وظائف رمضان
مُلَخَّصَهٌ مِن لَطَائِف المعَارِفِ
للشّيخِ زَينْ الدِّيِن عبد الرحَمن بنِ رَجَبِ الحَنَبَليِّ
مع زيادات
للشَّيخِ عبد الرحمَن بن محمَد بن قاسم
رحمه الله تعالى
١٣١٢هـ - ١٣٩٢ هـ
1 / 4
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمدُ للهِ الذي خصَّ بالفضلِ والتَّشرِيفِ شهرَ رمضانَ، وأَنزلَ فيه القرآنَ هُدى للناسِ وبيِّناتٍ من الهدى والفُرقانِ، وخَصَّهُ بالعفو والغفرانِ، واخْتَصَّ منِ اصطَفاهُ بفضلٍ منه وامتنانٍ، وأيقَظَ بالوعظِ من وفَّقهُ في هذا الموسم العظيمِ الشأنِ.
وأشهدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ وحدهُ لا شريكَ لهُ ذُو الفضلِ والإحسانِ. وأشهدُ أن محمدًَّا عبدهُ ورسُولهُ سيدُ ولدِ عَدنانِ، صلّى اللهُ عليه وعلَى آلِهِ وأصحابِهِ وسلّم تسليمًا كَثيرًا.
أمَّا بعدُ: فهذا مختصرٌ لطيفٌ في وظائفِ هذا الموسمِ الشريف، يبعثُ الهمَمَ إلى التَّعرُّضِ للنَّفَحَاتِ، ويُثيرُ العزمَ إلى أشرفِ الأوقاتِ.
واللهَ أسألُ أن يوفِّقَنَا لما يُحبُّ مِنَ الطاعاتِ، وأن يضاعِفَ لنا الحسناتِ ويغفرَ لنا السيئاتِ، ويستجيبَ لنا الدعواتِ، إِنه جوادٌ كريم.
عبد الرحمَن بن محمَد بن قاسِم
1 / 5
فَضْلُ شَهْرِ رَمضانَ
عن أبي هريرةَ ﵁ قال: كان رسولُ الله ﷺ يُبشِّرُ أصحابَهُ، يقولُ: «قد جاءَكم شهر رمضان شهرٌ مباركٌ، كتبَ اللهُ عليكم صيامَهُ، فِيه تُفتَّحُ أبوابُ الجنّةِ، وتُغلقُ فيه أبوابُ الجحيمِ، وتُغلُّ فيه الشياطينُ، فيه ليلةٌ خيرٌ من ألفِ شهرٍ، من حُرِمَ خيرَها فقد حُرِم» رَواهُ أحمدُ والنسائيُّ. وَرُويَ: «أتاكُم رمضانُ سيدُ الشهورِ، فمرحبًا به وأهلًا» .
جاء شهرُ الصيامِ بالبركاتِ ... فأكرِمْ به مِنْ زائرٍ هُوَ آتِ
وعن عبادَ مرفوعًا: «أتاكمُ رمضانُ، شهر بركةٍ يغشاكُمُ اللهُ فيهِ، فيُنزِّلُ الرَّحمةَ، وَيحُطُّ الخطايَا، ويَستجيبُ فيه الدعاءَ، ينظرُ اللهُ إلى تَنَافُسِكمُ فيهِ، ويُباهِيْ بكمُ ملائِكتَهُ، فأرُوا اللهَ مِنْ أنفُسِكم خيرًا، فإِنَّ الشقيَّ من حُرِمَ فيه رحمةَ اللهِ» رواهُ الطبرانيُّ، ورُوَاتُهُ ثِقاتٌ.
وفي الصحيحينِ عن أبي هُريرَةَ ﵁ عن النَّبيِّ ﷺ قال: «إذا دَخَلَ رمضانُ فُتِّحَت أبوابُ السماءِ، وغُلِّقَتْ
1 / 7
أبوابُ جَنَّم، وسُلسِلتِ الشياطينُ» . ولمسلمٍ: «فُتِّحَتْ أبوابُ الرَّحمةِ»، وله أيضًا عن أبي هُرَيرةَ ﵁ مرفوعًا: «إذا جاءَ رمضانُ فُتِّحتْ أبوابُ الجنةِ وأغلِقتْ أبوابُ النار، وصُفدِّتِ الشياطينُ» .
وعنهُ ﵁: أنَّ رسول اللهِ ﷺ قالَ: «إِذا كان أوَّلُ ليلةٍ من رمضانَ صُفِّدتِ الشياطينُ ومَردَةُ الجنِّ، وغُلِّقت أبوابُ النيرانِ، فلم يفتح منها بابٌ، وفُتِّحتْ أبوابُ الجنةِ فلم يغلقْ منها باب، ويُنادي منادٍ: يا باغيَ الخير أَقبلْ، ويا باغيَ الشرِّ أقصِر، وللهِ عتقاءُ من النارِ، وذلك كل ليلة» رواهُ الترمذيُّ والنِسائيُ والحاكم.
وعن أبي هريرةَ ﵁ عن رسول الله ﷺ قال: «أعطيت أمتي في شهر رمضان خمس خصال، لم تعطها أمة قبلهم: خلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك، وتستغفر لهم الملائكة حتى يفطروا، ويزين الله ﷿ كل يوم جنته، ثم يقول: يوشك عبادي الصالحون أن يلقوا عنهم المؤونة والأذى، ويصير إليك. وتصفد فيه مردة الجن، فلا يخلصون فيه إلى ما كانوا يخلصون إليه في غيره، ويغفر لهم في آخر ليلة، قيل: يا رسول الله، أهي ليلة القدر؟ قال: لا، ولكن العامل إنما يوفى أجره إذا قضى عمله» رواه أحمد.
وعن سلمان ﵁ قال: خطبنا رسول الله ﷺ
1 / 8
في آخر يوم من شعبان، فقال: «يا أيها الناس، قد أظلكم شهر عظيم مبارك، شهر فيه ليلة القدر خير من ألف شهر، جعل الله صيامه فريضة، وقيام ليله تطوعا، من تقرب فيه بخصلة من خصال الخير كان كمن أدى فريضة فيما سواه، ومن أدى فيه فريضة كان كمن أدى سبعين فريضة فيما سواه، وهو شهر الصبر، والصبر ثوابه الجنة، وشهر المواساة، وشهر يزداد فيه الرزق، ومن فطر فيه صائمًا كان مغفرة لذنوبه وعتق رقبته من النار، وكان له مثل أجره من غير أن ينقص من أجره شيء» قالوا: يا رسول الله، ليس كلنا يجد ما يفطر به الصائم، قال رسول الله ﷺ: «يعطي الله هذا الثواب لمن فطر صائمًا على مذقة لبنٍ أو تمرةٍ، أو شربةِ ماء.
ومن سقى صائمًا سقاه الله ﷿ من حوضي شربة لا يظمأ بعدها حتى يدخل الجنة، ومن خفف عن مملوكه فيه غفر الله له، وأعتقه من النار حتى يدخل الجنة. وهو شهر أوله رحمة، وأوسطه مغفرة، وآخره عتق من النار.
فاستكثروا فيه من أربع خصال: خصلتين ترضون بهما ربكم، وخصلتين لا غناء بكم عنهما، أما الخصلتان اللتان ترضون بهما ربكم: فشهادة أن لا إله إلا الله وتستغفرونه، وأما اللتان لا غناء بكم عنهما: فتسألون الله الجنة وتعوذون به من النار» رواه ابن خزيمة والبيهقي وغيرهما.
1 / 9
وعن أبي هريرة ﵁ عن رسول الله ﷺ قال: «أظلكم شهركم هذا، بمحلوف رسول الله ﷺ ما مر بالمسلمين شهر خير لهم منه، ولا مر بالمنافقين شهر شر لهم منه، بمحلوف رسول الله ﷺ إن الله ليكتب أجره ونوافله قبل أن يدخله، ويكتب وزره وشقاءه قبل أن يدخله. وذلك أن المؤمن يُعدُّ فيه القوت والنفقة للعبادة، ويعدُّ فيه المنافق اتباع غفلات المؤمنين واتباع عوراتهم. فغنم يغتنمه المؤمن» .
وقال بندار في حديثه: «فهو غنم للمؤمنين، يغتنمه الفاجر» رواه ابن خزيمة في صحيحه وغيره.
وعن ابن عباس ﵄ قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول: «إن الجنة لتبخَّرُ (١) وَتُزَيَّنُ من الحول إلى الحول لدخول شهر رمضان.
فإذا كانت أول ليلة من شهر رمضان هبت ريح من تحت العرش يقال لها: المثيرة، فتصفق أوراق أشجار
الجنان، وحلق المصاريع. فيسمع لذلك طنين لم
يسمع السامعون أحسن منه. فتبرز الحور العين، حتى
يقفن بين شرف الجنة فينادين: هل من خاطب إلى الله فيزوجُه؟ ثم يقلن الحور العين: يا رضوان الجنة، ما هذه الليلة؟ فيجيبهن بالتلبية. ثم يقول: هذه أول ليلة من شهر
_________
(١) وفي لفظ تُزَخْرَفُ.
1 / 10
رمضان، فتحت أبواب الجنة على الصائمين من أمة
محمد ﷺ»، رواه البيهقي وغيره.
وعن عمرو بن مرة ﵁ قال: جاء رجل إلى رسول الله ﷺ فقال: يا رسول الله، أرأيت إن شهدت أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله، وصليت الصلوات الخمس، وأديت الزكاة، وصمت رمضان وقمته، فممن أنا؟ قال: «من الصديقين والشهداء» رواه ابن خزيمة وابن حبان.
وعن أنس ﵁ أن النبي ﷺ كان يدعو ببلوغ رمضان، فكان إذا دخل شهر رجب، قال: «اللهم بارك لنا في رجب وشعبان، وبلغنا رمضان» رواه الطبراني وغيره.
- وقال عبد العزيز بن مروان: كان المسلمون يقولون عند حضور شهر رمضان: اللهم قد أظلنا شهر رمضان، فسلمه لنا وسلمنا له، وارزقنا صيامه وقيامه، وارزقنا فيه الجد والاجتهاد والقوة والنشاط، وأعذنا فيه من الفتن.
وقال معلى بن الفضل: كانوا يدعون الله ستة أشهر: أن يبلغهم رمضان، ثم يدعونه ستة أشهر: أن يتقبله منهم.
وقال يحيى بن أبي كثير: كان من دعائهم: «اللهم سلِّمني إلى رمضان وسلم لي رمضان، وتسلَّمه مني متقبلا» .
بلوغ شهر رمضان، وصيامه نعمة عظيمة، ويدل عليه
1 / 11
حديث الثلاثة الذين استشهد اثنان منهم، ومات الثالث بعدهما على فراشه، فرؤي في المنام سابقًا لهما، فقال النبي ﷺ: «أليس صلى بعدهما كذا وكذا صلاة، وأدرك رمضان فصامه؟ فوالذي نفسي بيده إن بينهما لأبعد مما بين السماء والأرض» رواه أحمد وغيره.
وعن عائشة ﵂ قالت: ودخل رمضان، يا رسول الله، فما أقول: قال: «قولي: اللهم إنك عفو تحب العفو فاعف عني» .
جاء رمضان، فيه الأمان والعتق والفوز بسكنى الجنان. من لم يربح في هذا الشهر ففي أي وقت يربح؟ من لم يقرب فيه لمولاه فهو على بعده لا يبرح، من رحم في هذا الشهر فهو المرحوم، ومن حرم خيره فهو المحروم.
أتى رمضان مزرعة العباد ... لتطهير القلوب من الفساد
فأدِّ حقوقه قولا وفعلا ... وزادَك فاتخذه للمعاد
فمن زرع الحبوب وما سقاها ... تأوه نادمًا عند الحصاد
وعن أبي جعفر بن علي ﵁، قال: كان رسول الله ﷺ إذا استهل شهر رمضان استقبله بوجهه، ثم يقول: «اللهم أَهِلَّه علينا بالأمن والإيمان، والسلامة والإسلام، والعافية المجللة، ودفاع الأسقام، والعون على الصلاة والصيام، وتلاوة القرآن. اللهم سلمنا لرمضان وسلمه لنا،
1 / 12
وتسلمهُ منا، حتى يخرج رمضان وقد غفرتَ لنا ورحمتنا وعفوت عنا» أخرجه ابن عساكر.
وروى ابن النجار عن الحارث الأعور، عن علي ﵁، أنه كان إذا نظر إلى الهلال قال: اللهم إني أسألك خير هذا الشهر، وفتحه ونصره وبركته، ورزقه ونوره وظهوره، وأعوذ بك من شره وشر ما بعده.
فصل
في فضل صوم شهر رمضان
في الصحيحين عن أبي هريرة ﵁، عن النبي ﷺ قال: «كل عمل ابن آدم له، الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف. قال الله تعالى: إلا الصيام، فإنه لي وأنا أجزي به، ترك شهوته وطعامه وشرابه من أجلي، للصائم فرحتان: فرحة عند فطره، وفرحة عند لقاء ربه، ولخلوف فم الصائم عند الله أطيب من ريح المسك» .
وفي رواية: «كل عمل ابن آدم له إلا الصيام، فإنه لي» .
وفي رواية للبخاري: «لكل عمل كفارة، والصوم لي، وأنا أجزي به» .
ولأحمد: «كل عمل ابن آدم كفارة إلا الصوم، والصوم لي، وأنا أجزي به» .
1 / 13
فعلى الرواية الأولى: يكون استثناء الصوم من الأعمال المضاعفة، فتكون الأعمال تضاعفُ بعشر أمثالِها إلى سبعمائَةِ ضعفٍ إلا الصوم، فإنه لا ينحَصرُ تضعيفه، بل يضاعِفه الله أضعافًا كثيرةً. فإن الصيام من الصبر، وقد قال الله تعالى:
﴿إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾ .
ولهذا روي عن النبي ﷺ: أنه قال: «شهر رمضان شهر الصبر» وعنه أنه قال: «الصوم نصف الصبر» رواه الترمذي.
والصبر ثلاثة أنواع: صبر على طاعة الله، وصبر عن محارم الله، وصبر على أقدار الله المؤلمة، وتجتمع الثلاثة كلها في الصوم. وتقدم في حديث سلمان: «هو شهر الصبر، والصبر ثوابه الجنة» وروى الطبراني عن ابن عمر ﵁ مرفوعًا: «الصيام لله، لا يعلم ثوابه إلا الله» .
واعلم أن مضاعفة الأجر للأعمال تكون بأسباب.
منها: شرف المكان المعمول فيه ذلك العمل، كالحرم، ولذلك تضاعف الصلاة في مسجديْ مكة والمدينة، كما ثبت في الصحيح «صلاة في مسجدي هذا خير من ألف صلاة فيما سواه من المساجد إلا المسجد الحرام» وفي رواية «فإنه أفضل» ولذلك روي أن الصيام يضاعف بالحرم. وفي سنن ابن ماجه بإسناد ضعيف. عن ابن عباس مرفوعًا: «من أدرك رمضان بمكة فصامه وقام منه ما تيسر: كتب الله له مائة
1 / 14
ألف شهر رمضان فيما سواه» وذكر له ثوابًا كثيرًا.
ومنها: شرف الزمان، كشهر رمضان وعشر ذي الحجة وتقدم في حديث سلمان في فضل شهر رمضان «من تطوع فيه بخصلة من خصال الخير، كان كمن أدى فريضة فيما سواه، ومن أدى فيه فريضة كان كمن أدى سبعين فريضة فيما سواه» .
وفي الترمذي عن أنس ﵁، سئل النبي ﷺ: أي الصدقة أفضلُ؟ قال: «صدقة في رمضان» .
وفي الصحيحين عنه ﷺ قال: «عمرة في رمضان، تعدل حجة» أو قال: «حجة معي»، وروي في حديث «أن عمل الصائم مضاعف» .
وذكر ابن أبي مريم عن أشياخه: أنهم كانوا يقولون: إذا حضر شهر رمضان فانبسطوا فيه بالنفقة، فإن النفقة فيه مضاعفة كالنفقة في سبيل الله، وتسبيحةٌ أفضل من ألف تسبيحة في غيره.
قال النخعي: صوم يوم من رمضان أفضل من ألف يوم، وتسبيحةٌ فيه أفضل من ألف تسبيحة، وركعة فيه أفضل من ألف ركعة.
فلما كان الصيام في نفسه مضاعفًا أجره بالنسبة على سائر الأعمال، كان صيام شهر رمضان مضاعفًا على سائر الصيام،
1 / 15
لشرف زمانه، وكونه هو الصوم الذي فرضه الله على عباده، وجعل صيامه أحد أركان الإسلام التي بني الإسلام عليها.
وقد يضاعف الثواب بأسباب أخر، منها: شرف العامل عند الله وقربه منه، وكثرة تقواه، كما ضوعف أجر هذه الأمة على أجور من قبلهم من الأمم. وأما على الرواية الثانية: فاستثناء الصيام يرجع إلى أن سائر الأعمال للعباد، والصيام اختصه الله لنفسه كما يأتي، وأما الرواية الثالثة: فالاستثناء يعود إلى التكفير بالأعمال.
ومن أحسن ما قيل في ذلك: ما قاله سفيان، قال: هذا من أجود الأحاديث وأحكمها «إذا كان يوم القيامة يحاسب الله عبده، ويؤدي ما عليه من المظالم من سائر عمله، حتى لا يبقى إلا الصوم، فيتحمل الله ﷿ ما بقي من المظالم، ويدخله بالصوم الجنة» رواه البيهقي وغيره.
وعلى هذا فيكون المعنى: أن الصيام لله ﷿، فلا سبيل لأحد إلى أخذ أجره من الصيام، بل أجره مدخر لصاحبه عند الله، وحينئذ فقد يقال: إن سائر الأعمال قد يكَّفرُ بها ذنوب صاحبها، فلا يبقى له أجر، فإنه روي: «إنه يوازن يوم القيامة بين الحسنات والسيئات، ويقص بعضها من بعض.
فإن بقي حسنة دخل بها صاحبها الجنة»، وفيه حديث مرفوع فيحتمل أن يقال في الصوم: إنه لا يسقط ثوابهُ بمقاصة ولا
1 / 16
غيرها، بل يوفَّر أجرهُ لصاحبه حتى يدخل الجنة، فيوفى أجرُه فيها.
وأما قوله: «فإنه لي» فإن الله خص الصيام بإضافته إلى نفسه دون سائر الأعمال؛ وذكر في معنى ذلك وجوه، من أحسنها وجهان:
أحدهما: أن الصيام مجرد ترك حظوظ النفس وشهواتها الأصلية، التي جبلت على الميل إليها لله ﷿ ولا يوجد ذلك في عبادة أخرى غير الصيام. فإذا اشتد توقان النفس إلى ما تشتهيه مع قدرتها عليه، ثم تركته لله في موضع لا يطلع عليه إلا الله: كان ذلك دليلا على صحة الإيمان.
فإن الصائم يعلم أن له ربا يطلع عليه في خلوته، وقد حرم عليه أن يتناول شهواته المجبول على الميل إليها في الخلوة، فأطاع ربه وامتثل أمره، واجتنب نهيه، خوفًا من عقابه ورغبة في ثوابه، فشكر الله له ذلك، واختص لنفسه عمله هذا من بين سائر أعماله، ولهذا قال بعد ذلك «إنه ترك شهوته وطعامه وشرابه من أجلي» قال بعض السلف: طوبى لمن ترك شهوة حاضرة لموعد غيب لم يره.
لما علم المؤمن الصائم أن رضى مولاه في ترك شهواته، قَدَّمَ رضى مولاهُ على هواه، فصرات لذتُه في ترك شهواتِه لله، لإيمانِه باطلاع الله وأن ثوابَه وعقابَه أعظمُ من لذةٍ يتناولُها في
1 / 17
الخلوة، إيثارًا لرضى ربه على هوى نفسه، بل المؤمن يكره ذلك في خلوته أشد من كراهته لألم الضرب.
ولهذا كثير من المؤمنين لو ضرب على أن يفطر في رمضان لغير عذر لم يفعل، لعلمه بكراهية الله تعالى لفطره في هذا الشهر، وهذا من علامات الإيمان: أن يكره المؤمن ما يلائمه من شهواته إذا علم أن الله يكرهه، فتصير لذته فيما يرضي مولاه، وإن كان مخالفًا لهواه.
وإذا كان هذا فيما حُرَّمَ لعارض الصوم: من الطعام والشراب، ومباشرة النساء، فينبغي أن يتأكد ذلك فيما حُرِّمَ على الإطلاق، كالزنا وشرب الخمر، وأخذ أموال الناس بالباطل، وهتك الأعراض بغير حق، وسفك الدماء المحرمة، فإن هذا يسخط الله على كل حال، وفي كل مكان وزمان.
الوجه الثاني: أن الصيام سرٌّ بين العبد وبين ربه لا يطلعُ عليه غيره، لأنه مركبٌ من نيةٍ باطنةٍ لا يطلعُ عليها إلا الله، وتركٍ لتناولِ الشهوات التي يستخفى بتناولها في العادة، ولذلك قيل: لا تكتبه الحفظة وقيل: إنه ليس فيه رياء.
وقد يرجع إلى الأول، فإن من ترك ما تدعوه نفسه إليه لله ﷿، بحيث لا يطلع عليه غير من أمره ونهاه: دلَّ على صحة إيمانه، والله تعالى يحبُّ من عباد أن يعاملوه سرًا بينهم
1 / 18
وبينهُ بحيثُ لا يطلعُ على معاملتهم إياهُ سواهُ.
وقوله: «ترك شهوتهُ وطعامه من أجلي» فيه إشارةٌ إلى ما ذكر من أن الصائمين يتقربون إلى الله تعالى، بترك ما تشتهيه نفوسهم من الطعام والشراب والنكاح، وهذه أعظمُ شهوات النفس.
وفي التقرب إلى الله بترك هذه الشهوات بالصيام فوائد.
منها: كسرُ النفس، فإن الشبع والرِّيَّ ومباشرة النساء، تحملُ النفس على الأشَر والبطرِ والغفلةِ.
ومنها: تخليِّ القلب للفكر والذكر، فإن تناول هذه الشهوات يقسَّي القلب ويُعميه، ويحولُ بين القلب والذكر والفكر، ويستدعي الغفلة، وخلوة البطن من الطعام والشراب ينورُ القلب، ويوجبُ رقَّته، ويزيلُ قسوتهُ، ويُخْليهِ للذكر والفكر.
ومنها: أن الغني يعرفُ قدر نعمة الله عليه، بإقداره له على ما منعهُ كثيرًا من الفقراء، من فضول الطعام والشراب، والنكاح، فإنه بامتناعه من ذلك في وقت مخصوص، وحصول المشقة له بذلك، يتذكرُ به مَنْ مُنع منْ ذلك على الإطلاق، فيوجب له ذلك شكر نعمة الله عليه بالغنى، ويدعوه إلى رحمة أخيه المحتاج، ومواساته بما يمكنُ من ذلك.
1 / 19
ومنها: أن الصيام يضيق مجاري الدم، التي هي مجاري الشيطان من ابن آدم. فإن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم، فتسكنُ بالصيام وساوسُ الشيطان، وتنكسرُ سورةُ الشهوة والغضب، ولهذا جعل النبي ُّ ﷺ الصوم وجاءً، لقطعه عن شهوة النكاح.
واعلم أنه لا يتمُّ التقربُ إلى الله تعالى بترك هذه الشهوات المباحة، في غير حالة الصيام، إلا بعد التقرب إليه بترك ما حرم الله عليه في كلِّ حالٍ: من الكذب، والظُّلم، والعُدوان، على الناس في دمائهم، وأموالهم، وأعراضهم، ولهذا قال ﷺ: «من لم يدَعْ قولَ الزور والعمل به فليس لله حاجةٌ في أن يدع طعامه وشرابه» أخرجه البخاري. وفي حديث آخر: «ليس الصيامُ من الطعام والشراب، إنما الصيامُ من اللغو والرفث» قال ابن المديني: على شرط مسلم.
وفي الصحيحين عن أبي هريرة ﵁ مرفوعًا: «الصيامُ جُنَّةٌ، فإذا كان يومُ صومِ أحدكم، فلا يَرْفُثُ ولا يفسق، ولا يجهل، فإن سابَّه أحدٌ فليقل: إني امرؤٌ صائمٌ» . «الجُنةُ»: ما يستر صاحبه، ويحفظه من الوقوع في المعاصي. «والرَّفثُ»: الفُحْشُ، ورديءُ الكلامِ.
ولأحمد والنسائي عن أبي عُبيدة مرفوعًا: «الصيامُ جُنّةٌ ما لم يُخرِّقْها» . وروى الطبراني عن أبي هريرة مرفوعًا: «إن
1 / 20
الصيام جُنَّةٌ ما لم يُخرِّقْها، قيل: بم يُخرّقْها؟ قال بكذب أو غيبة» وروي عن أبي هريرة مرفوعًا: «الصائمُ في عبادة، ما لم يغتب مسلمًا أو يؤذه» وعن أنس: «ما صام من ظلَّ يأكلُ لحوم النَّاس» .
قال بعض السلف: أهونُ الصيام: تركُ الطعام والشراب. وقال جابرٌ: إذا صُمت فليصم سمعُك وبصرُك ولسانُك عن الكذب والمحارم، ودع أذى الجار، وليكن عليك وقارٌ وسكينةٌ، ولا تجعل يوم صومك ويوم فطرك سواء.
إذا لم يكنْ في السَّمع مني تصاوُنٌ
وفي بصري غَضٌّ، وفي منطقي صمتُ
فحظِّي إذًا من صومي الجوعُ والظمأ
فإن قلتُ: إني صمتُ يومي فما صمتُ
وقال النبي ﷺ: «رُبَّ صائمٍ حظُّه من صيامه الجوع والعطشُ، ورب قائمٍ حظهُ من قيامه السهرُ» .
وسرُّ هذا: أن التقربَ إلى الله بتركِ المباحات، لا يكملُ إلاّ بعد التقرب إلى الله بترك المباحات، لا يكمل إلا بعد التقرب إليه بترك المحرمات، فمن ارتكب المحرمات، ثم تقرب إلى الله بترك المباحات: كان بمثابة من يتركُ الفرائض، ويتقربُ بالنوافل.
وفي مسند أحمد: أن امرأتين صامتا في عهد رسول الله ﷺ، فكادتا أن تموتا من العطش، فذُكِرَ ذلك للنبي ﷺ،
1 / 21
فأعرض عنهما، ثم ذكرتا له، فدعاهما، فأمرهما، أن تتقيئآ، فقاءتا ملء قدحٍ قيحًا، ودمًا وصديدًا، ولحمًا عبيطًا، فقال النبي ﷺ: «إن هاتين صامتا عمّا أحل الله لهما، وأفطرتا على ما حرَّمَ اللهُ عليهما، جلستْ إحداهُما إلى الأخرى، فجعلتا تأكلان لحوم الناس» .
وقولُه ﷺ: «للصائم فرحتان: فرحةٌ عند فطره، وفرحة عند لقاء ربِّه» أمَّا فرحةُ الصائم عند فطره: فإن النفوس مجبولةٌ على الميل إلى ما يلائمُها، من مطعمٍ، ومشرب، ومنكحٍ، فإذا مُنعت من ذلك في وقت من الأوقات، ثم أُبِّيح لها في وقتٍ آخر، فرحت بإباحة ما مُنعت عنه، خصوصًا عند اشتداد الحاجة إليه.
فإن النفوس تفرح بذلك طبعًا، فإن كان ذلك محبوبًا لله، كان محبوبًا شرعًا، والصائمُ عند فطره كذلك، فكما أن الله حرَّم على الصائم تناوُل هذه الشهوات، في نهار الصيام، فقد أذن له فيها في ليل الصيام، بل أحبَّ منه المبادرة إلى تناولها، في أول الليل وآخره، بل أحبُّ عباده إليه أعجلُهُم فطرًا، لما في الصحيحين عن سهلٍ مرفوعًا: «لا يزالُ الناسُ بخيرٍ ما عجَّلوا الفطر» .
وللترمذي عن أبي هريرة مرفوعًا: «قال الله ﷿: أحبُّ عبادي إليَّ أعجلهم فطرًا» وروى أحمد عن أبي ذرّ مرفوعًا:
1 / 22
«لا تزال أمتي بخير ما عجّلوا الفطر، وأخرُوا السّحور» .
وروى الحاكمُ، وابن عساكر عن ابن عمر، وأنسٍ مرفوعًا: «من فقه الرجل تعجيل فطره، وتأخيرُ سحوره، وتسحروا فإنَّه الغذاءُ المُباركُ، واللهُ وملائكتُه يُصلون على المتسحرين» .
فالصائمُ ترك شهواته لله بالنهار، تقرَّبا إليه وطاعةً له، ويبادرُ إليها في الليل تقرُّبًا إلى الله وطاعةً له، فما تركها إلا بأمر ربّه. ولا عاد إليها إلا بأمر ربّه، فهو مطيعٌ له في الحالتين، فإذا بادر الصائمُ إلى الفطر تقرُّبًا إلى مولاه، وأكل وشرب وحمد الله، فإنه يُرجى له المغفرةُ وبُلوُغُ الرّضوان بذلك.
وفي الحديث: «إن الله ليرضى عن العبد يأكلُ الأكلة فيحمدُه عليها، ويشربُ الشربة فيحمده عليها»، وربما استجيب دعاؤه عند ذلك، كما في الحديث المرفوع: «إن للصائم عند فطره دعوةً لا تردُّ» .
ولأحمد والترمذي عن أبي هريرة مرفوعًا: «ثلاثةٌ لا ترد دعوتُهم: الصائمُ حتى يفطر ... الحديث» وعن ابن عمر مرفوعًا «لكلِّ عبدٍ صائمٍ دعوةٌ مستجابةٌ عند إفطاره، أعطيها في الدنيا، أو ادّخرت له في الآخرة» .
ورُوي عن أنسٍ وابن عباسٍ ﵃: كان
النبي ﷺ إذا أفطر قال: «اللهم لك صمتُ وعلى رزقك
1 / 23
أفطرتُ، فتقبَّل منِّي إنك أنت السمعي العليمُ»، ورُوي عن ابن عمر مرفوعًا: كان إذا أفطر قال: «ذهب الظَّمأ، وابتلَّت العروقُ، ووجب الأجرُ إن شاء الله تعالى» وروي عنه أنه كان إذا أفطر يقولُ: «اللهم يا واسع المغفرة، اغفر لي» .
وإن نوى بأكله وشُربه تقويةَ بدنه، على القيام والصيام، كان مُبابًا على ذلك، كما أنه إذا نوى بنومه في الليل والنهار، التقوِّي على العمل كان نومُه عبادةً. وفي حديثٌ مرفوعٌ: «نوم الصائم عبادةٌ، وصمتُه تسبيحٌ، وعملهُ مضاعفٌ، ودعاؤه مستجابٌ، وذنبهُ مغفورٌ» رواه البيهقي.
قال أبو العالية: الصائمُ في عبادةٍ ما لم يغتب أحدًا، وإن كان نامًا على فراشه، رواه عبدُ الرزاق.
فالصائم في ليله ونهاره في عبادةٍ، ويستجابُ دعاؤه في صيامه وعند فطره؛ فهو في نهاره صائمٌ صابرٌ، وفي ليله طاعمٌ شاكرٌ. وفي حديث رواه الترمذي وغيرهُ: «الطاعمُ الشاكرُ بمنزلةِ الصائم الصابر»، ومن فهم هذا لم يتوقف في معنى: فرح الصائِم عند فطره. فإن فطرهُ على الوجه المشار إليه، من فضل الله ورحمته، فيدخل في قوله تعالى: ﴿قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ﴾، ومن شرط ذلك: أن يكون فطره على حلالٍ، فإن كان فطره على حرام كان ممَّن صام عما أحلَّ الله، وأفطر على ما حرَّم اللهُ، ولم يستجب له دعاءٌ.
1 / 24