم من خلال ماضيها مع إكليل نسجته حماسة ملايين البشر وإيمانهم وأوهامهم لا ريب، ولكن لا جدال في نور هذا الإكليل.
وأي اسم كرر مع التمجيد والولوع أكثر من اسم تلك المدينة الدينية؟ لا تزال مقاطع ذلك الاسم السحرية تجري على شفاهنا القليلة التصديق بحلاوة تأخذ بمجامع قلوبنا، فتنقلنا إلى خيال رائع بعيد المدى، ولن تنسى الإنسانية من فورها أن توجه أنظارها إلى تلك المدينة الإلهية، حتى إن الإنسان اليقظ إذا صار لا يبحث عن نجاته فوق الجبل الذي هو محل رمزه العظيم، فتنه هذا الجبل بسحر ذكرياته.
وداود، لكي ينعم على قومه بتلك العاصمة الواقعة في أصلح مكان وأسهل محل للدفاع عن فلسطين، اضطر إلى طرد اليبوسيين، سادة جبل صهيون، ولم يكن اليبوسيون وحدهم هم الأعداء الذين وجب على داود أن يقهرهم؛ فقد أظهر داود في عهده من النشاط الكبير ما أقام به الوحدة اليهودية، جاعلا المملكة العبرية الصغيرة على رأس جميع الأمم التي كانت تقتسم سورية.
قال مسيو رينان في صفحة ممتعة من كتابه «تاريخ بني إسرائيل»: «إن داود هو مؤسس القدس، وهو أبو الأسرة التي أسهمت في عمل بني إسرائيل إسهاما وثيقا، وهذا ما دل الأقاصيص القادمة عليه، وليس مما يمضي بلا عقاب أن تمس، ولو على وجه غير مباشر عظائم الأمور التي تنضح في سر البشرية.
وسنشاهد تلك التحولات بين قرن وقرن، فنرى أن لص عدلام وصقلغ يكتسب بالتدريج أوضاع القديس، فيكون واضع المزامير والممثل المقدس ومثال المنقذ المقبل، ويغدو «يسوع» ابنا لداود، وتبلغ التراجم الإنجيلية من البهتان في طائفة من الأمور ما تجعل معه حياة المسيح نسخة عن مقومات حياة داود! ألا إن الأتقياء حين يسيرون بالمشاعر المملوءة تسليما وحسرة في أجمل الكتب الدينية يعتقدون اتصالهم بذلك اللص، ألا إن البشرية تؤمن بالعدل النهائي في شهادة داود مما لم يصدر عن داود، في الرواية الإلهية الهزلية!»
واقتطف سليمان بن داود أثمار ما أبداه أبوه من نشاط ضار، وفي عهد سليمان بلغ مصير الشعب اليهودي ذروته، فلما مات سليمان دخل هذا الشعب دور الانقسامات والفوضى.
Unknown page