al-wiʿāʾ al-marmarī
الوعاء المرمري
Genres
فقهقه أبرهة بضحكته المزغردة قائلا: عرفت من قبل أنك تتكهن. أهكذا أخافتك ريح النكبة التي تحسها في جو السماء؟ اذهب أيها الرجل فأنفذ أمري.
فقال عدوة بعد لحظة صمت: سمعا يا مولاي، وسأكون أنا الطليعة.
ورفع حربته وانحنى، ثم مضى صامتا.
وبقي أبرهة حينا ينظر في أعقابه، ثم هرول داخلا في الخيمة بجسمه الضخم، وارتمى على مقعد في الصدر، وكان وجهه متقلصا من الغيظ، وتدفق المطر كأنه ينصب من ميازيب، ولجأ الجنود إلى الخيام، وأطرقت الإبل والخيول برءوسها خاشعة، وانسابت في الجو ضجة رهيبة. ولكن عدوة مضى في سيره تحت السماء الغاضبة وقلبه أشد منها غضبا، وإن كان يكبته في صرامة، وكان جواده يتكفأ به في الأرض الزلقة، والريح العاصفة تطوحه في هباتها، والفضاء الأغبر يحجب عينيه فلا يرى أمامه إلا كتلة من ماء صبيب .
وبلغ آخر الهضبة ولم يستطع أن يهبط إلى الوادي الذي كان يتدفق مثل نهر فائض، تتوالى فيه أمواج السيل واحدة بعد أخرى في فرقعة تزلزل الأرض. وكانت جذوع النخل تطفو على وجه الماء أحيانا وتغوص أحيانا، تتخللها أجسام الإبل تتقلب مع التيار، فتعلو بأسنامها حينا وبأخفافها حينا.
ثم لاح على البعد جمع يتحرك نحو معسكر الجيش، فظنه عدوة جمعا من العرب يريدون على عادتهم أن يهبطوا على أطراف الجيش يقتلون من تصل إليه أيديهم، ثم يتسللون كالأشباح الخفية قبل أن يفطن أحد إلى وجودهم. فاستتر وراء الآكام والكثبان حتى اقتربوا منه وبلغت أذنيه كلمات من حديثهم، وما كان أشد عجبه إذ سمع حديثا حبشيا، ولما لقيهم عرف أنهم بقية السرية التي بعثها إلى مكة في الصباح تستطلع أخبار نفيل بن حبيب، واستمع إلى القصة كأنه يعرفها. كان نفيل يقود السرية العربية التي هبطت عليهم من الجبل كأنها صخرة تتدهدى وتحطم وتترك أثرها من خلفها، وما كادت فلول السرية الحبشية تنجو من المفاجأة حتى أدركها السيل في الوادي، فكان جهدها في تسلق الجوانب الصخرية أشق عليها من جهد القتال وعنف السيل. وهكذا اتجه عدوة في حسرة مع تلك الفلول المسكينة عائدين إلى أبرهة. وفكر كيف يلقى ذلك الرجل الذي كان منذ ساعة يصيح به غاضبا معنفا ويتهمه بأنه يخونه؟ سوف يلقاه في أغلب الظن صائحا به: «أهكذا تعود؟» كأنه هو الذي أثار العاصفة. أترى يصدق أن نفيل بن حبيب كان يقود السرية التي مزقت رجاله؟ وأحس جسمه يتحرق كأن فيه لسع جمر. ولما اقترب من المعسكر طلع عليه منظر عجيب لم يشهد له مثيلا من قبل، حتى خيل إليه أنه في حلم مزعج، وكان وجهه المتقد حرا يحس خيوط المطر تغسله، فيجد راحة من حرارته حينا، ثم تشتعل فيه الوقدة كأنه كان يحترق في لهيب. ورأى فوقه سحابة لم ير سحابة مثلها في حياته، تسبح من فوق رأسه نحو خيام الجيش كأنها دخان حريق يتطاير الشرر خلاله، وسمع منها زفيفا يشبه عزيف الجن في الليلة المظلمة، وتساقطت منها قطع من حمم كلما أصابت موضعا من جسمه أشعلت فيه وقدا. ورفع إليها رأسه في رعب، وتجلد حتى لا يصرخ من الألم. فلما ثنى عنقه أحس كأن سنان حربة ينفذ فيه، وغامت عيناه، وبدا له في السحابة خفق أجنحة متوهجة. وكانت صيحات الذين معه تتعالى من حوله وهم يتفرقون في فزع ويصيحون: «الحمم! النيران!»
وتماسك عدوة وهو يحس رعدة من برق متقد، ولكنه لم يقو على الثبات، فكان يرتج بردا، ولسع الحمم يشتعل بجسده. ولما بلغ المعسكر رأى ما زاده هولا، فكان السيل يتدفق مثل بحر مائج في بطيحة فسيحة، وبقايا الخيام وجثث الجنود والخيل تنجرف مع التيار إلى حافة الهضبة نحو فم المسيل، ثم تهوي نحو الوادي. وكان أبرهة يسير ذاهلا بين حطام المعسكر يحاول أن يجمع في بصره هول النكبة، وأن يعيد بصراخه جنان الجنود اليائسة. ورأى السحابة السوداء ذات الحواشي المتوهجة تقترب منه رفافة بطيئة، تخفق في غبش المساء بشعاع وردي داكن، وسمع الصيحات تتوالى: «الحمم! النيران!»
وتجلد ما استطاع، حتى أظلم الليل وهو يحاول الإغاثة على ضوء المشاعل، ثم جاء إليه بعض الجنود الذين يحملون عدوة، فنظر في وجهه المنتفخ وإلى عينيه الزائغتين وإلى جسده الملتهب، واستمع ممن يقوى على الكلام قصة السرية البائسة، وكان جاثيا في أثناء ذلك إلى جنب عدوة يصيح به: «عدوة! أيها الصديق! أما تسمعني؟»
وانتفض الجندي الشيخ وتقلصت أعضاؤه، وصاح في هذيان الحمى: «الطير! الحمم! النيران!»
ثم خفت صوته.
Unknown page