al-wiʿāʾ al-marmarī
الوعاء المرمري
Genres
فقال في دفعة: بل قوليها صريحة، قولي أنك آثرت غيري وأنك قد تبدلت، ولا تموهي الحقيقة بكلمات لا غناء فيها. ما هذا الحب العميق القوي الذي تحدثت عنه إن كنت قد بعت نفسك لغيري. وتقولين لي «لا تخطئ» إذا قلت إني أرده عنك بسيفي؟ من هذا الذي قد وهبت له قلبك؟ كان أحق لو أعدت ما قلت أولا: «يملكه الذي لا تستطيعين أن تعصيه.» أمة تتكلم؟
ومضى في قوله يهيم في شكوك غامضة، ويهدر بأقوال كأن فيه شيطانا هائجا. وكانت خيلاء تنظر إليه في حزن وذعر، وكلما نطق بكلمة اضطربت أهدابها الوطفاء كمن يحس وخزة. ووجد سيف في دفعته شيئا يشبه الراحة، وفي إثر كلماته العنيفة شيئا يشبه الرضى. ووقف لحظة ينظر إلى وجهها الصافي الحزين وضميره يصيح به قائلا: «ماذا فعلت؟ ماذا تقول لخيلاء؟»
فانثنى يقول: خيلاء! ماذا قلت لك؟ وماذا اعتراني حتى جرؤت على كل هذا؟ أحقا صدقني سمعي أم هو وهم خيلته لي شقاوتي؟ أقلت لك إنك آثرت غيري ورجعت عن عهدي؟ بل أنت لي كما أنني لك، ولن نستطيع إلا أن نكون هكذا. أنت الحياة التي أتعلق بها وأطرح كل شيء ما عداها، فإن كان أساءك شيء مني فإني أعتذر منه. لم أذهب إلى قصر جدي إلا لكي أفكر في أيامنا المقبلة. لم أغب عنك هذه الأيام إلا لأنني كنت مع قومي وقومك الذين سنذهب إليهم. قولي إنك كنت تمتحنين حبي، أو قولي إنك كنت تعبثين بي؛ فهذا أرفق بي. قولي شيئا آخر غير ما قلت، فإني أنتظر في كلمتك قضائي.
فقالت خاشعة: عفا الله عنك يا سيف، فما بي ألم من شيء تقوله، بل إني أرحمك كما أرحم نفسي. ما كنت لأتخذ عنك بديلا، وكل ما سمعته منك وإن كان قاسيا لا يؤلمني.
وتحدرت الدموع من عينيها.
فقال سيف في صوت متهدج: ليتني أملك هذه الكلمات الحانقة التي خرجت من بين شفتي، أو أستطيع أن أردها من الهواء إلى حيث كانت في ظلمة النسيان. لم أفهم ما قلت، فإن عقلي وقلبي يكذبان هذه الألفاظ التي قلتها. بل قلبك لي يا خيلاء، ولا يمكن أن يكون لغيري. لن يملكه سواي ولن تهبيه إلى أحد غيري. انطقي يا خيلاء بما يعيد السلام إلى قلبي. أأقول لك بحق حبي؟ أم نسيت ذلك؟ أحقا قلت هذا؟
وكانت خيلاء تستمع في صمت ودموعها تبلل وجنتيها الصفراوين، وقالت: أقول لك مرة أخرى عفا الله عنك، وإن كنت حزينة.
فجثا سيف إلى جنبها قائلا: دعيني أتوسل إليك بحبي أن تعفي عني وأن تكشفي هذه الغمة التي تحير لبي.
فقالت في عطف: قم يا سيف، فلست أنكر حبك ولا أنكر حبي، كنت أحسبك تفهم قولي منذ بدأت. إنني لم أخجل أن أقول لك إن حبي أبقى من الحياة وأقوى من الموت. ولكنك تتصور أنني وهبت قلبي لبشر. ما كان لبشر أن يملكه وما كان لي أن أهبه لأحد من الأحياء غيرك، ولكن غضبك لا يجعلك تفهم. ما وهبته إلا للذي يملك قلوبنا جميعا، ومن نجد فيه سلوتنا، ومن نستمد منه سلامنا. وهبته للسيد المسيح!
فقال سيف في نشوة: فلم إذا لم تقولي ذلك من أول كلمة؟ السيد المسيح! فليكن ذلك، بل هلم نهب له نفسينا معا، أنا وأنت. وإني أعاهدك أن أومن به إيمانا لا شك فيه. سأتخذ له عندي صورة أجثو عندها، أو نتخذ له صورة عندنا، نحن معا، أصوم له معك وأصلي صباحا ومساء، وأحارب باسمه أعداءه حتى يؤمن به الناس جميعا. أذهب من فوري إلى القليس أقبل يد القس، ونذهب معا إلى قسطنطينية لنرى خليفته. وسأخدمه وأضرب بسيفه حتى يؤمن أهل الأرض جميعا. أهذا يرضيك يا خيلاء؟ فلنهب نفسينا له.
Unknown page